مجموع رسائل الإمام المنصور بالله عبدالله بن حمزه - ج ٢

المنصور بالله عبدالله بن حمزة

مجموع رسائل الإمام المنصور بالله عبدالله بن حمزه - ج ٢

المؤلف:

المنصور بالله عبدالله بن حمزة


المحقق: عبدالسلام بن عباس الوجيه
الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مؤسسة الإمام زيد بن علي الثقافية
الطبعة: ١
الصفحات: ٦٦٥
الجزء ١ الجزء ٢

المراد : الملك عليه‌السلام على صفته الأولى التي خلق عليها لأنها عجيبة ، ولهذا وصف بالتدلي وهو الهبوط ، والهبوط والسقوط لا يجوزان على الله سبحانه لأنهما من صفات الأجسام.

وأما قوله : «بعيني قلبه» فهو رأي له كذلك في كل حال رؤية العلم إذ هو لا يجهل الله سبحانه وكيف يجهله وهو أعلم الخلق به.

وأما الرواية التي ذكرها عن أم المؤمنين وأنها شاذة ، فقد أغنى البرهان عنها وعن غيرها غير أن صحتها ثابتة ثبوت روايتهم إن لم تزد لم تنتقص في الثبوت والصحة.

وأما إجماع الأمة على معرفة الأنبياء عليهم‌السلام بالله سبحانه وبصفاته وما يجوز عليه وما لا يجوز فلا شك في ذلك.

وأما ما ذكره من سؤال موسى عليه‌السلام الرؤية فإن أهل البيت عليهم‌السلام يقولون : إن السؤال كان لقومه ، يؤيد ذلك قوله تعالى : (فَقَدْ سَأَلُوا مُوسى أَكْبَرَ مِنْ ذلِكَ فَقالُوا أَرِنَا اللهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ) [النساء : ١٥٣] ، وإنما أضاف موسى عليه‌السلام السؤال إلى نفسه إزالة لشغبهم ، وحسما للددهم ، ومبالغة في تبعيد الأمر ، وقطعا على استحالته لشغبهم فأعلمه الله سبحانه أن ذلك لا يصح.

وأما ما روي عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن قال : «سترون ربكم يوم القيامة كما ترون القمر ليلة البدر لا تضامون في رؤيته» فإن هذا خبر مطعون في سنده ، مختل في لفظه ، أما سنده فإنه ينتهي إلى قيس بن أبي حازم (١) ، وكان باغضا لعلي بن

__________________

(١) قيس بن أبي حازم البجلي ، الأحمسي ، أبو عبد الله الكوفي ، اختلفوا في تاريخ وفاته ، قيل : ٨٤ ه‍ ، وقيل: ٩٤ ه‍ ، وقيل : ٩٦ ه‍ ، وقيل : ٩٨ ه‍ ، وقيل : غير ذلك.

١٢١

أبي طالب عليه‌السلام وقيل : إنه اختل في آخر أيامه ، ولا ندري روايته قبل الاختلال أو بعده.

وأما في لفظ الخبر : فإنه قضى أن يكون تعالى على هيئة القمر ليلة البدر في الاستدارة والصورة وذلك دليل الحدوث ولا كل قائل به ، فإن مال إلى التأويل وقال : إنا نريد في الظهور والجلاء وزوال اللبس في المشاهدة. قلنا : لست بالتأويل أولى منّا ؛ فإنّا نقول : إن رؤيته هو العلم علما ضروريا يرتفع فيه الإشكال واللبس ما ذكره من قوله : (بَلْ هُمْ بِلِقاءِ رَبِّهِمْ كافِرُونَ) [السجدة : ١٠] ، فلا شك أن اللقاء ليس من الرؤية في شيء ، وقد قال تعالى في أهل النفاق : (فَأَعْقَبَهُمْ نِفاقاً فِي قُلُوبِهِمْ إِلى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ) [التوبة : ٧٧].

وأما (تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ سَلامٌ) [الأحزاب : ٤٤] ، فمعناه ملكهم يوم يلقونه سلام أي سالم من كل شأنية ؛ لأن التحية هي الملك ، وذلك ظاهر في اللسان العربي ، قال الشاعر :

ولكل ما نال الفتى

قد نلته إلا التحية

والهاء في يلقونه عائدة إلى الملك لا إلى الله تعالى.

مسألة [في خلق القرآن]

قال أرشده الله : قالت الزيدية : إن القرآن محدث مخلوق. قال : ولم نجد في الكتاب والسنة واعتقاد السلف الصالح دليلا يصحح ما ذهبت إليه هذه الفرقة ، والصحيح أنه قديم غير مخلوق وأنه صفة من صفات الله سبحانه القديمة ، كالعلم ، والقدرة ، وهو أمر الله سبحانه قال تعالى : (أَلا لَهُ الْخَلْقُ

١٢٢

وَالْأَمْرُ) [الأعراف : ٥٤] ، فرق بين الأمر والخلق ؛ فلو كان مخلوقا لما كرر الأمر ، وقد روي عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنه قال : «القرآن كلام الله ومن قال مخلوق فهو كافر» إلى غير ذلك من الأخبار.

الجواب عن ذلك : أن مذهب آل محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ومذهب أهل العدل والتوحيد من علماء الأمة : أن القرآن كلام الله سبحانه ، ووحيه وتنزيله ، نزل به الروح الأمين ، على محمد خاتم النبيين صلوات الله عليه وعلى آله الطيبين والمخلوق يحتمل معنيين : أحدهما : المكذوب قال الله تعالى : (وَتَخْلُقُونَ إِفْكاً) [العنكبوت : ١٧] و (إِنْ هذا إِلَّا اخْتِلاقٌ) [ص : ٧] فعلى هذا الوجه لا يجوز وصف القرآن الكريم بأنه مخلوق لأنه الصدق الذي لا يشوبه الكذب ، والجد الذي لا يخلطه اللعب ، والثاني : المحدث الموجود بعد القدم المقدر على وجه الحكمة ، فهذا يجوز وصف القرآن الكريم به ، بل هو الواجب فيه ، قال تعالى في صفته: (وَمِنْ قَبْلِهِ كِتابُ مُوسى إِماماً وَرَحْمَةً) [الأحقاف : ١٢] ، وما كان قبله غيره فهو محدث ، وقال الله تعالى : (وَما يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنَ الرَّحْمنِ مُحْدَثٍ) [الشعراء : ٥] ، فوصفه بالحدوث ، والحدوث والخلق الذي بمعنى الحدوث واحد ؛ لأنه مرتب منظوم يوجد بعضه في إثر بعض ، وذلك دليل الحدوث ؛ أما أنه مرتب منظوم يوجد بعضه في إثر بعض فذلك ظاهر ، وأما أن ذلك من أمارة الحدوث فلسنا نريد بالمحدث إلا الموجود بعد غيره وإن سبقه غيره ، وذلك المعقول من المحدث عند الكافة من أهل العلم.

وأما قوله : إنه صفة من صفات الله تعالى القديمة فهذا بناء للفساد على الفساد ، إذ المحصلون من آل محمد بل الأمة الوسط لا يثبتون قديما

١٢٣

سوى الله سبحانه ، ولهذا تميز دين الحنيفية على دين النصارى في قولهم : (إن الله ثالث ثلاثة) وما أرادوا غير إثبات ذات وصفتين في الأزل ، فصاروا مثله بذلك ، فإن شاركهم غيرهم وزاد عليهم فثمّن أو عشّر ، فقد رمى بنفسه في المهالك ، فتحرز أرشدك الله عن ذلك.

وأما قوله : إن القرآن صفة ، فلا يعقل في معنى القرآن إلا هذا الموجود بين أظهرنا حجة لنا وعلينا أمرا ، ونهيا ، ومجملا ، ومبينا ، وخاصا ، وعاما ، ومحكما ، ومتشابها ، ووعدا ، ووعيدا ، وعبرا ، وأمثالا ، وفرائض ، وأحكاما ، إلى غير ذلك من أنواعه زاده الله شرفا وحده على مرور الأيام ، ولا يعقل فيما هذا حاله أن يكون صفة وأن تكون قديمة ، فكيف تكون الأمور المتغايرة قديمة ؛ لأن الوعد غير الوعيد ، والمحكم غير المتشابه ، وكذلك في سائر الأنواع ؛ فإن أثبت قرآنا غير هذا فلسنا ننازع إلا في هذا ، ونقلنا الكلام معه إليه ، وبينا أن إثبات صفة قديمة للباري لا تجوز إذ لا قديم سواه ولا رب غيره ، ولو كان العلم والقدرة كما قال السائل لكانت أمثالا لله سبحانه ولا مثل له تعالى ؛ لأنه لو كان له مثل وقدر بينهما المنازعة التي تجوز وقوعها بين الاثنين كأن يريد أحدهما تحريك جسم والآخر يريد تسكينه أو تبييضه والآخر يريد تسويده ، لكانت لا تخلو من أمور ثلاثة : إما أن يوجد مرادهما وذلك محال ، وإما أن لا يوجد مرادهما معا وذلك محال ، وإما أن يوجد مراد أحدهما دون الآخر وذلك أيضا محال لاستوائهما في كل حال فاعلم ذلك.

فأما قوله : إن الله تعالى فرق بين الخلق والأمر فقال : (أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ) [الأعراف: ٥٤] ، فلا شك في ذلك لأن الأمر أعم من الخلق وهي لفظة مشتركة يراد بها الغرض والبيان كما يقال : لأمر ما جدع قصير أنفه أي :

١٢٤

لغرض وبيان ، ويراد بها القدرة كما يقال : هذا أمر عظيم أي : قدرة عظيمة ، ويراد بها الحال والجاه كما يقال : أمر فلان عظيم أي : جاهه وحاله ، ويراد بها الخطب المهم ، وكما يقال : أمرهم شورى بينهم أي : خطبهم وشأنهم ، ويراد الصيغ المخصوصة صيغة أفعل أو لتفعل على شرائط ، والخلق على المعنيين الذين قدمنا فلذلك فرق بينهما ، وليس بينهما دليل على ما زعمه السائل من قدم القرآن وأنه غير مخلوق بمعنى محدث.

وأما ما روي عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من قوله : «القرآن كلام الله ومن قال مخلوق فهو كافر» فهذا الخبر غير صحيح ، فإن صح فالمراد غير مكذوب ، فمن قال : إنه مكذوب فهو كافر ، ولا شك في ذلك عند الجميع ، ويدل على حدوثه قوله : إنه كلام الله ؛ لأن الكلام فعل المتكلم ، والمتكلم متقدم على الكلام ، وما تقدمه غيره فهو محدث ، فتفهم ذلك موفقا.

مسألة [في الصحابة]

قال أرشده الله : قالت الزيدية وروافض الشيعة : إن الصحابة ضلوا وأضلوا الأمة في أمر الإمامة ولولاهم لما كان القتل بين أمة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلى يومنا هذا بتقديمهم أبا بكر ، ثم عمر ، ثم عثمان. قال : وإن عليا بزعمهم كان أحق الخلق بالإمامة بعد النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ثم ولديه ثم من صلح من أولاد فاطمة عليها‌السلام. قال : وهذا من أعجب أمورهم حيث أجمعت الأمة على بيعة أبي بكر ، وبايع علي على رءوس الأشهاد ، ولا تخلو هذه البيعة لأبي بكر إما أن تكون بيعة حق فهو قولنا ، أو بيعة باطل فقد بايعهم على الضلالة ورضي بها وهو بزعمهم معصوم من الزلل والضلال ، ولو طلب عدو لعلي إسقاط منزلته لم

١٢٥

يزد على ما قالوا ، أو طلب تكفير جميع أصحاب النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم المشهود لهم بالجنة لم يزد على ما قالت هذه الفرقة ، قال : وإذا انتهى الأمر إلى هذا الحد وصححنا قولهم لم يبق شيء من أخبار الصحابة لخروجهم عن الإسلام بجحود نص النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في حق علي ، وأبطلنا الشريعة لأنها مروية عن جميعهم منقولة عن سيرهم ، كما لا نثق بما ورد عن سائر الكفار والضلال وأهل الردة ، وأورد دليلا آخر وهو : أن عليا عليه‌السلام دعاهم باسم الخلافة ، واختار (١) أحكامهم بالحدود واقتسم من الغنائم نصيبه ، وجهّز بنيه عليهم‌السلام وبني هاشم ومواليهم مع عساكرهم وسراياهم ، واستجاز الوطء من سباياهم ، وإن المعلوم من السيرة أن الحسين أخذ بنت كسرى من يد عمر في نصيبه من الفيء فكره ذلك وأعطاها الحسين. قال : وهذه أحكام لا تصح إلا ممن يحكم بصحة إمامته ، وقد قدم النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أبا بكر لصلاة الجماعة وعلي في الحضرة ، على أنّا لو قصدنا ما أوردته البكرية من النصوص لشغلنا عن المراد.

الجواب عن ذلك : هذه المسألة اشتملت على مسائل كثيرة ، ونحن نجيب على كل مسألة على وجه الاختصار وبالله التوفيق.

أما قوله : إن الزيدية وروافض الشيعة زعموا أن الصحابة ضلوا وأضلوا في أمر الإمامة ، وأنهم أصل الفرقة بين الأمة والقتل والقتال إلى يوم القيامة.

والجواب عن هذا الفصل : أن هذه الدعوى على الزيدية غير صحيحة ولا مستمرة لأنها لا تزعم في أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنهم ضلوا وأضلوا ؛ فكيف يعتقدون ذلك فيهم وهم خيار الأمة ، وبهم أعز الله دينه ، ونصر

__________________

(١) في حاشية الأصل : وأجاز أحكامهم في الحدود.

١٢٦

نبيه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وهم حماة شرع الإسلام ، وبدور الظلام ، فجزاهم الله عنّا وعن الإسلام خيرا ، وما سبب القتل والقتال بين الأمة إلا الشيطان ، واتباع الهوى ، وغلب حب الدنيا.

والله ورسوله والصالحون من أمته وهم صحابته رضي الله عنهم من ذلك أبرياء.

فأما ما ذكر من الإمامة فلها باب آخر ، ومذهب الزيدية متقرر على أن الإمام بعد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بلا فصل علي بن أبي طالب ، ولهم على ذلك أدلة كثيرة : منها قول رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يوم غدير خم : «من كنت مولاه فعلي مولاه ...» الحديث بطوله ، وعندهم أن الإمامة بعده في ولديه بدليل قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «الحسن والحسين إمامان قاما أو قعدا ـ فصرح لهما بالإمامة ـ وأبوهما خير منهما» ، وكذلك الإمامة عندهم بعدهما في أولادهما بدليل الإجماع من الأمة على ذلك.

وأما قوله : إن الأمة أجمعت على إمامة أبي بكر فذلك غير مسلم ، بل وقع النزاع في ذلك حتى كسر سيف الزبير واستخف بسلمان وعمار ، وأوذي علي عليه‌السلام ، وممن نازع خالد بن سعيد ، وسعد بن عبادة ، وهذا أمر يعلمه ضرورة من عرف الآثار وتتبع السير ، وبايع علي بعد ذلك كرها لأن في الحديث أن عمر قال : بايع. قال : فإن لم. قال : ضربنا عنقك. ودون هذا إكراه عقلا وشرعا ، ولا شك أنه إذا أكره كان الإكراه مجيزا للفعل ، وهو عليه‌السلام كان أكثر بالله علما ، وأشد لجلالته توقيرا من أن يجهل حرمة الإسلام وحق الدين ، ومذهبنا أنه معصوم والدليل على ذلك أنه من أهل البيت الذين

١٢٧

وردت فيهم آية التطهير وهي قوله : (إِنَّما يُرِيدُ اللهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً) [الأحزاب : ٣٣] ، فلا يخلو إما أن يريد تطهيرهم من درن المعاصي ، أو قاذورات الدنيا ، باطل أن يريد بذلك أمر الدنيا لأنهم مثل غيرهم في ذلك فلم يبق إلا أن المراد بذلك تطهيرهم من المعاصي ، وتطهير الله سبحانه وتعالى لهم هو العصمة.

وأما قوله : إن ذلك يوجب تكفير الصحابة رضي الله عنهم فهم عندنا أغلى من أن يكفروا ويفسقوا مع تجويزنا عليهم الخطأ فيما اختلفوا ، وعندنا أن عليا أولى بالأمر ، وأنهم أخطئوا بالتقدم عليه ، ولم ندر ما مقدار ذلك الخطأ عند الله سبحانه ، وقد أخطأ أنبياء الله سبحانه وهم أعلى قدرا من الصحابة وأعرف بجلال الله سبحانه.

قلنا : ولسنا نعتقد فيهم أنهم قصدوا شقاق النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في وصيه عليه‌السلام ، وإنما جهلوا وجه الاستدلال فاعتقدوا أنهم أولى بالأمر ، فلو صح أنهم قصدوا خلاف رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لقطعنا على ضلالتهم ، ولكنّا لا نقول ذلك ، وعلى هذا الوجه أخبار الصحابة ثابتة ، وجلالتهم باقية ، وخطأهم في مسألة واحدة لا يذهب حرمة إسلامهم وإصابتهم فيما لا يحصى من المسائل فتأمل ذلك موفقا.

وأما قوله : إن عليا عليه‌السلام دعاهم باسم الخلافة فأي شيء في هذا؟ إن صح ، غير أن الغالب فيهم أن كل إنسان يدعى باسمه في ذلك الصدر ، ولم يقع التشدد في الألقاب إلا بعد ذلك.

وأما إجازة أحكامهم في الحدود فلم يقفوها على رأيه فيحتج بإجازته ، بل

١٢٨

كان إذا خشي أن يقع تغيير في الشريعة نبّه ويردهم عنه كما في حديث المجهضة والمرجومة إلى غير ذلك.

وأما قسمة الغنائم فهذا جهل بالشريعة لأن عند جميع المسلمين أن أموال الحربيين حلال في وقت إمام وغير وقته وإنما اختلفوا إذا لم يكن إمام هل يجب الغزو أم لا؟ وهل يجوز أم لا؟ إلى ديار الكفار ، فأما إذا وقع كان المال جائزا ، والصحيح أن ذلك جائز فلا مانع أن يعتقده علي عليه‌السلام ، وإذا كان عليه‌السلام هو المجهز لولديه وأهل بيته عليهم‌السلام ومواليهم ، وهم يعتقدون إمامته فما المانع أن يكون صدورهم عن أمره وأخذهم الغنائم بإباحته.

وأما تقديم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لأبي بكر في الصلاة فما في هذا من دليل الإمامة إن صح ، أفليس قد تقدم ابن أم مكتوم على أن أهل البيت عليهم‌السلام يقولون أنه أتى حتى أخّر أبا بكر وصلى بالناس ، فإن كان التقديم دليل الاستخلاف فالتأخير دليل العزل.

وأما ما ذكره من البكرية فلا حقيقة لشيء منه فيفتقر إلى إطالة في نقضه ، ولو أورد لتكلمنا عليه فاعلم ذلك موفقا والسلام.

مسألة [في الإمامة]

قال أرشده الله : وأما قولهم : إن الإمامة لا تصح إلا في أولاد فاطمة وإنها محصورة فيهم فذلك غير صحيح ، قال : لقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «الأئمة من قريش» قال : ولم يفصل ، ولم يرد نص صريح بما ذكروه ، ولو كان صحيحا لأنكر علي عليه

١٢٩

السلام على من خالف ذلك وحاربه ، وكذلك أولاده فإن المروي عن كثير من علماء أولادهعليهم‌السلام تولي الأعمال ، وقبول الوفادة وتصويب الآراء ، والدعاء بإمرة المؤمنين لخلفاء بني أمية وبني العباس كالحسن بن الحسن ، وعمر بن علي بن أبي طالب ، والحسن بن زيد ، والرضى كان أمير الحاج من قبل خليفة عباسي ، وكذلك محمد بن صالح بن موسى بن عبد الله في أيام وزارته بسامراء وغيرهم من أولاد علي عليهم‌السلام.

الجواب عن ذلك وبالله التوفيق : أن مذهب الزيدية متقرر على قصر الإمامة في ولد الحسن والحسين عليهم‌السلام خلافا للمعتزلة ، والخوارج ، والإمامية والدليل على ذلك أن الإمامة أمر شرعي فلا بد من دليل شرعي ولا دليل في الشرع يبيحها لغيرهم ، وقد قام دليل الإجماع على جوازها فيهم فوجب قصرها عليهم.

وأما قوله : فيما روي عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «الأئمة من قريش» فلنا في صحته كلام فإن صح فالمراد به بيان الجنس والتبعيض ، وذلك كله في ولد الحسن والحسين الجنس قريش وهم بعضهم ولا وجه لتعلقه به.

وأما ما ذكره من أن عليا عليه‌السلام كان أولى بالقتال على ذلك فإن هذه المسألة حدثت بعده عليه‌السلام.

وأما أولاد الحسن والحسين عليهم‌السلام فإن المعلوم من مذهبهم عليهم‌السلام أن الإمامة محصورة فيهم.

فأما ما ذكره من كثير من علمائهم من تولي الأعمال ، وقبول الوفادة ، والخطاب بإمرة المؤمنين لخلفاء بني أمية وبني العباس فإنّا نذكر في ذلك ما يوفقنا الله سبحانه بما هو الحق.

١٣٠

أما الحجة على الحسن بن الحسن عليهما‌السلام فغير صحيحة ولا معدودة مما يقارب الصحيح ، وكان طبقة زمانه ، وإليه دعت الشيعة أيام ابن الأشعث ، ويسمى الرضا ، وخطب له ابن الأشعث ثلاث جمع بعد أن دافع دهرا من ذلك وتعلل بالعلل الفاسدة ، ثم قطع ذكره وخطب لنفسه فنفرت عنه الأفاضل ، وكان ذلك أول وهنه ، ولم يعلم ذلك منه أعني التولي بالآحاد ولا التواتر إلا أن تكون فرية.

وأما عمر بن علي فأكثر ما كان يحاول ولاية وقوف علي عليه‌السلام فمنعه الحسن بن الحسن من ذلك أيام حياته ؛ وولاية الأوقاف لا توجب التولي ولا الانقياد وإيجاب الحق ، وما تولى من أهل هذا البيت ممن له جلالة وحال إلا الحسن بن زيد ، فتولى المدينة ، ورفع المنكر ، ورسوم الجور ، وأصلح أمورا عظيمة في الدين ، على أن الكل من أهله عليهم‌السلام زارون عليه منكرون لفعله ، وتجوز على مثله المعصية تجاوز الله عنه ، وممن أنكره عليه ولداه رضي الله عنهما ، وقربت الحال من المحاربة حتى شكاهما إلى أبي جعفر ووقع ما يطول شرحه.

وأما علي بن موسى الرضا عليه‌السلام فإن إمارة الموسم لله تعالى لا لأحد ، فلا يمتنع أن لا يكره أن يعقدوا له عقدا لا يعتد به ونقيم للناس معالم نسكهم احتسابا ، ولهذا جوّز كثير من العلماء تولي القضاء من قبل الظلمة لما كان لله.

وأما محمد بن صالح فلم يكن قدوة ، وما وقع منه معدود في الخطايا ، والمنابذون للظالمين الداعون إلى أنفسهم الخائفون المخيفون عصرهم وطول أيامهم معرفتهم سلام الله عليهم تغني عن إفراد ذكرهم ، وقد أفرد له السيد

١٣١

أبو طالب عليه‌السلام كتابا سماه كتاب (الإفادة في تاريخ الأئمة السادة) وأبو العباس كتابا سماه: (المصابيح) ، وما قصر صاحب كتاب (الأنوار) وغير ذلك من الكتب فمن أراد معرفة ذلك فقد بيّنا مكانه ، فتفهم ذلك موفقا إن شاء الله تعالى.

مسألة [في طاعة الإمام وفصول تتعلق بها]

قال أرشده الله : قالت الزيدية إن كل من لم يلتزم طاعة إمامه بعد انتشار دعوته جاز قتله وأخذ ماله ، قال : وهذا خلاف الشريعة وسيرة الصحابة والخلفاء فإنه لا إشكال عند أهلها في أن من شهد الشهادتين ، وأقام الصلاة ، وآتى الزكاة ، وتشكك في إمامة إمام أو توقف عنه لشبهة فإنه حرام الدم والمال ، وذلك مشهور عن علي عليه‌السلام في أمر عبد الله بن عمر ، ومحمد بن مسلمة ، وسعد بن أبي وقاص ، بل في من خالفه كمروان بن الحكم ، والوليد بن عقبة ، وأشباههما حتى قال قيس بن سعد فيهما وفي الخوارج : ما منعنا من أخذهم وقتلهم يا أمير المؤمنين؟ قال : لا نمنعهم الصلاة في مساجدنا ، ولا حقهم من الفيء ما غزوا معنا ، ولا نبدأهم بالحرب ما لم يبدءونا ، هذا معنى الحديث ، وأشهر من هذا كلامه لابن الكوّاء حيث قال : أقسم بيننا الأموال والذراري ـ يعني في أهل الجمل ـ فقالعليه‌السلام : إنما نطق الشيطان على لسانكم فأيكم يأخذ عائشة في نصيبه.

الجواب عن ذلك : أن الكلام في هذه المسألة أن الزيدية مجمعة على أن الإمام لا تصح إمامته ما لم يختص بأمور ، منها : العلم البارع الذي يبلغ به درجة الاجتهاد فيصير يفتي بالمسائل بعلمه ، ويجب على الأمة الرجوع إلى فتواه إذا

١٣٢

ألزمها ذلك لأنه كالحكم ، والحاكم إذا حكم باجتهاده وجب على الإنسان قبوله ، وإن خالف اجتهاد نفسه ـ أعني المحكوم عليه ـ فتفهم هذا الأصل موفقا لنرجع إليها ما نبني عليه.

وأقوال الأئمة عليهم‌السلام في هذه المسألة تختلف وإن لم يقع فيها التفصيل ، والذي عندنا أن الإمام إذا قام ودعا وجب على الأمة إجابة دعوته والانتقال إلى دار هجرته إلا من عذره أو وسع له أو كان قائما في خدمته ، فإذا تمادى الناس على التأخر عنه والمعونة للظالمين بأقوالهم إما راضين وإما مغصوبين جاز له غزوهم وقتل مقاتلهم وأخذ أموالهم ، لأن هذا حق له ، والقتال على الحقوق دقيقها وجليلها جائز ، قال أبو بكر بمشهد الصحابة : والله لو منعوني عناقا مما أعطوا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لقاتلتهم عليه. ولم ينكر أحد من الصحابة فكان إجماعا ، وذلك لأن أهل الردة قالوا : نقيم الصلاة ، ولا نؤتي الزكاة ، ومن امتنع من إمام الحق وجب قتاله وقتله وأخذ ماله ، وإنما قلنا : يجوز أخذ ماله لأن أخذه يكون عقوبة والعقوبة بالمال جائزة ؛ لأنا روينا عن علي عليه‌السلام أنه أخذ طعام رجل محتكر في الكوفة ، وقسمه نصفين ، وحرق نصفه ، وأمر بنصفه إلى بيت المال ، فقال الرجل : لو ترك لي أمير المؤمنين مالي لربحت مثل عطاء أهل الكوفة ، فانظر إلى كثرة هذا المال وفعل أمير المؤمنينعليه‌السلام فيه.

وروينا بالإسناد الموثوق به إلى السيد أبي طالب عليه‌السلام ، يرفعه إلى محمد بن عبد الله ، قال الراوي : لقيته قبل خروجه لمدين ، فقلت له : يا ابن رسول الله ، متى يكون هذا الأمر؟ قال : وما يسرك منه؟ قال : قلت : ولما لا أستر بأمر يعز الله به المؤمنين ويخزي به الفاسقين. قال : يا أبا فلان ، أنا والله خارج وأنا والله مقتول ، ولكن والله ما يسرني أن لي ما طلعت عليه الشمس وإني

١٣٣

تركت قتالهم ، يا أبا فلان ، إن امرأ لا يمسي حزينا ويصبح حزينا مما يشاهد من أفعالهم لمغبون مفتون. قال : قلت : يا ابن رسول الله كيف بنا ونحن مقهورون مضطهدون لا نستطيع لأفعالهم إنكارا ، ولا عليهم تغييرا؟ قال : فقال عليه‌السلام : اقطعوا أرضهم وقد علمت ما رد الله سبحانه على القوم الذين قالوا : (فيم كنتم؟ قالوا : كنا مستضعفين في الأرض) أفقبل تعالى عذرهم أم لم يقبل عزوجل (أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللهِ واسِعَةً فَتُهاجِرُوا فِيها) [النساء: ٩٧].

فأما ما ذكره أرشده الله من أن الشريعة شرفها الله قضت بأن من نطق بالشهادتين وتشكك في الإمام فإنه حرام الدم والمال فهذا موضع الخلاف بين الأئمة والأمة ، فكيف يسوغ لمن ينتحل العلم دعوى الإجماع.

فأما ما عينه من محمد بن مسلمة ، وسعد بن أبي وقاص ، وعبد الله بن عمر ، وأمثالهم من المتخلفين عن علي عليه‌السلام وأنه لم يعرض لهم إلا بخير ؛ فذلك فعل محتمل لا يدل على إثبات حكم ، وذلك يجوز لأنه خشي الفتنة لو أوجب عليهم حالا لكبر مكانهم ، وإذا كان معاوية على تأخره عن الرتبة العالية التي نزلها الصحابة رضي الله عنهم نازعه الأمر وشاقه وكثرت أتباعه على حربه فكيف أولئك وهم المحل الذي لا يجهل!! فرأى أن تركهم ما تركوه وأن يرضى منهم لاعتزالهم له ولمعاوية على أنه قد بلغ الاحتجاج عليه فما في هذا من حجة ، وإن كان المتأخر عن الإمام تشككا لا يخلوا إما أن يدعي أن وجوب الاتباع للأئمة واجب أو غير واجب ، فإن قال : غير واجب خرق الإجماع ، وإن قال : واجب ، قيل : فهل جعل الله سبحانه له إلى معرفة إمامته طريقا أم لا؟ فإن قال لم يجعل له طريقا. قيل : هذا تكليف ما لا يعلم وهو قبيح ،

١٣٤

وإن قال : له طريق وجب أن يبينها إما ليسلكها معه غيره أو يبين له ضلالتها ، فأما إذا تخلف عن الإمام ، وقال : أنا متشكك في الإمامة ، فيجوز أن يقول الثاني والثالث حتى يعم الأمر الجميع فسقط أمر الإمامة الذي قد انعقد الإجماع على ثبوته على مر الأيام.

فأما ذكره من مروان بن الحكم ، والوليد بن عقبة فهو غلط في بابهما كبير.

أما مدة إقامتهما في المدينة فتسترا بالنفاق والبيعة ، حتى نكث مروان يوم الجمل فيمن نكث وجيء به إلى علي عليه‌السلام فلما رآه يقاد ، تمثل بقول الشاعر :

فإما تنفعوني فاقتلوني

وإن أسلم فلست إلى خلود

فسأل العفو وتشفع في بابه الحسن والحسين عليهما‌السلام فقالوا : يا أمير المؤمنين ، بايعه قال : أو ليس قد بايعني في المدينة ، وقد كان مروان بسط يده للبيعة فرده علي عليه‌السلام ، وقال : أذهبها عني فإنها كف يهودية ، ثم قال لأصحابه ليكون لهذا إمرة كلعقة الكلب أنفه وأنه لأبو الأكبش الأربعة فكان ذلك من ملاحمه عليه‌السلام.

وأما الوليد فلحق بمعاوية ، وكان من أقوى أعوانه على أمره.

وأما الخوارج فالظاهر من حالهم أنهم خالفوا في المسائل المشهورة ، وناظروا في المساجد ولم يكن جند العراق يومئذ لهم أموال في العراق لأن الجند عربي كله وهم مهاجرة من اليمن وغيره ، وأهل العراق الفرس ، وكان فيه الخراج على الأموال ، والجزية على الرقاب ، والجند مجرد للقتال ، وفي الجند الخوارج من كل قبيلة وأكثرهم تهيم ، وكان الظاهر منهم النفير مع علي عليه‌السلام ، وما

١٣٥

فصلوا من صفين إلى حرور أو إلى النهروان إلا من عساكرهم ؛ لأن عليا عليه‌السلام لما رأى العساكر مزقت سأل عن ذلك؟ فقيل : فارقنا القرّاء ، والعبّاد ، والفقهاء في حديث طويل ، وهم يعنون الخوارج ، فلما انفصلوا حاربهم بعد الاحتجاج وقتلهم لما ناصبوه وباينوه ، ولم نعلم لو كانت لهم قرى ومزارع وأعانوا الظلمة ما كان رأيه فيهم ، وإن شئت فقد اتضح لنا رأيهعليه‌السلام في من هذه حاله تصريحا فإن أهل قرقيسا كان ميلهم إلى معاوية لكونهم عثمانية على أنهم كانوا موادعين غير حائلين بين عمال علي عليه‌السلام وبين فيض الخوارج ، فسالمهم قيس بن سعد رحمه‌الله برأيه ، وأمره علي عليه‌السلام بمحاربتهم فكره ذلك فكان سبب عزله ، وتولية محمد بن أبي بكر رضي الله عنه فحاربهم محمد فلم يظفر ، وكان أخذ مصر بسببهم.

وأما ما ذكرت من أهل الجمل وكلامه عليه‌السلام لابن الكوّاء حتى قال : وأيكم يأخذ عائشة ، فلسنا نجيز السبي في الفساق ، وهذا حكمهم الذي يميزهم من الكفار.

وأما أنه لم يأخذ إلا ما حواه العسكر ولم يعرض للأملاك والذراري فهذا رأيه عليه‌السلام وهو حق ، ويجوز أن يجتهد غيره من الأئمة اجتهادا يخالف اجتهاده ويكون حقا ؛ ألا ترى أن المشهور عنه عليه‌السلام جواز بيع أمهات الأولاد وسائر الأئمة لا يجوز إلا ما حكي عن الناصر الكبير عليه‌السلام والإمامية ، وكذلك في الفرائض مسائل كثيرة خولف فيها فلم يضلل أحدا ممن خالفه بل تولاهم ويعرف حقهم وذلك ظاهر ، على أن أهل زماننا هذا ليسوا بغاة لأن الباغي يكون مؤمنا في الأصل فتعرض له الشبهة فيحارب يطلب الهدى ، كما قال تعالى : (وَإِنْ طائِفَتانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُما فَإِنْ بَغَتْ

١٣٦

إِحْداهُما عَلَى الْأُخْرى فَقاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلى أَمْرِ اللهِ) [الحجرات : ٩] ، فأما هؤلاء القوم ففساق من الأصل خارجون عن حكم البغاة لو كان رأينا في البغاة ، ما تقرر في الكتب عن الأكثر من السلف سلام الله عليهم ، ولكن رأينا في البغاة أن للإمام نظره فيهم وهو مخير في إتلاف النفوس والأموال والمنازل ، والترك فإن عليا عليه‌السلام لم يهدم منازل أهل البصرة لبغيهم ، وهدم منازل جرير بن عبد الله البجلي (١) وغيره لدون جرمهم ، وهي أمور ملتبسة على من قلّت معرفته بمعاني العلم إلا أهل الاجتهاد فلا ينتقد عليهم في اجتهادهم ؛ فإذا كان في الوقت إمام وحكم بحكم وجب عليهم التزامه ، وإن خالف اجتهادهم كما تقدم في نفوسهم وغيرهم ، فتفهّم ذلك موفقا.

فصل

قال أرشده الله : هب أن الزيدية شرعت هذا في من لا يقول بقولها ويرى برأيها ، قال: فما العذر في أخذ الزيدية أرض تهامة وأكثرهم شرف ، وقسمة أموالهم؟ قال : بين الغزو وهتك حرمهم ورضا إمامهم بذلك ، وقد قال النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «لا يحل مال امرئ مسلم إلا بطيبة من نفسه» (٢) وفي الشرف

__________________

(١) جرير بن عبد الله بن مالك بن نصر البجلي القسري ، أبو عمرو ، وقيل : أبو عبد الله. روى عن النبي وعمر ومعاوية ، وعنه : أبناؤه : أيوب وعبد الله والمنذر وإبراهيم وأنس بن مالك وغيرهم. قالوا : كان إسلامه في السنة التي توفي فيها النبي ، وابتنى دارا بالكوفة في بجيلة. قالوا : واعتزل علي ومعاوية بالجزيرة ونواحيها!! وقالوا : إنه انتقل من الكوفة إلى قرقيسيا. وقال : إنه لا يقيم في بلدة يشتم فيها عثمان!!! توفي سنة ٥٦ ه‍ ، وقيل : سنة ٥٤ ه‍ ، وقيل : سنة ٥١ ه‍.

(٢) هو في موسوعة أطراف الحديث ص ٣٦٣ ـ ٣٦٤ بألفاظ متقاربة وعزاه إلى أحمد بن حنبل ٥ / ٧٢ ، والبيهقي ٦ / ١٠٠ ، والدار قطني ٣ / ٢٦ ، ومجمع الزوائد ٤ / ١٧٢ ، وتلخيص الحبير ٣ / ٤٥ ، والتمهيد لابن عبد البر ١ / ٢٠٢ ، ١٠ / ٢٣١ ، وهو في كنز العمال برقم (٣٩٧) ، وفي كشف الخفاء ٢ / ٩٦.

١٣٧

خاصة : «حرمت الجنة على ظالم أهل بيتي ، وباغضهم في الدرك الأسفل من النار» (١) يريد بذلك أزواجه ، وبني هاشم.

الجواب عن ذلك : أن مذهب الزيدية أكثر الله سواده ، وأعز أجناده ، كالذهب الخالص يزيده السبك حسنا ، وليس ذلك حب الوالد للولد ، ولكن بالبرهان ، ومذهب الزيدية أن الإيمان قول وعمل ، واعتقاد ، ولا يخلص ذلك إلا باجتماع الأمور ؛ فمن اعتقد اعتقاد الزيدية ، ولم يعمل الحق ، ولم يقله لم ينفعه اعتقاده من عذاب الله سبحانه ؛ وسواء كانت الزيدية في سهل أو في جبل ولم تهاجر إلى إمامها ولم تمتثل أوامره فسقت بذلك ، وحل للإمام فيهم ما حل له في غيرهم ، وإن كان الذي غيره من زيدية تهامة وشرفهم لم يعلم بصحة ذلك فيهم.

وأما الحرم فالظاهر من الإمام وعساكره العفة عنهم وعن كشفهم ، وأكثر من أهل تهامة جرما أهل نجران ، وكان أمر سباياهم كما قال بعض شعراء الدولة المنصورية :

سلبن رءوس معشرهم جهارا

ولم يسلب لغانية خمار

ولم يقل إلا حقا وما هو ظاهر وإن كان يجوز من بعض العسكر أن يتعدى في ذلك فإن ظهر أدّب وألحق ما يلزم مثله من الشدة والاستخفاف.

__________________

(١) أخرجه الإمام أبو طالب في أماليه (تيسير المطالب في أمالي الإمام أبي طالب) ص ٩٣ بلفظ : «حرمت الجنة على من ظلم أهل بيتي وقاتلهم وعلى المعين عليهم ، أولئك لا خلاق لهم في الآخرة ولا يكلمهم الله يوم القيامة ولا يزكيهم ولهم عذاب أليم» وهذا في موسوعة أطراف الحديث ٤ / ٥٣٧ وعزاه إلى القرطبي ١٦ / ٢٢ بلفظ : «حرمت الجنة على من يظلم أهل بيتي». وهو في القرطبي بهذا اللفظ وزاد عليه «وآذاني في عترتي ، ومن اصطنع صنيعة إلى أحد من ولد عبد المطلب ولم يجازه عليها فأنا أجازيه عليها غدا إذا لقيني يوم القيامة».

١٣٨

فأما ما احتج به من قول النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «لا يحل مال امرئ مسلم إلا بطيبة من نفسه» فإن الحقوق الواجبات مستثناة فإنها تؤخذ من مال المسلم وإن لم تطب نفسه ، بل يجوز كما قدمنا أن تضرب رقبته وحرمتها أكثر من حرمة المال.

وأما ما ذكره من الشرف وبغضهم فلا شك في ذلك إلا أن يعصوا الله سبحانه ويتعدوا حدوده فإن جرمهم تكون عقوبته مضاعفة ، وقد قال تعالى : (لا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوادُّونَ مَنْ حَادَّ اللهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كانُوا آباءَهُمْ أَوْ أَبْناءَهُمْ أَوْ إِخْوانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُولئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ) [المجادلة : ٢٢] ، فعم ولم يخص ، فتفهّم ذلك موفقا.

فصل

قال أرشده الله : هب لو اعتذر متعذر في أخذهم وقتلهم لمنعهم الزكاة عن إمامهم وكونهم مصالحين للغز ، فكيف يؤخذ من يأمر ببعض من الزكاة إلى الإمام في كل سنة ، ويصرف بعضها إلى فقراء الزيدية ، ويداري للغز على نفسه وماله ، وقد دارى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ظلمة قريش ومنافقي الأنصار ، وفساق هوازن وغطفان ، ودارت الشيعة في زمن الحسن بن علي عليهم‌السلام فيما يحاذوا الشام قبل الصلح وبعده حتى أن رجلا من الشيعة طلب منه بعض ما طلبه الظلمة فأبى تسليمه فأخذ زياد بن أبي سفيان ضيعته وداره وجميع أملاكه ، فشكى ذلك إلى الحسن وإلى بني هاشم فكتب الحسن في ذلك إلى معاوية فرد له.

الجواب عن ذلك : أن من كان يسلّم للإمام بعض ما يجب عليه ويقسم الباقي إلى فقراء الزيدية ، ويداري الغز ببعض ماله ، لا يخلو : إما أن يكون فعل

١٣٩

ذلك برأي الإمام أو واليه أو برأي نفسه فإن فعل برأي الإمام أو واليه فقد أصاب ولا ضير عليه ولا حرج ، فقد قال تعالى : (وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ) [النساء : ٨٣] ، وإن فعل ذلك برأي نفسه فذلك لا يخلصه ولا يجوز له ، فإن أمر ببعض فلا يخلص إلا منه على وجده وذمته ملزومة بما فوقه ، ولا يجوز لفقراء الزيدية ولا غيرهم تناوله إن كانوا على الحق إلا برأي الإمام أو واليه.

وأما قوله : قد دارى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وعد الذين داراهم فيفيد ما نحن فيه لأنه نسي أن للرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ولاية على الجميع ، وهو يعمل بأمر الله عزوجل فلا اعتراض عليه ، وهذا الذي ذكر كمثل النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فيجوز له ما يجوز للنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ؛ وإنما فرضه أن يرجع إلى إمامه أو واليه فما أمر به فعله وليس الأمر شدا ، ولا يترك الله عباده فوضى ، بل قد جعل لهم ولاة يرجعون إليهم فيما يأتون ويذرون.

وأما زمن الحسن عليه‌السلام فإنه إن اضطر إلى المدارة لعدم الأعوان وعصت الشيعة كما عصى غيرها من الناس فأداها لهم في الأطراف الذي أفسده الأوساط ، وهل هذه الحجة إلا كحجة من يجيز أن يتسلم إلى العدو إذا بعثه الإمام لقتاله كما يحتج بما فعله عبيد الله بن العباس فإنه استسلم إلى معاوية وأعطاه مائة ألف ، ولا يحتج بالواقع فيما مضى فقد يقع القبيح كما يقع الحسن ، وإنما يحتج بالصواب والحق وذلك ليس بصواب ولا حق ، فإن وقع من الشيعة فليسوا معصومين عن الخطأ ، فأما الأئمة عليهم‌السلام فتجوز لهم المهادنة والمداراة عن الأمة إذا رأوا ذلك صوابا لثبوت الولاية لهم على الأمة ، وليس هذا لآحاد الأمة لأنها إذا فعلت ذلك كانت خاذلة عاصية ، فتفهّم ذلك موفقا.

١٤٠