مجموع رسائل الإمام المنصور بالله عبدالله بن حمزه - ج ٢

المنصور بالله عبدالله بن حمزة

مجموع رسائل الإمام المنصور بالله عبدالله بن حمزه - ج ٢

المؤلف:

المنصور بالله عبدالله بن حمزة


المحقق: عبدالسلام بن عباس الوجيه
الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مؤسسة الإمام زيد بن علي الثقافية
الطبعة: ١
الصفحات: ٦٦٥
الجزء ١ الجزء ٢

[قرن الأحوال]

ورابعها : سأل أيده الله عن القول في شرح الرسالة الناصحة دل على حدوث قرن الأحوال؟ قال أيده الله : والأحوال هاهنا عبارة عن الصفات فكيف اقترنت بها الأجسام وليست الصفات أشياء فيصح فيها حدوث أو قدم؟

الجواب عن ذلك : أن المقارنة بين المعاني والأجسام والأحوال مقتضيات عن المعاني وسمى المعاني أحوالا توسعا لما كانت دالة عليها ، ومثل ذلك شائع ، ولهذا فإنه جوز في الشرح ذكر المعاني ، وجعلها الدليل ، ويبني القول عنها ؛ وإنما الصفات كالمعبرة عنها بلسان الحال ، فاعلم ذلك موفقا.

[الجدلي]

وخامسها : سأل عن الجدلي ما هو وما معناه؟

الجواب : أن الجدل هو ما تقطع به خصمك بما سلمه وإن كان لا يوصلك إلى العلم ، كما أن المطرفي يخص فعل العبد في حركة وسكون ، ونحن نقول فعل العبد سواهما ، فإن قال : لا. قلنا : أخبرنا : الألم بحركة أو سكون؟ أو كل الفعل أو بعضه؟ فإن كان سكونا بطل بضده ، وكذلك إن كان حركة ، ويقول : هل العلم حركة أو سكون؟ وهل الجمع ، وهل التأليف ، وهل الظن ، وهل الإرادة وكل شيء من هذا نقطعه ولكنه لا يوصل إلى العلم ، وإنما يوصل إليه الدليل العلمي.

٢٠١

[الرضا والسخط]

وسادسها : سأل أيده الله عن معنى رضى الله وسخطه والإرادة منه لا تتقدم فعله ، وقد ثبت أنه قد رضي وغضب؟

الجواب عن ذلك : أن معنى رضاه للشيء إرادته ، ومعنى غضبه منه كراهته له ؛ والرضا والغضب لا يتعلقان بشيء من أفعاله سبحانه ، فيلزم ما سأل عنه أيده الله ، وإنما يتعلقان بأفعالنا ، وإرادته لأفعالنا متقدمة لها ، وكذلك كراهته لأفعالنا ؛ لأن إرادته للواجب من أفعالنا ألطاف التكليف ، وكذلك كراهته لقبيح أفعالنا حد الألطاف الصوارف لأن من حق اللطف أن يتقدم على ما هو لطف فيه ، فهذا ما يحتمله هذا المكان ومن الله نستمد التوفيق.

[الفرق بين الفعل والغرض]

وسابعها : سأل عن فعل الفاعل على سبيل الجملة إن كان لا يعلل في مجرد وقوعه. قال أيده الله : ما الفرق بينه وبين الغرض وداعي الحكمة؟

الجواب عن ذلك : أن فعل الفاعل يحصل عن اختياره ، إما لداعي حكمة وهو علمه أو ظنه واعتقاده حسن الفعل وأن لغيره فيه نفعا أو دفع ضرر ، وداعي الحاجة علمه أو ظنه واعتقاده في أن له في هذا الفعل نفعا أو دفع ضرر ، وهو لا يحصل لعلة سوى الاختيار ؛ فلهذا أنّا لو رأينا رجلا خرج من داره ، ولها بابان يخرج من أحدهما فأجهدنا نفوسنا في طلب العلة في خروجه من أحدهما دون الآخر لوّمنا العقلاء ، إذ ذلك موقوف على اختياره ، وكذلك إذا قضى الدين من أحد الكيسين وما شاكل ذلك.

٢٠٢

[ثواب الصبر]

وثامنها : سأل أيده الله عن قولنا في الامتحان لا يمتنع أن يعلم الله تعالى أن ثواب الصبر على البلوى أعظم من ثواب سائر العبادة؟

قال أيده الله : ونحن نعلم أنا لنستمع أن محمدا صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أفضل من أيوب ، وبلوى أيوب ومحنته أعظم ، وعظم الله صبره وقال : (إِنَّما يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسابٍ) [الزمر : ١٠] ، وقال نبيه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «ليس من نبي إلا ويحاسب يوم القيامة بذنب غيري» وقال في الممتحنين : «يساقون إلى الجنة بغير حساب».

قال أيده الله : فكيف الجواب عن ذلك جميعه؟

الجواب عن ذلك : أن الأمر مستقيم ؛ لأنه أخذ من نص الكتاب : (إِنَّما يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسابٍ) [الزمر : ١٠] ، والآثار النبوية كثيرة جدا في تعظيم عظم البلوى وتكاثر ثواب الصبر ولا وجه لإنكاره.

[مزية رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في مضاعفة الثواب]

وأما ما ذكر أيده الله من عظم بلوى أيوب عليه‌السلام وأن لنبينا صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وعلى جميع الأنبياء مزية وهو : أن كل نبي يحاسب بذنب غيره.

فالجواب عن ذلك : أن نبينا صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أضاف الحكيم له إلى محنة التعبد بأنواع العبادة ، التعبد بالجهاد هو سنام الدين ورأس الإيمان ، ووقفة الرجل في الصف في سبيل الله تعدل عبادة ستين سنة في بعض الآثار يصوم نهاره فلا يفطر ، ويقوم ليله فلا يفتر ، ومع ذلك فإن الأجر لا يقدر بكثرة العمل لأنه غيوب لا يعلمه إلا الله ، وقد قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في حديث طويل : «إنما مثلكم ومثل الذين كانوا من قبلكم ـ يريد اليهود والنصارى ـ كمثل رجل قال لآخر :

٢٠٣

اعمل من أول النهار إلى الظهر ولك كذا ، وقال لآخر : اعمل من الظهر إلى العصر ولك كذا ، ثم قال لثالث : اعمل من العصر إلى المغرب بكذا وكذا ، فغضب الأولان وقالا : عملنا أضعاف ما عمل وضوعف له الأجر ، قال عليه‌السلام : وكذلك اليهود والنصارى غضبوا لما خص الله به هذه الأمة من مضاعفة الأجر» وعلى سبيل الجملة نحن نعلم أن الآصار والتكاليف على الذين كانوا قبلنا أشق وأكثر ، وأعمارهم كانت أطول ، ونحن نعلم أن أمة محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أفضل الأمم وأكثرها ثوابا ، وأحسنها منقلبا ومآبا ؛ وإنما تنكر هذه الفرقة العمياء الضالة عن منهاج الهدى التي عادت أدلتها وهداتها ، وفارقت حماتها ورعاتها ، فتاهت في أودية الضلال ، وباعت الماء بالآل (١) ، فلم تباشر يد اليقين ، ولا كتبت في ديوان المتقين ، فنعوذ بالله من الزيغ والزلل ، ونسأله الثبات في القول والعمل ، وأنت تعلم أيدك الله أن نوافل نوح عليه‌السلام أكثر من نوافل محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وفرائضه أضعافا مضاعفة ؛ فأعطاه الباري سبحانه بقليل العمل في جنب ما قدمنا كثير الأجر ، كما صح عندنا ولا اعتراض على الحكيم بعد ورود النص لأن طالب العلة يبنى على أصل فاسد وهو : أن الفضل ليس إلا بعمل ؛ وقد بينا بطلانه في الشرح في مواضع كثيرة.

[حرية الإمام]

وتاسعها : سأل أيده الله عن شرطنا الحرية في الإمام. قال أيده الله : ولا يصح ملك أحد من أهل البيت عليهم‌السلام؟

الجواب عن ذلك : أن هذا العلم مضبوط الأصول ، محقق الأركان

__________________

(١) السراب.

٢٠٤

والفصول ، وتقدير الرق يصح على أهل البيت عليهم‌السلام على أن رجلا منهم لو خشي العنت ولم يجد طولا لنكاح الحرة وتزوج مملوكة لغيره لكان الولد له وهو من أهل البيت عليهم‌السلام بحكم الله وهو مملوك لمالك الأمة ، فلو صح وجمع خصال الإمامة لم تصح إمامته لعدم الحرية فتفهم ذلك موفقا تجده كما قلنا إن شاء الله تعالى.

[السخري]

وعاشرها : سأل أيده الله عن قوله سبحانه : (لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضاً سُخْرِيًّا) [الزخرف : ٣٢] ، وعن الغرض وما السخري؟

الجواب عن ذلك : أن السخري هو : التذليل. سخره إذا ذلّله ، ولما كان من استهزأ بغيره فكأنه استذله قبل تسخيره فما تصرف من هذه اللفظة فهو يرجع إلى هذا المعنى ؛ وذلك أن الحكيم سبحانه أراد ظهور الحاجة في الخلق ليقع الاعتراف بالعبودية ؛ لأن المحتاج لا يكون إلها ، فالمعنى قد اتخذ الفقير سخريا لحاجته إليه ، والفقير سخريا للغني مثل ذلك ، والبعض يحتاج إلى البعض ، الأعلى إلى الأسفل ، والأسفل إلى الأعلى ، فإذا الذي تحق عبادته هو الغني لذاته عن كل ذات ، كامل النعوت والصفات سبحانه وتعالى.

[النسب والسبب]

والحادية عشر : سأل أيده الله : عن الخبر عن أم زيد رحمها الله في اختيارها لأبيهعليه‌السلام دون الأولاد لأجل النسب وهم فيه سواء.

الجواب عن ذلك : أنها إنما أرادت لمجموع الأمرين ، ونسب علي عليه

٢٠٥

السلام كان أحب إليها من نسب أولاده لما كان قد ظهر من صلاحه عليه‌السلام ، والحديث في كل سبب ونسب ، وفي حديث آخر زيادة وهو : «كل سبب ونسب وصهر منقطع يوم القيامة إلا سببي ونسبي ـ وفي الزيادة ـ وصهري» (١) ومن ذلك علي بن الحسينعليه‌السلام أقعد إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، معنى القعود : أن يكون أقرب بأب أو أبوين إلى الجد الأول ، وهذا مما يناقش فيه العارفون من أهل هذا البيت ، قال أحدهم : والله لو أعطيت بقعودي من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الدنيا بما فيها ما قبلت. يريد بقربي إليه بجد أو جدين ؛ ولكم يا أولاد المطهر في هذا الباب النصيب الأوفر ، لأنكم اليوم أقربنا إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وإنما أنساكم وسواكم هذا الحال مذهب أهل الضلال ، الذين نفوا الشرف بالفضل ، وأنكروا حرمة قرابة الأهل ، فنعوذ بالله من حالهم ونسأله أن يعجل عليهم نزول حكم أفعالهم ، ونصلي على النبي وآله فليس نسب علي بن الحسين عليه‌السلام من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مثل نسب أولاده لأن القرب كلما التصق كان أفضل ، ولكل فضل ، وبعضه فوق بعض فاعلم ذلك موفقا.

[الهادي وأسر ولده المرتضى]

والثاني عشرة : سأل أيده الله : عما روينا في الشرح من تأخر الهادي عليه‌السلام عن ولده المرتضى لدين الله عليه‌السلام يوم أسره ، وعن أصحابه رضي الله عنهم وذكر أيده الله أن للهاديعليه‌السلام في ذلك شعرا موجودا

__________________

(١) أخرجه الحاكم في المستدرك ٣ / ١٤٢ والطبراني ٣ / ٣٦ ، ١١ / ٢٤٣ والبيهقي ٧ / ١١٤ ، ٧ / ٦٣ ، ٦٤ ، وهو في كنز العمال بأرقام (٣١٩١٤ ، ٣٧٥٨٦ ، ٤٥٧٧٣) وفي تفسير ابن كثير ٥ / ٤٨٩ ، والقرطبي ٤ / ١٠٤ و ١٤ / ٢٣٠ ، وفي حلية الأولياء ٢ / ٣٤ والبداية والنهاية ٧ / ٨١ وفي عشرات المصادر من كتب القوم ، أما في كتب الشيعة فمصادره كثيرة. وانظر موسوعة أطراف الحديث النبوي ٦ / ٤٣٠.

٢٠٦

في كتاب سيرته ينكر ذلك معناه أنه لو حضرهم لدافع حتى يموت. فكيف ذلك؟

الجواب عن ذلك : أن الخبر الذي رويناه صحيح ولا إشكال فيه ولا روي عن شك ؛ لأن أسر المرتضى عليه‌السلام كان في (أتوه) (١) والهادي عليه‌السلام لم يتخلف من نهوضه من ورور (٢) إلى مدر (٣) فأقام فيه أياما ، ثم أتى علم بخروج القوم وكثرة من جمعوا من أحزاب الضلال فنهض إلى (أتوه) لكونها أحصن ، فما راعه إلا وصول القوم لعنهم الله في جنود لا يحصى عديدها ، ولا ينادى وليدها ، فأيدهم إبراهيم بن خلف ، فنشبت الحرب من الفريقين ، وكان دعام بن إبراهيم الأرحبي في خيل عظيمة ، فأمر إليه الهادي عليه‌السلام سأله المعونة ببعض خيله فكره ، ودل العدو رجل من أهل خيوان (٤) لعنه الله على مكان طلعت منه جنودهم حتى صاروا من

__________________

(١) أتوه : بلدة حميرية في بلاد أرحب بلاد عيال أبو الخير ذكرها الحجري في معجم بلدان اليمن وقبائلها ص ٥٦ ١ / ٥٦.

(٢) ورور : جبل من جبر حاشد من ناحية ذي بين وهو المعروف الآن بظفار داود وقد ذكره صاحب معجم البلدان فقال : ورور بفتح الواو وسكون الراء حصن عظيم في اليمن من جبال صنعاء في بلاد همدان استولى عليه عبد الله بن حمزة الزيدي في أيام طعتكين بن أيوب ، وفي رأس جبل ورور حصن ظفار داود نسب إلى داود بن الإمام عبد الله بن حمزة مؤلف هذا الكتاب انظر معجم مجموع بلدان اليمن وقبائلها مادة حاشد ومادة ورور.

(٣) مدر : بلدة مشهورة في بلاد أرحب شمالي صنعاء على مسيرة يوم نسب إليها منيع بن ماجد الهمداني المدري أبو مطر وهو الذي عمر مسجد خضير بصنعاء ونسب إليها أيضا حجر بن قيس المدري صاحب أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه‌السلام وقيل أن الأخير نسب إلى مدارات من قرى الجند. انظر مجموع بلدان اليمن وقبائلها.

(٤) بلدة مشهورة من بلدان همدان وهي على وزن فيعال قيل كان الصنم يعوق فيها وقال الهمداني خيوان أرض خيوان بن مالك وهي من غرر بلاد همدان ... ونسب إليها جماعة. انظر مجموع بلدان اليمن وقبائلها مادة خيوان ومادة حاشد ج ١ / ٢٢٣.

٢٠٧

خلف الهادي عليه‌السلام ، فلما رأى ذلك ثنى رحله للنزول ، فقال الطبريون رحمهم‌الله : ما تريد؟ قال: أقاتل معكم حتى نموت جميعا. قالوا : هذا أمر طلبناه فوجدناه ، ولك بنا من المسلمين عوض ، وليس للإسلام عنك عوض ، وقال له المرتضى عليه‌السلام : أيها الإنسان إنك اليوم إن قتلت انهد ركن الإسلام ، وإن قتلنا فإن الله يعيضك بنا مثلنا أو من هو خير منا. فقالعليه‌السلام : أفارقكم والله فراق غير صاخ بفراقكم ؛ وتأخر نظرا للإسلام وتحريا لمصلحة الدين ، لا جبنا ولا فشلا ، والقوم يطعنونه برماحهم وينحيها بسوطه لأن رمحه كان قد فات ، وكان عمر الرمح في يده صلوات الله عليه قصير ، فقال له بعض أصحابه : يا سيدي سل سيفك. فقال : ما كنت لأسله إلا أن أضرب به ، وفرقت الهزيمة الناس ، وكان المرتضى عليه‌السلام في خيل فوثب فهوى ، فقصر مهره لضعف كان فيه ، فصعق به المكان وصاحبه كانت فيه غشى منها ، وأسر معه محمد بن سعيد رحمه‌الله في جماعة وشعر الهادي عليه‌السلام على أنه لم يعلم به ولو كان في جهته فكذلك كانت الحال ، ولو كان في جهته لم يسلمه ، وكان يفعل ما قال ؛ لأنه لا يتهم في قوله عليه‌السلام ، فعذره عليه‌السلام حق ، فأما أنه أسر في يوم آخر فهذا ما لم يقل به أحد من أهل المعرفة ، وإنما عند الجهال الشيعة الذين عزلوا نفوسهم عن مراس الحرب ، وتفرغوا للطعن على أئمة الهدى ، إن الإمام لا ينهزم ولا يتأخر عن مقامه ولا يجوز له ذلك ، وهم لا يعرفون الآثار ، ولا باشروا الحال ، فتعلموا أحكام المحال ، وتصرف النزال في انحياز النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلى شعب أحمد :

فلولا صعود الشعب عاود أحمد

ولكن نجى والسمهري شروع

٢٠٨

وعلي عليه‌السلام يوم طغيان جنود أهل الشام في بعض أيام صفين انحاز إلى رباب ربيعة وأرجف الناس أنه عليه‌السلام قتل إلى أن علموا بمكانه ، فجاءه الرؤساء يهنئونه ويهنئون ربيعة بانحيازه إليهم ثقة بهم ـ ولو شرحنا ما يتعلق بهذا الباب لطال ـ والقوم فتح لهم الباب وقيل: ادخلوا فجعلوا يطلبون من أي مكان يتسورون ليروا أن هناك طريقا أخرى ، وما سوى الباب طريق لمن يريد الصواب ، وإقامته عليه‌السلام في (ورور) سنة وزيادة ، والقوم يكاتبونه على تخليص ولده ، ويرجع إلى (صعدة) فكره ، وطمع بالنصر من قبائل همدان فلم ينصروه ، فراح إلى (صعدة) وولده عليه‌السلام في صنعاء ، ثم نقل إلى بيت يونس (١) ببيت اليافعي على يدي ابني يعفر ، ثم نقل إلى شبام (٢) ، ثم أطلق منها ، وليس الغرض الاقتصاص وإنما أردنا زيادة بيان وقاد بعض الحديث بعضا ، والسيرة عندنا مضبوطة ولعلها النسخة الثانية من الأولى ، أو الثالثة بالرواية الصحيحة ، وإقرار آبائنا رضي الله عنهم بها ، فنعوذ بالله من الشك بعد اليقين ، ونسأله سلوك سبيل المتقين.

__________________

(١) لعلها بيت بوس ويتأمل سيرة الهادي.

(٢) شبام : بكسر الشين اسم مشترك بين أربعة بلدان في اليمن وهي : شبام كوكبان ـ ، وشبام حراز ـ ، وشبام الغراس من بلاد صنعاء ـ ، وشبام حضر موت.

أما شبام كوكبان فهي في الأصل شبام أقيان وقد ذكرت في أقيان ، وقد يقال شبام حمير وهي في الغرب الشمالي من صنعاء على بعد مرحلة وبها جامع عمره الأمير أسعد بن أبي يعفر الحوالي. وأما شبام حراز فهو حصن مطل على مناخة غربي صنعاء على بعد مرحلتين ويقال لها شبام اليعابر.

وأما شبام الغراس فهي قرية في الشرق الشمالي من صنعاء على بعد أربع ساعات وهي من ناحية بني الحارث ويقال لها قديما شبام سخيم.

وأما شبام حضر موت فهي بلدة مشهورة وهي إحدى مدن حضيرة ، قيل سميت باسم شبام بن السكوت بن الأشرس بن كندة ، وشبام أيضا بطن من حاشد.

المصادر / انظر مجموع بلدان اليمن وقبائلها ج ١ / ص ٤٤١ ـ ٤٤٤.

٢٠٩

[سجود النبي يوم مولده]

الثالثة عشر : سأل أيده الله عما روينا من سجود نبينا صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يوم مولده ، ثم عقله أولا عبادة وغيرها ، وما الفائدة إن كان غير مكلف ، وأحد لا يقول بتكليف في تلك الحال؟

الجواب عن ذلك : أن خواص الفضل لنبينا صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كثيرة ، لو شرحناها لطال الشرح ، وهذا من أول خواصه عليه وعلى آله السلام ، ولا مانع من كمال عقله في تلك الحال ، لتكون من خواصه ويكون سجوده بإلهام ؛ لأن التعبد بالشرع لا يكون إلا عن وحي ، فيكون زوال العقل عقيب السجود لانتظام الحكمة ، وهذا لا يستبعده من يعلم أن الله يحكم ما شاء ، ويختار ما يريد ، وأن الفضل بيده يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم ، ويكون ذلك القدر عبادة وشكرا ، وحمدا لله سبحانه وذكرا ، فنحمد من وفقنا بمعرفة حمده وشكره ، واختصنا بجليل إحسانه ، وغمرنا بصافي بره ، وجعل أفضل ذلك لهداية الإيمان ، والتوفيق لاعتماد الدليل والبرهان ، وجعلنا من الذرية المرضية ، والعترة الطاهرة الزكية ، حمدا كثيرا.

فهذا ما اتفق في هذه المسائل على قدر الإمكان وترادف الأشغال وضيق المجال ، ومن الله نستمد الهداية في البداية والنهاية

وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وسلم

* * *

٢١٠

مسائل وردت من القاضي إبراهيم بن أحمد الحامدي (١) ولي ذمرمر في

جمادى الأولى سنة ٥٩٩ ه

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله الذي أحيا بالعلم قلوب العارفين ، وأنقذ به من هلكات التقليد والمقلدين ، وجعله نورا يستضاء به في ظلمات الإلحاد وتمويه الملحدين ، وصلى الله على نبي الرحمة ، وسراج الظلمة ، وآله الطيبين الأئمة ، وسلم وكرم.

وقفنا على مسائل القاضي المكين أيده الله ، فحمدنا الله سبحانه على ذلك ، إذ هذا العلم أفضل ما صرفت إليه الهمم وجردت الأفكار ، إذ هو ثمن الجنة ، وبه تدرك النجاة يوم القيامة.

[الثواب والجزاء]

قال تولى الله توفيقه : في الواجبات على الله سبحانه أنها ستة كما قال أهل العلم أوجبتها الحكمة ، وقضت بصحتها العقول.

__________________

(١) لعله القاضي العلامة إبراهيم بن أحمد الحاشدي : عالم كبير ، تولى القضاء للإمام المنصور بالله. وهنالك القاضي العلامة إبراهيم بن أحمد الشظبي كذلك تولى القضاء للإمام المنصور بالله وذكرهما ابن أبي الرجال في كتابه (مطلع البدور) ولم يزد على ما قلنا.

٢١١

أولها : التمكين للمكلفين ، والبيان للمخاطبين ، واللطف للمتعبدين ، والثواب للمطيعين ، والعوض للمؤمنين ، وقبول توبة التائبين ، وقد كان قولهم والثواب للمطيعين يكفي ؛ لأن التوبة أكبر من الطاعة ، وإثابة الله تعالى للتائب هدم ما تقدم التوبة وزيادة ، وهل الحكم من الله سبحانه يسمى ثوابا ، وهل قبول الله تعالى للتوبة ما تقدم ذكره من الإثابة؟

اعلم أيدك الله سبحانه : أن خطاب الله سبحانه وتعالى ، وخطاب رسوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وكلام الأئمة والعلماء ، يحمل على حقائق اللغة وصريحها ، وشرحها يطول لأنها تنقسم ولا تحمل على المجاز إلا لضرورة ، حفظا للخطاب من الضياع ، والإهمال. والثواب في اللغة هو النفع الخالص الذي يقع في مقابلة الفعل فإن لم يتقدمه فعل لم يكن ثوابا ، وأصله الرجوع. يقال : تاب إليه عقله إذا رجع ، والتوبة في الأصل رجوع مخصوص ؛ وقلنا مخصوص لأنه ليس كل رجوع توبة لأن الراجع في الراجع بالمعصية لا يكون تائبا ، وإنما هو الرجوع عن القبيح على شرائط : منها : الندم على ما فات ، والعزم على أن لا يعود فما لم يكن كذلك فليس بتوبة ، وقبول التوبة واجب على الله سبحانه لأنه بمنزلة الاعتذار من الذنب ، وقد علمنا بعقولنا أنه إذا صح لنا عذر المعتذر قبح منا أن لا نقبله ، فكيف بالله سبحانه ، وقبول التوبة هو إسقاط الذنب المتقدم باعتذار العبد إلى ربه ، وعلمنا أنها أعظم الطاعات بأدلة أخر ؛ لأنا نعلم وجوب القبول وإن لم تخطر الزيادة بالبال ، وليس القبول من الثواب في شيء لغة ولا عرفا ، لأن قبول التوبة أن لا يأخذه بما تقدم ، والثواب هو النفع المستحق على وجه الإجلال والتعظيم ؛ فإن كان في التوبة ما ذكر من

٢١٢

الثواب فهي لدليل آخر في مقابلة ما زاد على إسقاط العقاب ، وهذا عندنا الإسقاط والإحباط.

فأما أهل الموازنة ، فيجوزون أن تصل القيامة من قد ساوت حسناته وسيئاته فيدخل الجنة بشفاعة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ورحمة الله سبحانه كما دخلها الأطفال بغير استحقاق ، والكلام في هذا يطول شرحه ، وإنما الثواب غير القبول والقبول غير الثواب كما بينا لك أولا في معناها ، فلذلك ذكروه بلفظين.

وأما قوله : هل الحكم من الله سبحانه يسمى ثوابا؟ فقد بينا لك معنى الثواب وحده ، إذ الأسماء لا تكون باختيارنا لأنا لو سمينا العقاب ثوابا والثواب عقابا أخطأنا اللغة والعرف.

واعلم أن الأصل في الأسامي ثلاثة : لغوية ، وعرفية ، وشرعية. فاللغة الأصل ، والعرف في اللغة طارئ على اللغة ، والشرع طارئ على العرف ، والعرف في الشرع طارئ على الشرع ، وليس لأحد أن يسمي ما لم يكن لاسمه أصل في أحد الثلاثة الوجوه ، وتفصيل ما تقدم كبير جدا موضعه أصول الفقه قد أودعنا منه (صفوة الاختيار) (١) ما فيه بركة إن شاء الله تعالى.

قال أيده الله : هل منزلة الجزاء والثواب من الله سبحانه فرق؟

__________________

(١) صفوة الاختيار : كتاب في أصول الفقه ، جمع فيه المؤلف عليه‌السلام روائع المسائل ، وذكر أصولها ، والاختلافات فيها ورجح ، واختار ، وهو مخطوط منه نسخة خطت سنة ١٠٣٤ ه‍ ، وفي ١٤٦ صفحة بمكتبة أحمد بن إسماعيل الدولة مصورة بمكتبة مركز بدر ، ونسخة أخرى مصورة بمكتبة السيد محمد بن عبد العظيم الهادي.

٢١٣

[الجواب] : قد تقدم ، معنى الثواب : الكفاية ، أجزأني بمعنى : كفاني ، وهذا يجزي أي يكفي ، وجازى فلان فلانا إذا فعل في مقابلة فعله ما يكفي عن مكافأته بخير كان أو شر ، والثواب لا يكون حقيقة إلا في الخير وقد يكون في الشر مجازا لا حقيقة ؛ لأن الحقيقة ما سبق إلى الأفهام ، وإذا قيل أثاب فلان فلانا ، سبق معنى الخير دون الشر ، وإذا قيل جازى فلان فلانا ، تردد الفهم بين المجازاة من الخير والشر ، فيقال بما ذا جازاه؟ وقال تعالى: (وَهَلْ نُجازِي إِلَّا الْكَفُورَ) [سبأ : ١٧] ، فجعل العقاب جزاء. فتفهم ذلك موفقا.

[البديهة]

قال تولاه الله بتوفيقه : وأيضا في قولهم : إنما يعرف بالبديهة هو مثل أن العشرة أكثر من الخمسة ، وقد يوجد في العقلاء من لا يفرق إذا قيل له التسعة أكثر أو السبعة ، قال : وإنما هذا عدد وحساب ، كما أن كثيره لا يعرف إلا بالتعليم ، كالمترب ، فكذلك قليله ، قال : ويقال الذي يعرف بالبديهة كالحال من العارف.

الجواب عن ذلك : اعلم أنهم وضعوا هذا اللفظ موضع التمثيل ، وغرهم فيه أن من عرف اصطلاح العرب في أن العشرة ضعف (١) الخمسة فإنه يعلم أنها أكثر منها لأنها مثلها مرتين ، ولا يختلف العقلاء في ذلك ، ولم يقصروا من لم يعرف المواضعة كالعجم فإنهم يعرفون المعنى دون اللفظ لأنهم يعلمون أن الاثنين ضعف الواحد وأكثر منه وإن لم يعرفوا العشرة ولا الخمسة. قالوا : ما

__________________

(١) في الأصل ضعفها والصحيح : ضعف.

٢١٤

ندري أنها أكثر ؛ والمراد بذلك أنه لو جعلت العشرة ناحية والخمسة ناحية علم كل عاقل أنها أكثر ، ولو كانت عطية وأجزاؤها غير متساوية أخذ الأكثر ، فافهم المراد موفقا ، ومرادهم بالبديهة أن من سأل وهو يعرف المواضعة لم يفتقر إلى تجديد نظر في أن العشرة أكثر كما في غيره ، وهذا ثابت في أصل اللغة بديهة الأمر إذا ما جاء بغير طلب فكان معرفة هذا الأمر يلقاه بغير نظر فاعلم ذلك موفقا.

[النظر والمعرفة]

قال أيده الله : لم يقال النظر أول الواجبات؟ ولم يجب إلا لوجوب المعرفة لما كانت لطفا؟ وهل يجوز أن يقال : المعرفة أصل في الثبوت وفرع في الاستدلال ، والنظر أصل في الاستدلال وفرع في الثبوت؟

الجواب عن ذلك : أن هذا قول المحقق من المتكلمين ، ولا مانع منه لأن الدليل قد قام به وقد قال تعالى : (إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ ...) الآية [المائدة : ٦] ، فعلل وجوب الوضوء بالقيام للصلاة فكان الوضوء أول ما يجب على من أراد الصلاة ، ولا أوجب سبحانه علينا المعرفة. قال : (أَفَلا يَنْظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ ...) الآيات [الغاشية : ١٧] ، وهو لا يريد بذلك إلا وصولنا إلى معرفته تعالى ، إذ لو حصلت لنا بغير نظر لم يجب النظر ، كما نقول في أهل الآخرة : إن النظر لا يجب عليهم لعلمهم بالله تعالى ضرورة وبذلك سقط التكليف ، ولا مانع أن يكون الأصل في الثبوت فرع في الاستدلال ، وأمثلته كثيرة والشرح فيه طويل منعت منه الأشغال ألا ترى أن الأصل في رد

٢١٥

الوديعة الاستيداع والقبول ، ثم إذا طالب بها المودع وجبت أمور أخر لم تكن واجبة في القيام، وفتح الباب وإخراج المال حتى لو لم يقم بذلك ، وقال لا يجب على الآخر ، ذمه العقلاء ، وهم لا يذمون على الإخلال إلا وهو عندهم واجب ، فاعلم ذلك موفقا.

والحمد لله وسلام على عباده الذين اصطفى

وصلى الله على نبيه المصطفى وآله النجباء

وسلامه عليهم وآله تم ذلك بحمد الله ومنّه

* * *

٢١٦

جواب مسائل وردت من الأمير نور الدين الحسن بن يحيى بن عبد الله بن

الهادي إلى الحق عليه‌السلام

المسألة الأولى : في القرآن العظيم شرفه الله تعالى

قال أيده الله تعالى : إذا كان في العقل الحكاية هو المحكي ، وفي العرف والشرع كلام الله ؛ فكيف يجوز ورود العرف والشرع بما يخالف صريح العقل؟

الجواب عن ذلك وبالله التوفيق : أن فعل العبد ليس إلا الصوت والحركة ، والقرآن شرفه الله هو المنظوم المتقطع تقطيعا مخصوصا ، وهو معنى معقول معلوم لعالمه ؛ فإذا حكى ما يعلم كانت الحكاية فعله ، والمحكي الذي هو الحروف المقطعة تقطيعا مخصوصا فعل المنشئ ، والعقلاء مجمعون من المسلمين والكفار أن منشدا لو أنشد :

(قفا نبك من ذكرى حبيب ومنزل) ... إلى آخرها لعلموا أن ذلك شعر امرئ القيس ابن حجر دون منشده ، فلولا ما تقرر في عقولهم من العلم اليقين لما أجمعوا على الشك ، وكذلك القرآن شرفه الله تعالى نحن نعلم أن هذا التقطيع المخصوص فعل الله تعالى وكلامه ، وأنه معجزة باقية إلى آخر التكليف ، وأن محمدا صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أفضل الأنبياء عليهم [السلام] ببقاء معجزته ، ولو أن رجلا قرأ سورة من القرآن وتحدى بالإتيان بمثلها وقال : أنتم تعلمون أن

٢١٧

هذا فعلي بدلالة العقل لصار هجنة للناس ؛ لأنا نقول أما الصوت والحركة فلك ، وأما هذا المتقطع تقطيعا مخصوصا فهو كلام الله ، تحرم على الجنب تلاوته ، ولا تصح الصلاة إلا ببعض منه ، وهو معلوم في القلوب ، موجود في الألواح ، والمصحف بين أظهرنا إلى انقطاع التكليف ، حجة لنا وعلينا ، ويحول وينتقل بانتقال محله ، إن رفعنا به أصواتنا فمحله الهواء ، وإن كتبناه فمحله المصحف ، وإن أخطرناه ببالنا فمحله القلوب ؛ وعلمنا به على هذه الحال مقتضى دلالة العقل ، والعرف والشرع عاضدات لدلالة العقل في ذلك ، ولو كان التقطيع المخصوص مقدورا لأحدنا لأمكنه معارضة القرآن ، فلما لم يمكنه علمنا أنه معنى غير الصوت والحركة ، هذا ما اتفق على وجه المبادرة.

المسألة الثانية [الأمل على التجويز وعلى القطع]

من كان يؤمل أن يعيش غدا فهو مؤمل أن يعيش أبدا ، ومن كان يأمل أن يعيش أبدا يقسو قلبه ، وكان عليه‌السلام يجيش الجيوش وكذلك الأئمة من ولده.

الجواب عن ذلك : أن يكون الأمل على القطع دون التجويز ، وجميع العقلاء المستبصرين فضلا عن الأنبياء عليهم‌السلام والأئمة والصالحين سلام الله عليهم لا يأملون ؛ فكيف بصفوة الله من خلقه ، وإنما يفعلون ما يفعلون مبادرة للموت ، واستكثارا من ثواب الله سبحانه لعلمهم أن الدنيا دار عمل ولا جزاء ، والآخرة دار جزاء ولا عمل ، فأما من تأمل قطعا قسا قلبه.

٢١٨

المسألة الثالثة [تماثل الأجسام]

في تماثل الأجسام مع ورود الشرع بالتماثل والمختلف وغير ذلك.

الجواب وبالله تعالى التوفيق : أن غرض أهل الكلام في هذا المعنى غير غرض أهل اللغة ، وهم يريدون بالمماثلة ما يرجع إلى الصفة الذاتية في أن أحد الشيئين سد مسد الآخر فيما يرجع إلى صفته الذاتية من الشفاء للحمية وكونه محلا للحوادث إلى غير ذلك ، فإذا دل الدليل على حدوث أحدهما دل على حدوث الآخر لا محالة لأنه مثله وإلا فما دليلنا على حدوث السماء وما غاب عنا من الأجسام إن لم تكن متماثلة فيما يرجع إلى صفتها الذاتية.

فأما في اللغة : فالأجسام مختلفة ومتماثلة ومتضادة ، والشرع ينبني على اللغة لأن الشرع هو الكلام في خطاب الله سبحانه فلا يرجع فيه إلى صحيح اللغة ، فالمثل يكون في الصورة مطابقا أو مقاربا أو مقارنا ، كالبر بالبر ، والمقارب الضب والجفرة في جزاء الصيد ، والضبع والشاة وقد تماثل في الصورة ، وتطابق ولا تماثل في الحكم ، كسن الحر وسن العبد ، والرجل والمرأة ، فالشرع كما ترى خالف بين المتماثلات وماثل بين المختلفات ، وماثل بين المتماثلات ، فلا يقع الاعتراض به على دلالة العقل في العقليات ؛ لأن دلالة حدوث الأجسام هي الطريق إلى معرفة الله تعالى فكيف يعترض بالشرع عليها مع أنه يحتمل وهي لا تحتمل ، وفرضنا في الشرع التسليم ، وفرضنا فيها المصير إلى العلم والسلام.

٢١٩

[حول القرآن]

وعاد جوابه يطلب زيادة فأجابه عليه‌السلام قال : وقفنا على كتاب الشريف الأجل نور الدين أدام الله تأييده ، وفهمنا ما ذكر من وصول المسائل ، وأن بعضها يفتقر إلى المراجعة ، من ذلك في القرآن الكريم.

قال أيده الله : القول ببقائه يخرجه عن جنس الكلام ، والقول بانتفائه يخرجه عن جنس العرض.

قال أيده الله : فإن قيل بذلك جهة العرف والشرع هذا قول منافاتهما للعقل.

الجواب عن ذلك وبالله التوفيق : أنه قد تقرر في عقول المكلفين في الابتداء أن كل كلام إنشاء منشئ ، ثم حكاه بعد حاك ، فهو كلام الأول عندهم ، ولو ادعاه الحاكي لبادر العقلاء إلى تكذيبه من غير توقف في أمره ومع ذلك المعلوم من دين النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ضرورة ودين المسلمين بعده من الأئمة والأمة أن هذا القرآن الكريم الذي بين حجة لنا وعلينا كلام الله ووحيه وتنزيله ، وأنه باق على بقاء التكليف لا يجوز عدمه ، وهذه كلها قضايا عقول العقلاء ، وقد تقرر أن قضايا العقول ومعلوماتها لا يجوز تنافيها ولا تعارضها ؛ ولأن مدلول الأدلة واحدة ولا يجوز أن يدل الدليل الموصول به إلى العلم على أمر ونقيضه ، فإذا قد تقررت هذه الجملة كفت في باب الجملة ومن المعلومات ما يجوز أن لا يمكن الوصول إلى العلم بتفصيله ، كمشكلات الاعتماد وما جانس ذلك مما استأثر الله سبحانه بعلمه.

ونقول بعد ذلك : إن القرآن الكريم كلام العزيز العليم ، وهو معنى معلوم

٢٢٠