مجموع رسائل الإمام المنصور بالله عبدالله بن حمزه - ج ٢

المنصور بالله عبدالله بن حمزة

مجموع رسائل الإمام المنصور بالله عبدالله بن حمزه - ج ٢

المؤلف:

المنصور بالله عبدالله بن حمزة


المحقق: عبدالسلام بن عباس الوجيه
الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مؤسسة الإمام زيد بن علي الثقافية
الطبعة: ١
الصفحات: ٦٦٥
الجزء ١ الجزء ٢

وأما أن للإنسان في حال صحته في ماله ما شاء فذلك صحيح لا مانع منه إلا ما منع منه الشرع ، وقد منع الشرع من إتلاف المال على بعض الوجوه ، وله أن ينفق ماله في المباح وإن أتى على جملته ما لم يكن سرفا وتبذيرا فتأمل هذه الجملة لترد إليها ما بعدها ؛ وقد ورد النهي على أبلغ الوجوه عن ذلك وما أشبهه ، والله جعل الثلث للعباد في آخر أعمالهم يختمون به أعمالهم في طاعة ، لا يصرفونه في معصية الله ، وهكذا من جعل جميع ماله لله أو في سبيل الله فإن تصدق به على إنسان معين صح ذلك لأن أكثر ما فيه أن لا تكون فيه قربة فتكون من طريق المباح ، ولا خلاف أنه لو أنفذ ماله في أكل الحلال وشرب الحلال لم يكن لأحد منعه من ذلك ، وإن تعدى في بعضه إلى المكروه.

وأما المتخلون من الدنيا وإخراج أموالهم من أيديهم فذلك طاعة لله تعالى إذا لم يكن لهم أولاد ولا أقارب يلزمهم القيام بأمرهم ، وقد ورد في ذلك ما لا يغبى على أهل المعرفة أمره من الحث والتحريض من الله تعالى ومن رسوله في أمر الوالدين والأقربين ، ووردت في ذلك آثار كثيرة ، وقد ذكرنا أن النهي يقتضي فساد المنهي عنه ، واستدللنا على ذلك بما هو موجود في كتبنا في الأصول ، ولا حجة للمسلمين على بطلان ما يطوي من كثير من الأحكام إلا ورود النهي عنه ؛ وهذه المسائل كلها بأنواعها خارجة عن الوقف لأن الكلام في الوقف ينبني على أمور.

أحدها : معرفة الوقف في نفسه وما حقيقته.

والثاني : الدليل على جوازه.

والثالث : الكلام في أنواعه.

٤٤١

والرابع : الكلام في أحكامه.

أما الوقف فهو : الحبس من التصرف على الوجوه المعتادة لا فرق في قولهم وقفت فلانا عن كذا ، وبين قوله حبسته ، ومنه الوقف من السير ومن التصرف ، والوقف في الإعراب : المنع من الحركات ، وقالوا وقف فلان دابته في موضع كذا وكذا فهذا معناه في الأصل ، ثم صار بالنقل الوقف على غرض الواقف من غير تصرف بخلاف مراده ، وسواء كان ذلك طاعة أو معصية ، حقا أو باطلا ، تصرفا أو إمساكا ، فقال وقف ماله على المعصية ، كما يقال وقفه على الطاعة وعلى المحق كما يقال وقفه على المبطل ، ثم صار بالشرع يفيد حبسا مخصوصا على وجه مخصوص ، وهو كل أمر يقرب إلى الله تعالى ، فكل حبس على وجه القربة فهو وقف شرعي صحيح ، وكل حبس لا على وجه القربة فليس شرعي ولا صحيح.

وأما الدليل على جوازه فقول النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «إن خالدا حبس أدراعه وأفراسه في سبيل الله» (١) فأسقط الصدقة بذلك وصارت ملكا لله تعالى لا لأحد ، وإجماع الصحابة على ذلك ، من ذلك فعل علي عليه‌السلام في ينبع ووادي القرى ، وفعل عمر في ملكه في خيبر ، وفعل عثمان في بئر رومة ؛ فلم ينكر ذلك أحد من الصحابة فكان إجماعا.

وأما أنواعه فهو ينقسم إلى مشاع وغير مشاع ؛ والمشاع ينقسم إلى ما يتأتى فيه القسمة وما لا يتأتى.

وأما الكلام في أحكامه فاعلم أن حكم الوقف : الخروج من ملك مالكه

__________________

(١) حديث إن خالدا حبس أدراعه وأفراسه. ذكره في موسوعة أطراف الحديث النبوي ٣ / ٣١١ بلفظ : إن خالدا قد احتبس أدراعه وأعواده. وعزاه إلى ابن عساكر ٧ / ٢٣٨ (تهذيب تاريخ دمشق).

٤٤٢

إلى الله سبحانه ، ولا يستقر فيه ملك مالك سواه سبحانه ؛ وإنما لمالكه تعيين مصارفه على الوجه الذي لا يحظره الشرع لا غير ؛ فإذا قد تقررت هذه الجملة فإنا نقول وبالله التوفيق : إن كلام الأئمة عليهم‌السلام لمن نظر في ذلك بعين التأمل لا يخرج عن هذه الجملة فإنا نقول ولأنه لا يوجد على صحته في الأصل دليل إلا ما قدمنا من كلام الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وأفعال الصحابة رضي الله عنهم ، وأقواله وهي حجة ، وأصل ذلك من الكتاب : (رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ ما فِي بَطْنِي مُحَرَّراً فَتَقَبَّلْ مِنِّي) [آل عمران : ٣٥] ، إلى ما يجانس ذلك ، ولا يعلم في شيء من هذا أمر يخرج عن القربة ؛ فكيف يقضي بفرع لا أصل له ، وهل اعتمد ذلك أحد من أهل العلم فضلا عن الأئمة ، فإن وجد لهم عليهم‌السلام كلام في مسألة فلعل الخلاف في تلك الصورة هي قربة أم لا ، فمن اعتقد ذلك قربة أجاز الوقف في تلك الصورة ، ومن اعتقد ذلك غير قربة منع منه ، وهذا الذي ينبغي أن يحمل عليه قول العلماء.

الكلام في وقف المشاع الذي يتأتى فيه القسمة لأنه لا يخلو : إما أن يجيز ذلك صاحب الشياع أو لا يجيز ، فإن أجازه صح ذلك وصار كأنه وقف وذلك جائز بالاتفاق ، وإن لم يجز فلا بد من استغنائه بنصيبه ونصيبه لا يتأتى إلا بالقسمة وهي جارية مجرى البيع وبيع الوقف لا يجوز ؛ أما أنه لا يستوفي نصيبه إلا بالقسمة فذلك ظاهر ، وأما أنها جارية مجرى البيع فلأنه عقد معاوضة وأخذ شيء بشيء وهذا معنى البيع ، وأما أن بيع الوقف لا يجوز فذلك إجماع الأمة القائلين بصحته.

وأما حديث عمر فلا يصح أن يكون حجة على هذا لأن عمر خرج سهما من ثمانية عشر سهما لأن القسمة وقعت على ألف وثمانمائة والجيش خمسة

٤٤٣

آلاف ففي هذا من الفقه أن الغنائم إلى الإمام لأن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لم يسهم لجهينة ولا سليمة ولا لمن كان معه من العرب ، وإنما قسم بين المهاجرين والأنصار الذي قسم من أرض خيبر ، وما أعطى أولئك إلا من التنفل للقوم ، وجعل السهام على الرؤساء ، وكان عمر واحدا منهم وهو المساهم لمائة رجل ؛ فلا تثبت الحجة ما لم يقم البرهان بأن أصحابه لم يجيزوا ما فعل ، وأنهم كرهوا وقفه لذلك فحينئذ ينتقض الوقف أو يجوز مع كراهتهم فيكون أصلا معتمدا.

وأما والحال ما ذكرنا فإن الظاهر من حالهم أنهم يرضون بما يقرب إلى الله تعالى وإن أجحف بهم في أموالهم وأمورهم يحمل على الصحة في الأمور المحتملة كما ذكر أيده الله في مسائله إذا جاز فعلهم في حقوقهم ولم يفعل أمرا يعترض به للنقض ، وهو صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم معلم الشرع ، وأساس الدين ، وهادي الرشد صلى الله عليه وعلى الطيبين من آله ؛ فتأمل ذلك موفقا تجده كما قلنا إن شاء الله تعالى.

قال أيده الله حاكيا : ولو أن رجلا وقف دارا أو ضيعة عشرين سنة أو أقل أو أكثر على رجل صح ذلك ، فإن مات الموقوف عليه قبل العشر كانت وقفا على ذريته إلى انقضاء المدة ثم يعود الوقف إلى صاحبها الواقف ، وهذا مما لا نحفظ فيه خلافا.

قلنا : فإن مات الموقوف عليه قبل انقضاء المدة كان وقفا على ورثته إلى انقضائها لما بينا أن منافع الوقف تورث عنده عليه‌السلام على ما تقدم القول فيه ، وإذا انقضت المدة رجعت إلى الواقف أو ورثته وقفا لا ملكا على الصحيح من المذهب على ما ذكره الإخوان قال : ومن أصحابنا من قال يرجع ملكا لا وقفا ، وعند المؤيد بالله إذا انقضت المدة أو مات الموقوف عليه رجع إلى

٤٤٤

المصالح لأن عنده أن حكم هذا المال حكم المال الذي لا يعرف له مالك في أنه يجب صرفه إلى المصالح.

الكلام في هذه المسألة أن الوقف لا بد فيه من لفظ التأبيد أو ما يقوم مقامه كأن يقول جعلته لله أو حبسته لله أو وقفته لله تعالى لا نهاية لوجوده فلا ينتهي ما هو له ؛ فإذا كان ذلك كذلك كان وقفا وكانت مصارفه في طاعة الله ، فأقرب ما يلزمه أمره نفسه وولده وعبيده على المراتب التي ذكرها النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ؛ فإذا صرف غلته إلى إنسان معين مدة معينة جاز وكانت تلك المدة للرجل ولمن يلزمه أمره شرعا من ورثته ، فإذا انقضت المدة رجع إلى الأصل الأول ، ولو أنه وقفه فصرفه إلى إنسان مدة كان له أن يغير مصرفه على قدر تحريه للمصلحة أو نظره فيها لأن ولايته فيه باقية ، ولا يملك المصروف إليه منه إلا ما صار إليه وقبضه ، وإنما قلنا يكون لورثته إذا بقي نظر الواقف على حاله.

وأما قول من يقول يرجع ملكا لا وقفا فذلك إذا كان الوقف غير مؤبد ، كأن جعله لفلان عشر سنين من باب العمرى ، وذلك لا يخرجه من باب الملك ، وقوله : عشر سنين وإن كان وقفا لغويا فإن الشرع قد طرأ عليه وصار الوقف يفيد التأبيد شرعا ؛ وأما رجوعه إلى المصالح فذلك فيما لم يعين فهو أولى من المصالح والأصول تقضي بذلك.

قال أيده الله مسألة : وإن وقف ماله كله على بعض ولده دون بعض نحو أن يقفه على الذكور دون الإناث من ولده وولد ولده ؛ فإن أجاز الذين لم يقف عليهم كان ذلك وقفا على من وقفه عليهم ، وإن لم يجيزوه كان الثلث وقفا على الذين وقفه عليهم من الذكور دون الإناث ، والباقي يكون وقفا على جماعتهم من الذكور والإناث على فرائض الله سبحانه.

٤٤٥

الكلام في ذلك : ما تقدم من أن الوقف الذي لا قربة فيه لا أصل له في الشرع وما لا أصل له لا يصح إثباته (١) ، وظاهر الحال أنه عليه‌السلام جعل الثلث تتعلق به القربة قياسا على الوصية بثلث المال إذا أخرج ثلث المال سبيلا ، والأصل المتقدم غير منقوض ولا مكسور ، وعندنا أن ذلك لا قربة فيه لأن الإناث أضعف وأحوج ؛ ولأن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم منع بشير بن سعد من نحله ولده النعمان بقوله : «أكل ولدك نحلته؟ قال : لا. قال : فأشهد عليه غيري فإني لا أشهد إلا على حق» فجعل هذا القول أبو حنيفة أصلا لجوازه ، وقال : لو لا أنه يجوز لما قال أشهد عليه غيري.

قال آباؤنا عليهم‌السلام : ذلك دليل على أنه لا يجوز بقوله : «إني لا أشهد إلا على حق» ولا غير الحق إلا الباطل ، وعندنا أن الوقف إذا بني على هذه الصورة بطل ولم يكن له حظ في الصحة سواء أجازه الورثة أو لم يجيزوه إلا أن يستأنف العقد على الصحة لأن الوقف لله تعالى وهو من الدين ، والله تعالى يقول : (وَما أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ) [البينة : ٥] ، ويقول تعالى : (أَلا لِلَّهِ الدِّينُ الْخالِصُ) [الزمر : ٣] ، ولا يكون خالصا ما لم تحرر فيه النية لله سبحانه ، وإذا انبنى على الفساد كان فاسدا وهو بخلاف البيع والشراء ، والهبة والهدية ، فذلك بابه الإباحة والصدقة ظاهر الأمر فيها أنها لله تعالى وإن كان غير ناو فظاهر الأمر النية وحكم عليه بالظاهر.

قال أيده الله تعالى : قال السيد أبو طالب هذه رواية المنتخب ، والمنصوص عليه في الأحكام يقتضي صحة الوقف على الذين وقفه عليهم ، وفي المنتخب في رجل يقف ماله على خلاف ما يقتضيه الميراث نحو أن يقفه كله على بناته دون عصبته صح الوقف وقسم بين الورثة على حكم الله تعالى.

قال السيد أبو طالب والمنصوص عليه في الأحكام خلافه ، وكذلك ما نظر

__________________

(١) في الأصل بدون نقاط وقد يكون : إتيانه.

٤٤٦

عليه‌السلام في مسائل ابن جهشيار فالمراد وقسم بين الورثة على فرائض الله سبحانه ما زاد على الثلث ، قال وله أن يقف الثلث على من يشاء ، وكيف يشاء وفعله فيه وجب إمضاؤه.

قال أيده الله حاكيا تحصيل المذهب فيمن وقف ماله كله على أولاده إما أن يقفه على ما يقتضيه الميراث صح الوقف في جميعه على الروايتين جميعا سواء كان ذلك في حال الصحة أو في حال المرض ، وإن كان على خلاف ما يقتضيه الميراث فإنه لا يخلوا : إما أن يقفه في حال الصحة أو في حال المرض ؛ فإن كان في حال الصحة كان المال أيضا وقفا عليهم ، كما وقف على الصحيح من المذهب على ما نص عليه يحيى في الأحكام ، والقاسم في مسائل ابن جهشيار (١) ، وعلى ما ذكره الإخوان واختاراه.

الكلام في ذلك : أن كلام الإمامين عليهما‌السلام يحمل على أن للإنسان في حال الصحة أن يعطي بعض الورثة دون بعض وأن يفاضل بينهم في المنحة والعطية ، وأن ذلك يكون قربة إذا قصد به القربة ، وأمور المسلمين تحمل على الصحة في المحتملات ، وعندنا إن حكم الورثة يخالف حكم الأجانب ، وهذا الباب لما قدمنا في حديث بشر بن سعد ، وما جرى مجرى هذا في حال الصحة فعلى الحاكم أن ينظر في هذه المسألة فإن صح له بوجه من الوجوه الشرعية أن الواقف قصد بذلك وجه الله إذا كان فعله يحتمل ذلك صححه وإلا فلا ، وليس التصحيح أن يعمل في ماله ما شاء إلا على بعض

__________________

(١) هو : علي بن جهشيار العالم الكبير صاحب القاسم من إبراهيم عليه‌السلام وراوي مسائله قال ابن أبي الرجال : وقد عددنا أصحاب القاسم في موضع منهم على هذا وأولاد القاسم جميعهم محمد والحسن والحسين وداود وسليمان ومنهم محمد بن منصور المقري والحسين بن يحيى بن الحسين بن زيد بن علي عم يحيى بن عمر الخارج بالكوفة ومحسن بن الحسن بن جعفر بن عبد الله صاحب الأنساب المعروف بالعقيقي وله إليه رسائل ومضى يعدد أصحاب القاسم.

٤٤٧

الوجوه ، والعمدة فيما قلنا هو ما قدمنا أن الوقف لا يجد له صحة أصلا إلا القرب ؛ فإذا أخرجه عن باب القربة وأجازه كان بانيا على غير أصل ، ووجه ما حكيناه عن الأئمة عليهم‌السلام ما قدمنا ذكره من اعتقاده إن فعله ذلك على تلك الصورة يحتمل أن يكون قربة ، والثاني يظهر لنا ممن يفعل ذلك أنه لا يفعله إلا إيثارا للذكور ومحاذرة من إرث أولاد البنات ، وقد رأينا من بعضهم أنه يصرف لأولادها نصيبا إن كان من عصبته ، وإن كان من غيرهم قطعه ، وهذا قطع ميراث وارث ، وقد ورد فيه الوعيد فكيف تتعلق به القربة.

قال أيده الله حاكيا : وإن كان في حال المرض كان الثلث وقفا عليهم كما ذكر ، والثلثان يكون موقوفا على إجازة الباقين على الروايتين جميعا ؛ فإن أجازوه كان وقفا كما قال ، وإن لم يجيزوه كان وقفا على ما يقتضيه الميراث ؛ وذلك لأنه ليس له أن يزوي من ماله عن الورثة في حال المرض أكثر من الثلث ، فالوقف في حال المرض يجري مجرى الوصية ؛ فأما مقدار الثلث فله أن يتصرف فيه كيف شاء للخبرين اللذين قدمنا في الهبة ، وعند المؤيد بالله قدس الله روحه إذا كان ذلك في حال المرض فإنما زاد على الثلث رد على جميعهم ملكا لا وقفا.

الكلام في ذلك : أنه ينبني ذلك على أن له أن يفعل في الثلث ما شاء مطلقا ، وعندنا أن له أن يفعل فيه ما شاء ما لم يمنع منه الشرع النبوي زاده الله جلالة وشرفا ، وقد بينا أن الشرع النبوي منع من إيثار بعض الورثة على بعض في حال الصحة ، فكيف يجوز ذلك في حال المرض وله أن يعطي الثلث في حال المرض من شاء ، وذلك خارج عن باب الوقف ؛ لأن الوقف لا ينبني إلا على القربة وإلا كان خارجا عن بابه ، ولأن قوله : ليس له أن يزوي عن ورثته أكثر من الثلث في حال مرضه ، فقد رجع إلى تعليلنا إنما منعته الشريعة من

٤٤٨

إمضائه لم يتعلق حكمه بفعله ورد إلى أصله ، فتفهم ذلك ، ولو سئل المؤيد عليه‌السلام بما أبطل وقف الثلثين ما رجع إلا إلى هذا الأصل وأنه خالف الشرع فخرج عن باب القربة لأنه لا أصل نعلمه يرد إليه ويحمل عليه إلا ما قلنا.

وأما قوله أيده الله : إنه لم يحك عن أحد من أئمتنا أنه أبطل الوقف في شرع الإسلام والفتوى بجواز بيعه ولا شرائه مما يجوز ، ولا أجازه غير الأئمة من العلماء القائلين بصحة الوقف ؛ فكيف الأئمة عليهم‌السلام ، وإنما الحديث فيما هذا حاله هل هو وقف أو غير وقف فالذي يجيز بيعه وشراءه يقول هو غير وقف ؛ وغير الوقف لا مانع من بيعه وشرائه في الشرع الشريف وما كان وقفا فلا يجوز بيعه بحال ، وقد ذكرنا أن ما كان غير قربة فلا يكون وقفا في الشرع النبوي ، وعمدتنا أنه لا أصل لمن صححه يرجع إليه إلا ما قدمنا فكيف يبنى على أصل لا تعتبر أحكامه.

وأما ما ذكر أنه وجد في كتب القاضي الحسن بن علي بن محمد بن أبي النجم (١) جواب عن سؤال سائل عمن وقف ماله ولم يورث البنات ولا الأخوات وذلك لا يجوز وهو وقف الجاهلية كانوا لا يورثون البنات ولا الأخوات من مال آبائهن ، ولا يورثون الصغير أيضا ، ويجعلون المال كله للكبير ، وكانوا مع ذلك يحرمون أولاد البنات ما خلفت أمهاتهم ، ويورثونه العصبة ، ويقولون أبناؤنا بنو أبنائنا وبنو النساء أباعد لا يورثون فجاء رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فنقض بحكم الله تعالى أحكامهم ، وأعطى النساء ما حكم الله

__________________

(١) هو : الحسن بن علي بن محمد بن أبي النجم قال ابن أبي الرجال : كان عالما مجتهدا فاضلا ، ولما دارت مسألة الوقف المخرج منه البنات ومنع منه المنصور واستدل بما هو مشهور عنه بلغه في كتابه من الأمير تاج الدين أحمد بن محمد أنه وجد في كتب هذا العلامة ما يشبه كلام المنصور وأن ذلك وقف الجاهلية فسّر الإمام لما وجدوه وحمد الله على ذلك. انظر مطلع البدور ـ خ ـ الجزء الأول ص ٢٩٥.

٤٤٩

تعالى به لهن ، وأعطى الصغار منا ما أخذ منهم ، وأجرى بذلك صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الحكم ، ورد العدل، ونفى الغشم ؛ فالكلام الذي ذكره القاضي حق وهو حكم الله تعالى ، وما حكاه من حكم الجاهلية قد منع الشرع النبوي منه ، وقد قال تعالى : (أَفَحُكْمَ الْجاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ) [المائدة : ٥٠] ، فنهى وبكت وزجر وله الحمد حتى يرضى.

قال أيده الله تعالى : ثم وصل الهادي إلى اليمن وفيه قبائل همدان وخولان ، حرموا البنات ومنعوهن ما حكم الله لهن به من الميراث ، وأخرجوهن ، وجعلوا ذلك للذكور ، وحكم بذلك قضاة البلاد ، ورفع ذلك إليه فأبطله ، وحكم بالثلث للذكور والثلثان تكون على أحكام الله تعالى للإناث والذكور ، واستمر ذلك في حياته وبعد وفاته ، ورجح رواية المنتخب وصححها.

وحكى أن القاضي علي بن سليمان الكوفي (١) قاضي الهادي عليه‌السلام كان يحكم بذلك ويقول : الأصل صحة الوقف إلا أن يثبت أنه أوقف جميع المال ، وصح ذلك للحاكم رده إلى الثلث ، والثلثان على قوله لورثته ولهم وقفا لا ملكا ؛ وعند المؤيد عليه‌السلام يكون الثلثان وقفا يجوز بيعه وشراءه.

الكلام في ذلك : أنا قد بينا أن الوقف يخرج عن ملك الآدميين ولا يصير ملكا حكما إلا لرب العالمين ، وما ذكر من رد الهادي عليه‌السلام لأفعالهم وحكمهم ، فما ذلك إلا لأن أفعالهم خالفت حكم رب العالمين فخرجت بذلك من الدين.

__________________

(١) من أعلام القرن الثالث وهو أخو محمد بن سليمان الكوفي ، من تلاميذ الإمام الهادي إلى الحق يحيى بن الحسين. عالم ، فقيه ، تولى القضاء للإمام الهادي يحيى بن الحسين بعد أن هاجر مع أخيه محمد بن سليمان الكوفي تلميذ حافظ الزيدية محمد بن منصور المرادي من العراق إلى الإمام الهادي ولعله ممن قدم إلى اليمن قبل مجيء الهادي إليها مع أخيه لتهيئة الناس لاستقبال الهادي عليه‌السلام ومن مؤلفاته كتاب (مناقب أهل البيت وفضائلهم) انظر عنه أعلام المؤلفين الزيدية وفهرست مؤلفاتهم برقم (٧٢٧) ، الإمام الهادي واليا ومجاهدا وفقيها ص ١٨٠ ، المستطاب (خ).

٤٥٠

وأقول : إن الهادي عليه‌السلام جعل لهم الثلث صلحا ؛ لأن الوقف لله كما قدمنا ، وما كان لله ففيه أمر الأئمة ماض لأنهم النوّاب عن الرسول الأمين صلوات الله عليه وعلى ذريته الطيبين فرأى عليه‌السلام أنهم لم ينقطعوا من الكل فشرع لهم الثلث وذلك جائز للأئمة الهاديين ، وعليه استقرت قواعد الدين ؛ فإنا أقررنا أهل الذمة على كثير من معاصي رب العالمين لما تعذر اعترافهم عن الجملة ويدلك على ذلك قول المؤيد عليه‌السلام يكون ملكا لا وقفا لأنه لم يصحح ما خالف الحق ، وقول الهادي عليه‌السلام يكون وقفا بجعله الفعل قربة في الأصل ، وهذه الفروع طارئة بعد ثبوت القاعدة على الصحة فأثبت منها ما جوز ثبوته الشرع ، ونفى حكم ما لم يجزه الشرع ، وبقي الجملة على أصل الصحة.

وعندنا ما بيناه لك من أن هذا حاله فهو ينبني على غير الصحة لكونه مجانبا للقربة فلم يبن على أصل صحيح ، ويدلك على صحة استدلالنا أن ما نقضوه لا عمدة لهم في نقضه إلا أنه خارج عن الحق ، ومخالف لمقتضى الشرع ، فإذا الأصل واحد ، وإنما يختلف النظر في الصورة المقررة ، والحادثة الواقعة فانظر في ذلك موفقا ؛ فليس من القربة أن المسلم قد وطئ المرأة بحكم الله ، واستحل منها ما حرم على غيره بأمره سبحانه ، وفرض الله لها مالا عليه جعله من آكد الأموال لزوما ، ثم إذا خاف ذلك وقف ماله أو يأخذ أموال المسلمين في ذمته ، فإذا خاف ذلك وقف ماله وأظهر أنه لله والمعلوم خلافه ، والله تعالى يقول : (وَلا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْباطِلِ) [البقرة : ١٨٨] ، فأي باطل أعظم من هذا.

وقد قال الهادي عليه‌السلام في المنتخب : ورجل وقف جميع ماله على ولده

٤٥١

للذكر مثل حظ الأنثيين ولم يدخل امرأته معهم قال : يخرج صداق المرأة من رأس الوقف ، ويكون الثمن لها وقفا.

فهل رأيتنا رحمك الله زدنا على هذا القول أو نقصنا منه ، وإن كان أصحابنا قد حملوه على الثلثين دون الثلث وذلك لا يصح لأنه لا ظاهر في أصل المسألة يدل على ما قالوه ؛ فإن كان ما قالوا حفظا لما تقدم في المسائل السابقة كانت المسائل فيها الخلاف ولا مانع من ذلك فالنظر يتجدد ، وعنده عليه‌السلام الوقف يصح مؤقتا ، وعندنا أنه لا يصح التوقيت إلا في منافعه ومصارفه ؛ فأما فيه فلا يكون شرعيا ما لم يكن مؤبدا ، وإليه يرجع قوله عليه‌السلام إذا ما تأمل تأملا شافيا لأن في بعض كلامه عليه‌السلام لا يجوز الرجوع في الوقف إذا كان مؤبدا وإنما لا يجوز الرجوع فيه لكونه لله تعالى ، وما كان لله تعالى لم ينته إلى حد ولا يرجع فيه من جعله لأن في الحديث : «إن الصدقة تقع في يد الرب سبحانه قبل أن تقع في يد المتصدق عليه» فكيف يسترجع شيئا قد صار في يد رب العالمين معناه في قبوله ، وتحت حوطة قدرته ، فكيف ينبغي له أن يرده أو يرجع فيه فذلك يفيد تأبيده من قبل المعنى فقد قدمنا في اللفظ ما في بعضه كفاية إن شاء الله تعالى.

قال أيده الله : ما يرى في رجل وقف ماله على أولاده لصلبه وليس لأولاد البنات فيه حق وهذه صورة وقف أهل الشام جميعهم ، ثم احتكموا قبل قيام الإمام أو بعده ، وحكم الحاكم بصحة الوقف ونفوذه على ما ذكره في الأحكام (١) هل ينقض ذلك الحكم أم لا؟ وهل للحاكم أن يقول أمور

__________________

(١) أشار في موسوعة أطراف الحديث إلى طرف حديث بلفظ : «إن الصدقة لتقع في يد الرحمن» وعزاه إلى ابن كثير ٥ / ٤٢٨ ، وبلفظ : «إن الصدقة لتقع في يد الله» وعزاه إلى حلية الأولياء ٤ / ٨١ وبلفظ : «إن الصدقة تقع بيد الله قبل أن تقع» وعزاه إلى إتحاف السادة المتقين ٤ / ١٢٠ ، وتهذيب تأريخ دمشق لابن عساكر ١ / ٢١٧. وانظر موسوعة أطراف الحديث ٣ / ٩٧ ، ٩٨.

٤٥٢

المسلمين محمولة على الصحة ما أمكن ، والظاهر أن الناس لا يقفون إلا ما يجوز وقفه وهو الثلث فيحكم بصحة الوقف إلا أن تحصل بينة أنه جميع ما يملك الواقف فيرد إلى الثلث أم لا؟ وإن أثبت الثلث هل يكون عنده الثلثان وقفا أو ملكا أم يبطل جميع الوقف خلاف قوله في الأحكام والمنتخب؟

اعلم أيدك الله بتوفيقه : أن جواب هذه المسألة قد تقدم أو أكثر إلا ما يتعلق بباب الحكم ، والواجب استقراء العلة التي بها نقض عليه‌السلام الحكم بالثلثين فإن وجدت في الثلث حكمها وإلا كانت قاصرة وذلك لا يجوز ؛ لأن العلة إذا وجدت وجب حصول الحكم وجوبا وإلا خرجت عن كونها علة ، ولم ينفصل وجودها عن عدمها ، والعلة في بعض الحكم في الثلثين عدم القربة وهو قائم في ذلك لأن الشرع المستمر منع من إيثار بعض الورثة على بعض ، وإنما جعل للمسلم الثلث ليستدرك به ما فات ، ويقوي به الحسنات في آخر عمره ، وإذا غلظ به المعاصي وكثر سواد كتاب السيئات كان ذلك نقضا للمراد ، وقد ورد الشرع في المساواة بين الأولاد ، وفي بعضها : «لو كنت مفضلا لفضلت البنات».

وأما نقض الحكم فإنا نهاب إثباته لما قد اتضح من الباب ، ونهاب نقضه لعظم الحال فيمن أضيف إليه ونحن نعتقد له الفضل علينا بحيث يتدانى الأمر ولا يتقارب ، ولا يمتنع وقوع السهو عن النظر في أصل مسألة ومسائل ولا سيما على مثله عليه‌السلام فإن أكثر المسائل أملاها وهو على ظهر فرسه تجاه العدو فجزاه الله عن الإسلام خيرا فالوجه في ذلك أن ننظر أصول إثباته للوقف فإن كان القربة فحكمه عليه‌السلام ينقض حكمه وهو الرضا وإن كان من رأيه جواز الوقف ، وإن لم يتضمن قربة لم ينقض حكمه عليه‌السلام

٤٥٣

وكان خلافا وهو ممن لا ينكر على مثله الاستبداد بالقول لسعة علمه ورسوخ حلمه سلام الله عليه ؛ وإن كنت أستبعد أن يجيز الوقف على غير وجه القربة أو يكون ذلك قولا لأحد من العلماء فضلا عن الأئمة فلم يرد عن أحد منهم جواز الوقف على المباح المحض ، فكيف بالمكروه ، فكيف بالمحظور فتأمل ذلك موفقا تجده كما قلنا إن شاء الله تعالى.

وأما قوله أيده الله : إن للحاكم أو عليه أن يحمل أمور الناس والمسلمين على الصحة فذلك واجب فيما يحمل.

فأما فيما الظاهر خلافه فلا يجوز ، وإن جاز أن يكون صحيحا فيما بين الفاعل وبين الله سبحانه ، كما أنك لو مررت بإنسان يسرق من متاع آخر شيئا يأكله فعليك الإنكار ، وإن كان من الجائز أن تكون الضرورة قد انتهت فيه إلى حال يجوز له تناول مال الغير بنية القضاء ، والظاهر ممن يجعل الثلث للذكران أنه ما يريد إلا إيثارهم دون سائر الورثة ، وقد ورد الشرع بالنهي عن الإيثار فبعد عن باب المباح ، وأخبر النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنه غير حق ، والمباح حق ، وغير الحق هو الباطل.

وقوله : لا يقفون إلا ما يجوز وقفه وهو الثلث فقد تقدم الكلام في ذلك أن الثلث إذا خرج عن باب القربة لحق بالثلثين ، وإذا أثبتنا الوقف على غير القربة خرج من باب الوقف لأنه لم يبنى على الصحة في الأصل فكان قوله : وقفت مالي على الكانس مثلا لله تعالى غير صحيح في الأصل.

وقوله : لله لا حكم له لأنه لا يكون لله إلا ما كان لله فيه رضا ، ويكون هذا في ضرب المثل كما روي لنا عن بعض المطرفية أقماهم الله كذبت كذبة

٤٥٤

لوجه الله ، بل لو وقف ماله على القبور ما لم تكن قبور الأئمة والصالحين فإن ذلك لا يصح فكيف يصح ما هو أدخل من ذلك في باب الكراهة بل الحظر فتأمل ذلك موفقا.

قال أيده الله في قولنا لما سألنا عن الوقف على الذكر دون الأنثى : إن ذلك باطل لا أصل له في الإسلام فضلا عن أن يكون قولا لأحد من الأئمة عليهم‌السلام هل يريد بذلك أن الخلاف حدث بعد انعقاد الإجماع فلا حكم له أم المسألة مسألة خلاف؟

الكلام في ذلك : أنه لا أصل له في النصوص ولا في قول السلف رضي الله عنهم ، فهذا معنى لا أصل له وأن الإجماع منعقد على أن الوقف لا يكون إلا قربة ، وإثبات من أثبت الثلث من الأئمة ليس إلا لتوهم أن ذلك قربة فإذا بطل كونه قربة بالدليل كانت المسألة وفاقا أن لا وقف فيما تلك حاله ، ونحن بعدنا عن الأئمة عليهم‌السلام أن يثبتوا من الوقف ما لا قربة فيه ، وقد كنا علمنا أن جعل المال للذكر دون الأنثى حكم الجاهلية ، وحمدنا الله تعالى على حكاية القاضي الحسن بن علي بن محمد بن أبي النجم فإنها طابقت ما قلنا عن غير مواطأة ولا علم بها فذلك يقوي القول ويشفعه.

قال أيده الله : وقد نص أئمتنا عليهم‌السلام أنه لا يصح الوقف على البيع والكنائس وعلى سائر ما لا قربة فيه من محظور أو مباح محض ، وكذلك الوقف على أبنية القبور وعمارتها لأن ذلك خلاف السنة إلا أن تكون مقابر الأئمة والصلحاء.

الكلام في ذلك : أن هذه الحكاية هي أصل ما ذهبنا إليه ، وفي الحكاية عن

٤٥٥

الأئمة عليهم‌السلام وعلة المنع من الوقف الذي منعوا منه لأنه خلاف السنة فهل في السنة يرحمك الله إيثار الذكور على الإناث أو وقف المال لئلا تقضى منه الديون ، أو لأن لا تأخذ المرأة المال بدينها وإرثها ما هذا من السنة في شيء ، وعمارة القبور أدخل في باب الجواز من منع الغريم قضاء دينه ، وقد ورد في المطل الوعيد ، وإذا قد تقرر مذهبهم عليهم‌السلام المنع من الوقف ، متى فارق القربة ، ومتى خالف السنة ، ومتى كان في مباح محض فهل رأيت أصولنا تجاوزت هذا القول فانظر في ذلك فما وجدت من قول الأئمة عليهم‌السلام خارجا عن هذا الباب فهو منقوض بقولهم عليهم‌السلام ؛ لأن الفروع يجب ردها إلى الأصول ، وقول يحيى بن الحسين عليه‌السلام ينقض بقوله لا بقول غيره إذ لا سلطان للغير عليه ، ولا سبيل له إليه ؛ وإنما يرد فرع قوله إلى أصله كما أمر النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن يرد قوله إلى كتاب الله ، ويرد مجهول قوله إلى معلومه.

وهذه المسائل عن الأئمة عليهم‌السلام لا توجب كون المسائل خلافا فيما أراه لأن أصلهم واحد في أن الوقف لا يكون إلا قربة والذي به منعنا من الوقف على تلك الصورة هي هذه العلة ، وإن سلمنا أن وقف الثلث قربة حكمنا بجوازه ووجوب إمضائه ، وإنما نقول يجوز أن يقع السهو عن المسألة والمسائل ويبنى الآخر على قول الأول لمثل تلك العلة ، وإنما يقع الخلاف في المسألة متى علل أحد المجتهدين بعلة وعلل الآخر بعلة أخرى ؛ فهذه مسائل الخلاف ويبقى النظر في ترجيح العلل كأن يعلل أحد المجتهدين بأن علة الربا كون هذا مطعوم جنس ، ويعلل الآخر بأن هذا مكيل جنس ؛ فأما إذا كانت العلة واحدة فلا يتحقق الخلاف في ذلك ، وقد ثبت أن العلة في صحة الوقف القربة لأنه لا يوقف إلا لله ولا يقبل الله تعالى إلا ما يرضى ولا يرضى إلا القرب فتأمل ذلك تجده على ما قلنا.

٤٥٦

سأل أيده الله عمن يقف شيئا من ماله على أنما يحصل فيه من غلة لعمارة بداره الفلانية ، ثم ما بقي منه كان على ورثته الذكران دون الإناث هل يصح أم لا؟ وهل فرق بين أن يكون الثلث فما دونه أو يكون أكثر؟

الكلام في ذلك : قد تقدم وهذا وقف لا يجوز ولا يصح لأنه خارج عن باب القربة كما قدمنا ، فما وقف شيء من المال لعمارة الدار فإن كانت وقفا صح ذلك ، وإن كانت غير وقف لم يصح لأنها تصير لبعض الورثة بالقسمة مثلا فيستحل الوقف أو يباع في الدار أو غير ذلك.

سأل أيده الله : عن رجل وقف ماله بعد عينه شيء أقل من الثلث ، وأخرج منه أولاد البنات وقلنا لا عذر من فسخه هل لهن فسخه أم لا؟ وهل يكون وقفه بدون الثلث بعد عينه وصية تخرج من الثلث ويصح الوقف فيه ولا اعتراض فيه لأولاد البنات لأنه وصية أم لا؟

الكلام في ذلك : اعلم أيدك الله بتوفيقه أنا قد قررنا أصلا نرجع إليه في جميع ما يتفرع من هذه المسائل بحيث لا يشذ شيء منها عن الأصل الذي أصلناه ، وقد بينا لك أن الوصية لها باب مفرد وكذلك الهبة ، ولا تعلق لشيء من ذلك بباب الوقف إلا ما شاركه في حقيقته ، وبينا أن الوصية تجوز للذمّي كما تجوز للملّي وتجوز ، وإن كان لا قربة فيها ، ولا كذلك الوقف فلا يصح الوقف بسهم من ألف سهم إن كان غير قربة ولا ينبرم ، فإن كان وصية فله باب آخر أحكامه معروفة ، وليس من هذا في شيء ، وما تقدم من المسائل فإنما هي صورة وليست بأدلة ولا علل فلا يصح عليها القياس ، ولا أجري الحكم بشمول حكم الدليل لأنها ليست بدليل ولا علة وإنما هي صورة موضوعة ينبغي أن ترد إلى حقيقة معينة ليثبت لنا الأحكام عليها فهذا ما ينبغي أن ننظر.

٤٥٧

والذي يجب في مثل هذا أن ينقض ، ويرد إلى سنة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وإلى المقرر من دين الله تعالى لأن أول الوقف بئر رومة وقفها عثمان على عهد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فقرر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الوقف وتقريره سنة ، ثم أدراع خالد وأسيافه حكى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم خروجها عن ملكه ، وسقوط الصدقة عنها لأنها موقوفة لله تعالى وفي سبيله ؛ فهذه الأصول ترجع إلى القربة المحضة ، وقد حكيت أنت أصول الأئمة عليهم‌السلام في ذلك ، وحكيت منهم أكثر مما حكينا فتأمل ذلك وسواء كان الوقف بعد العين أو في حال الحياة أو في حال الصحة أو في حال المرض فلا يختلف حكمه أصلا ، ولو أنه وقف عن الديون على ورثته ذكورهم وإناثهم على سهام الله تعالى لكان باطلا ، وسواء كان الدين لله تعالى أو للآدميين فاعلم ذلك لأنه عصى الله تعالى في وقفه بمرامه لإسقاط حقوقه تعالى أو حقوق عباده.

مسألة الهادي عليه‌السلام

فيمن وقف المال على أولاده ولامرأته دين فأثبت في مجرد قوله دينها وإرثها ، وإنما جعله وقفا أعني الإرث ؛ فأما الدين فمن رأس المال وجعل الدين من رأس المال ينقض الوقف فتأمل ذلك ؛ لأنه لو خرج عن ملكه بالوقف لما تعلق به الدين ولا كان له حكم ، وأولاد البنات أولاد لغة وشرعا لا سيما على مذهبكم يا معشر الزيدية ، وقد طال الاحتجاج في ذلك من علماء الزيدية ، واحتجوا بقوله : (وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ داوُدَ وَسُلَيْمانَ ...) الآيات [الأنعام : ٨٤] ، على أن ولد البنت ولد لا فرق بينه وبين ولد الابن فمن أين تعلق القربة إعطاء أحدهما دون الآخر وما قال أنهم أجانب إلا الجاهلية ، وقد نهى الله عن اتباع حكمهم.

٤٥٨

وسألت عن رجل وقف جميع ماله على المساكين ، وأخرج الورثة بغير شيء هل يثبت الوقف أم لا؟ أو يثبت منه الثلث ويعود الباقي إلى الورثة؟ وإذا عاد الثلثان إلى الورثة هل يعود وقفا أو ملكا؟

الكلام في ذلك : أن الوقف إن وقفه على المساكين لأجل سقوط الحقوق والمظالم وما جرى مجراها جاز ذلك ، وإن أخرج منه الورثة لأن هذا هو الواجب عليه وهو قربة محضة أعني وقفه وقد فعل ما يمكنه من طلب الخلاص من عذاب الله تعالى وإن وقفه عليهم تقربا إلى الله تعالى وتقربا لما عنده وترك ورثته كان الوقف مختلا باطلا لأنه لا قربة فيه ؛ وإنما القربة أن يقوم بأولاده ومن يلزمه أمرهم الأقرب فالأقرب ، وبعد ذلك الصدقة على الأبعد لأن الأقرب أولى ، نص على ذلك الرسول ، ويكون الكل إرثا لا وقفا فإن جهل حال الموصى في هذه المسألة حمل أمره على السلامة والصحة وأنه ما وقف ذلك على الفقراء والمساكين إلا لما لحقه من الحقوق فيحمل على الصحة ويثبت حكم الوقف ، وإن علم قصده وأنه يريد إيثار المساكين ، ويزعم أن ذلك قربة بطل الوقف ولم ينبرم لأنه مناف للقربة ، وصدقته على ذوي أرحامه وأقاربه هي التي ورد الشرع الشريف بالندب إليها والحض عليها قال تعالى : (وَآتِ ذَا الْقُرْبى حَقَّهُ) [الإسراء : ٢٦] ، وهذا قبل كل أحد ؛ فإعطاء الأجنبي خلاف السنة وإعطاؤه ومنع الأقرب مناف للقربة.

سألت عن رجل باع من رجل بهيمة أو جارية ولم يقرها المشتري ، وأقامت عنده مدة طويلة سنة أو دونها ، وأراد المشتري ردها بأنه لم يعرفها ، وقد استخدمها المشتري وعلف ولم يرد ولم ينكر إلا بعد طول المدة هل يكون للرد

٤٥٩

بخيار الرؤية مدة معلومة أم لا؟ ويكون له يرد بترك الغرة أم لا ، طالت المدة أو قصرت؟ وإذا كانت البهيمة قارحا أو كبيرة لم يعرفها ، هل يكون له رد مع لزمها مدة طويلة أم لا؟ أو يكون له الخيار في ثلاثة أيام فقط؟

الكلام في ذلك : أنه لا خيار له إلا في ثلاثة أيام ، فمتى مضت ثلاثة أيام ولم يردد لم يقبل قوله : إني لم أعرفها إلا أن يدلي بحجة تقوم له بها بينة تصدقه ، أو عذر حال بينه وبين ذلك ، وإلا فلا يقبل قوله في ذلك أصلا سواء كانت كبيرة أو صغيرة ؛ فالحكم في ذلك واحد لأنه بالتمكن كأنه أتي من قبل نفسه ولو لا ذلك لما استقر حكم في بيع فاعلم ذلك موفقا.

وسأل أيده الله عن رجل ضارب رجل في مال ، وأقام المضارب يعمل فيه ، ثم احتاج رب المال وطلب قماشه ، وامتنع المضارب وقال : قد شريت بها بضاعة يقع الخسارة فيها ، وأنا لا أبيعها إلا بربح ، ورب المال مديون محتاج ليس معه سوى هذا المال هل يحكم على المضارب ببيعه ويسلم قماش صاحب المال إليه أم لا؟ أم يكون للمضارب لزمه وتجري الفائدة فيه طالت المدة أم قصرت ، كثرت حاجة رب المال أو قلت؟ وإن كان للمضارب تحري المصلحة في يده لم تكن المدة طويلة أم قصيرة؟

الكلام في ذلك : أن رب المال إذا احتاج إلى ماله لقضاء الدين أو لنفقة على نفسه وأولاده كان ذلك عذرا في نقض مال المضاربة لأن عقد المضاربة لا يكون أقوى من العتق فعتق المدبر ينتقض بحاجة سيده لقضاء دينه وما جرى مجراه ؛ فإن قال : أتحرى الفائدة وقد عنيت ، وتعنت في طلب البيع والشراء كان أطول مدة ينتظر فيها الفائدة ويحكم له بها ويضرب الأجل أربعين يوما لا

٤٦٠