مجموع رسائل الإمام المنصور بالله عبدالله بن حمزه - ج ٢

المنصور بالله عبدالله بن حمزة

مجموع رسائل الإمام المنصور بالله عبدالله بن حمزه - ج ٢

المؤلف:

المنصور بالله عبدالله بن حمزة


المحقق: عبدالسلام بن عباس الوجيه
الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مؤسسة الإمام زيد بن علي الثقافية
الطبعة: ١
الصفحات: ٦٦٥
الجزء ١ الجزء ٢

الجواب عن ذلك وبالله التوفيق : أن الزيدية بل المحصلون من فرق الأمة تعلم أن العلم الموجود فينا لا يخلو من أحد أمرين : إما أن ينتفي عن اليقين بالشك والشبهة إذا انفرد فهو الاستدلالي ، وإذا لم ينتف بذلك فهو الضروري ، فإن نازع السائل بالمعنى ، فالمعنى موجود لكل عاقل ممن يعلم هذا التفصيل وممن لا يعلمه ؛ لأن علم الإنسان بأحوال نفسه لا ينتفي مع سلامة العقل بالتشكيك ، وإيراد الشبهة ، حتى لو أخبرنا الغير عن نفسه مما يشككنا في شيء من حاله لبادرنا به إلى المارستان (١) محاذرة من استحكام العلة وغلبة الوسواس ، ولو سألناه عن ذلك فقال : أمهلوني حتى أنظر وأستدل حتى تحصل المعرفة لكان الأمر كما تقدم ، بخلاف الاستدلالي فإنه يقف على الاستدلال بالدليل على الوجه الصحيح ، والنظر في المدلول بالفكر الثاقب الصريح ، وهذان اسمان للعلم ، وهو المعنى الموجود في أحدنا مقتضيا لسكون نفسه وثلج صدره إلى صحة ما اعتقده فما وقف على اختيارنا وحصل بحسب نظرنا واستدلالنا فهو الاستدلالي ، وما حصل فينا لا من جهتنا فهو الضروري ، فإن نازع في اللفظ إذ يبعد من العاقل النزاع في المعنى ففيه جوابان : أحدهما جملي ، وهو أن هذين الاسمين اصطلاحيان من أهل العلم بعلم الكلام ، ولا وجه للنزاع في الأسماء الاصطلاحية لا من قبل الشرع ولا من قبل اللغة ولا من قبل العرف ، فسقط الاعتراض.

وأما التفصيلي فإن الضرورة أصلها الضيق اضطره إلى كذا وكذا ألجأه إليه ، ومنه اضطرار الحافر أي ضيقة ، كما قال شاعرهم يصف حافر فرسه :

لا ردح فيها ولا اضطرار

ولم يقلب أرضها البيطار

__________________

(١) المارستان : دار المرضى بالفارسية ، المنجد.

٨١

فلما كان العلم الذي قدمنا صفته يلجئ صاحبه إلى اعتقاد صحته حتى لا يقع منه خلافه سمي ضروريا ، ولما كان المسمى استدلاليا يطلب له الدليل ؛ والدليل هو كل أمر إذا نظر فيه على الوجه الصحيح وصل الناظر إلى العلم اليقين إذ ما لا يكون بهذه الحال لا يسمى دليلا بل يكون أمارة وعلامة ورسما إلى غير ذلك ، فاشتق هذا الاسم من المعنى والاشتقاق مهيع اللغة والعربية ، وفيه معنى النسبة.

وأما قوله : لو كان ضروريا كما قالوا لما عرف بالحقائق والحدود ؛ فأي وجه لما ذكروا (ما به) أمر جلي إلا وله حقيقة وحد ، كما أنا نقول في حد النهار : هو الضياء المنتشر عن قرص الشمس بين وقتين مخصوصين ولا فرق عند أهل التحقيق بين الحد والحقيقة ، فإن أردت بالحد نهاية الشيء خرجت من ميدان الكلام وكان حد الشيء نهايته لغة.

وأما قوله : وتعليمه التلامذة للتصوير والاستدلال فخلف من القول ؛ لأنا لا نفتقر في الضروري إلى معلم تصوير ولا نصب دليل ولو قال لنا بعضنا في بعض الضروريات : صوّروا لي حتى أعلم ما علمتم لم يعترينا شك في اختلاله ، وتحول حاله ، ولو نصب دليلا وأنعم النظر في الاستدلال حال كونه في المسجد مثلا هل هو فيه أم لا لتبادر العقلاء إلى تأفينه وتضعيفه.

وأما قوله : إنا نعلم أن العبد يولد لا يعلم شيئا من الضروريات ولا مانع من ذلك ، ولكن ما في ذلك من دليل على نفي الضروري أفليس الضروري فعل الله سبحانه يفعله فينا وفعله موقوف على إرادته متى شاء أوجده حال الولادة كما فعل لعيسى عليه‌السلام وحال الخلق كما فعل لآدم عليه‌السلام وما جانسه وبعد ذلك كما نعلمه فينا ، ويحدث شيئا بعد شيء على مقدار ما يعلمه تعالى من المصلحة حتى يكمل العقل.

٨٢

وأما ما حكى من قصة الملائكة عليهم‌السلام في قولهم : (لا عِلْمَ لَنا إِلَّا ما عَلَّمْتَنا) [البقرة : ٣٢] فإن المراد بذلك الغيوب وأصول العلم التي لا تصح إلا من جهته سبحانه ؛ لأن العلوم كلها لو كانت من قبله تعالى فمنها القبيح الذي لا يجوز أن يفعله الحكيم تعالى كالسحر ، والشعبذة ، وترتيب أنواع الملاهي ، وكيفية إيراد الشبهة لهدم قواعد الإسلام حرسه الله تعالى إلى غير ذلك ، والحسن الذي يثاب عليه العبد فلا يجوز إضافة القبيح إلى الله تعالى لتعاليه عنه ، ولا إضافة الحسن منها إليه لإثابته عليه ، وهو لا يثيبنا على فعله كما لا يثيبنا على ألواننا وأجسامنا لما كانت فعله ، فتفهّم ما ذكرت لك موفقا إن شاء الله.

مسألة [في الحدود]

قال تولى الله إرشاده : قالت الزيدية : إن الأشياء تعرف بالحدود ما سوى الباري سبحانه قال : فليت شعري في الحدود ما تقول؟ هي من جملة الأشياء؟ قال : فإن كانت ليست من الأشياء انتقض كلامهم ، وإن كانت منها احتاجت إلى ما تعرف به من حدود أخرى ، والحد إلى حد آخر يؤدي إلى التسلسل وذلك محال؟

الجواب عن ذلك وبالله التوفيق : اعلم أن السائل أرشده الله تعالى في هذه المسألة وغيرها يفتقر إلى معرفة الشيء ، ومعرفة الحد ، ومعرفة مذهب الزيدية ، ليتمكن من الاعتراض عليها والنسبة إليها ، ونحن نقدم له في ذلك مقدمة تكون وسيلة للطالب ، ومنبهة للراغب.

اعلم : أن الشيء عند المحققين من العلماء : ما يصح العلم به والخبر عنه وإن انفرد ، والحد : كل أمر يكشف عن معنى أمر آخر على جهة المطابقة

٨٣

وحصر معناه وفائدته حتى لا يدخل فيه ما ليس منه ولا يخرج منه ما هو منه ، كما تقول ذلك في حد الأسد : أنه السبع الشجاع العريض الأعالي ، فإن هذا اللفظ خص هذا الجنس من السباع وميزها عن غيرها ، والحد لا يكون إلا لمحدود ، بل هو حقيقة لا فرق عند أهل الكلام بين الحد والحقيقة ، فكيف نقدر فيه أن يعلم منفردا من الأشياء وهو نفس الأشياء ، فإن أراد لفظ الحدود معناه وهو يعلم منفردا وله حقيقة لا تؤدي إلى التسلسل ، وهي ما قدمنا من أن الحد : كل أمر يكشف عن معنى أمر آخر ويحصر معناه وفائدته إلى آخره ولا يمكنه تدريج ما هذا حاله ؛ لأن الحد يراد للبيان ، ويجب أن يكون أجلى من المحدود وليكشف معناه للسامع إلا أن يكون المحدود جليا ، ويريد بالتحديد التحقيق والتفرس ، وإذا قد صح لك من معنى الأشياء والحدود ما قدمنا كيف ينتقض كلام الزيدية والحال هذه.

وأما قوله : فبما يعرف الحد؟ فهذا خطأ بني على وهم لأنه يوهم أن الزيدية تدعي أن شيئا من الأشياء لا يعلم إلا بالحد وليس ذلك عندهم ؛ لأن عندهم أن الأشياء يعلمها من لا يعلم لفظ الحدود لأن العلم بالشيء هو علم بحقيقته وحقيقة الشيء حده ، ويبقى الحدث ؛ فإن عندنا أن حد الجسم : هو الجواهر المؤلفة طولا وعرضا وعمقا ، وقد يعلم الجسم بالمشاهدة من لا يعلم هذا التفصيل وإن كان عنده معناه بأنه إذا شاهد الجسم على حالة شاهده كائنا ، كما قدمنا تفصيله ، فتفهم ذلك موفقا.

مسألة [في متشابه القرآن]

قال تولى الله إرشاده : قالت الزيدية : إن المتشابه من القرآن ما التبست معانيه على سامعه فيبقى متردد الفهم بين المعاني. قال : وغرضهم بذلك تأول

٨٤

ما يعارض مذهبهم من محكم كتاب الله قال : والصحيح أن المتشابه عند علماء السنة والجماعة : هو ما وصف الله به نفسه وتفرّد بعلمه كاليد ، والجنب ، والساق ، والوجه ، والعين. قال : هو المروي عن عائشة ، والحسن ، وكثير من الصحابة والتابعين ، قال : وهو معنى قوله تعالى : (وَما يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللهُ) ، ثم استأنف بقوله : (وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا) [آل عمران : ٧] قال : ومن وصل القراءة فقد كفر.

قال : فهذه الآيات لا يجوز تفسيرها ولا تأويلها ولا حملها على ظاهرها ، قال : لأن متأولها كافر ، والحامل لها على ظاهرها مشبه كافر ، قال : بل استأثر الله سبحانه بعلمها.

الجواب : اعلم أرشدك الله أنا لا نستغني عن مقدمة نذكر فيها المتشابه بحقيقته ، والمحكم بحقيقته ؛ لأن بجهل معنى المتشابه والمحكم هلك كثير من الناس فادعى في المحكم أنه متشابه ، وفي المتشابه أنه محكم كما فعل السائل أرشده الله ، ونذكر أنه لا يجوز من الحكيم تعالى أن يخاطبنا بخطاب لا نتمكن من معرفة معناه ، فإذا تقررت هذه المقدمة تكلمنا على ألفاظ المسألة إن شاء الله بما يشفي علة الطالب ، ويطفئ أوار (١) الراغب ، وبه نستعين.

اعلم : أن المتشابه قد رجع به إلى المماثلة كما يقول أهل اللغة : هذا شبه هذا أي يماثله في بعض أوصافه أو كلها ، كما حكى سبحانه نعيم الجنة : (وَأُتُوا بِهِ مُتَشابِهاً) [البقرة : ٢٥] يحتمل في الصور ويحتمل في جلالة القدر ، وقد يرجع إلى الالتباس الذي هو الاشتباه ، كما حكى سبحانه عن بني إسرائيل في فزعهم إليه في كشف اللبس لقوله : (إِنَّ الْبَقَرَ تَشابَهَ عَلَيْنا) [البقرة : ٧٠] أي يلتبس بعضها

__________________

(١) في حاشية الأصل : الأوار حرارة النار والشمس والعطش. تمت (نهاية ابن الأثير).

٨٥

ببعض ، ونقول هذا أمر مشتبه أي ملتبس ، كما قال أحد أهل العلم باللغة :

فلا يخدعنك لموع السراب

ولا تأت أمرا إذا ما اشتبه

فعلى المعنى الأول يحمل قوله تعالى : (اللهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتاباً مُتَشابِهاً) [الزمر : ٢٣] فوصف القرآن كله بالتشابه ، والمراد بذلك عند أهل البيت عليهم‌السلام وأتباعهم أن بعضه يشبه بعضا في باب الحكمة وجزالة الألفاظ ، وصحة المباني ، وعلى المعنى الآخر يحمل قوله تعالى: (مِنْهُ آياتٌ مُحْكَماتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتابِ وَأُخَرُ مُتَشابِهاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ ما تَشابَهَ مِنْهُ ابْتِغاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغاءَ تَأْوِيلِهِ وَما يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللهُ وَالرَّاسِخُونَ) [آل عمران : ٧] المتشابه بهذا المعنى كل لفظ إذا أطلق سبق إلى فهم السامع منه معنيان أو ثلاثة أو أكثر بعضها صحيح وبعضها فاسد ، فيبقى متردد الفهم في تلك المعاني ، فيقع الاشتباه عليه حتى يميز بعضها من بعض بالبرهان العقلي والسمعي ، فتكون تلك المعاني في أهل الدعاوي ، ويكون المعنى العقلي والشرعي كالشاهدين العدلين يقعان لأحد أهل الدعاوي فيستحق المدعي ويبطل كلام الآخرين بعد أن يكونوا قبل الشاهدين على سواء.

وأما المحكم فعلى وجهين أيضا : أحدهما : ما صح المراد به في باب الحكمة ، وأحكمت ألفاظه ورصفه من الخلل والغلط ؛ لأن الحكم في الأصل هو المنع ومنهم أخذت حكمة الدابة لأن يمنعها من العدو ، فكذلك الحاكم ، والحكمة تمنع صاحبها من التعدي ، والمحكم كالمانع ، والممنوع من الإضلال في وجه من الوجوه أو في كل وجه ، فعلى هذا الوجه يحمل القرآن كله على أنه محكم ؛ لأن ألفاظه صحيحة ورصفه بريء من الخلل والغلط ، وعليه يحمل قوله تعالى : (الر كِتابٌ أُحْكِمَتْ آياتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ) [هود : ١] فوصف القرآن كله على هذا المعنى بأنه محكم.

٨٦

والوجه الثاني : من معنى المحكم ، أنه كل لفظ إذا أطلق سبق إلى فهم السامع معنى أو معنيان أو أكثر تشهد بصحته دلالة العقل وصريح السمع ، يحكيه قوله تعالى : (آياتٌ مُحْكَماتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتابِ) [آل عمران : ٧] فلم يصف بالإحكام على الوجه الأخير إلا البعض ؛ لأنه قال تعالى : (مِنْهُ آياتٌ مُحْكَماتٌ) [آل عمران : ٧] أي : أصله الذي يرجع إليه (وَأُخَرُ مُتَشابِهاتٌ) [آل عمران : ٧] فنوعه نوعين ، فلولا حملنا له على هذه المعاني الصحيحة لكان عز قائله وشرف متناقضا ؛ لأن الشيء لا يكون بصفتين متباينتين في حالة واحدة ولا يسوغ ذلك عقل سليم.

قلنا : ولا يحسن أن يخاطبنا سبحانه بخطاب لا يفهم معناه ، والدليل على ذلك أنه تعالى حكيم والحكيم لا يفعل القبيح ، أما أنه حكيم فلأنه عالم غني ، ولا يقع القبيح والعبث إلا من الجاهل المحتاج ، وقد صح علمه بوجود الأفعال من قبله محكمة ، وغناه باستحالة الحاجة عليه ؛ فإذا خاطبنا بخطاب لا يفهم كان كمخاطبتنا للعربي بالزنجية ولا ترجمان ، فإن ذلك يكون عبثا ، لأنه لا يخلو إما أن يريد منه معرفة ما تكلم به أو لا يريد ، فإن لم يرد كان الخطاب عبثا وإن أردنا كان الخطاب قبيحا ؛ لأنا نكلفه علم ما لا سبيل له إلى علمه ، وتكليف ما لا يعلم قبيح ، يعلم قبحه كل عاقل ، فإذا تقررت هذه الأصول ثبت أنه لا يجوز أن يكون في كتاب الله سبحانه ما لا يفهم معناه ، فإذا كلفنا معرفة معناه فلا بد من طريق إلى ذلك وإلا قبح.

قلنا : والطريق إلى معرفة معناه العقل والنقل واللغة ، فاللغة العربية هي لساننا وميداننا ، والنقل وما جاءنا عن حبيبنا صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وعن سلفنا الصالح من ذريته سلام الله عليهم والعقل هو الذي يلزم به التكليف من قبله تعالى ، وتقوم به

٨٧

الحجة على العبد ، وهو علوم من اجتمعت فيه فهو عاقل ، ومن عدمها أو بعضها فهو ناقص العقل وذاهبه ، وموضع تفصيلها كتب علم الكلام ، (وما به) آية من كتاب الله عزوجل إلا ونحن نعلم معناها ولفظها ، ووجه حكمة الله سبحانه في الخطاب بها ، ومراد الله سبحانه منّا فيها وعينها وحقيقتها ، ونحن الراسخون في العلم بما علمنا ، وولاة الأمر بما حكم لنا ، وورثة الكتاب عن أبينا وجدنا ، فإذا قال لنا تعالى : (يَداهُ مَبْسُوطَتانِ) [المائدة : ٦٤] علمنا بدلالة العقل أن اليد التي هي الجارحة مستحيلة عليه ؛ لأنه ليس بجسم لأن الأجسام محدثة وهو تعالى قديم ؛ لأنه لو كان محدثا لاحتاج إلى محدث وذلك محال ، وقد ثبت أن اليد في اللغة تحمل على الجارحة المخصوصة ، وتحمل على القدرة ، وتحمل على النعمة ، يقول قائل أهل اللغة : لفلان على بني فلان يد أي قدرة ، وما له عليهم يد ، ماله عليهم قدرة ، وله عليهم يد أي : نعمة ، وشواهد ذلك ظاهرة فلا وجه لذكرها ، فيداه مبسوطتان والحال هذه نعمتاه في الدين والدنيا والآخرة وفي الباطن والظاهر ، وقدرته لنا قاهرة حكما وفعلا ووقوعا إن أراد سبحانه فكيف يهمل ما في هذه الآية من الفوائد بالتعلق بقولها رد ، أو كيف يحملها على القول الفاسد والعقل والشرع منه ذا يد ، والمعنى الصحيح شاهد ، هل هذا إلا عدوان وإلحاد في القرآن ، فهذا من المتشابه ، وقد عرفت كيف بيّن الراسخون في العلم معناه ، ولا علم لنا إلا ما علّمنا الله.

ومن المحكم بالمعنى الأخير : (قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ) [الصمد : ١] الواحد الذي لا يتجزأ ، كما يقال : جوهر واحد ، والواحد المختص بصفات الكمال أو بعضها ، كما يقال : واحد زمانه ، ووحيد عصره ، ونسيج وحده ، يريد بذلك الانفراد ، وكل معنى من هذه المعاني ثابت في الباري تعالى على أبلغ الوجوه

٨٨

لا يجوز عليه التجزؤ والانقسام لأن ذلك من صفات الأجسام ، وهو تعالى ليس بجسم لأن الأجسام محدثة ، وهو تعالى قديم ، وهو يختص من صفات الكمال بما لا يختص به سواه لأن كل صفة في سواه جائزة ، وصفة الكمال له واجبة سبحانه وتعالى ، وكل كمال ينتقص إلا كماله ، وكل جلال يتضع إلا جلاله ، وهذه قضية دلالة العقل ومحكم القرآن قوله تعالى : (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ) [الشورى : ١١] ولو لم يختص بالوحدانية من كل وجه لكان مثله أشياء كثيرة ، وإذا قد قررنا هذه الجملة فلنرجع إلى ألفاظ المسألة.

قال أرشده الله : وغرضهم بذلك تأول ما يعارض مذهبهم من محكم الكتاب.

اعلم أرشدك الله : أن التأويل لا يسلّم للمتأول جزافا فلا بد أن يطلب على صحة تأويله برهانا ، فإن أقام الدلالة ونصب البرهان قبل قوله الخصم طائعا أو كارها ، أو كابر مكابرة ظاهرة وكان عند المستحفظين خائبا وعند الله مائنا ، وكفى بنفسه عليه حسيبا وبعقله على اختلاله رقيبا ، وإن لم يقم دلالة ولا نصب برهانا لم يعط مراده بقوله ولا ينفعه تأويله.

فأما قوله أرشده الله : الصحيح أن المتشابه منه عند علماء السنة والجماعة هو ما وصف به نفسه وتفرد بعلمه كاليد والجنب والساق والوجه ، وهذا إجماع من الكل أنه متشابه ، وقد أضاف سبحانه اليد والجنب والوجه إلى نفسه ، وأما الساق فلا إضافة إليه في كتابه تعالى لأن قوله تعالى : (يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ ساقٍ) [القلم : ٤٢] يراد به وقوع الشدة وهو ظاهر في كلامهم.

وقد قدمنا الكلام في اليد على وجه الاختصار فلنتكلم في الجنب والوجه كذلك.

٨٩

أما الجنب فقد يعبر به عن الذات تقول : هذا ما أصابني في جنب فلان ، تريد في ذاته وحقه ، وقد قال من يوثق بعربيته :

فكلما لاقيته معتفر في جنب من

إيثاره سخط النوى

وقد يكون الوجه أول شيء ، كما قال تعالى حاكيا عن أهل الكتاب : (آمِنُوا بِالَّذِي أُنْزِلَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَجْهَ النَّهارِ وَاكْفُرُوا آخِرَهُ) [آل عمران : ٧٢] ، وقال الشاعر :

من كان مسرورا بمقتل مالك

فليأت بيوتنا بوجه نهار

والوجه : العضو المخصوص ، ووجه الشيء هو الشيء نفسه ، تقول : هذا وجه الرأي ، أي : هذا هو الرأي فإذا ذكر سبحانه الوجه فلا يجوز عليه العضو ، ولا أول له فالمراد بالوجه الذات ونفس الشيء.

فمعنى قوله تعالى : (وَيَبْقى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالْإِكْرامِ) [الرحمن : ٢٧] ويبقى ربك وهذا التأويل يطلق عليه الكافة من الأمة إذ ليس أحد منهم جوّز عليه تعالى الفناء إلا وجهه ، ودلالة العقل تحكم به وهو أنه لا يجوز عليه العدم لاستحقاقه البقاء لذاته ، وقد نطق محكم القرآن بأنه الأول والآخر ، الأول قبل كل شيء والباقي بعد كل شيء ، والظاهر بالأدلة الدالة عليه لكل مستبصر ، والباطن عن إدراك الحواس على مرور الأجراس.

فأما روايته عن عائشة رضي الله عنها وعن الصحابة والتابعين فلم يثبتها ، فإن أراد أنهم قالوا : إن من القرآن ما لا يعلم معناه إلا الله سبحانه دون خلقه فلا يصح رواية ذلك عنهم ؛ لأن المعلوم من حالهم بيان كل مشكل من كتاب الله سبحانه لكل سائل ، ولم يقولوا في شيء منه : لسنا نعلم معناه ، فإن روي عنهم ذلك فشاذ لا يعتمد عليه ، وإن صح ذلك عنهم أو عن أحدهم فالخطأ

٩٠

جائز على آحاد من أضيفت الرواية إليه ، ولهذا قطعنا على معصية عائشة رضي الله عنها لخروجها على إمام الحق علي عليه‌السلام وروينا توبتها ، فما أنكر السائل إن صح ذلك أن يكون من ذلك ، هذا على أن الأخبار شرحها طويل ، وتفصيلها بليغ ، وهي تنقسم إلى ما يوجب العلم ، وما يوجب العمل ، وما لا يوجب واحدا منهما ، فالذي يوجب العلم ينقسم إلى ما يوجب العلم الضروري وما يوجب العلم الاستدلالي ، والذي يوجب العلم الاستدلالي لا بد فيه من شرائط : أحدها : أن يكون سليم الإسناد من المطاعن ، سليم المتن من الاحتمالات ، متخلصا من معارضة الكتاب والسنة.

وهذه الشرائط معدومة في هذه الرواية التي رواها أيده الله ، ورواية أهل البيت أولى ، وإجماعهم معلوم لهم ولمن تابعهم ، وقد روينا عن جدنا علي بن أبي طالب عليه‌السلام أنه قال : أيها الناس ، اعلموا أن العلم الذي أنزله الله سبحانه على الأنبياء من قبلكم في عترة نبيكم ، فأين يتاه بكم عن أمر تنوسخ من أصلاب أصحاب السفينة؟ هؤلاء مثلها فيكم ، وهم كالكهف لأصحاب الكهف ، وهم باب السلم ، فادخلوا في السلم كافة ، وهم باب حطة من دخله غفر له ، خذوا عني عن خاتم النبيين ، حجة من ذي حجة ، قالها في حجة الوداع : «إني تارك فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا من بعدي أبدا : كتاب الله ، وعترتي أهل بيتي ، إن اللطيف الخبير نبأني أنهما لن يفترقا حتى يردا عليّ الحوض» (١) وكان علي عليه‌السلام يقول : سلوني قبل أن تفقدوني ، فو الله ما تسألوني عن شيء إلا نبأتكم به ، [وما به] آية من كتاب الله إلا وأنا

__________________

(١) سبق تخريجه.

٩١

أعلم أين نزلت؟ في سهل أو جبل؟ وفي أي وقت نزلت ، في ليل أو نهار؟ وفي من نزلت(١).

والروايات كثيرة ، وفي الرواية عن زيد بن علي عليه‌السلام أنه لما خرج من دار معاوية بن إسحاق (٢) رحمه‌الله قال الراوي في رواية طويلة : رأيته وبين يدي قربوس (٣) سرجه مصحف ، وهو يقول : أيها الناس ، والله ما قمت فيكم حتى

__________________

(١) في نهج البلاغة الخطبة رقم (٩٣) : فاسألوني قبل أن تفقدوني ، فو الذي نفسي بيده لا تسألوني عن شيء فيما بينكم وبين الساعة ولا عن فئة تهدي مائة وتضل مائة إلا نبئتكم بناعقها وقائدها وسائقها ومناخ ركابها ومحط رحالها ومن يقتل من أهلها قتلا ومن يموت منهم موتا ولو قد فقدتموني ونزلت بكم كرائه الأمور ، وحوازب الخطوب ، لأطرق كثير من السائلين ، وفشل كثير من المسئولين ، وذلك إذا فلجت حربكم ، وشمّرت عن ساق ، وضاقت الدنيا عليكم ضيقا ، تستطيلون معه أيام البلاء عليكم حتى يفتح الله لبقية الأبرار منكم ... الخ.

وفي نهج البلاغة الخطبة (٨٩) : أيها الناس ، سلوني قبل أن تفقدوني ، فلأنا بطرق السماء أعلم مني بطرق الأرض ، قبل أن تشغر برجلها فتنة تطأ في خطامها وتذهب بأحلام قومها. وانظر المعجم المفهرس لألفاظ نهج البلاغة.

(٢) هو : معاوية بن إسحاق بن زيد بن حارثة الأنصاري ، أحد المجاهدين الأبطال ، ومن مشاهير أنصار الإمام زيد ، قتل معه سنة ١٢٢ ه‍.

وذكر الإمام المرشد بالله أن معاوية بن إسحاق كان من فرسان زيد بن علي ورجالاته الأبطال.

قال الشاعر :

ترى الخيل تبكي إن ترى الخيل لا ترى

معاوية الندي فيها ولا نصرا

قال في الطبقات : ذكره في المجموع الكبير وهو أنصاري من أصحاب زيد بن علي ، واستخفى عليه‌السلام في داره أياما ، وقتل مع الإمام زيد بن علي ، وصلب معه. انظر : معجم رجال الإمام زيد.

(٣) قال في لسان العرب : القربوس : حنّو السّرج ، والقربوس لغة فيه حكاها أبو زيد ، وجمعه قرابيس ، والقربوت : القربوس. قال الأزهري بعض أهل الشام يقول : قرّبوس / مثقل الراء ، قال : وهو خطأ. ثم يجمعونه على قربابيس ، وهو أشد خطاء. قال الجوهري : القربوس للسّرج ولا يخفف إلا في الشعر مثل طرشوس ، لأن فعلول ليس من أبنيتهم. قال الأزهري : وللسرج قربوسان فأما القربوس المقدم ففيه العضدان ، وهما رجلا السرج ، ويقال حنواه ، وما قدّام القربوسين من فضله دفّة السرج يقال له : الدرواسنج ، وما تحت قدام القربوس من الدفة يقال له : الابراز ، والقربوس الآخر فيه رجلا المؤخرة ، وهما حنواه. انظر معجم لسان العرب ترتيب يوسف خياط ٣ / ٤٧.

٩٢

عرفت التأويل والتنزيل ، والمحكم والمتشابه ، والناسخ والمنسوخ بين الدفتين ، وإني لأعلم أهل بيتي ولقد علمت علم أبي علي بن الحسين ، وعلم أبي الحسين بن علي ، وعلم أبي علي بن أبي طالب ، وعلم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فأجيبوني على أنباط أهل الشام ، فو الله ما يعينني عليهم أحد إلا أتى يوم القيامة يجوز على الصراط ويدخل الجنة.

والرواية من أهل البيت عليهم‌السلام في هذا واسعة ، وعندنا أنه لا يصح إمامة الإمام من أهل بيت محمد عليهم‌السلام حتى يعرف علوما تفصيل شرحها يطول ، المقصود منها في هذا الباب أن يكون عارفا بخطاب الله سبحانه ، وخطاب رسوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وحقيقة ذلك ومجازه ، وما يجوز أن يخاطب به وما لا يجوز ، وأنواع الحقائق والمجاز وأحكامها ، وعارفا بالأوامر والنواهي ، والخصوص والعموم ، والمجمل والمبين ، والناسخ والمنسوخ ، والمحكم والمتشابه ، وما يتبع ذلك مما يطول شرحه ؛ وإنما ذكرنا أنه لا بد من علمه بالمتشابه ، ولهذا يفزع إليه ، وبينه قوله تعالى : (أَفَمَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَنْ يُتَّبَعَ أَمَّنْ لا يَهِدِّي إِلَّا أَنْ يُهْدى) [يونس : ٣٥].

وأما قوله : إن من واصل القراءة كفر فحكم بغير علم ؛ لأن التكفير شرع فلا يصح إلا بدليل شرعي ، وهو اسم لأفعال مخصوصة ، تتبعها أحكام مخصوصة فالأفعال كتكذيب رسل الله والإلحاد في أسمائه والتشبيه بخلقه ، والتجوز في حكمه إلى ما شاكل ذلك.

والأحكام المخصوصة تحريم المناكحة ، والموارثة ، والقبر في مقابر المسلمين إلى غير ذلك ، فمن أي هذه الوجوه وصل القراءة الذي ذكر السائل أرشده الله وأهل البيت عليهم‌السلام يقرءون موصولا وهم صفوة الله من خلقه ولو خالفهم غيرهم لما قدح ذلك في قولهم.

٩٣

وأما قوله : فهذه الآيات لا يجوز تفسيرها ولا تأويلها ولا حملها على ظاهرها ؛ مذهب لا برهان عليه إلا أن يكون لدليل عنده.

قوله : لكن متأولها كافر ؛ فخصمه يتمكن من عكس دليله عليه ، ويقول : إن تارك تأويل هذه الآيات كافر ، فأي الرجلين يكون أولى بالإصابة.

وأما قوله : حاملها على ظاهرها كافر فمسلم ، وليس لأنه قال هو كافر ، ولكنه إذا جعل له أعضاء كان محدثا لأن آثار الصناعة فيه محدثة ظاهرة وهو التركيب ؛ فلو كان كذلك تعالى عن ذلك كان لا بد من صانع صنعه فيخرج عن كونه إلها مستحقا للعبادة فيكون قد نفى الصانع ونفيه كفر ، تعالى عن ذلك.

وأما قوله : استأثر الله بعلمها ، فلو كان كذلك لما خاطبنا بها ، وإنما استأثر تقدّس وعلا بعلم الغيب ولأن السامع لآية الجنب واليد والوجه لا يخلو إما أن يكون معتقدا لظاهر ها في الله سبحانه وهذا لا يجوز كما قدمنا ، وإما أن يكون نافيا لذلك عن الله سبحانه منزها له عن شبه الخليقة ، فهذا الذي نقوله ، ولا بد أن يتأول القرآن على ما قلنا لئلا يبطل معنى الآية ، وإما أن يكون شاكا فيه تعالى وهو على صفة الآلات والجوارح تعالى فهو متعالى عن ذلك ، فالشك في الله تعالى لا يجوز ، فتأمل ما ذكرت ، موفقا إن شاء الله تعالى.

مسألة [في وحدانية الله]

قال أرشده الله : قالت الزيدية : إن الله تعالى واحد في ذاته وصفاته وملكه ، ثم نقضوا ذلك وأشركوا معه في ملكه غيره ، قال : بقولهم إن الله تعالى قادر

٩٤

والعبد قادر ، وعالم والعبد عالم ، وخالق والعبد خالق. قال : وهل هذا إلا الشرك والتشبيه؟ قال : وهل يسوّغ لهم ذلك مع قوله عزوجل في قدرة الرحمن وضعف الإنسان : (أَنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعاً) [البقرة : ١٦٥] ، وقوله تعالى : (وَخُلِقَ الْإِنْسانُ ضَعِيفاً) [النساء : ٢٨] ، وقوله في علم الرب وجهل العبد : (وَاللهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ) [النور : ١٩] وقوله في الخلق : (هَلْ مِنْ خالِقٍ غَيْرُ اللهِ) [فاطر : ٣] ، وقوله : (اللهُ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ) [الزمر : ٦٢].

الجواب عن ذلك وبالله التوفيق : أن مذهب الزيدية مستمر مستقيم على إثبات وحدانية الله تعالى في ذاته وصفاته ، لا شريك له في ملكه ، ولا نظير في سلطانه وذلك عندهم بأدلة صحيحة.

وأما قوله : إنهم نقضوا ذلك بقولهم : إن العبد قادر والباري تعالى قادر ، وعالم والعبد عالم ، وخالق والعبد خالق. قال : وهل هذا إلا الشرك والتشبيه؟ فقوله جهل بكيفية النقض ؛ لأن النقض أن يثبت أمرا على وجه ثم ينفيه على ذلك الوجه فيجعل علة النفي علة الإثبات ، هذا معنى النقض.

فأما إذا ثبت أمر على وجه ونفيه على وجه آخر فلا مناقضة في ذلك ، ألا ترى أنّا نقول في الواحد منّا : إنه واحد ، وكذلك نقول في الباري : إنه واحد ، ولكن لا وجه للمساواة من هذا الوجه لأن الباري تعالى واحد من كل وجه ، ووحدانية أحدنا جملية بمعنى أنه جملة واحدة ذات أبعاض وجوارح والباري يتعالى عن ذلك ، وكذلك نقول فيما ذكر : إن العبد قادر بقدرة محدثة ، والباري تعالى قادر بذاته ، وكذلك في أمر العالم الواحد منّا علم بعلم ، والباري تعالى عالم لذاته ، وكذلك الكلام في خالق أن الواحد منّا لا يفعل إلا أجناسا من

٩٥

الأعراض مخصوصة والحركة والسكون وما شاكلها من أفعال الجوارح وأفعال القلوب ، والباري تعالى خلق الأجسام والأعراض الضرورية.

فأي مشابه بين الخلق والمخلوق بهذا القدر ، وكذلك فإنّا قد أثبتنا الواحد منّا حيا ، والباري سبحانه الحي القيوم ، فلم يقع تشبيه لما كان الباري تعالى حيا لذاته ، والواحد منّا حيا بحياة محدثة وليس الضد يصير مشركا بقول ضده : إنك مشرك ، ولا مشبها بقول خصمه : أنت مشبه ، وإنما يكون ذلك إذا قامت دلالة صحيحة ، لأن الخوارج قد قالت لعلي بن أبي طالب عليه‌السلام : أنت كافر وكانت أولى بالكفر منه ، وقال تعالى : (لا تَكُونُوا كَالَّذِينَ آذَوْا مُوسى فَبَرَّأَهُ اللهُ مِمَّا قالُوا وَكانَ عِنْدَ اللهِ وَجِيهاً) [الأحزاب : ٦٩].

وأما قوله تعالى : (أَنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعاً) [البقرة : ١٦٥] فذلك حق لأن القوة في الأصل على وجهين : أحدهما : القدرة. والثاني : الآلة. قال تعالى : (وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ) [الأنفال : ٦٠] [والآلة هي القوة] والسلاح ، ويقول قائلهم : ما لي قوة على هذا أي : قدرة ، فإذا عرفت ذلك علمت أن القوة لله جميعا ، لأنه خالق الآلة والقدرة ، لا يقدر على ذلك غيره سبحانه ، فالقوة لله جميعا ، وقوله تعالى : (إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ) [القصص : ٢٦] المراد بالقوي : القادر ومعنى الأمين ظاهر.

وأما قوله تعالى : (وَخُلِقَ الْإِنْسانُ ضَعِيفاً) [النساء : ٢٨] وصدق الله العظيم وأي ضعف أعظم من حاله عند خلقه لا يجلب إلى نفسه نفعا ولا يدفع عنها ضرا ، فلما كان كذلك لطف له بالوالدة وعطفها عليه بالرحمة فمهّد له بعضها ، وخلق له الغذاء في بعضها ، وألهمه تناوله ، وألهمها تربيته ، حتى ملك رشده ،

٩٦

وبلغ أشده ، قال الله تعالى : (اللهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ) [الروم : ٥٤] على أن تسمية الضعيف لا تطلق إلا على من له قدرة دون قدرة من هو أقدر منه ، وكذلك لا يسمى الجماد والميت ضعيفا لما كانا غير قادرين ، (ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفاً وَشَيْبَةً يَخْلُقُ ما يَشاءُ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْقَدِيرُ) [الروم : ٥٤] وهذه الآية لا تعلق للخصم بها.

وأما ما ذكره من قوله تعالى : (وَاللهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ) [النور : ١٩] فصدق الله العظيم ، وبلغ رسوله النبي الكريم إنا لا نعلم الغيب ، ولا علم لنا إلا بما علمنا ، كما قال تعالى : (الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ ، عَلَّمَ الْإِنْسانَ ما لَمْ يَعْلَمْ) [العلق : ٤ ، ٥] وكما قال تعالى : (خَلَقَ الْإِنْسانَ ، عَلَّمَهُ الْبَيانَ) [الرحمن : ٢ ، ٣] فإن كان السائل يدعي أنا لا نعلم شيئا على سبيل الجملة فهذا جهل بحال النفس لأنا نعلم منافعنا ومضارنا ومعالم ديننا ، فلولا ذلك لما صح التعبد ولزم التكليف ، إذ تكليف ما لا يعلم قبيح ، والله تعالى لا يفعل القبيح.

وأما قوله تعالى : (هَلْ مِنْ خالِقٍ غَيْرُ اللهِ) [فاطر : ٣] فلا خالق إلا الله يرزقنا من السماء والأرض ، ويوجد الأجسام والأعراض الضرورية ، فلا يخلق إلا الحكمة والصواب ، وأفعاله كلها حسنة في باب الحكمة وإن كان بعضها محبوبا وبعضها منفورا عنه كالخير والشر ، الخير محبوب ، والشر منفور عنه والكل فعله تعالى ، فأما ما عدا ذلك فخلق العباد وأكثره قبيح ، وقد قال تعالى : (وَتَخْلُقُونَ إِفْكاً) [العنكبوت : ١٧] وقال تعالى : (وَتَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبالِ بُيُوتاً فارِهِينَ) [الشعراء : ١٤٩] ، وقال تعالى : (وَإِذا بَطَشْتُمْ بَطَشْتُمْ جَبَّارِينَ) [الشعراء : ١٣٠] وقال : (فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنْبِياءَ اللهِ) [البقرة : ٩١] إلى ما لا يحصى ولا يعد من إضافة الأفعال إلى العباد ، وفي قوله تعالى في قصة عيسىعليه‌السلام : (وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ) [المائدة : ١١٠].

٩٧

وأما قوله تعالى : (اللهُ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ) [الزمر : ٦٢] فالمراد بذلك مما لم يقدر عليه العباد لأن الآية وردت مورد التمدح ، ولا يجوز إدخال أفعال العباد في ذلك لأن في أفعالهم قبيح لا يجوز أن يفعله تعالى ، كسب أنبيائه عليهم‌السلام وقتلهم ، وتكذيب رسله ، والفرية عليه ، كما قال تعالى : (وَيَوْمَ الْقِيامَةِ تَرَى الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى اللهِ وُجُوهُهُمْ مُسْوَدَّةٌ) [الزمر : ٦٠] ومن أفعالهم حسن يجب إثابتهم عليه ، فلو كان من فعله لما استحقوا عليه ثوابا كما لم يستحقوا على صورهم وألوانهم ، فهذا ما تيسر من الجواب ، فتفهمه موفقا أرشدك الله.

مسألة [في خلق الأفعال]

قال أرشده الله : قالت الزيدية : إن العباد هم الخالقون لأفعالهم دون الله ، وزعموا أن الله يكره بعضها ويحب بعضها ، فيكون في ملكه ما يكره تعالى الله عن ذلك وهو جبار الجبابرة ملك الدنيا والآخرة ، قال وذلك باطل لقوله : (أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ) [الأعراف: ٥٤] ، وقوله تعالى : (وَاللهُ خَلَقَكُمْ وَما تَعْمَلُونَ) [الصافات : ٩٦] وقوله : (اللهُ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ) [الزمر : ٦٢] وقوله : (وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيراً) [الفرقان : ٢] ، وقوله : (فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلكِنَّ اللهَ قَتَلَهُمْ وَما رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلكِنَّ اللهَ رَمى) [الأنفال : ١٧] إلى غير ذلك.

قال : فأما ما يذكرون من نسبتها إليهم بآيات القرآن الكريم ، قال : فذلك على سبيل المجاز ، قال : وقد نسب تعالى إلى الجمادات والأعراض أفعالا على سبيل المجاز كقوله تعالى : (وَأَخْرَجَتِ الْأَرْضُ أَثْقالَها) [الزلزلة : ٢] وقوله : (فَخَرَّ عَلَيْهِمُ السَّقْفُ) [النحل : ٢٦] ، وقوله : (وَاللَّيْلِ إِذا يَغْشى ، وَالنَّهارِ إِذا تَجَلَّى) [الليل : ١ ، ٢] ، وقوله : (فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ) [الأنعام : ٧٦] ، وقوله : (إِذَا السَّماءُ انْشَقَّتْ) [الانشقاق : ١] و (إِذَا

٩٨

السَّماءُ انْفَطَرَتْ) [الانفطار : ١] وما شاكل ذلك من الآيات ، فنسب هذه الأفعال إلى الجمادات. قال : كما نسب أفعال العباد إليهم حذو النعل بالنعل.

الجواب عن ذلك : اعلم أرشدك الله أن مسألة خلق الأفعال أصل الفتنة بين الإسلام ، والخلاف فيها كثير يطول شرحه ، وإنما نذكر ما لا بد من ذكره مما تمس الحاجة إليه ، وبالله نستعين وعليه نتوكل.

اعلم أن الزيدية بل العدلية عموما يقولون : إن أفعال العباد حسنها وقبيحها منهم لا من الله تعالى ، وحجتهم على ذلك أن الله تعالى أمرهم ببعضها ، ونهاهم عن بعضها ، وذمهم على بعضها ، وحمدهم على بعضها ، فلولا أنها أفعالهم ما حسن من ذلك ، وأما أنه أمرهم ببعضها ونهاهم من بعضها وذمهم على بعضها وحمدهم على بعضها فلا خلاف في ذلك ، والقرآن الكريم ناطق به في غير آية.

وأما أنها لو لم تكن أفعالهم لما حسن ذلك ، فلما ثبت أنه حكيم عدل ، والحكيم لا يأمرنا بفعله ولا ينهانا عن فعله ولا يذمنا على فعله ؛ لأن مثل ذلك يكون عبثا والعبث قبيح ، وبعضه يكون ظلما ، وبعضه يكون تكليف ما لا نعلمه ، وبعضه ما لا يطاق ، والكل قبيح لا يجوز حصوله بهذه الصفة من قبله تعالى.

وأما قوله أرشده الله قالت الزيدية : العباد خالقون لأفعالهم ، فهل في السخف أعظم من هذا؟ لأنها لو لم تكن خلقهم لما جعلها أفعالهم ، وكانت أفعاله تعالى دونهم.

وكذلك قوله : زعموا أن الله تعالى يكره بعضها ، ويحب بعضها وهذا

٩٩

قول الله تعالى قالوا به وصدقوا قال : (وَلا يَرْضى لِعِبادِهِ الْكُفْرَ) [الزمر : ٧] ، وقال : (وَلكِنْ كَرِهَ اللهُ انْبِعاثَهُمْ) [التوبة : ٤٦] لكونهم لا يريدون إلا الفساد فثبطهم ، وقال تعالى : (ما قَطَعْتُمْ مِنْ لِينَةٍ أَوْ تَرَكْتُمُوها قائِمَةً عَلى أُصُولِها فَبِإِذْنِ اللهِ وَلِيُخْزِيَ الْفاسِقِينَ) [الحشر : ٥] فمعنى بإذن الله رضاه وأمره ، وقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «من أرضى الله بسخط الناس كفاه الله شرهم ، ومن أرضى الناس بسخط الله وكله الله إليهم» (١) إلى غير ذلك.

وأما قوله : يكون في ملكه ما يكره فلا شك في ذلك لأنه تعالى يكره تكذيب رسله وقتلهم وعبادة غيره والإلحاد في أسمائه ، ولكنه واقع في ملكه لا على وجه المغالبة وإنما هو على وجه التخلية والتمكين من ذلك لتمييز الخبيث من الطيب ، والمسيء من المحسن ، فخيّر ومكّن ، وأوضح وبيّن ، وجعل للعبد عينين ، ولسانا وشفتين ، وهداه النجدين ، طريق الخير ورغّبه فيها ، وطريق الشر وحذّره منها ، ليهلك من هلك عن بيّنة ، ويحيا من حي عن بيّنة.

وأما أنه جبار الجبابرة مليك الدنيا والآخرة فذلك هو سبحانه وتعالى ، وهو قاصم الجبارين ، ومبيد المتكبرين ؛ وإنما منعهم أياما قليلة لإبلاغ الحجة عليهم ، ثم أخذهم أخذا أليما شديدا ، فتركهم حصيدا خامدين ، فذهبت أيام المهلة ، وأقبلت أيام التبعة ، فيا لها حسرة!! على كل ذي غفلة ، ولو لا ذلك كذلك لما

__________________

(١) أورده في موسوعة أطراف الحديث بلفظ : «من أرضى الله بسخط الناس كفاه الله الناس» وعزاه إلى موارد الظمآن برقم (١٥٤١) ، والأسماء والصفات للبيهقي ٥٠٣. وبلفظ : «من أرضى الناس بسخط الله وكله الله إلى الناس» وعزاه إلى إتحاف السادة المتقين ٦ / ١٣٩ ، ٣٧٢ ، وكنز العمال برقم (٤٣٧٠٥) ، وحلية الأولياء ٨ / ١٨٨. وبلفظ : «من أرضى الله في سخط الناس رضي الله عنه» وعزاه إلى الترغيب والترهيب ٣ / ٢٠٠ ، وإتحاف السادة المتقين ٨ / ٢٩١ ، ومجمع الزوائد ١٠ / ٢٢٤ ، والطبراني ١١ / ٢٦٨ ، وهو بألفاظ مقاربة في مصادر أخرى. انظر موسوعة أطراف الحديث النبوي ٨ / ٧١.

١٠٠