مجموع رسائل الإمام المنصور بالله عبدالله بن حمزه - ج ٢

المنصور بالله عبدالله بن حمزة

مجموع رسائل الإمام المنصور بالله عبدالله بن حمزه - ج ٢

المؤلف:

المنصور بالله عبدالله بن حمزة


المحقق: عبدالسلام بن عباس الوجيه
الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مؤسسة الإمام زيد بن علي الثقافية
الطبعة: ١
الصفحات: ٦٦٥
الجزء ١ الجزء ٢

الحجة على قومه ، فأضاف الله تعالى الحجة إليه لأنه الذي أكمل له العقل الذي أوصله إليها.

وقوله تعالى : (وَجَعَلَها كَلِمَةً باقِيَةً فِي عَقِبِهِ) [الزخرف : ٢٣].

الجواب عن ذلك : الكلمة الباقية هي الإمامة ، وهي باقية في عقبه إلى الآن وإلى يوم الدين ، فالحمد لله رب العالمين.

وقوله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا شَهادَةُ بَيْنِكُمْ إِذا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ حِينَ الْوَصِيَّةِ اثْنانِ ذَوا عَدْلٍ مِنْكُم ...) إلى آخرها [المائدة : ١٠٦] فيمن نزلت؟

الجواب : أنها نزلت في حال الضرورة ، وأنه يجوز للمسلم إشهاد اليهود والنصارى إذا اضطر إلى ذلك لعدم المسلمين ، وفي هذا قصة لا يتسع الجواب لها.

وفي قوله تعالى : (وَعَدَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ) [النور : ٥٥] تدل على اختصاصها لأهل البيت عليهم‌السلام أم لا؟

الجواب : أنها عامة في المسلمين باستخلافه لهم أن جعلهم خلفا بعد القوم الكافرين في الأرض ، فأورثهم إياها ، وكذلك كانت الحال ، وإن حمل على أهل البيت عليهم‌السلام فقد بطلت الإمامة لغيرهم بالأدلة ، فلو بطلت الإمامة فيهم خرج الحق عن أيدي الأمة ، فلا بد أن تكون الإمامة لهم على تلك الحال.

وفي الأخبار عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في المهدي عليه‌السلام أنه يملأ الأرض عدلا كما ملئت جورا وظلما ، هل يبلغ أقصاها وإلى خلف الروم أم لا يبلغ؟

٦١

الجواب أنه يملك الأرض بين أقطارها ، وخلف بحارها ، ويفتح قسطنطينية العظمى ، ويهدم سور رومية الكبرى ويهلكها.

روينا ذلك عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وفي الحديث عن علي عليه‌السلام : فأين يتاه بكم عن أمر تنوسخ من أصلاب أصحاب السفينة وهؤلاء مثلها فيكم؟

الجواب : أن أهل البيت عليهم‌السلام بمنزلة سفينة نوح ، وبذلك ورد الخبر ، وتناسخوا من أصلاب أصحاب السفينة أنهم نطف تنتقل ، ومن الله نستمد التوفيق لموالاة الأولياء.

وفي دعوة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم هل بلغت جميع المكلفين ، ويأجوج ومأجوج أم لا؟

الجواب : أنها بلغت من تعبد بشريعته ومن لم يتعبد بقي على كلمة العقل ولسنا نعلم ما وراء هذا.

وعن قول النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «السعيد من وعظ بغيره ، والشقي من شقي فيّ» (١)؟

الجواب : أن السعيد من كانت مصيبة غيره في دينه موعظة له تمنعه من ركوب مثال يعلمه ، والشقي من علم الله شقاؤه في بطن أمه لأنه يفعل ، فعلم شقاه بقبح اختياره.

وفيمن يصلي ويتيمم ويغلب على ظنه أن الشمس على الغروب لكثرة الغمام ، فلما أتم وسار في طريقه راحت العلة فإذا الشمس وعند ذلك وجد الماء ، هل تجب عليه الإعادة أم لا؟

__________________

(١) الحديث بلفظ : «السعيد من وعظ بغيره» في الدر المنثور للسيوطي ٢ / ٢٢٥ ، وفي الشفاء للقاضي عياض ١ / ١٧٦ ، والسنة لابن أبي عاصم ١ / ٧٨ ، ٧٩ ، وإتحاف السادة المتقين ١٠ / ٢٣٥ ، وجامع مسانيد أبي حنيفة ١ / ١٤٣ ، ومناهل الصفا برقم (١٢) ، وتذكرة الموضوعات برقم (٢٠٠) ، والدرر المنتشرة في الأحاديث المشتهرة للسيوطي برقم (٩٣) ، ومسند الشهاب برقم (٧٦ ، ١٣٢٥) ، وانظر موسوعة أطراف الحديث النبوي ٥ / ٢٧٣.

٦٢

الجواب : أن إعادة الصلاة واجبة عليه ، لأنه مأخوذ بالتلوم إلى آخر الوقت فاعلم.

وفي من يسلّم ابتداء على المطرفية إذا ابتلي بهم ويريد بذلك تقريبهم ، هل يجوز له ذلك أم لا؟ وهم ممن لا يجد بدا من ابتدائه لعرف أهل البلاد ، هل في ذلك رخصة أم لا؟

الجواب : أن ذلك يجوز للدعاة إلى الدين لأنه من التأليف في من يطمع بصلاحه ، فأما من ييئس منه فلا يجوز ذلك فيه ، لأنهم أقبح المشركين ظلما ، وأغلظهم حكما.

وفي من يحب يد المطرفي للسلام عليه ، والغرض بذلك للتقريب ، ويغلب على الظن أنهم ممن لا يقرب لقوله تعالى : (إِنَّ اللهَ مُبْتَلِيكُمْ بِنَهَرٍ فَمَنْ شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي وَمَنْ لَمْ ...) الآية [البقرة : ١٤٩]؟

الجواب : أنه إذا كان آيسا منه لم يجز له شيء ، وإن طمع في قربه جاز ، فاعلم.

وقوله تعالى : (وَلَوْ بَسَطَ اللهُ الرِّزْقَ لِعِبادِهِ لَبَغَوْا فِي الْأَرْضِ ...) الآية [الشورى : ٢٧]؟

الجواب : أن هذا غيب أخبرنا الله تعالى به وهو علام الغيوب ، ولذلك أنزل الرزق بقدر وهو حكيم عليم والسلام.

والحمد لله وحده

وصلى الله على خير خلقه سيدنا محمد وآله وسلم

* * *

٦٣

مسائل سأل عنها الشيخ الأجل

منيف بن مفضل بن أبي زراج الرعدي الحبسي رحمه‌الله تعالى

بسم الله الرحمن الرحيم

والحمد لله وحده. الحمد لله أهل الحمد ومستحقه ، الذي هدانا لمعرفة دينه ، وجعلنا من ذرية نبيه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حكاما على خلقه ، شهداء على عباده ، وصلى الله على محمد المصطفى ، وعلى الطيبين من آله وعليهم رحمة الله وبركاته.

ولما وردت المسائل التي سأل الشيخ الأجل منيف بن مفضل إيصالها إلينا نظرنا فيها على كثرة شواغل عارضة ، وأحداث ناصبة ، صرفنا إليها معظم الهمة ، مستعينين بالله سبحانه ، فرأينا مسائل من لم تضرسه نيوب المحققين ، ولا جال في ميدان المدققين ، جاء يحمل الريح بمسرة ، ويغير وعود وبحره وجبلا وسعره ، فحملنا الأمر على المطارحة ، ولم نر إلا تجريد الأجوبة ، ونحن نرى ما لا بد من تحريره من الأسئلة ، مستعينين بالله ، متوكلين عليه.

المسألة الأولى [هل هناك دار للفسق]

قال أرشده الله : إن إمامة القائم ذكر في بعض تصانيفه أن للفسق دارا ثالثة بين الدارين ، دار الكفر ودار الإسلام ، كالمنزلة بين المنزلتين وسماها دار الفاسقين ، قال : يقال لهم هل قال بهذا أحد قبل إمامكم؟ وما دليله إلى آخر القول؟

٦٤

الجواب عن ذلك وبالله التوفيق : أنا نقول بإثبات دار ثالثة بين دار الكفر ودار الإسلام ، ونسميها دار الفاسقين ، وقد قال بذلك أعني التسمية من أهل العلم أبو علي الجبائي (١) ومن اتبعه من أهل العلم ، ولو لم يقل به لم يستوحش مع البراهين إلى أحد ، لأنا نسأل السائل : لم قيل في دار الكفر دار الكفر؟ ولم قيل في دار الإسلام : دار الإسلام؟ فإن قيل : ذلك من أسماء الأعلام كذّبه جميع أهل المعرفة من الأنام ، لأن لنا أن نغير الاسم العلم واللغة بحالها فنسمي زيدا بعمرو ، وعمرا بزيد ، ولا يختل المعنى ، ولا يصح ذلك فيما نحن بصدده ؛ لأنا لو سمينا دار الكفر دار الإسلام لم يجز ، وإن قال الغلبة الكفر في ذلك كما أنا نعلم أن مكة حرسها الله حرم الله ، ومهبط وحيه ، كانت في حال غلبة الكفر عليها دار حرب وكفر ، فلما غلب الإسلام عليها ، فصارت بحبوحة دار الإسلام حمى الله ، فلما أصبت في قولك ، ونحن ما سمينا دار فسق إلا لغلبة الفسق فيها ولا دار الفاسقين ، فأما أموال هذه الدار ونساؤها وذراريها فلها حكم بين الحكمين ، كما أن لها اسم بين الاسمين ، وهو أن الأموال موقوفة على رأي الإمام إن شاء أباحها ، وإن شاء حضرها ، فإن أباحها حلت ، وإن حضرها حرمت ، كما فعل علي عليه‌السلام في أموال أهل الجمل والنهر بالبصرة ، والنهروان ، وكما فعل بمال المحتكر في الكوفة ، فإنه قسم ماله نصفين ، فحرق نصفه وأمر بنصفه إلى بيت المال ، وقال : لو ترك لي علي مالي لربحت مثل عطاء أهل الكوفة.

__________________

(١) هو : أبو علي محمد بن عبد الوهاب بن سلّام بن زيد بن أبي السكت الجبائي [٢٣٥ ـ ٣٠٣ ه‍] من أعلام المعتزلة. انتهت إليه رئاستهم ، وهو متكلم ، مفسر ، له من الكتب (تفسير القرآن) وإليه تنسب الطائفة الجبائية ، مولده بجبّى بخوزستان ، ووفاته بالبصرة ودفن بجبّى ، انظر معجم رجال الاعتبار وسلوة العارفين (تحت الطبع) ، رجال الأزهار ٣٥ ، لسان الميزان ٥ / ٣٠٧.

٦٥

وأما ما ذكر من أنّا إن قلنا لا تحل ، أصبنا طريقة علي عليه‌السلام في أصحاب الجمل والنهر وصفين ، فهذا من النظر الدقيق أنّا إذا قلنا بقول علي أصبنا طريقة علي ، وهل يلتبس هذا على الجاهل فضلا عن العالم ، وكان الأولى أن يقول : إصابتنا قول علي عليه‌السلام في الفقهيات واجب ، فإن قال بذلك خالف الأمة والأئمة ، وإن قال قوله أولى من فعل غيره طابق الزيدية ؛ لأن عليا عليه‌السلام خولف في الفقهيات ، ولم يعلم منه تضليل من خالفهم ، ولا ولده الحسن عليه‌السلام لم ير توريث الغرقى والهدمى بعضهم من بعض.

وروي عن علي عليه‌السلام جواز بيع أمهات الأولاد إلى غير ذلك مما خالف فيه أولاده سلام الله عليه وعليهم ، وخالفه الصحابة رضي الله عنهم في غير مسألة ، وأكثر ما فيه أن يخالف اجتهادنا اجتهاده في مسألة أو أكثر ، وقد جمع محمد بن منصور (١) رحمه‌الله تعالى خلاف أهل البيت عليهم‌السلام وجعله كتابا ، وكما نعلمه بين الهادي والقاسم عليهم‌السلام ، وهذا من رحمة الله سبحانه لعباده أن جعل ميدان الشرع رحيبا ، وكل مجتهد فيه مصيبا إذا بلغ درجة الاجتهاد ووفّى الاجتهاد حقه.

__________________

(١) هو : محمد بن منصور بن يزيد المرادي ، أبو جعفر ، الكوفي ، المقري ، أحد الأعلام المعمرين إمام ، حافظ ، محدث ، مسند ، من مشاهير رجال الزيدية في العراق ، وأخص علماء الزيدية بالقاسم بن إبراهيم وأكثرهم رواية عنه ، مولده بالكوفة في الأقرب ترجيحا بين الروايات ما بين [١٤٠ ـ ١٥٠ ه‍] ، وبها نشأ وسمع الحديث في مدرستها الكبرى ، وجل مشايخه منها ، وتتلمذ على أيدي أئمة آل البيت ، كما تخرج عليه جماعة منهم ، وصحب الإمام القاسم بن إبراهيم الرسي عليه‌السلام ٢٥ سنة وحج مع الإمام أحمد بن عيسى (ع) نيفا وعشرين حجة ، وكانت له مع الأئمة مواقف مشرفة فقد اجتمعوا بمنزله سنة ٢٢٠ ه‍ وبايعوا الإمام القاسم بن إبراهيم ، وعرف بمواقفه الصلبة الشجاعة في نصرة المجاهدين من أهل البيت مما سبب في تأليب السلطة عليه فعاش مستترا بعيدا عن الأضواء ، عاكفا على نشر العلم ، وسماع الحديث ، والتأليف ، مخلفا تراثا فكريا زاخرا ، وتعمر طويلا قرابة قرن ونصف من الزمان في الأقرب ترجيحا بين الروايات ، ولعل وفاته ما بين سنتي [٢٩٠ ـ ٣٠٠ ه‍].

انظر عن مؤلفاته ومصادر ترجمته كتاب (أعلام المؤلفين الزيدية وفهرست مؤلفاتهم).

٦٦

وأما ما ذكر من مخالفة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فهو أعلى وأشرف من أن يخالف ، وكيف وهو لا ينطق عن الهوى والنص ما جاء به ، ولا مجال للاجتهاد مع وجود النص ، قال والخلاف في قوله : «إنما أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا : لا إله إلا الله محمد رسول الله ، فإذا قالوها عصموا بها دماءهم وأموالهم إلا بحقها وحسابهم على الله» (١) وقد أوردها السائل على غير هذا الوجه ، وهذا سماعنا والمعنى واحد.

فنقول للسائل : إنا لم نأخذها إلا بحقها وهو أنه لما عصى الله سبحانه أخذنا ماله عقوبة ، واجتحناه نكالا ، لأن الخبر إن حمل على عصمة النفس والذم على كل وجه انتقض عند الجميع ؛ لأن المحارب يقتل وتقطع يده مع السلب ، ويؤخذ مال صاحب الدين ، ويشترى بماله الكراع والسلاح للبغي إلى غير ذلك ، وإن قال على وجه دون وجه وقد ورد في متن الخبر الشريف ، قلنا : وكذلك نقول : يؤخذ على وجه دون وجه إن رأى ذلك الإمام صوابا جاز وإلا لم يجز.

وأما قوله عليه‌السلام للقوم : فأيكم يأخذ عائشة رضي الله عنها [كذا في الأصل] (٢).

وأما قوله : إن عليا عليه‌السلام معصوم مقطوع على عصمته بعينه ،

__________________

(١) أخرجه النسائي في المحاربة ب ١ ، وابن ماجه برقم (٣٩٢٩) ، وهو في الترغيب والترهيب ٢ / ٢٨٨ ، ومصنف ابن أبي شيبة ١٢ / ٣٧٦ ، وهو بلفظ : «أمرت أن أقاتل الناس» في البخاري ١ / ١٣ ، ٩ / ١٣٨ ، ومسلم في الايمان ٣٤ / ٣٦ ، والنسائي وغيرها من كتب أهل الحديث ، انظر موسوعة أطراف الحديث النبوي ج ٢ ص ٢٣٧ ـ ٢٣٨.

(٢) قال السيد العلامة الحسن الفيشي : جواب هذا مأخوذ من الجواب المباشر بعده وهو أن المطالبين بقسمة أموال البغاة أرادوا أن يجعلوا دار الفاسقين دار كفر وليس الأمر كذلك فبكتهم بهذا العرض فألقمهم الحجر.

٦٧

وكذلك نقول : إنه معصوم من الكبائر دون الصغائر ؛ لأن الأنبياء عليهم‌السلام لم يعصموا عنها أعني الصغائر وهو دونهم ، وعندنا أن قول غيرنا من المجتهدين حق وصواب ، فكيف بقوله ، ولكنا نقول : إن تعبدنا باجتهادنا في الشرعيات دون اجتهاده ولا يسعنا إلا ذلك ، وإنما جادلهم عليه‌السلام بالكلام إلى آخره لأنهم أرادوا أن يجعلوا دار الفاسقين دار كفر ونحن نقاتلهم بحججه عليه‌السلام وبما ألهمنا الله سبحانه من معاني كتابه وسنة نبيه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

وأما قوله : لم فرقنا بين الأموال والذراري ، فلما قدمنا من الحكم بين الحكمين والاسم بين الاسمين تركنا الذراري.

وأما قوله : إن السيرة في البغاة أخذت عن علي عليه‌السلام ، فلا شك في ذلك وأنه بحر العلم وباب المدينة ، ولم يؤخذ عنه إلا بحدوثه في عصره إذ لم يقل أحد ممن كان قبله إلا بحرب الكفار ، وأبو بكر بحرب أهل الردة ، وعمر بأصحاب الثغور ، وكان في عصره الفساق من جهة التأويل ، فحكم فيهم بذلك ، ولم يحدث في جهته فساق من جهة التصريح يعلم رأيه عليه‌السلام فيهم ، وإن جاز أن يختلف الاجتهاد ، فقد حارب عباد الله قبل حربه وهم كشافة الكرب عن وجه رسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فوفقه الله وسدده لما حكم به فيهم ولم يكن الله ورسوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وأئمة الهدى يجعل حكم البدريين والأحديين والعقبيين مثل حكم العقبان والنسور والجوابر هذه قبائل في الشام من همدان متهتكة في المعاصي.

وأما ما ذكر أن كتب الزيدية مشحونة بما ذكرته ، فجوابنا : أن قولنا هذا مما يزيد الزيدية في علمها ويشحن به كتبها لأنه لم يكن للزيدية فيما تقدم إلا مجموع الفقه عن زيد بن علي عليه‌السلام ، فصارت الكتب اليوم أحمال

٦٨

الإبل لتصنيف من صنّف من أهل البيت وزيادة من زاد ، وإن بلغ الله المراد ، ومكن من ثني الوساد ، بدمار أهل البغي والفساد ، صنّفنا في فقه الزيدية ما يشفي كل راغب ، ويغني كل طالب ، لا نستثني إلا مشيئة الله سبحانه ، وقد خلط السائل أهل الجمل والنهر وصفين في الحكم عند علي عليه‌السلام ، ولم يكن الأمر كذلك ؛ لأن عليّا عليه‌السلام رفع السيف عن المدبر يوم الجمل ، ولم يجهز على الجريح ، وردّ رقيقا من رقيق أهل النهروان وهو محتمل لأنا نقول : يجوز أن يكون ذلك تألفا لعشائرهم لأنهم كانوا من كل قبيلة ، واستصلاحا لمن بقي في عسكره من أهل الرتبة ، وإن كان من أصحابنا من قال : إنما كان ذلك لأن الرقيق كان من العسكر ناحية.

وأما ما قال من أنا نقول : إن متابعة علي عليه‌السلام واجبة ومخالفته غير صائبة فذلك حق عندنا في اتباعه في الدعاء إلى الحق ، والدلالة على الرشد ، وإقامة الحدود ، واستيفاء الحقوق ، وسد الثغور ، وسياسة الجمهور ، ولم نقل : إنه لا يجوز خلافه في مسائل الاجتهاد ، لأنا لو قلنا بذلك لفسّقنا الصحابة رضي الله عنهم لأنهم خالفوه في المواريث وغيرها من مسائل الشرع ، وكذلك الفقهاء من بعد كأبي حنيفة والشافعي رضي الله عنهما ومالك بن أنس وغيرهم ، ولم يقل أحد بذلك من سلفنا سلام الله عليهم ولا قلنا به ولا نقول به إن شاء الله تعالى ، ومخالفته عندنا بمعنى المشاقة والمعاداة ، والتغطية والمنافاة ، وهذه غير صائبة عند جميع أهل البصائر من المسلمين ، وعناده عندنا ظلم مبين ، فإما أن نجتهد في مسائل الشرع اجتهادا يخالف اجتهاده فلسنا من ذلك مانعين ، ولا منع منه أحد من المسلمين ، إلا ما يحكى عن جهّال الإمامية فليسوا معدودين من طبقات الراسخين.

٦٩

وأما ما ذكره من قوله قالوا : إنما نأخذ ما نأخذ من مال الفاسقين لتأخرهم عن الخروج إلى إمام المسلمين ومعاونة الظالمين ، فقد أصابوا في قولهم ؛ لأن تأخرهم عن الإمام معصية ، ومعاونتهم للظالمين معصية.

وقد بينا أنهم إنما يؤخذون عقوبة على المعصية ، ولا أعظم معصية من هذين الوجهين لأن في الأول قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «من سمع داعيتنا أهل البيت فلم يجبها كبه الله على منخره في نار جهنم» (١) ولا وعيد أعظم من هذا ، وفي الأخرى لا أعظم من كون المؤمن ظهيرا للمجرمين ، وإن كنا لا نشك في أن الضعفاء هم الذين لبسوهم الحرير ، وركبوهم الذكور ، وسقوهم الخمور ، فأي عون أعظم من هذا ، وقد احتج إخوانهم فيما تقدم فرد الحكيم سبحانه حجتهم خاسئة داحضة بقوله تعالى : (فِيمَ كُنْتُمْ قالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ) فردّ ذلك تعالى بقوله : (أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللهِ واسِعَةً فَتُهاجِرُوا فِيها) [النساء : ٩٨] وصدق الله العظيم وبلغ رسوله النبي الأمين الكريم ، لقد بلغ فأوسع ، ونادى فأسمع ، فالحجة له لا عليه.

وقد روينا أن بعض أشياعنا الصالحين رضي الله عنهم سأل محمد بن عبد الله النفس الزكية عليه‌السلام قبل خروجه بمدين : يا ابن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم متى يكون هذا الأمر ـ يعني خروجه ـ؟ قال : وما سرك به. قال : ولما لا أستر بأمر يعز الله به المؤمنين ، ويخزي به الفاسقين. قال : يا أبا فلان ، أنا والله خارج وأنا والله مقتول ، ولكن والله ما يسرني ما طلعت عليه الشمس وأترك قتالهم يا أبا فلان ، امرؤ لا يمسي حزينا ، ويصبح حزينا مما يعاين من فعالهم لمغبون مفتون قال : قلت : يا ابن رسول الله ، فكيف بنا ونحن بين أظهرهم لا نستطيع لهم ردا ،

__________________

(١) حديث من سمع داعيتنا ، سبق تخريجه.

٧٠

ولا لفعلهم تغييرا؟ قال : فقال عليه‌السلام : اقطعوا أرضهم ، ثم ذكر بعد ذلك من كان معتزلا وهو يعتقد محبة أهل البيت ، ولا يقدر الغز على وصوله إلا لجمع وإنما يداريهم بشيء من ماله.

وليعلم أرشده الله أن السؤال مخلط فلا يجاب إلا بالوهم إن كان الذي سأل عنه ملتزما طاعة الإمام ، منخرطا في سلك الإسلام ، ملتزما بالأوامر الإمامية ، والأحكام النبوية وجب احاطته ، ولم يجز التعرض لشيء من مساءته ، وإن كان معتزلا وهو أمام بيته قد صم عن واعية أهل البيت سمعه ، ولم يلائم أوامرهم طبعه ، وهو يحبهم بزعمه ، فذلك لا يخلصه من عظيم جرمه.

وأما ما ذكر من أن الجهة التي عينها مائة قرية إلا ما وراءها هجره وفيها ضعفاء ومساكين ، وأرامل ويتامى ، وأهل تلك الجهات يعطونهم ما يكفيهم من الحول إلى الحول ، إلى آخر كلامه الفارغ من المعنى المفيد.

فالجواب عن ذلك أن نقول : إن كان هذا الإعطاء بأمر الإمام أو واليه فذلك الصواب ، وإن كان بغير أمره أو أمر وإليه فأولئك المعطون ظلمه والآخذون آثمة.

ولقد سأل سائل بحضرة الأمير الأجل الكبير شمس الدين الداعي إلى الله شيخ آل الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يحيى بن أحمد بن يحيى بن يحيى بن الهادي إلى الحق عليه‌السلام (١) ، هل يجوز لمسلم أن يتوجه إلى بلد ليس فيها للإمام موال ، ولا هم ملتزمون له طاعة فيأخذ منهم من الحقوق الواجبة ما يحتاج إليه؟

__________________

(١) قال ابن أبي الرجال في (مطلع البدور) : الأمير شمس الدين شيبة الحمد الداعي إلى الله يحيى بن أحمد بن يحيى بن يحيى عليهم‌السلام هو شيخ آل الرسول وإمام فروعهم والأصول ، علمه أشهر من الشمس وضحاها والقمر إذا تلاها ، له فواصل وفضائل ومحامد. توفي بهجرة قطابر في محرم سنة ٦٠٦ ه‍ عن تسعة وسبعين.

٧١

فقال : لا يجوز. وكأن السائل يعرض إلى بعض بلاد بخولان تسمى ذي الحجاج وطال الحاج إلى أن قال شيخ آل الرسول طول الله مدته ، لا يجوز له أن يأخذ من مصر شيئا إلا بإذن الإمام أو إجازته ، فصوبنا ذلك وهو قولنا ؛ لأنا لو جوزنا أن يكون الناس فوضى في وقت الإمام فما الحاجة إليه إذا كان كل يأخذ لنفسه ويعتزل ، ويلزم أرفق الأماكن به وأصلحها لملاءمة غرضه ، وقد قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «ليس لك إلا ما طابت به نفس إمامك» وما فرع على كلامه فقد أتي على أصله وقطع دابره برمته إن تأمل ما تقدم منصف ، وقال : لو جاز لذلك لجاز أن يحكم الحاكم بغالب ظنه دون علمه وطول في الشرح ، ولا شك أن الحاكم يحكم بغالب ظنه دون علمه مع الشهود ومع اليمين لأن قول الاثنين لا يوجب العلم ، ويجوز أن يرجع الشهود عن الشهادة ، فهل انقلب العلم أم المعلوم عند السائل ويلائمه كيلا بغير ثمن ، ثم سر في غلوائه ، ورمى بدخيلة حوبائه ، وأوجب الاحتياط في الفروج ، ولا نشك في وجوبه ، ولم نفرق بين الاحتياط والتجويز والأمر لم يبنى على التجويز ، والاحتياط استبراء الظاهر ، فليتفهم ما ألقينا إليه راشدا.

قال : ويلزم ذلك إمامكم ، ولا شك أن الحكم في سوى ذلك والإمام في ذلك بتوفيق الله اليد الطولى عند من لم ينظر بعين العناد والقلى ، وذكر التضمين وأسهب في ذكره ، ولا شك أن الحكم يختلف بالأعيان والأزمان ، والأوقات والأحوال ، فمن علم أن عليه شيئا من المضمونات ضمن ، ومن كان بريئا من ذلك عوقب ، ومن رأى الإمام أو واليه العفو عنه عفا.

وأما قوله : أقل الأحوال أن يكون الموضع موضع شبهة فهذا انهزام إلى غير فئة وجري إلى غير غاية ، وهل ترك البرهان للشبهة محلا ، وقد حلها عن أهل

٧٢

التوفيق حلا ، وسلها عن شرح الإسلام سلا ، وسلها عن قلوب المتقين المستبشرين سلا ، لأنهم ينظرون بنور الله ، ويقتبسون العلم من ورثة كتاب الله ، وخزان علم الله ، الذين أمرهم الحكيم سبحانه باتباعهم على لسان نبيه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقال ما رويناه بالإسناد الموثوق : قدموهم ولا تقدموهم ، وتعلموا منهم ولا تعلموهم ، ولا تخالفوهم فتضلوا ، ولا تشتموهم فتكفروا».

مسألة [في أخذ الولاة الأموال بغير إذن الإمام]

قال أرشده الله : رأينا ولاة الزيدية يأمرون أخدامهم غير المماليك يجبون الواجبات ممن وجبت عليه ، ويأخذون أثمانها لأنفسهم ، وهم قعود في بيوتهم وعلى مطارحهم ومساندهم ، (جدهم) ، قال : الأمر باللسان فقط ويعطون الأخدام من الثمن شيئا يسيرا وشيئا حقيرا ، وربما من غيره إلى آخر كلامه؟

الجواب عن ذلك : أنه إن سأل هل يجوز للولاة أخذ الأموال بغير إذن الإمام أو إجازته لما يرى أن به يقع نفع الإسلام ، وإنما يأخذونها احتجازا لأنفسهم ونظرا من عند أنفسهم ، فذلك لا يجوز للوالي إن كان زيديا أو شفعويا ، وإذ يجوز لإمام الزيدية تولية من اعتقد صلاحه للولاية من المسلمين كان زيديا أو شفعويا أو حنفيا ، وبهذا سقط ما بنى عليه إلى آخره.

وأما قوله : إن الله جعل للعمال الثمن فلم ينقصوا ، ولم يأخذوا من لم يعمل ؛ فأمير المؤمنين يقول بأن العمالة بقدر ما يراه الإمام من الثمن فما فوقه أو ما دونه ، وإنما ذكر سبحانه الأجناس بيانا لجواز الوضع للإمام في أي جنس شاء ، وكذلك صاحب المال في زمن العترة لو أعطى واحدا من هذه الأجناس جملة صدقته جاز إلا المؤلفة قلوبهم والعمال عليها ، فهم يختصون بأوقات الأئمة عليهم‌السلام لما كان الجهاد والولاية العامة في وقت الإمام دون غير وقته.

٧٣

مسألة [في الدعاء في الصلاة]

قالت الزيدية : الدعاء في الصلاة غير جائز. ورأينا في كتبهم أن التسليم من الصلاة ، وأن الإنسان إذا كان في جماعة وجب أن ينوي الملكين والجماعة الحاضرين ، ويمكن أن يكون فيهم من لا يستحق الدعاء ، فإن قالوا : نخرجه بالنية. فما دليلهم؟ وإن قالوا : لا نخرجه. فقد دعوا فيها لمن لا يستحق ذلك ، فإما أن تفسد صلاتهم ، وإما أن يفسد مذهبهم إلى آخره.

اعلم : أن هذا إلزام من لا يعرف مذهب الزيدية كيف يطعن عليه من غير معرفة ، لأن من الزيدية من يجيز الدعاء في الصلاة ، ومنهم من لا يجيز ، فعم الجميع بالحكاية ، ثم ألزم الأمر بالتسليم ، وليس التسليم من الدعاء لغة ولا عرفا ، بل هو جنس قائم بنفسه ، وإن كان وصفه في الأصل دعاء فقد أزاله العرف ؛ لأن الرجل لو وقف على باب القوم ، ثم قال : السلام عليكم ورحمة الله فعل الله لكم وصنع ، لقيل سلم عليهم ودعا لهم ، فلو كان الأول دعاء عرفا كان كأنه دعا لهم ودعا لهم.

فأما قوله : فيهم عاص ومطيع ، فقد ورد جواز السلام على الجميع ، ولو شرط فيهم الإيمان ووجب الرد على اليهود ، وجاءت السنة بالتعزية لهم والدعاء لهم بما يجوز ، كما روينا أن بعض أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : يا رسول الله ، نجالس اليهود بخيبر فيعطس أحدهم فنستحي منه ، ولا ندري ما نقول. قال عليه‌السلام وعلى آله قوله : «قولوا يهديكم الله ويصلح بالكم» (١)

__________________

(١) أخرجه الترمذي في سننه عن أبي موسى برقم (٢٧٣٩) قال : كان اليهود يتعاطسون عند النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يرجون أن يقول لهم : يرحمكم الله ، فيقول : يهديكم ويصلح بالكم ، قال : وفي الباب عن علي ، وأبي أيوب ، وسالم بن عبيد ، وعبد الله بن جعفر ، وأبي هريرة ، قال أبو عيسى : هذا حديث حسن صحيح ، وهو في الترمذي بدون ذكر اليهود ، وفي مسند أحمد بن حنبل ١ / ٢٠٤ ، وفي ٤ / ٤٠٠ باللفظ السابق عن أبي موسى ، وكذلك في ٤ / ٤١١ ، وعزاه في موسوعة أطراف الحديث النبوي ، إلى الحاكم في المستدرك ٤ / ٢٦٨ ، والأدب المفرد للبخاري ٩٤٠ ، ١١٤ ، وفتح الباري ج ١٠ / ٦٠٤ ، ٦٠٨ ، ٦٠٩ ، ومشكاة المصابيح ٤٧٤٠ ، والتأريخ الصغير للبخاري ٢ / ٢٣٣ ، والطبراني ١٢ / ٤١١ ، وشرح السنة للبغوي ١٢ / ٣٠٨ ، إتحاف السادة المتقين ٥ / ٢١٥ ، ٦ / ٢٨٥.

٧٤

فقد رأيت كيف جوّز الدعاء لهم.

وعند الزيدية جميعا الدعاء في الصلاة جائز ، وإن بعضهم قال بأدعية القرآن ، نحو قوله تعالى : (رَبَّنا آتِنا فِي الدُّنْيا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً) [البقرة : ٢٠١] وما جانسها من الآيات ، ومنهم من قال يجوز ذلك.

والتبرك من الدعاء والمسنون نحو قوله : اللهم تولني فيمن توليت وعافني فيمن عافيت إلى آخره وما شاكله ، فتفهم ذلك راشدا ، وداو بالبرهان قلبا فاسدا.

مسألة [في قوله تعالى : قال اللهم مالك الملك ..]

ثم سأل بعد ذلك عن معنى قوله تعالى : (قُلِ اللهُمَّ مالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) [آل عمران : ٢٦] ثم تكلم على الآية إثباتا ونفيا.

الجواب عن ذلك : إن التعرض بالكتاب العزيز زاده الله عزا وشرفا لا يجوز إلا بعد معرفة ، واستدللنا بكلامه على أنه منها عاطل ، ونحن نذكر تلك الأمور على سبيل الجملة الذي يحتمله الكتاب.

قلنا : لا بد أن يكون عارفا باللغة ؛ لأن الكتاب العزيز كما قال تعالى : (بِلِسانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ) [الشعراء : ١٩٥] وهذان النوعان عماده ، ولا بد أن يكون عارفا بتوحيد الله سبحانه إثباتا ونفيا ، وما يجوز عليه وما لا يجوز ، وما يجوز أن يفعله وما لا يجوز أن يفعله ، فإذا عرف ذلك صح منه الكلام له ، وجاز له التعرض وجوابه : أنا نسأله ما هو؟ فإن فسره بما هو من فعل الله أو بما يجوز أن يفعله.

٧٥

قلنا : أصبت ، وإن فسره بالظلم والقبيح من أخذ الأموال بغير حقها ووضعها في غير مستحقها ، وبسفك الدماء ، وركوب الدهماء.

قلنا : الله سبحانه يتعالى عن ذلك إذ هو حكيم وأفعاله كلها حسنة ، ليس فيها ظلم ولا عيب ولا سفه ولا شيء من القبيح ؛ ولأن هذه الأمور يجب على الكل إنكارها وتخطئتها ، ولو كانت فعلا لله سبحانه لوجب قبولها والرضى بها.

وأما قوله : إنهم يقولون إن الملك النبوة ، فعندهم أنه النبوة إذا قاربتها الإماء الجوار ، فالنبوة المطلقة تسمى ملكا ؛ لأنها تؤدي إلى الملك العظيم ، والفوز العميم ، والنفع الجسيم ، وهو الخلود في جنات النعيم ، والنبي يسمى باسم ما يؤدي إليه ، كما تسمى الشدة موتا ، والعنب المعتصر خمرا ، وهذا لكثرة الشغل ، وضيق الوقت ، وعجلة الرسول ، ومن الله سبحانه نستمد الهداية إلى سبيل الرشاد.

والسلام على كافة المسلمين ورحمة الله وبركاته

وصلى الله على رسوله سيدنا ونبينا محمد وآل سيدنا محمد

وسلم تسليما دائما أبدا

* * *

٧٦

الأجوبة الشافية عن المسائل المتنافية

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله مستحق الحمد وربه ، الذي جعل الحمد آلة للشكر ، والشكر سببا للمزيد ، وجعل نفع ذلك عائدا على عبده ، إذ العبادة لا تزيد ملكه ، والمعصية لا تثلم سلطانه ، الغني الحميد ، المبدئ المعيد ، الفعّال لما يريد ، حمدا كثيرا ، بكرة وأصيلا ، كما هو أهله ومستحقه ، أعطى من الرزق فوق الحاجة ، وكلّف من العبادة دون الطاقة ، وعرّف سبيل النجاة بأوضح برهان ، وحدّ منهاج الضلال بأبين بيان ، لم يشغله شأن عن شأن ، ولا ينأى به مكان عن مكان ، وصلى الله على محمد المحمود ، المنتخب من طينة الكرم والجود ، شريف الآباء والجدود ، المصطفى للرسالة ، المؤيد بالدلالة ، المعصوم من الضلالة ، المنزّه عن الجهالة ، وعلى أهل بيته الأبرار ، المنتخبين الأخيار ، الذين جعلهم بين الحق والباطل فرقانا ، وأنزل في وجوب مودتهم قرآنا ، فقال لا شريك له على لسان نبيه عليه وعلى آله أفضل الصلاة : (قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبى) [الشورى : ٢٣] قيل : يا رسول الله ، من قرابتك الذين أمرنا الله بمودتهم؟ فقال : «فاطمة وولدها» فهم الذرية الطيبة ، والأمة الوسط ، والعروة الوثقى ، والحبل المتين ، والشجرة المباركة أصلها ثابت وفرعها في السماء ، بهم رسخت أوتاد الدين ، واتضحت أنوار الحق اليقين ، وحرس علم النبيين ، لأنهم ورثة الكتاب ، وتراجمة الحكمة ، وبيوتهم مهابط الوحي ، ومساقط الرحمة ، بهم تفاوتت المنازل ، وتفاضلت الدرجات ، فمن طلب الحكمة فيهم وفّق للصواب ،

٧٧

ومن رامها من غيرهم خسر وخاب ، وكان سعيه في تباب ، ما ظنك بأهل بيت عمره التنزيل ، وخدمه جبريل ، لحم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ودمه ، وشعره وبشره وعترته ، مصابيح الهدى ، وأعلام الحجى ، وأقمار الدجى ، وليوث الوغى ، وبحار العطاء ، وعبور الحدى ، وسيوف اللقاء ، جفتهم الأمة ، فازدادوها على الجفوة لها نصحا ، وباعدتهم فزادهم إليها قربا ، وأبغضتهم فمحضوها حبا ، استأثرت عليهم بحقهم وبهم نالت ما نالت ، وآلت أمورها إلى ما آلت ، وهي عنهم نافرة ، وإليهم بالمساءة ظافرة (١) ، لا قبلت منهم الهداية فتهتدي ، ولا وردت عندهم الروي ، يقول أحدهم : أخبرني أبي عن أبي ، والأب الآخر النبي والوصي سلام الله عليهما وعلى آلهما ، فما ظنك بفخار أصله محمد ، وعلي ، وفاطمة ، والحسن ، والحسين سلام الله عليهم أجمعين.

في الحديث المروي عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ليلة الإسراء ، «أن الرب عز وعلى قال له : من خلفت على أمتك؟ قال : يا رب ، أنت أعلم. قال : يا محمد ، خلفت عليهم الصديق الأكبر ، الطاهر المطهّر ، زوج ابنتك ، وأبا سبطيك. يا محمد ، أنت شجرة ، وعلي أغصانها ، وفاطمة ورقها ، والحسن والحسين ثمرها ، خلقتكم من طينة عليين ، وخلقت شيعتكم منكم ، إنهم لو ضربوا على أعناقهم بالسيوف لم يزدادوا لكم إلا حبا» وهذا الحديث من درر الأحاديث الثمينة ؛ لأنه قبل النكاح والولادة.

وأما ما حكي من شيعتهم وشدة حبهم ، فقد شهد به كربلاء وما جانسه من أيام التمحيص والبلاء ، فهم الفرقة الوسطى ، إليهم يرجع الغالي ، وبهم يلحق التالي ، أحرزوا العلم الأول والآخر ، وفازوا بثمينات المفاخر ، فما أولاهم بقول الشاعر :

أولئك قوم إن بنوا أحسن البنا

وإن عاهدوا أوفوا وإن عقدوا

__________________

(١) في نسخة ظاهرة.

٧٨

وإن كانت النعماء فيهم جزوا بها

فإن أنعموا لا كدروها ولا كدوا

وإن قال مولاهم على جل

من الأمر ردوا فضل أحلامكم ردوا

ونستغفر الله ونتوب إليه كيف يقرّض بالشعر من جاء مدحهم في محكم القرآن في قوله تعالى : (وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمانٍ) [الطور : ٢١] ، وأنزل فيهم تأكيدا وتكريرا : (إِنَّما يُرِيدُ اللهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً) [الأحزاب : ٢٣] ولدوا بين التحريم والتحليل ، ودرجوا بين التنزيل والتأويل ، فهم آل الله ، وعترة الرسول الأوّاه ، وبهم يفتح ويختم ، وينقض ويبرم ، وبذكرهم ختمت الصلاة ، وباسمهم تولت الولاة ، ولما بلغنا الرسالة التي أنشأها الشريف المكين ، المعتمد الأمين ، لسان المتكلمين ، سليمان بن حمزة السراجي الحسني (١) مضمنة مسائل أوردها فقهاء الجهة اليمانية نصرة لمذهب

__________________

(١) قال ابن أبي الرجال في (مطلع البدور) (خ) ج ١ / ص ٤٠٢ : الأمير النبراس الخطير سليمان بن حمزة الحسني السراجي : هو العالم الكبير ، والإنسان الخطير. ذكره القاضي نظام الدين علي بن نشوان وغيره.

قلت : قال بعض العلماء : كان عالما مصنفا رواية للأخبار مقداما في الحروب ، شهد الحروب وكان مشارا إليه بين العلماء رضي الله عنهم ، وهو الذي أرسلته المطرفية إلى الإمام المنصور بالله عبد الله بن حمزةعليه‌السلام يطلبون موقفا يختبرون الإمام فيه.

قال الأمير سليمان المذكور ما نصه : وصلت مشايخ من الزيدية المطرفية إلى دار البستان بصنعاء ثم أرسلوني إلى الإمام عليه‌السلام في إجماعهم للمناظرة ليصح لهم هل وجبت عليهم الحجة. قال : كان ممن حضر ذلك اليوم الأمير الأجل الفاضل العفيف محمد بن الشيخ أحمد بن أسعد الفضلي والشيخ ناصر بن علي الأعروشي وسعيد بن عواض الثابتي وجماعة من أصحابهم ، والشيخ علي بن إبراهيم الجحلم وجماعة من العارفين من أهل الجبجب ، والسلطان محمد بن إسماعيل ، والفقيه علي بن يحيى في جماعة من علماء وقش ، ومحمد بن ظفر ، وجماعة من علماء سنحان ، والسلطان يحيى بن سبأ الفتوحي ، وأحمد بن مسلم في وجوه أهل مسور ، والشريف علي بن مسلم وجماعة من الشيعة بلد الأنبار ، وشيعة بني حبيب وبني سحام ، فلقيهم الإمام في المجلس الذي عند البركة على يمين الداخل إذا أراد دار الإمام فتكلموا على مراتبهم ، وقالوا : نريد نختبر ، فأجاب الإمام عليه‌السلام بعد الحمد والثناء والصلاة والسلام على محمد وآله ثم قال : يا قوم ، أنا حجة الله عليكم وإمام سابق ؛ أدعوكم إلى بيعتي ونصرتى على أعداء الله سبحانه وإنصاف المظلوم وقمع الظالم ولا أعدو بكم كتاب الله وسنة رسولهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فمن كان منكم شاكا في أمري أو منكرا لإمامتي أو مستقصرا لعلمي فليسأل عما بدا له ولا يستحي مني فإن الله لا يستحي من الحق ، ها أنا ذا قد نصبت نفسي للمعترضين غرضا لأؤدّي مفترضا ، وأشفي من شك مرضا ، وأطلب بذلك من الله ـ

٧٩

القدرية ، واعتراضا على العصابة الزيدية ، وجاءت إلينا في حال أشغال عارضة بتدبير الرعية ، ومنابذة الجنود من ظلمة البرية ، ولم يكن فيها ما يكسر ركن الدلالة ، فنبادر إلى حلها ، ولا يهزم جند المقالة فنشمر لفلها ، فلما وردت المطالعات الشريفة من الشريف الأمين من الشيخ المكين ظهير الدين مفضل بن منصور بن أبي رواح مستدعية لم نر إلا التلبية على تراكم الأشغال ، فأوردنا المسائل مستوفين ، وأجبنا مختصرين ، ونرجو أن يكون فيما نذكر كفاية لمن رضع خلف الهداية ، ومن الله سبحانه نستمد المعونة والتوفيق ، ونستوهب الهداية للتحقيق ، والصلاة على محمد وآله.

المسألة الأولى [في العلم]

قال السائل تولى الله إرشاده : إن العلم عندهم على وجهين : علم ضروري ، وعلم استدلالي ؛ فالضروري ما حصل من غير اكتساب ولا استدلال ، قال : والكلام عليهم هو أنه لو كان كما قالوا لما جاز تعريفه بالحقائق والحدود ، وتعليمه التلامذة بالتصوير والاستدلال ، قال : وقد علمنا أن العبد يولد ، وكذلك في سنين التربية لا يعرف شيئا من الضروريات ، قال : وقد قال تعالى في قصة الملائكة : (لا عِلْمَ لَنا إِلَّا ما عَلَّمْتَنا) [البقرة: ٣٢] ، وقال تعالى : (وَاللهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهاتِكُمْ لا تَعْلَمُونَ شَيْئاً) [النحل : ٧٨].

__________________

رضا ، فقال الجميع : ما وصلنا إلا لنعجم عود مخبرك ، ونستقصي غاية خبرك ، ونأخذ في أمر ديننا باليقين ، ونستوضح سبيل الحق المبين ، فانصت لسؤالنا ، واصغ لمقالنا ، وارفع عنا المنقود في هذا الباب ، وهو مرفوع في هذا الأمر عند ذوي الألباب ؛ فقال : اسألوا عما أحببتم ، وبالله لا أخرتم شيئا من مسائلكم ولا كتمتم ؛ فانحل قيد المحاباة ، وخرجنا إلى باب التعنت والمعاياة ، فسأل كل من الجماعة المذكورين وغيرهم عن مسائل من غوامض العلوم قد أعدت لليوم المعلوم وأغرقوا في البحث عما لا يفهمه إلا الأئمة السابقون والعلماء المحققون ، والإمامعليه‌السلام يوضح لهم السبيل ويحقق لهم الدليل حتى إذا أوعت مسائلهم وحصر مسائلهم قالوا مجتمعين : نشهد أنك إمام الخلق أجمعين ، فبايعوا أجمعون.

٨٠