مجموع رسائل الإمام المنصور بالله عبدالله بن حمزه - ج ٢

المنصور بالله عبدالله بن حمزة

مجموع رسائل الإمام المنصور بالله عبدالله بن حمزه - ج ٢

المؤلف:

المنصور بالله عبدالله بن حمزة


المحقق: عبدالسلام بن عباس الوجيه
الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مؤسسة الإمام زيد بن علي الثقافية
الطبعة: ١
الصفحات: ٦٦٥
الجزء ١ الجزء ٢

١
٢

٣

٤

مقدّمة

الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله الطيبين الطاهرين

أما بعد :

فهذا هو القسم الثاني من الجزء الثاني من المجموع المنصوري الشامل لعدد من مؤلفات الإمام المنصور بالله عبد الله بن حمزة عليه‌السلام.

وكان الجزء الأول من المجموع قد صدر بعنوان العقد الثمين في تبيين أحكام الأئمة الهادين.

أما الجزء الثاني من المجموع المنصوري فقد صدر القسم الأول منه محتويا على ثمان رسائل هي الرسالة الهادية بالأدلة البادية ، والرسالة الموسومة بالدرة اليتيمة وأجوبة رسائل تتضمن ذكر المطرفية ، وكتاب الجوهرة الشفافة ومسائل متفرقة أخرى منها مسائل السلطان الحسن الذعفاني وكتاب الرسالة النافعة بالأدلة الواقعة.

أما هذا الكتاب الذي بين يديك فهو القسم الثاني من الجزء الثاني من المجموع المنصوري ويحتوي على عشرات الرسائل والمسائل تبدأ بمسائل المدقق في الكفر وتنتهي بجزء كبير من رسالة الإيضاح بعجمة الإفصاح جوابه عليه‌السلام على مطاعن القاضي محمد بن نشوان وبنهاية الموجود منها ينتهي الجزء المخطوط في مكتبة آل الوزير وقد عانينا صعوبة كبيرة في ضبط النص

٥

لعدم العثور على نسخة أخرى لمحتويات هذا المجلد واستعنت بالسيد العلامة المجتهد الحسن بن محمد الفيشي الذي بذل في تصحيح الجزء الموجود بين أيدينا جهدا كبيرا رغم المرض الذي يعاني منه.

ولا حلجة إلى الكلام عن جهود التحقيق والمنهج المتبع بعد أن تكلمنا عن ذلك في المجلدين السابقين ولكن ننوه إلى أنه تم إضافة كتاب الرسالة العالمة بالأدلة الحاكمة وكتاب أجوبة مسائل الفقيه يحيى بن الحسين الريان ومسائل أخرى من بينها وصية للإمام عليه‌السلام من نهاية كتاب الدر المنثور له عليه‌السلام وبهذا يكون المجموع المنصوري قد اكتمل والعمل جار حاليا في إخراج مجموع مكاتبات ومراسلات الإمام عليه‌السلام الذي لا يقل أهمية عن المجموع المنصوري والذي يجتوي على عشرات النصوص والرسائل المفقودة من سيرته عليه‌السلام.

ولا ننسى في نهاية هذه العجالة أن نتوجه بالشكر والتقدير لكل من أسهم معنا في خدمة هذا الكتاب وإخراجه إلى النور وفي مقدمة الجميع السيد العلامة الحسن بن محمد الفيشي.

نسأل الله سبحانه وتعالى أن يجعل الأعمال خالصة لوجهه الكريم وأن يتقبلها ، وهو المستعان وعليه التكلان.

صنعاء ١ / ١ / ٢٠٠٢ م

عبد السلام بن عباس الوجيه

٦

مسائل المدقق في الكفر البريء عن الإيمان

التي سأل الشيخ المكين سليمان بن محمد بن عليان

ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم ، وصلى الله على محمد الأمين

وعلى أهل بيته الطيبين الطاهرين

بسم الله الرحمن الرحيم

وبه نستعين.

وقفنا على مسائل الشيخ المكين سليمان بن محمد بن عليان سلمه الله وحاطه ، التي جرت بينه وبين المطرفي الذي ذكر أنه من أدقهم استخراجا ، وألطفهم تدقيقا ، فلقد عجبنا أن هذه المسائل الباردة من مدقق محقق في مذهب الكفر.

المسألة الأولى [في الخطاب من الله يحمل على الحقيقة أو المجاز]

قال : إذا أورد الخطاب من الله سبحانه ومن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يحمل على الحقيقة أو على المجاز كقوله سبحانه : (وَأَمَّا ما يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ

٧

فِي الْأَرْضِ) [الرعد : ١٧] ، وكقوله سبحانه : (لَكُمْ فِيها دِفْءٌ وَمَنافِعُ) [النحل : ٥] ، وكقول رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «كل مسكر حرام» (١) وكقوله : «ما أسكر كثيره فقليله حرام» (٢) ؛ فإن كان المسكر على الحقيقة الله أو على المجاز فكيف والكثرة والقلة لا تجوز عليه ، وإن كان الخمر دخلت فيما أنكرت من أن العالم يختل ويستحيل.

هذه المسألة الأولى وهي كما ترى متباينة وبعض ما ذكره هو مجمل وهو مبين ، فجمع الأصل والفرع في الحكم لغير علة جامعة.

وأما ما ينفع الناس فلا شك أن كل أمر خلقه الله لنفعنا فإنا نسميه نافعا على معنى أن النفع حصل معه والشيء يسمى باللغة باسم ما يؤدي إليه ويقرب منه ، تسمي العرب الحرب موتا لكون الموت بالقتل يقع معها في أغلب الحالات ، قال الشاعر :

ومحلما يدعون تحت لوائهم

والموت تحت لواء آل محلم

ويسمون العنب المعتصر خمرا لأنه يؤدي إليه ، وتقول : أشبعني الخبز وأرواني الماء لما حصل الشبع والري عند تناولها ، وإن كان الله هو المشبع

__________________

(١) أخرجه ابن حبان (الإحسان في تقريب صحيح ابن حبان) برقم (٥٣٦٨) بلفظ : «كل مسكر حرام ، وكل مسكر خمر» ، وقال محققه : أخرجه أحمد ٢ / ١٣٧ ، والنسائي ٨ / ٢٩٧ في الأشربة ، والدار قطني ٤ / ٢٤٩. كما أخرجه ابن حبان بلفظه برقم ٥٣٦٩ ، وانظر بقية مصادره هناك وهو بزيادة برقم ٥٣٦٦ وبرقم ٥٣٧٥.

(٢) الحديث أخرجه الإمام محمد بن منصور المرادي في أمالي الإمام أحمد بن عيسى ، عن أمير المؤمنين عليه‌السلام عن طريق الإمام زيد بن علي ، وهو في مجموع الإمام زيد عليه‌السلام ، وفي غيره من عدة طرق عن جعفر بن محمد. انظر رأب الصدع ص ١٥٦٩ ـ ١٥٧٠ ، وهو في الترمذي برقم ١٨٦٥ ، وفي النسائي ٨ / ٣٠٠ ، وفي ابن ماجة برقم ٣٣٩٣ ، ٣٣٩٤ ، وعند أحمد بن حنبل ٢ / ٩٢ ، ١٦٧ ، ١٧٨ ، ٣ / ١١٢ ، وانظر موسوعة أطراف الحديث النبوي ، والجزء الرابع من الاعتصام ص ٣٩٠ باب الأشربة.

٨

المروي بما خلق من المأكول والمشروب والشبع والري ولو كان المأكول الذي يحصل بطبعه وإحالته لما اختلف الحال فيه ، والمستعطش لا يروى ، والنهم لا يشبع ، وقد حصل الأكل والمأكول ، والشرب والمشروب ، وإضافة النفع إلى الماء والذهب والفضة وغيرهما مما ذكرنا من حصول النفع معه وفيه ، والنافع على الحقيقة هو الله سبحانه لأنه الذي يجب شكره وعبادته على ما أولى وأسدى من نعمه الباطنة والظاهرة ، وكذلك قوله تعالى : (فِيها دِفْءٌ وَمَنافِعُ) [النحل : ٥] ، فلا ينكر ذلك أن النفع فيها الدفء ، ولكن حديث المسلمين أن الله المدفئ والنافع ، ولهذا امتنّ به علينا ، ويجب شكره علينا ؛ فلو كان حاصلا لغيره أو من فعل غيره أو بغير قصده لما وجب شكره وهو يتعالى عن ذلك أو بإحالة الجسم كما تقول المطرفية ، أو طبيعة كما يقول الفلاسفة لكان خارجا عن اختياره.

وكذلك ما ذكرنا من قوله «كل مسكر حرام» و «ما أسكر كثيره فقليله حرام» وغير ذلك فلا شك في صحة إضافة الفعل في اللغة إلى ما يصح أن يفعل وإلى ما لا يصح أن يفعل ، وإلى ما يستحيل أن يصح الفعل منه ، ولا مانع من ذلك في اللغة العربية ، فقوله: الكثرة والقلة لا تجوز على الله سبحانه ، ومرامه بذلك أن يبطل كون الفعل في الحقيقة صنعه ، وتدبيره محنة وعقوبة ، أو نعمة فيما يتعلق بالنفع من صنعه دون غيره وذلك برء ودلالة التعطيل من التوحيد والتوفيق نعوذ بالله من الخذلان ، فالسكر هو زوال العقل والعقل من أجل النعم على العبد ، فإزالة عقله بالسكر نقمة ، وخذلان لشارب الخمر ، ويستحق عليه السب ، كما يقول في المرجوم : إنا نلعنه ونذمه لأن ما نزل به من العذاب وإن كان من فعل الله ، أو في الحكم كأنه من جهته ، لفعلنا في الحدود وهو في التقدير الثالث كأنه من فعل المحدود ؛ لأنه فاعل سببه ، كذلك

٩

كالعذر بسبب العقل ، أو حريق النار ، وقد يكون حسن العذاب رحمة ، كما نقول في حريق النار هو نقمة للكفار والفساق ، ونعمة على زبانية النار ، من الملائكة الأبرار ، وكذلك زوال العقل بالسكر نقمة وعقوبة ، وزواله بالنوم نعمة ورحمة ، فتفهم ذلك ، وعرّفه المحقق ، فالسكر يضاف إلى الخمر في اللغة حقيقة ؛ لأنها سببه الاعتيادي ، وحاصلة معه أو عقيبه وذلك جائز ، ولا فاعل لها طعمها وريحها وحدتها إلا الله ، وقد سمعنا منهم وقت مناظرتهم أنا نقول : يخلق الباري النجس ، قلنا : نعم ، التنجيس والتطهير حكم يلزم فعله تعالى ، فالميتة فعله وهي نجس والدم وهو كذلك ، وقد ردّ سبحانه النجس طاهرا ، والطاهر نجسا بقدرته ، ولا اعتراض عليه ، فالمني نجس ، فإذا خلقه إنسانا كان حكمه الطهارة ، أو حيوانا مخصوصا كالبهائم والسباع إلا الكلب والخنزير ، فما في هذا من العجب ، وكذلك يرد الميتة سبحانه والنجس طاهر بأن تبدل حالته الأولى بحالة ثانية كالميتة تزد بها ملحا ، فأما ما ذكر من الحقيقة والمجاز ، فذلك يرجع إلى استعمال أهل اللغة أو الشرع ، اللفظة فإذا كثر لم يمتنع أن تعود الحقيقة مجازا كما يقول في المكان المطمئن من الأرض ، كان يسمى غائطا على الحقيقة فلما كثر قضاء الحاجة المخصوصة فيه سموه غائطا ، وصار لفظ الغائط حقيقة فيها ومجازا في الأول ، فإن قيل : وكيف يستحق الذم على السكر وهو فعل الله سبحانه؟

قلت : لأنه في الحكم كأنه من قبل المتعبد لارتكابه المحظور ، وإلا فقبل التعبد بتحريم الخمر.

كان أهل الملتين في استقامتهما اليهود والنصارى يسكرون فلا يذمون

١٠

السكران ويذمّون من يذمّه لأنه ذمّ من لا يستحق الذّم ، ولأنّا قد نذم الإنسان على فعل الله سبحانه إذا كان في الحكم كأنه من جهته ، ألا ترى أن رجلا لو ترك صبيا تحت المطر فإن ما يصيبه من فعل الله سبحانه وإرادته ، ونذمّ التارك للصبي على نفس فعل الله سبحانه ويستحق عليه الذمّ لأنه في الحكم من جهته ، ولو لا ضيق الوقت لبّينا لك المجمل بحده وحقيقته والمجاز مثل ذلك ، وبيّنا خلل سؤال السائل المحقق المدقق فضلا عما يطلب من الإلزام وينفى من الالتزام ، ولعل فيما تقدم كفاية من نسخه.

المسألة الثانية في رؤية الأعراض

قال : هل أدرك البصر اللون والملون جميعا أم على الانفراد ، أم على سبيل المجاورة والممازجة؟ وأتى بدليل آخر قال : الأجسام لما كانت مشاهدة لم يختلف العقلاء في رؤيتها والأعراض مختلف فيها.

الجواب عن ذلك : أن قسمته في إدراك الألوان ليست بحاصرة ولا دائرة بين نفي وإثبات ، فما وجه ذكره لها ولكنه لتدقيقه لا يفهم اللازم من المتقلب ، وعندنا أن اللون يدرك في محله وهو الجسم فلا تنافي بينهما ، لأنهما لو تنافيا لم يجتمعا ، ولا بين تنافي إدراكهما إذ الموجب والمصحح واحد.

وأما قوله : المجاورة والممازجة فجهل محض إذ المجاورة والممازجة لا تكون إلا في الأجسام وما هو في حكمها ، وقد كلفنا على ذكر ما لا يعرفه ولكن الجواب أوجبه.

وأما قوله : العقلاء لا يختلفون في الجسم واختلفوا في العرض ، فذلك غير

١١

دليل على نفيه إذ العقلاء قد اجتمعوا على نفي الأثر من غير المؤثر جملة ثم اختلفوا في الصانع.

وهكذا أجمع العقلاء على أن هناك لون ما خلا نفاة الأعراض ، قال بعضهم : لا نراه ، والدليل على أنه يرى أنه لا طريق لنا إلى العلم بالشيء إلا فعله أو حكمه أو مشاهدته ، ولا فعل للون ولا حكم ، فلم يبقى إلا المشاهدة وإلا بطل العلم به بعد ثبوته ، وقد ثبت كون السوفسطائي من العقلاء وهو ينكر حقائق المشاهدات وإنما يعتبر أن العقلاء لا يختلفون في الشاهد مع اتفاق الدواعي ، فأما مع اختلافها فيجوز اختلافهم فيما يعلم ضرورة خلافه ، قال الله تعالى في اليهود : (يَعْرِفُونَهُ كَما يَعْرِفُونَ أَبْناءَهُمْ) [البقرة : ١٤٦] ، يعني النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فأنكروا ذلك ، ومعرفة الابن ضرورة ، ولأنا نعلم ضرورة أن الحيل هو الذي كان أمس ، وأن المدقق الذي ناظرك يلقاك إن عاش مرة أخرى إن توفق اللقاء ، والمطرفي الذي قد تعدت أسبابه من كثرة الاستعمال ، وادعاه أنه من عقلاء الرجال يباطن على أن الحيل قد استحال ، وانقلب على الأحوال ، لأنه كان بالأمس حارا واليوم باردا ، وباردا وهو اليوم حار ، فقد رأيت اختلافهم لاختلاف الأعراض فيما يعلم ضرورة خلافه.

فأما فيما لا يختلف فيه العرب فلا يجوز اختلافهم فيه ، فتفهم ذلك فإنه يدلك على شيء كثير.

المسألة الثالثة في سماع الأعراض

هل انتقل إلى آذان السامعين بحال غير الأعراض لا يجوز عليها الانتقال ولا التجزي ، فكيف تفرق الكلام في أذن السامعين ، وإذا تكلم الإنسان في مكان له جو غير متفهق من أين يسمع الكلام؟

١٢

الجواب عن ذلك : أن المسموع من الأعراض إنما هو الصوت على انفراده وقد يكون مرتبا ترتيبا مخصوصا فيكون كلاما ويكون على غير ذلك فتختلف أسماؤه ، ونحن نجري على المسامحة ونقول :

أما قوله : هل انتقل؟ فالانتقال على الأعراض محال فعندنا أن التنقل محله ومحله الهواء والانتقال عليه غير محال ، وكذلك المتجزئ إلى أذان السامعين محله ، فلهذا يكون بعد المحل على حسب قوة الاعتماد الذي يعظم معه الصوت إذا كانت الآلة مستقيمة.

وقوله : إذا تكلم الإنسان في مكان له جو غير متفهق من أن تسمع كلامه ، قلنا : فلا بتاتا ، ألحقوه للإنسان بمجرى العادة مع عدم الجو ولكن قد يكون واسعا ويكون ضيقا ، فإن كان واسعا امتد الصوت بامتداد محله وبعد مداه ، وإن كان ضيقا وعرضت حواجز قصرت مداه.

ولهذا فإن المتكلم في الجرة إذا لقمها فمه عند الدعاء لا يسمع صوته إلى البعد ، وإذا ردته الحواجز رجع الصوت برجوع محله الذي هو الهواء إلى خلف ، ولهذا فإن الإنسان إذا أراد الدعاء إلى جهة استقبلها بوجهه ، ولهذا أمر المؤذن بتحويل وجهه يمنة ويسرة لإسماع أهل الجهات وإشعارهم الصلاة.

المسألة الرابعة في رجع الصدى

أنه لو كان فعل المتكلم لكان يلزمه حكمه ، فإذا قال قائل قرب جبل لا إله إلا الله وقال عزير ابن الله حكمه يكون كافرا مسلما في فينة واحدة ، دليل آخر قال : والإنسان لا يقدر على إخراج حرف من غير موضعه فكيف يستطيع أن يتكلم في الهواء بغير آلة؟

١٣

الجواب عن ذلك : إن المدقق عرف في الكفر في هذه المسألة ولم يغني عنه تدقيق إلا أني أظن أنه يدقق الدقيق ، ولا يعرف التحقيق ؛ لأنه قال لو كان رجع الصدى فعل المتكلم للزمه حكمه ، ولا بد بالاضطرار عند العقلاء له من فاعل ، فإن نفاه عن العبد ألحقه بالله سبحانه ، لأنه لا فاعل هاهنا إلا العبد أو الله سبحانه ، ولا بد أن يلزمه حكمه وحكم فعله في الكلام الصدق إذ الكذب لا يجوز عليه تعالى عند الجميع ، فإذا كان رجع الصدى لعزير ابن الله وهو قول الله وقوله صدق كفر المحقق في هذه المسألة لأن الله تعالى عن الولد.

فأما قوله : يكون مسلما كافرا في فينة واحدة فجهل ظاهر لأنه ليس بمجرد اعتقاد الوحدانية يخلص المكلف من الكفر ، ألا ترى أن اليهود توحد ولا قائل منهم اليوم عزير ابن الله فيما نعلمه وهم كفار بإجماع المسلمين ، ولا بمجرد الاعتراف أيضا بالإسلام يخرجون من الكفر ؛ لأن في الحديث أن رجلين من اليهود قال أحدهما للآخر : اذهب بنا إلى هذا الذي يزعم أنه نبي نسأله فوصلا فسألاه ، فأجابهما عن كل شيء ، فلما تم سؤالهما وثبا فقبلا يده وقالا : نشهد أنك نبي ، قال : فما منعكما؟ قالا : نخاف اليهود. وقد دعا داودعليه‌السلام أن يخرج من ذريته ملك فنخاف إن يقتلنا فلم يعصمهما الاعتراف باللسان من الكفر ، وإنما الحديث إذا قال عزير ابن الله عقيب الشهادة لزمه الكفر لأن الحكم لآخر العملين ، ولو رجع الصدى شهادة أن لا إله إلا الله بعد قوله عزير ابن الله فقد رجعت وفي قلبه اعتقاد البنوة فلا حكم للفظ مع بطلان المعنى لو بدر بسهو على لسانه أو تاب بعد إخراجه.

وأما دليله الآخر بأن الإنسان لا يخرج حرفا من غير موضعه فكيف يستطيع الكلام في الهواء بغير آلة ، وهذا جهل منه لأن الآلة والكلام هي الهواء كما قدمنا لأنه من أعظم آلات المتكلم ، فكيف قوله يتكلم في الهواء والكلام لا

١٤

يصح وجوده إلا فيه لأن أرق الأجسام قبل الهواء هو الماء ، فالكلام لا يصح فيه فلا آلة للكلام بعد إخراجه إلا الهواء.

وهذا جهل من المدقق قوله بغير آلة ولكن مدقق المطرفية مثل محلل الجهمية ، إلا أن يتمكنوا من العربدة ورفع الأصوات فلهم فيها سوق فالحمد لله الذي أخفت أصواتهم وحصد نباتهم.

المسألة الخامسة [في أفعال العبيد]

في أفعال العبيد أنها لا تعدوهم ولا توجد في غيرهم ، لأن فعله لو وجد في غيره أو حل في سواه لكان الشرك يحل في رأس أمير المؤمنين.

دليل آخر إذا اجتمع جماعة فرموا بالمنجنيق فوقع في رأس إنسان شجه والفاعلون عالم كثير فكيف يكون فعل واحد بين فاعلين؟

الجواب : أن هذه المقالة هي مقالة الثنوية الكفار ، والمجبرة الأشرار ، ولا أعلمها قولا لأحد من آبائنا عليهم‌السلام ولا لأحد من العدلية في مصر من الأمصار فانظروا إلى تدقيق هذا المدقق أين أوصله.

والدليل على بطلان قوله إن هذا الفعل يحمد عليه العبد ويذم ، ويثاب ويعاقب ، ويتعلق به الأمر والنهي ، وهذه حقيقة إضافة الفعل إلى الفاعل ، وقد ذكر ذلك جدنا القاسم بن إبراهيم عليه‌السلام في كتاب (رده على المجبرة) (١) في قوله عليه‌السلام : ولو لم تكن الشجة في رأس المشجوج من فعل الضارب الشاج لما أمر الله الحكام أن يدعو في رأس الضارب الشاج شجة مثلها.

__________________

(١) كتاب (الرد على المجبرة) ضمن مجموع الإمام القاسم بن إبراهيم (مخطوط).

١٥

وأما قوله : إن فعل العبد لو حل غيره لكان الشرك حالا في رأس أمير المؤمنين ، وهذا جهل من هذا المدقق بلغة العرب ومعاني العدل ، لأن الظالم اسم لمن فعل الظلم لا لمن حله ، واسم صاحب المحل مظلوم متصرف بين فعيل ومفعول تقول : ضريب ومضروب وقتيل ومقتول ، واسم الفاعل ظالم والمفعول فيه مظلوم ، وقد قال علي عليه‌السلام : وأي عار على المؤمن أن يكون مظلوما في كتاب له إلى معاوية فيه بعض الطول ، وميلنا إلى الاختصار.

وأما دليله الآخر فلقد نوع الأدلة شغله الله تنويع أهل المعرفة وهو لا يعرف حقائقها ، ولا لوازمها ، ولا شروطها ، ولكن خلا له الجو فجال في الميدان ، وهو ما ذكر من جماعة حذفوا المنجنيق فمه يا مدقق قل : فشجوا رجلا شجة فقد ألححت في إضافة الفعل إليهم ، وشج الله رجلا فلم نذمهم نحن ولم نعذبهم على فعله ولم نعظم الشجة بعظم الجذب وتصغر بصغره ، وإنما وجد هذه الشبهة لمن يجوز حصول مقدور بين قادرين فظنها أنها في نفي المتولدات عن الفاعلين وليس كذلك ، ودليل مقدور بين قادرين موضعه غير هذا ، غير أنا نقول على وجه الإجمال إن الفعل الحادث من حجر المنجنيق هو أكثر من مقدور واحد ، والفعل الحادث في المشجوج أكثر من مقدور واحد بل هو مقدورات بعدد قدر القادرين ، لا يعلمها مفصلة إلا الله سبحانه إلا أن الحكم يلزمهم على السواء كما تقول في المقتول لو ضربه أحد القاتلين ضربة والآخر أكثر أن الكل مستو في حكم القتل.

فأما فيما يتعلق بالعوض فإنما يؤخذ كل واحد منهم بما يعلمه الله سبحانه أنه يخصه من ذلك الفعل.

١٦

المسألة السادسة [في العوض]

ومما سأل قال : تحقيقك العوض لا يصح لأن الطفل الذي يموت في بطن أمه لا عوض له فتحقيقك العوض غير صحيح.

الجواب : أن العوض إنما يحصل لمن تألم ، والألم فيما دلنا عليه الدليل لا يكون إلا للمستهلين ، ولا مانع من حصول الموت في الحيوان بدون الألم ، كما نعلم في طير الجنة ، الذي قال تعالى : (وَلَحْمِ طَيْرٍ مِمَّا يَشْتَهُونَ) [الواقعة : ٢١] ، فدلت دلالة العدل أن ذلك الطير يموت بحيث لا يتألم ، كذلك الجنين ، لأن الألم إذا تعرى عن جلب نفع أو دفع ضرر أعظم أو مجموعهما أو استحقاق كان ظلما من أي فاعل كان ، لأن الفعل إنما يقبح ويحسن وقوعه على وجه ، ولا يعتبر الفاعل خلافا للمجبرة ولا أحد من المسلمين أنكر بعث البهائم ممن يدعي الإسلام إلا الباطنية ، ولا أعلم أحدا ممن ينتحل العدل أنكر العوض إلا المطرفية ، ومن أنكر ما قلنا فليتبع كتب أهل العلم يجد الأمر كما ذكرنا.

المسألة السابعة في المتولدات

إذا كان يتولد في الشجة آلام كثيرة ضرورية ، وأجسام مثل الدود والقيح وما أشبهه ، هل ذلك من فعل الله سبحانه أو من فعل العبد؟ فقد وقع الإجماع أن الصفات الضرورية لا فاعل لها إلا الله سبحانه أو من فعل العبد ، وهناك أفعال أجسام.

الجواب : اعلم أن الحاصل في الجراحة على وجهين من فعل العبد ومن فعل الله سبحانه ، فأما القيح والدود فهو فعل الله سبحانه بالقصد والإرادة

١٧

ولا تقدر على فعل الدود لما فيه من بدائع الحكمة وإجراء الروح والمخارق للمداخل والمخارج والتوصل العجيب إلا الله سبحانه ، ولا يجوز أن يحصل ذلك بغير قصد لكل جزء ، ومثل ذلك لا يحصل لما فيه من الأجسام إلا بعلم وإرادة ، وكذلك ما حصل من الألم خارجا عن فعل موجب فعل العبد فهو فعل الله تعالى ، ولا يعلم تفصيله إلا الله تعالى ، وقد تعبدنا أن نقضي بظاهر الحال ، وهو أن كل ألم في الصائبة فهو من فعل المصيب ، فإن حصل لنا طريق أن الحاصل من غير فعله أسقطنا الحكم عنه بمقتضى ما نعلم من الألم.

وأما الإجماع على أن الأعراض الضرورية والأجسام فعل الله فهذا حق ، ولهذا قلنا من أنكر شيئا من ذلك نقض إجماع المسلمين وكابر الأدلة.

المسألة الثامنة في الإرادة

إذا كانت فعل الله سبحانه ولم يردها ، وفي عرض لا في محل ، فيذهب الهادي عليه‌السلام أن إرادة الله هي مراده ، قال : وإذا كان يجوز من الله سبحانه أنه يفعل فعلا ولا يريده جاز في سائر الأشياء ، ودخلتم معنا فيما أنكرتم ، وإذا جاز وجود عرض لا في محل ما جاز ذلك على سائر الأعراض.

الجواب : أنه قد صرح في قوله أنه خالف مذهب الهادي عليه‌السلام لأنه قال : دخلتم معنا فيما أنكرتم ، لا أنكرنا أن فعل الباري شيئا من الأجسام أو الأعراض الواقعة على وجه دون وجه في التجويز بغير إرادة ، وعنده وعند أصحابه أن ذلك يجوز ، وعند الهادي عليه‌السلام أن ذلك لا يجوز ، وعندنا أن مراد الهادي عليه‌السلام في هذه الأحوال دون جنس الفعل ، لكن أخاف المدقق أن يشكل عليه جنس الفعل فنصل سؤالنا أو نسأل غيرنا من أهل المعرفة.

١٨

فأما قوله : إذا جاز في فعل أن يحصل بغير إرادة جاز في سائر الأفعال.

قولنا له : ما الطريقة الرابطة بينهما؟ هل هذا إلا كقول من يقول : إذا وجد الفعل الدال على علم الفاعل محكما وجب في كل فعل ألا يكون إلا محكما ، أو يجوز حصول المحكم من غير عالم ، قلنا : هذا لا يلزم لأن وقوع الفعل على وجه دون وجه دليل الإرادة ، ووقوعه على وجه الإحكام دليل العلم ، ومجرد وجوده دليل القدرة ، فتفهم ذلك إن كنت ممن يفهم ، وكذلك قوله إذا جاز وجود الإرادة وهي عرض لا في محل جاز ذلك في كل عرض ، قلنا : وما الطريقة الرابطة نبئوني بعلم إن كنتم صادقين؟ أفليس الدليل قد دل على وجوب إرادة الباري سبحانه وتعالى عن ذلك؟ وسواه باطل أن يحله لأنه ليس بمحل ، وباطل أن يحل غيره لأن الغير جسم أو عرض ، لأن القسمة فيه دائرة لأن الغير لا يخلو إما أن يشغل الحيز عند الوجود أو لا يشغله ، فإن شغله فهو الجسم ، وإن لم يشغله فهو العرض ، وباطل أن يكون جسما ، لأنه لا يخلو إما ان يكون حيوانا أو غير حيوان وهو الجماد باطل أن يحل جمادا ؛ لأنه كان يؤدي إلى أن يرتفع الاختصاص وإلى أن ينفصل وجودها عن عدمها ، وما أدى إلى أن ينفصل وجود الشيء عن عدمه فهو محال ، وباطل أن يحل حيوان ، لأنها كانت بأن توجب له أولى من الباري سبحانه وذلك محال فنفى وجودها لا في محل ، ولا إنكار على من قال ذلك لأن السماوات والأرض إرادة الباري ومراده ، وهما لا في محل ، وما قلنا ذلك إلا للدليل ، فإذا يجب اتباع الدليل ولا يجوز ذلك في سائر الأعراض لأن أحكامها لا تثبت إلا بالحلول ، فالمحل واجب بصحة الوجود ومتعذر بل مستحيل خلافه لأنه يؤدي إلى أن لا يفصل وجود الشيء عن عدمه ، وما أدى إلى ذلك فهو محال.

١٩

المسألة التاسعة [في توقيت الأفعال]

ما حكى الشيخ السائل أنه قال للمطر في الضال ، المنكر لحكمة الكبير المتعال : هذه الأفعال التي توجد عند تناول الجمادات مثل الري والشبع والسكر أفعال ضرورية متى فعلها سبحانه في الوقت أو قبل الوقت أو بعده ، فقال : قد ركب الجسم وجبره على ذلك ، وليس الوقت يوجب قصد الشيء ، ألا ترى أن الباري خلق الأصول والوقت في غير وقت فإذا أوجبت أن ما حصل في الوقت يكون غير مقصود.

الجواب عن ذلك : أن السؤال في هذه الضرورية متوجه عليه ، والدليل على ذلك : أنه إذا قال : جبر الباري سبحانه ذلك الجسم عليه وهو قوله ، قيل له : إذا كان قد جبره عليه يوم خلقه وجب أن يحصل الري والشبع والسكر لجميع الناس في جميع الأوقات ، ومعلوم خلافه لأن المجبور مع الكل على سواء لفقد الاختصاص ، وإن كان جبره على ذلك عند تناوله فهذه مقالة الحق وهي موضع الخلاف ، وإن قال بعد فلا قائل به.

وأما قوله : خلق الأصول والوقت في غير وقت ، فالوقت جزء من الزمان الذي هو الليل والنهار ولا وقت ، ولا بد مما يتقدر وقتا في حصول الأصول فالمقدر ليس بشيء ، فيقال : هل خلق في وقت أم لا؟ لأن ما ليس بشيء لا يقال خلق ، ولكنه أدخل نفسه في شيء قبل معرفته.

وقوله : إذا أوجبت ما يحصل في الوقت يكون مقصودا أوجبت ما يحصل في غير الوقت أن يكون غير مقصود فهو كما ذكرنا ، وهذه عادتهم يجمعون بين الأمرين بغير علة جامعة ولا طريقة رابطة ، وهذا شأن الجهل لأن الجهل لا حواجز له ولا حدود ، والحديث ذو شجون.

روى السيد الشريف نظام الدين يحيى بن علي العلوي السليماني الحسني

٢٠