تفسير التّحرير والتّنوير - ج ٢٤

الشيخ محمّد الطاهر ابن عاشور

تفسير التّحرير والتّنوير - ج ٢٤

المؤلف:

الشيخ محمّد الطاهر ابن عاشور


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة التاريخ العربي للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٢٦٨

والتشاكس : شدة الاختلاف ، وشدّة الاختلاف في الرجل الاختلاف في استخدامه وتوجيهه.

وقرأ الجمهور (سَلَماً) بفتح السين وفتح اللام بعدها ميم وهو اسم مصدر : سلم له ، إذا خلص. وقرأه ابن كثير وأبو عمرو ويعقوب سالما بصيغة اسم الفاعل وهو من : سلم ، إذا خلص ، واختار هذه القراءة أبو عبيد ولا وجه له ، والحق أنهما سواء كما أيده النحّاس وأبو حاتم ، والمعنى : أنه لا شركة فيه للرجل. وهذا تمثيل لحال المشرك في تقسّم عقله بين آلهة كثيرين فهو في حيرة وشك من رضى بعضهم عنه وغضب بعض ، وفي تردد عبادته إن أرضى بها أحد آلهته ، لعله يغضب بها ضده ، فرغباتهم مختلفة وبعض القبائل أولى ببعض الأصنام من بعض ، قال تعالى : (وَلَعَلا بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ) [المؤمنون : ٩١] ، ويبقى هو ضائعا لا يدري على أيهم يعتمد ، فوهمه شعاع ، وقلبه أوزاع ، بحال مملوك اشترك فيه مالكون لا يخلون من أن يكون بينهم اختلاف وتنازع ، فهم يتعاورونه في مهن شتّى ويتدافعونه في حوائجهم ، فهو حيران في إرضائهم تعبان في أداء حقوقهم لا يستقل لحظة ولا يتمكن من استراحة.

ويقابله تمثيل حال المسلم الموحّد يقوم بما كلّفه ربه عارفا بمرضاته مؤملا رضاه وجزاءه ، مستقرّ البال ، بحال العبد المملوك الخالص لمالك واحد قد عرف مراد مولاه وعلم ما أوجبه عليه ففهمه واحد وقلبه مجتمع.

وكذلك الحال في كل متّبع حق ومتبع باطل فإن الحق هو الموافق لما في الوجود والواقع ، والباطل مخالف لما في الواقع ، فمتبع الحق لا يعترضه ما يشوش عليه باله ولا ما يثقل عليه أعماله ، ومتبع الباطل يتعثر به في مزالق الخطى ويتخبط في أعماله بين تناقض وخطأ.

ثم قال : (هَلْ يَسْتَوِيانِ مَثَلاً) ، أي هل يكون هذان الرجلان المشبهان مستويين حالا بعد ما علمتم من اختلاف حالي المشبهين بهما. والاستفهام في قوله : (هَلْ يَسْتَوِيانِ) يجوز أن يكون تقريريا ، ويجوز أن يكون إنكاريا ، وجيء فيه ب ـ (هَلْ) لتحقيق التقرير أو الإنكار. وانتصب (مَثَلاً) على التمييز لنسبة (يَسْتَوِيانِ).

والمثل : الحال. والتقدير : هل يستوي حالاهما ، والاستواء يقتضي شيئين فأكثر ، وإنما أفرد التمييز المراد به الجنس ، وقد عرف التعدد من فاعل (يَسْتَوِيانِ) ولو أسند الفعل إلى ما وقع به التمييز لقيل : هل يستوي مثلاهما.

٨١

وجملة (الْحَمْدُ لِلَّهِ) يجوز أن تكون جوابا للاستفهام التقريري بناء على أن أحد الظرفين المقرر عليهما محقق الوقوع لا يسع المقرر عليه إلا الإقرار به ، فيقدّرون : أنهم أقروا بعدم استوائهما في الحالة ، أي بأن أحدهما أفضل من الآخر ، فإن مثل هذا الاستفهام لا ينتظر السائل جوابا عنه ، فلذلك يصح أن يتولى الجواب عنه قبل أن يجيب المسئول كقوله تعالى : (عَمَّ يَتَساءَلُونَ* عَنِ النَّبَإِ الْعَظِيمِ) [النبأ : ١ ـ ٢] ، وقد يبنى على أن المسئول اعترف فيؤتى بما يناسب اعترافه كما هنا ، فكأنهم قالوا : لا يستويان ، وذلك هو ما يبتغيه المتكلم من استفهامه ، فلما وافق جوابهم بغية المستفهم حمد الله على نهوض حجته ، فتكون الجملة استئنافا ، فموقعها كموقع النتيجة بعد الدليل ، وتكون جملة (بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ) قرينة على أنهم نزّلوا منزلة من علم فأقر وأنهم ليسوا كذلك في نفس الأمر ، ويجوز أن تكون معترضة إذا جعل الاستفهام إنكاريا فتكون معترضة بين الإنكار وبين الإضراب الانتقالي في قوله (بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ) أي لا يعلمون عدم استواء الحالتين ولو علموا لاختاروا لأنفسهم الحسنى منهما ، ولما أصرّوا على الإشراك.

وأفاد هذا أن ما انتحلوه من الشرك وتكاذيبه لا يمتّ إلى العلم بصلة فهو جهالة واختلاق. و (بَلْ) للإضراب الانتقالي. وأسند عدم العلم لأكثرهم لأن أكثرهم عامة أتباع لزعمائهم الذين سنّوا لهم الإشراك وشرائعه انتفاعا بالجاه والثناء الكاذب بحيث غشّى ذلك على عملهم.

[٣٠ ـ ٣١] (إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ (٣٠) ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ عِنْدَ رَبِّكُمْ تَخْتَصِمُونَ (٣١))

لمّا جرى الكلام من أول السورة في مهيع إبطال الشرك وإثبات الوحدانية للإله ، وتوضيح الاختلاف بين حال المشركين وحال الموحّدين المؤمنين بما ينبئ بتفضيل حال المؤمنين ، وفي مهيع إقامة الحجة على بطلان الشرك وعلى أحقيّة الإيمان ، وإرشاد المشركين إلى التبصر في هذا القرآن ، وتخلل في ذلك ما يقتضي أنهم غير مقلعين عن باطلهم ، وختم بتسجيل جهلهم وعدم علمهم ، ختم هذا الغرض بإحالتهم على حكم الله بينهم وبين المؤمنين يوم القيامة حين لا يستطيعون إنكارا ، وحين يلتفتون فلا يرون إلا نارا.

وقدم لذلك تذكيرهم بأن الناس كلهم صائرون إلى الموت فإن الموت آخر ما يذكر به السادر في غلوائه إذا كان قد اغتر بعظمة الحياة ولم يتفكر في اختيار طريق السلامة

٨٢

والنجاة ، وهذا من انتهاز القرآن فرص الإرشاد والموعظة.

فالمقصود هو قوله : (إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ عِنْدَ رَبِّكُمْ تَخْتَصِمُونَ) فاغتنم هذا الغرض ليجتلب معه موعظة بما يتقدمه من الحوادث عسى أن يكون لهم بها معتبر ، فحصلت بهذا فوائد : منها تمهيد ذكر يوم القيامة ، ومنها التذكير بزوال هذه الحياة ، فهذان عامّان للمشركين والمؤمنين ، ومنها حثّ المؤمنين على المبادرة للعمل الصالح ، ومنها إشعارهم بأن الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم يموت كما مات النبيئون من قبله ليغتنموا الانتفاع به في حياته ويحرصوا على ملازمة مجلسه ، ومنها أن لا يختلفوا في موته كما اختلفت الأمم في غيره ، ومنها تعليم المسلمين أن الله سوّى في الموت بين الخلق دون رعي لتفاضلهم في الحياة لتكثر السّلوة وتقل الحسرة.

فجملتا (إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ) استئناف ، وعطف عليهما (ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ عِنْدَ رَبِّكُمْ تَخْتَصِمُونَ) بحرف (ثُمَ) الدال على الترتيب الرتبي لأن الإنباء بالفصل بينهم يوم القيامة أهم في هذا المقام من الإنباء بأنهم صائرون إلى الموت.

والخطاب للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وهو خبر مستعمل في التعريض بالمشركين إذ كانوا يقولون : (نَتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ) [الطور : ٣٠] ، والمعنى : أن الموت يأتيك ويأتيهم فما يدري القائلون : (نَتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ) أن يكونوا يموتون قبلك ، وكذلك كان ، فقد رأى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم مصارع أشدّ أعدائه في قليب بدر ، قال عبد الله بن مسعود : دعا رسول الله على أبي جهل وعتبة بن ربيعة وشيبة بن ربيعة والوليد بن عتبة وأمية بن خلف وعقبة بن أبي معيط وعمارة بن الوليد فو الذي نفسي بيده لقد رأيت الذين عدّهم رسول الله صرعى في القليب قليب بدر.

وضمير الغيبة في (وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ) للمشركين المتحدث عنهم ، وأما المؤمنون فلا غرض هنا للإخبار بأنهم ميّتون كما هو بيّن من تفسير الآية. وتأكيد الخبرين ب ـ (إنّ) لتحقيق المعنى التعريضي المقصود منها.

والمراد بالميت : الصائر إلى الموت فهو من استعمال الوصف فيمن سيتصف به في المستقبل تنبيها على تحقيق وقوعه مثل استعمال اسم الفاعل في المستقبل كقوله تعالى : (إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً) [البقرة : ٣٠].

والميت : هو من اتصف بالموت ، أي زالت عنه الحياة ، ومثله : الميت بتخفيف

٨٣

السكون على الياء ، والتحقيق أنه لا فرق بينهما خلافا للكسائي والفراء.

وتأكيد جملة (إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ عِنْدَ رَبِّكُمْ تَخْتَصِمُونَ) لرد إنكار المشركين البعث. وتقديم (عِنْدَ رَبِّكُمْ) على (تَخْتَصِمُونَ) للاهتمام ورعاية الفاصلة.

والاختصام : كناية عن الحكم بينهم ، أي يحكم بينكم فيما اختصمتم فيه في الدنيا من اثبات المشركين آلهة وإبطالكم ذلك ، فهو كقوله تعالى : (إِنَّ رَبَّكَ لَيَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فِيما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ) [النحل : ١٢٤]. ويجوز أن يكون الاختصام أطلق على حكاية ما وقع بينهم في الدنيا حين تعرض أعمالهم ، كما يقال : هذا تخاصم فلان وفلان ، في طالع محضر خصومة ومقاولة بينهما يقرأ بين يدي القاضي.

ويجوز أن تصوّر خصومة بين الفريقين يومئذ ليفتضح المبطلون ويبهج أهل الحق على نحو ما قال تعالى : (إِنَّ ذلِكَ لَحَقٌّ تَخاصُمُ أَهْلِ النَّارِ) [ص : ٦٤].

وعلى الوجه الأول فضمير (إِنَّكُمْ) عائد إلى مجموع ما عاد إليه ضمير (إِنَّكَ) و (إِنَّهُمْ).

وعلى الوجهين الأخيرين يجوز أن يكون الضمير كما في الوجه الأول. ويجوز أن يكون عائدا إلى جميع الأمة وهو اختصام الظلامات ، وقد ورد تأويل الضمير على هذا المعنى فيما رواه النسائي وغيره عن عبد الله بن عمر قال : «لما نزلت هذه الآية قلنا : كيف نختصم ونحن إخوان ، فلما قتل عثمان وضرب بعضنا وجه بعض بالسيف قلنا : هذا الخصام الذي وعدنا ربنا». وروى سعيد بن منصور عن أبي سعيد الخدري مثل مقالة ابن عمر ولكن أبا سعيد قال : «فلما كان يوم صفّين وشد بعضنا على بعض بالسيوف قلنا : نعم هو ذا». وسواء شملت الآية هذه المحامل وهو الأليق ، أو لم تشملها فالمقصود الأصلي منها هو تخاصم أهل الإيمان وأهل الشرك.

(فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَبَ عَلَى اللهِ وَكَذَّبَ بِالصِّدْقِ إِذْ جاءَهُ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوىً لِلْكافِرِينَ (٣٢))

أفادت الفاء تفريع ما بعدها على ما قبلها تفريع القضاء عن الخصومة التي في قوله : (ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ عِنْدَ رَبِّكُمْ تَخْتَصِمُونَ) [الزمر : ٣١] إذ قد علمت أن الاختصام كنّي به عن الحكم بينهم فيما خالفوا فيه وأنكروه ، والمعنى : يقضي بينكم يوم القيامة فيكون

٨٤

القضاء على من كذّب على الله وكذّب بالصدق إذ جاءه إذ هو الذي لا أظلم منه ، أي فيكون القضاء على المشركين إذ كذبوا على الله بنسبة الشركاء إليه والبنات ، وكذّبوا بالصدق وهو القرآن ، وما صدق (مِمَّنْ كَذَبَ عَلَى اللهِ) الفريق الذين في قوله : (وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ) [الزمر : ٣٠] وهم المعنيون في قوله تعالى : (وَقِيلَ لِلظَّالِمِينَ ذُوقُوا ما كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ) [الزمر : ٢٤].

وقد كني عن كونهم مدينين بتحقيق أنهم أظلم لأن من العدل أن لا يقرّ الظالم على ظلمه فإذا وصف الخصم بأنه ظالم علم أنه محكوم عليه كما قال تعالى حكاية عن داود : (قالَ لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤالِ نَعْجَتِكَ إِلى نِعاجِهِ) [ص : ٢٤]. وقد عدل عن صوغ الحكم عليهم بصيغة الإخبار إلى صوغه في صورة الاستفهام للإيماء إلى أن السامع لا يسعه إلّا الجواب بأنهم أظلم.

فالاستفهام مستعمل مجازا مرسلا أو كناية مراد به أنهم أظلم الظالمين وأنه لا ظالم أظلم منهم ، فآل معناه إلى نفي أن يكون فريق أظلم منهم فإنهم أتوا أصنافا من الظلم العظيم : ظلم الاعتداء على حرمة الرب بالكذب في صفاته إذ زعموا أن له شركاء في الربوبية ، والكذب عليه بادعاء أنه أمرهم بما هم عليه من الباطل ، وظلم الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم بتكذيبه ، وظلم القرآن بنسبته إلى الباطل ، وظلم المؤمنين بالأذى ، وظلم حقائق العالم بقلبها وإفسادها ، وظلم أنفسهم بإقحامها في العذاب الخالد.

وعدل عن الإتيان بضميرهم إلى الإتيان بالموصول لما في الصلة من الإيماء إلى وجه كونهم أظلم الناس. وإنما اقتصر في التعليل على أنهم كذبوا على الله وكذّبوا بالصدق لأن هذين الكذبين هما جماع ما أتوا به من الظلم المذكور آنفا.

والصدق : ضد الكذب. والمراد بالصدق القرآن الذي جاء به النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ومجيء الصدق إليهم : بلوغه إياهم ، أي سماعهم إياه وفهمهم فإنه بلسانهم وجاء بأفصح بيان بحيث لا يعرض عنه إلا مكابر مؤثر حظوظ الشهوة والباطل على حظوظ الإنصاف والنجاة.

وفي الجمع بين كلمة (الصدق) وفعل (كَذَبَ) محسن الطباق.

و (إِذْ جاءَهُ) متعلق ب (كَذَبَ) ، و (إِذْ) ظرف زمن ماض وهو مشعر بالمقارنة بين الزمن الذي تدل عليه الجملة المضاف إليها ، وحصول متعلقه ، فقوله : (إِذْ جاءَهُ) يدل

٨٥

على أنه كذّب بالحق بمجرد بلوغه إياه بدون مهلة ، أي بادر بالتكذيب بالحق عند بلوغه إياه من غير وقفة لإعمال رؤية ولا اهتمام بميز بين حق وباطل.

وجملة (أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوىً لِلْكافِرِينَ) مبينة لمضمون جملة (فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَبَ عَلَى اللهِ) أي أن ظلمهم أوجب أن يكون مثواهم في جهنم.

والاستفهام تقريري ، وإنما وجّه الاستفهام إلى نفي ما المقصود التقرير به جريا على الغالب في الاستفهام التقريري وهي طريقة إرخاء العنان للمقرّر بحيث يفتح له باب الإنكار علما من المتكلم بأن المخاطب لا يسعه الإنكار فلا يلبث أن يقر بالإثبات. ويجوز أن يكون الاستفهام إنكاريا ردا لاعتقادهم أنهم ناجون من النار الدال عليه تصميمهم على الإعراض عن التدبر في دعوة القرآن.

والكافرون : هم الذين كفروا بالله فأثبتوا له الشركاء أو كذبوا الرسل بعد ظهور دلالة صدقهم ، والتعريف في (الكافرين) للجنس المفيد للاستغراق فشمل الكافرين المتحدث عنهم شمولا أوليا. وتكون الجملة مفيدة للتذييل أيضا ، ويكون اقتضاء مصير الكافرين المتحدث عنهم إلى النار ثابتا بشبه الدليل الذي يعم مصير جميع الجنس الذي هم من أصنافه. وليس في الكلام إظهار في مقام الإضمار.

والمثوى : اسم مكان الثواء ، وهو القرار ، فالمثوى المقر.

[٣٣ ـ ٣٥] (وَالَّذِي جاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ أُولئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ (٣٣) لَهُمْ ما يَشاؤُنَ عِنْدَ رَبِّهِمْ ذلِكَ جَزاءُ الْمُحْسِنِينَ (٣٤) لِيُكَفِّرَ اللهُ عَنْهُمْ أَسْوَأَ الَّذِي عَمِلُوا وَيَجْزِيَهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ الَّذِي كانُوا يَعْمَلُونَ (٣٥))

الذي جاء بالصدق هو محمد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم. والصدق : القرآن كما تقدم آنفا في قوله : (وَكَذَّبَ بِالصِّدْقِ إِذْ جاءَهُ) [الزمر : ٣٢].

وجملة (وَصَدَّقَ بِهِ) صلة موصول محذوف تقديره : والذي صدق به ، لأن المصدق غير الذي جاء بالصدق ، والقرينة ظاهرة لأن الذي صدّق غير الذي جاء بالصدق فالعطف عطف جملة كاملة وليس عطف جملة صلة.

وضمير (بِهِ) يجوز أن يعود على (الصدق) ويجوز أن يعود على الذي (جاءَ بِالصِّدْقِ) ، والتصديق بكليهما متلازم ، وإذ قد كان المصدقون بالقرآن أو بالنبيءصلى‌الله‌عليه‌وسلم من ثبت له هذا الوصف كان مرادا به أصحاب محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم وهم جماعة فلا تقع صفتهم صلة

٨٦

ل (الَّذِي) لأن أصله للمفرد ، فتعين تأويله بفريق ، وقرينته (أُولئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ) ، وإنما أفرد عائد الموصول في قوله : (وَصَدَّقَ) رعيا للفظ (الَّذِي) وذلك كله من الإيجاز.

وروى الطبري بسنده إلى علي بن أبي طالب أنه قال : الذي جاء بالصدق محمدصلى‌الله‌عليه‌وسلم والذي صدق به أبو بكر ، وقاله الكلبي وأبو العالية ، ومحمله على أن أبا بكر أول من صدّق النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

وجملة (أُولئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ) خبر عن اسم الموصول. وجيء باسم الإشارة للعناية بتمييزهم أكمل تمييز. وضمير الفصل في قوله (هُمُ الْمُتَّقُونَ) يفيد قصر جنس المتقين على (الَّذِي جاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ) لأنه لا متقي يومئذ غير الرسولصلى‌الله‌عليه‌وسلم وأصحابه وكلهم متقون لأن المؤمنين بالنبيء صلى‌الله‌عليه‌وسلم لما أشرقت على نفوسهم أنوار الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم تطهرت ضمائرهم من كل سيئة فكانوا محفوظين من الله بالتقوى قال تعالى : (كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ) [آل عمران : ١١٠]. والمعنى : أولئك هم الذين تحقق فيهم ما أريد من إنزال القرآن الذي أشير إليه في قوله : (لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ) [الزمر : ٢٨].

وجملة (لَهُمْ ما يَشاؤُنَ عِنْدَ رَبِّهِمْ) مستأنفة استئنافا بيانيا لأنهم لما قصر عليهم جنس المتقين كان ذلك مشعرا بمزية عظيمة فكان يقتضي أن يسأل السامع عن جزاء هذه المزية فبين له أن لهم ما يشاءون عند الله. و (ما يَشاؤُنَ) هو ما يريدون ويتمنون ، أي يعطيهم الله ما يطلبون في الجنة.

ومعنى (عِنْدَ رَبِّهِمْ) أن الله ادّخر لهم ما يبتغونه ، وهذا من صيغ الالتزام ووعد الإيجاب ، يقال : لك عندي كذا أي ألتزم لك بكذا ، ثم يجوز أن الله يلهمهم أن يشاءوا ما لا يتجاوز قدر ما عين الله من الدرجات في الجنة فإن أهل الجنة متفاوتون في الدرجات. وفي الحديث : «إن الله يقول لأحدهم : تمنّه ، فلا يزال يتمنى حتى تنقطع به الأماني فيقول الله لك ذلك وعشرة أمثاله معه».

ويجوز أن (ما يَشاؤُنَ) مما يقع تحت أنظارهم في قصورهم ويحجب الله عنهم ما فوق ذلك بحيث لا يسألون إلا ما هو من عطاء أمثالهم وهو عظيم ويقلع الله من نفوسهم ما ليس من حظوظهم. ويجوز أن (ما يَشاؤُنَ) كناية عن سعة ما يعطونه كما ورد في الحديث «ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر» وهذا كما يقول من أسديت إليه بعمل عظيم : لك عليّ حكمك ، أو لك عندي ما تسأل ، وأنت تريد ما هو غاية الإحسان لأمثاله.

وعدل عن اسم الجلالة إلى وصف (رَبِّهِمْ) في قوله : (عِنْدَ رَبِّهِمْ) إيماء إلى أنه

٨٧

يعطيهم عطاء الربوبية والإيثار بالخير.

ثم نوه بهذا الوعد بقوله : (ذلِكَ جَزاءُ الْمُحْسِنِينَ) والمشار إليه هو ما يشاءون لما تضمنه من أنه جزاء لهم على التصديق. وأشير إليه باسم الإشارة لتضمنه تعظيما لشأن المشار إليه. والمراد بالمحسنين أولئك الموصوفون بأنهم المتقون ، وكان مقتضى الظاهر أن يؤتى بضميرهم فيقال : ذلك جزاؤهم ، فوقع الإظهار في مقام الإضمار لإفادة الثناء عليهم بأنهم محسنون.

والإحسان : هو كمال التقوى لأنه فسره النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بأنه : «أن تعبد الله كأنك تراه» وأيّ إحسان وأيّ تقوى أعظم من نبذهم ما نشئوا عليه من عبادة الأصنام ، ومن تحملهم مخالفة أهليهم وذويهم وعداوتهم وأذاهم ، ومن صبرهم على مصادرة أموالهم ومفارقة نسائهم تصديقا للذي جاء بالصدق وإيثارا لرضى الله على شهوة النفس ورضى العشيرة.

وقوله : (لِيُكَفِّرَ اللهُ عَنْهُمْ أَسْوَأَ الَّذِي عَمِلُوا) اللام للتعليل وهي تتعلق بفعل محذوف دل عليه قوله : (لَهُمْ ما يَشاؤُنَ عِنْدَ رَبِّهِمْ) ، والتقدير : وعدهم الله بذلك والتزم لهم ذلك ليكفر عنهم أسوأ الذي عملوا. والمعنى : أن الله وعدهم وعدا مطلقا ليكفر عنهم أسوأ ما عملوه ، أي ما وعدهم بذلك الجزاء إلا لأنه أراد أن يكفر عنهم سيئات ما عملوا.

والمقصود من هذا الخبر إعلامهم به ليطمئنوا من عدم مؤاخذتهم على ما فرط منهم من الشرك وأحواله.

و (أَسْوَأَ) يجوز أن يكون باقيا على ظاهر اسم التفضيل من اقتضاء مفضل عليه ، فالمراد بأسوإ عملهم هو أعظمه سوءا وهو الشرك ، سئل النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : أيّ الذنب أعظم؟ فقال : «أن تدعو لله ندّا وهو خلقك». وإضافته إلى (الَّذِي عَمِلُوا) إضافة حقيقية ، ومعنى كون الشرك مما عملوا باعتبار أن الشرك عمل قلبي أو باعتبار ما يستتبعه من السجود للصنم ، وإذا كفّر عنهم أسوأ الذي عملوا كفّر عنهم ما دونه من سيّئ أعمالهم بدلالة الفحوى ، فأفاد أنه يكفر عنهم جميع ما عملوا من سيئات ، فإن أريد بذلك ما سبق قبل الإسلام فالآية تعم كل من صدّق بالرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم والقرآن بعد أن كان كافرا فإن الإسلام يجبّ ما قبله ، وإن أريد بذلك ما عسى أن يعمله أحد منهم من الكبائر في الإسلام كان هذا التكفير خصوصية لأصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فإن فضل الصحبة عظيم. روي عن رسول الله أنه قال : «لا تسبّوا أصحابي فو الذي نفسي بيده لو أن أحدكم أنفق مثل أحد ذهبا ما أدرك مدّ أحدهم ولا نصيفه».

٨٨

ويجوز أن يكون (أَسْوَأَ) مسلوب المفاضلة وإنما هو مجاز في السوء العظيم على نحو قوله تعالى : (قالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ) [يوسف : ٣٣] أي العمل الشديد السوء ، وهو الكبائر ، وتكون إضافته بيانية. وفي هذه الآية دلالة على أن رتبة صحبة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم عظيمة.

وقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «الله الله في أصحابي لا تتخذوهم غرضا بعدي فمن أحبّهم فبحبّي أحبّهم ومن أبغضهم فببغضي أبغضهم ومن آذاهم فقد آذاني ومن آذاني فقد آذى الله ومن آذى الله فيوشك أن يأخذه». وقد أوصى أئمة سلفنا الصالح أن لا يذكر أحد من أصحاب الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلّا بأحسن ذكر ، وبالإمساك عما شجر بينهم ، وأنهم أحق الناس بأن يلتمس لهم أحسن المخارج فيما جرى بين بعضهم ، ويظنّ بهم أحسن المذاهب ، ولذلك اتفق السلف على تفسيق ابن الأشتر النخعي ومن لف لفه من الثوّار الذين جاءوا من مصر إلى المدينة لخلع عثمان بن عفان ، واتفقوا على أن أصحاب الجمل وأصحاب صفّين كانوا متنازعين عن اجتهاد وما دفعهم عليه إلا السعي لصلاح الإسلام والذبّ عن جامعته من أن تتسرب إليها الفرقة والاختلال ، فإنهم جميعا قدوتنا وواسطة تبليغ الشريعة إلينا ، والطعن في بعضهم يفضي إلى مخاوف في الدين ، ولذلك أثبت علماؤنا عدالة جميع أصحاب النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم.

وإظهار اسم الجلالة في موضع الإضمار بضمير (رَبِّهِمْ) في قوله : (لِيُكَفِّرَ اللهُ عَنْهُمْ) لزيادة تمكن الإخبار بتكفير سيئاتهم تمكينا لاطمئنان نفوسهم بوعد ربهم.

وعطف على الفعل المجعول علة أولى فعل هو علة ثانية وهو : (وَيَجْزِيَهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ الَّذِي كانُوا يَعْمَلُونَ). وهو المقصود من التعليل للوعد الذي تضمنه قوله : (لَهُمْ ما يَشاؤُنَ عِنْدَ رَبِّهِمْ).

والبناء في قوله : (بِأَحْسَنِ الَّذِي كانُوا يَعْمَلُونَ) للسببية وهي ظرف مستقرّ صفة ل (أَجْرَهُمْ) وليست متعلقة بفعل (يَجْزِيَهُمْ) ، أي يجزيهم أجرا على أحسن أعمالهم. وإذا كان الجزاء على العمل الأحسن بها الوعد وهو (لَهُمْ ما يَشاؤُنَ عِنْدَ رَبِّهِمْ) ، فدل على أنهم يجازون على ما هو دون الأحسن من محاسن أعمالهم ، بدلالة إيذان وصف «الأحسن» بأن علة الجزاء هي الأحسنية وهي تتضمن أنّ لمعنى الحسن تأثيرا في الجزاء فإذا كان جزاء أحسن أعمالهم أنّ لهم ما يشاءون عند ربهم كان جزاء ما هو دون الأحسن من أعمالهم جزاء دون ذلك بأن يجازوا بزيادة وتنفيل على ما استحقوه على أحسن أعمالهم بزيادة تنعم أو كرامة أو نحو ذلك.

٨٩

وفي «مفاتيح الغيب» : أن مقاتلا كان شيخ المرجئة وهم الذين يقولون لا يضر شيء من المعاصي مع الإيمان واحتجّ بهذه الآية فقال : إنها تدل على أن من صدّق الأنبياء والرسل فإنه تعالى يكفّر عنهم أسوأ الذي عملوا. ولا يجوز حمل الأسوأ على الكفر السابق لأن الظاهر من الآية يدل على أن التكفير إنما حصل في حال ما وصفهم الله بالتقوى وهو التقوى من الشرك وإذا كان كذلك وجب أن يكون المراد من الأسوأ الكبائر التي يأتي بها بعد الإيمان ا ه. ولم يجب عنه في «مفاتيح الغيب» وجوابه : لأن الأسوأ محتمل أن أدلة كثيرة أخرى تعارض الاستدلال بعمومها. وفي الجمع بين كلمة (أَسْوَأَ) وكملة أحسن محسّن الطّبق.

[٣٦ ـ ٣٧] (أَلَيْسَ اللهُ بِكافٍ عَبْدَهُ وَيُخَوِّفُونَكَ بِالَّذِينَ مِنْ دُونِهِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللهُ فَما لَهُ مِنْ هادٍ (٣٦) وَمَنْ يَهْدِ اللهُ فَما لَهُ مِنْ مُضِلٍّ أَلَيْسَ اللهُ بِعَزِيزٍ ذِي انْتِقامٍ (٣٧))

(أَلَيْسَ اللهُ بِكافٍ عَبْدَهُ وَيُخَوِّفُونَكَ بِالَّذِينَ مِنْ دُونِهِ).

لمّا ضرب الله مثلا للمشركين والمؤمنين بمثل رجل فيه شركاء متشاكسون ورجل خالص لرجل ، كان ذلك المثل مثيرا لأن يقول قائل المشركين لتتألبنّ شركاؤنا على الذي جاء يحقرها ويسبها ، ومثيرا لحمية المشركين أن ينتصروا لآلهتهم كما قال مشركو قوم إبراهيم (حَرِّقُوهُ وَانْصُرُوا آلِهَتَكُمْ) [الأنبياء : ٦٨]. وربما أنطقتهم حميتهم بتخويف الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ففي «الكشاف» و «تفسير القرطبي» : أن قريشا قالوا لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إنّا نخاف أن تخبلك آلهتنا وإنا نخشى عليك معرتها (بعين بعد الميم بمعنى الإصابة بمكروه يعنون المضرة) لعيبك إياها». وفي «تفسير ابن عطية» ما هو بمعنى هذا ، فلمّا حكى تكذيبهم النبي عطف الكلام إلى ما هددوه به وخوفوه من شر أصنامهم بقوله : (أَلَيْسَ اللهُ بِكافٍ عَبْدَهُ وَيُخَوِّفُونَكَ بِالَّذِينَ مِنْ دُونِهِ).

فهذا الكلام معطوف على قوله : (ضَرَبَ اللهُ مَثَلاً رَجُلاً فِيهِ شُرَكاءُ) [الزمر : ٢٩] الآية والمعنى : أن الله الذي أفردته بالعبادة هو كافيك شر المشركين وباطل آلهتهم التي عبدوها من دونه ، فقوله : (أَلَيْسَ اللهُ بِكافٍ عَبْدَهُ) تمهيد لقوله : (وَيُخَوِّفُونَكَ بِالَّذِينَ مِنْ دُونِهِ) قدم عليه لتعجيل مساءة المشركين بذلك ، ويستتبع ذلك تعجيل مسرة الرسولصلى‌الله‌عليه‌وسلم بأن الله ضامن له الوقاية كقوله : (فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللهُ) [البقرة : ١٣٧].

وأصل النظم : ويخوّفونك بالذين من دون الله والله كافيك ، فغير مجرى النظم لهذا

٩٠

الغرض ، ولك أن تجعل نظم الكلام على ترتيبه في اللفظ فتجعل جملة (أَلَيْسَ اللهُ بِكافٍ عَبْدَهُ) استئنافا ، وتصير جملة (وَيُخَوِّفُونَكَ) حالا.

ووقع التعبير عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالاسم الظاهر وهو (عَبْدَهُ) دون ضمير الخطاب لأن المقصود توجيه الكلام إلى المشركين ، وحذف المفعول الثاني لكاف لظهور أن المقصود كافيك أذاهم ، فأما الأصنام فلا تستطيع أذى حتى يكفاه الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم. والاستفهام إنكار عليهم ظنّهم أن لا حامي للرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم من ضرّ الأصنام. والمراد ب (عَبْدَهُ) هو الرسولصلى‌الله‌عليه‌وسلم لا محالة وبقرينة و (يُخَوِّفُونَكَ).

وفي استحضار الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم بوصف العبودية وإضافته إلى ضمير الجلالة ، معنى عظيم من تشريفه بهذه الإضافة وتحقيق أنه غير مسلمه إلى أعدائه.

والخطاب في (وَيُخَوِّفُونَكَ) للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وهو التفات من ضمير الغيبة العائد على (عَبْدَهُ) ، ونكتة هذا الالتفات هو تمحيض قصد النبي بمضمون هذه الجملة بخلاف جملة (أَلَيْسَ اللهُ بِكافٍ عَبْدَهُ) كما علمت آنفا.

و (بِالَّذِينَ مِنْ دُونِهِ) هم الأصنام. عبر عنهم وهم حجارة بموصول العقلاء لكثرة استعمال التعبير عنهم في الكلام بصيغ العقلاء. و (مِنْ دُونِهِ) صلة الموصول على تقدير محذوف يتعلق به المجرور دل عليه السياق ، تقديره : اتخذوهم من دونه أو عبدوهم من دونه.

ووقع في «تفسير البيضاوي» أن سبب نزول هذه الآية هو خبر توجيه النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم خالد بن الوليد إلى هدم العزّى وأن سادن العزّى قال لخالد : أحذّركها يا خالد فإن لها شدة لا يقوم لها شيء ، فعمد خالد إلى العزّى فهشم أنفها حتى كسرها بالفأس فأنزل الله هذه الآية. وتأول الخطاب في قوله : (وَيُخَوِّفُونَكَ) بأن تخويفهم خالدا أرادوا به تخويف النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فتكون هذه الآية مدنية وسياق الآية ناب عنه. ولعل بعض من قال هذا إنما أراد الاستشهاد لتخويف المشركين النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم من أصنامهم بمثال مشهور.

وقرأ الجمهور (بِكافٍ عَبْدَهُ). وقرأ حمزة والكسائي وأبو جعفر وخلف عباده بصيغة الجمع أي النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم والمؤمنين فإنهم لما خوّفوا النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقد أرادوا تخويفه وتخويف أتباعه وأن الله كفاهم شرهم.

(وَمَنْ يُضْلِلِ اللهُ فَما لَهُ مِنْ هادٍ (٣٦) وَمَنْ يَهْدِ اللهُ فَما لَهُ مِنْ مُضِلٍ) اعتراض بين جملة (أَلَيْسَ اللهُ بِكافٍ عَبْدَهُ) الآية وجملة (أَلَيْسَ اللهُ بِعَزِيزٍ ذِي

٩١

انْتِقامٍ) قصد من هذا الاعتراض أن ضلالهم داء عياء لأنه ضلال مكوّن في نفوسهم وجبلّتهم قد ثبّتته الأيام ، ورسخه تعاقب الأجيال ، فران بغشاوته على ألبابهم ، فلما صار ضلالهم كالمجبول المطبوع أسند إيجاده إلى الله كناية عن تعسر أو تعذر اقتلاعه من نفوسهم.

وأريد من نفي الهادي من قوله : (فَما لَهُ مِنْ هادٍ) نفي حصول الاهتداء ، فكني عن عدم حصول الهدى بانتفاء الهادي لأن عدم الاهتداء يجعل هاديهم كالمنفي. وقد تقدم قوله في سورة الأعراف [١٨٦] (مَنْ يُضْلِلِ اللهُ فَلا هادِيَ لَهُ).

والآيتان متساويتان في إفادة نفي جنس الهادي ، إلا أن إفادة ذلك هنا بزيادة (مِنْ) تنصيصا على نفي الجنس. وفي آية الأعراف ببناء هادي على الفتح بعد (لا) النافية للجنس فإن بناء اسمها على الفتح مشعر بأن المراد نفي الجنس نصّا. والاختلاف بين الأسلوبين تفنن في الكلام وهو من مقاصد البلغاء.

وتقديم (لَهُ) على (هادٍ) للاهتمام بضميرهم في مقام نفي الهادي لهم لأن ضلالهم المحكي هنا بالغ في الشناعة إذا بلغ بهم حدّ الطمع في تخويف النبي بأصنامهم في حال ظهور عدم اعتداده بأصنامهم لكل متأمل من حال دعوته ، وإذ بلغ بهم اعتقاد مقدرة أصنامهم مع الغفلة عن قدرة الرب الحقّ ، بخلاف آية الأعراف فإن فيها ذكر إعراضهم عن النظر في ملكوت السماوات والأرض وهو ضلال دون ضلال التخويف من بأس أصنامهم.

وأما جملة (وَمَنْ يَهْدِ اللهُ فَما لَهُ مِنْ مُضِلٍ) فقد اقتضاها أن الكلام الذي اعترضت بعده الجملتان اقتضى فريقين : فريقا متمسكا بالله القادر على النفع والضر وهو النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم والمؤمنون ، وآخر مستمسكا بالأصنام العاجزة عن الأمرين ، فلما بيّن أن ضلال الفريق الثاني ضلال مكين ببيان أن هدى الفريق الآخر راسخ متين فلا مطمع للفريق الضال بأن يجرّوا المهتدين إلى ضلالهم.

(أَلَيْسَ اللهُ بِعَزِيزٍ ذِي انْتِقامٍ).

تعليل لإنكار انتفاء كفاية الله عن ذلك كإنكار أن الله عزيز ذو انتقام ، فلذلك فصلت الجملة عن التي قبلها.

والاستفهام تقريري لأن العلم بعزة الله متقرر في النفوس لاعتراف الكل بإلهيته والإلهية تقتضي العزة ، ولأن العلم بأنه منتقم متقرر من مشاهدة آثار أخذه لبعض الأمم مثل عاد وثمود. فإذا كانوا يقرّون لله بالوصفين المذكورين فما عليهم إلا أن يعلموا أنّه كاف عبده بعزته فلا يقدر أحد على إصابة عبده بسوء ، وبانتقامه من الذين يبتغون لعبده الأذى.

٩٢

والعزيز : صفة مشبهة مشتقة من العزّ ، وهو منعة الجانب وأن لا يناله المتسلط وهو ضد الذل ، وتقدم عند قوله تعالى : (فَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ) في سورة البقرة [٢٠٩].

والانتقام : المكافأة على الشر بشر ، وهو مشتق من النقم وهو الغضب كأنه مطاوعه لأنه مسبب عن النّقم ، وقد تقدم عند قوله تعالى : (فَانْتَقَمْنا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْناهُمْ فِي الْيَمِ) في سورة الأعراف [١٣٦]. وانظر قوله تعالى : (وَاللهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقامٍ) في سورة العقود [٩٥].

(وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللهُ قُلْ أَفَرَأَيْتُمْ ما تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ إِنْ أَرادَنِيَ اللهُ بِضُرٍّ هَلْ هُنَّ كاشِفاتُ ضُرِّهِ أَوْ أَرادَنِي بِرَحْمَةٍ هَلْ هُنَّ مُمْسِكاتُ رَحْمَتِهِ قُلْ حَسْبِيَ اللهُ عَلَيْهِ يَتَوَكَّلُ الْمُتَوَكِّلُونَ (٣٨))

(وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللهُ).

اعتراض بين جملة (أَلَيْسَ اللهُ بِعَزِيزٍ) [الزمر : ٣٧] ، وجملة (قُلْ أَفَرَأَيْتُمْ ما تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ) ، فالواو اعتراضية ، ويجوز أن يكون معطوفا على جملة (أَلَيْسَ اللهُ بِكافٍ عَبْدَهُ) [الزمر : ٣٦] وهو تمهيد لما يأتي بعده من قوله : (قُلْ أَفَرَأَيْتُمْ ما تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ) ، لأنه قصد به التوطئة إليه بما لا نزاع فيه لأنهم يعترفون بأن الله هو المتصرف في عظائم الأمور ، أي خلقهما وما تحويانه ، وتقدم نظيره في سورة العنكبوت.

(قُلْ أَفَرَأَيْتُمْ ما تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ إِنْ أَرادَنِيَ اللهُ بِضُرٍّ هَلْ هُنَّ كاشِفاتُ ضُرِّهِ أَوْ أَرادَنِي بِرَحْمَةٍ هَلْ هُنَّ مُمْسِكاتُ رَحْمَتِهِ قُلْ حَسْبِيَ اللهُ عَلَيْهِ يَتَوَكَّلُ الْمُتَوَكِّلُونَ)

جاءت جملة (قُلْ أَفَرَأَيْتُمْ) على أسلوب حكاية المقاولة والمجاوبة لكلامهم المحكي بجملة (لَيَقُولُنَّ اللهُ) ولذلك لم تعطف الثانية بالواو ولا بالفاء ، والمعنى : ليقولن الله فقل أفرأيتم ما تدعون من دون الله إلخ. والفاء من (أَفَرَأَيْتُمْ) لتفريع الاستفهام الإنكاري على جوابهم تفريعا يفيد محاجّتهم على لازم اعترافهم بأن الله هو خالق السماوات والأرض كما في قوله تعالى : (قُلْ أَفَغَيْرَ اللهِ تَأْمُرُونِّي أَعْبُدُ أَيُّهَا الْجاهِلُونَ) [الزمر : ٦٤]. وهذا تفريع الإلزام على الإقرار ، والنتيجة على الدليل فإنهم لما أقروا بأنه خالق السماوات والأرض يلزمهم أن يقرّوا بأنه المتصرف فيما تحويه السماوات والأرض. والرؤية قلبية ، أي أفظننتم.

و (ما تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ) مفعول (رأيتم) الأول والمفعول الثاني محذوف سدّ مسده جواب الشرط المعترض بعد المفعول الأول على قاعدة اللغة العربية عند اجتماع

٩٣

مبتدأ وشرط أن يجري ما بعدهما على ما يناسب جملة الشرط لأن المفعول الأول لأفعال القلوب في معنى المبتدأ.

وجملة (هَلْ هُنَّ كاشِفاتُ ضُرِّهِ) جواب (إِنْ). واستعمال العرب إذا صدّر الجواب بأداة استفهام غير الهمزة يجوز تجرده عن الفاء الرابطة للجواب كقوله تعالى : (قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتاكُمْ عَذابُ اللهِ بَغْتَةً أَوْ جَهْرَةً هَلْ يُهْلَكُ إِلَّا الْقَوْمُ الظَّالِمُونَ) [الأنعام : ٤٧] ، ويجوز اقترانه بالفاء كقوله : (قالَ يا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَآتانِي مِنْهُ رَحْمَةً فَمَنْ يَنْصُرُنِي مِنَ اللهِ) [هود : ٦٣]. فأما المصدّر بالهمزة فلا يجوز اقترانه بالفاء كقوله : (أَرَأَيْتَ إِنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى أَلَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ اللهَ يَرى) [العلق : ١٣ ، ١٤].

وجواب الشرط دليل على المفعول الثاني لفعل الرؤية. والتقدير : أرأيتم ما تدعون من دون الله كاشفات ضرّه. والهمزة للاستفهام وهو إنكاري إنكارا لهذا الظن.

وجيء بحرف (هَلْ) في جواب الشرط وهي للاستفهام الإنكاري أيضا تأكيدا لما أفادته همزة الاستفهام مع ما في (هل) من إفادة التّحقيق. وضمير (هُنَ) عائد إلى ما الموصولة وكذلك الضمائر المؤنثة الواردة بعده ظاهرة ومستترة ، إما لأن (ما) صدق ما الموصولة هنا أحجار غير عاقلة وجمع غير العقلاء يجري على اعتبار التأنيث ، ولأن ذلك يصير الكلام من قبيل الكلام الموجه بأن آلهتهم كالإناث لا تقدر على النصر.

والكاشفات : المزيلات ، فالكشف مستعار للإزالة بتشبيه المعقول وهو الضرّ بشيء مستتر ، وتشبيه إزالته بكشف الشيء المستور ، أي إخراجه ، وهي مكنية والكشف استعارة تخييلية.

والإمساك أيضا مكنية بتشبيه الرحمة بما يسعف به ، وتشبيه التعرض لحصولها بإمساك صاحب المتاع متاعه عن طالبيه.

وعدل عن تعدية فعل الإرادة للضر والرحمة ، إلى تعديته لضمير المتكلم ذات المضرور والمرحوم مع أن متعلق الإرادات المعاني دون الذوات ، فكان مقتضى الظاهر أن يقال : إن أراد ضرّي أو أراد رحمتي فحق فعل الإرادة إذا قصد تعديته إلى شيئين أن يكون المراد هو المفعول ، وأن يكون ما معه معدّى إليه بحرف الجرّ ، نحو أردت خيرا لزيد ، أو أردت به خيرا ، فإذا عدل عن ذلك قصد به الاهتمام بالمراد به لإيصال المراد إليه حتى كأن ذاته هي المراد لمن يريد إيصال شيء إليه ، وهذا من تعليق الأحكام بالذوات.

٩٤

والمراد أحوال الذوات مثل (حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ) [المائدة : ٣] ، أي أكلها. ونظم التركيب : إن أرادني وأنا متلبس بضرّ منه أو برحمة منه ، قال عمرو بن شاس :

أرادت عرارا بالهوان ومن يرد

عرارا لعمري بالهوان فقد ظلم

وإنما فرض إرادة الضر وإرادة الرحمة في نفسه دون أن يقول : إن أرادكم ، لأن الكلام موجّه إلى ما خوفوه من ضر أصنامهم إياه.

وقرأ الجمهور (كاشِفاتُ ضُرِّهِ) و (مُمْسِكاتُ رَحْمَتِهِ) بإضافة الوصفين إلى الاسمين. وقرأ أبو عمرو ويعقوب بتنوين الوصفين ونصب ضره ورحمته وهو اختلاف في لفظ تعلّق الوصف بمعموله والمعنى واحد.

ولمّا ألقمهم الله بهذه الحجة الحجر وقطعهم فلا يحيروا ببنت شفة أمر رسولهصلى‌الله‌عليه‌وسلم أن يقول : (حَسْبِيَ اللهُ عَلَيْهِ يَتَوَكَّلُ الْمُتَوَكِّلُونَ) ، وإنما أعيد الأمر بالقول ولم ينتظم (حَسْبِيَ اللهُ) في جملة الأمر الأول ، لأن هذا المأمور بأن يقوله ليس المقصود توجيهه إلى المشركين فإن فيما سبقه مقنعا من قلة الاكتراث بأصنامهم ، وإنما المقصود أن يكون هذا القول شعار النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم في جميع شئونه ، وفيه حظ للمؤمنين معه حاصل من قوله: (عَلَيْهِ يَتَوَكَّلُ الْمُتَوَكِّلُونَ) قال تعالى : يا أيها النبي (حَسْبُكَ اللهُ وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ) [الأنفال : ٦٤] ، فإعادة فعل (قُلْ) للتنبيه على استقلال هذا الغرض عن الغرض الذي قبله.

والحسب : الكافي. وتقدم في قوله تعالى : (وَقالُوا حَسْبُنَا اللهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ) في آل عمران [١٧٣]. وحذف المتعلّق في هذه الجملة لعموم المتعلّقات ، أي حسبي الله من كل شيء وفي كل حال.

والمراد بقوله اعتقاده ، ثم تذكّره ، ثم الإعلان به ، لتعليم المسلمين وإغاظة المشركين.

والتوكل : تفويض أمور المفوّض إلى من يكفيه إياه ، وتقدم في قوله : (فَإِذا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ) في سورة آل عمران [١٥٩].

وجملة (عَلَيْهِ يَتَوَكَّلُ الْمُتَوَكِّلُونَ) يجوز أن تكون مما أمر بأن يقوله تذكرا من النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم وتعليما للمسلمين فتكون الجملة تذييلا للتي قبلها لأنها أعمّ منها باعتبار القائلين لأن (حَسْبِيَ اللهُ) يؤول إلى معنى : توكلت على الله ، أي حسبي أنا وحسب كل متوكل ، أي كل مؤمن يعرف الله حق معرفته ويعتمد على كفايته دون غيره ، فتعريف (الْمُتَوَكِّلُونَ)

٩٥

للعموم العرفي ، أي المتوكلون الحقيقيون إذ لا عبرة بغيرهم.

ويجوز أن تكون من كلام الله تعالى خاطب به رسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ولم يأمره بأن يقوله فتكون الجملة تعليلا للأمر بقول : (حَسْبِيَ اللهُ) ، أي اجعل الله حسبك ، لأن أهل التوكل يتوكلون على الله دون غيره وهم الرسل والصالحون وإذ قد كنت من رفيقهم فكن مثلهم في ذلك على نحو قوله تعالى : (أُولئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللهُ فَبِهُداهُمُ اقْتَدِهْ) [الأنعام : ٩٠]. وتقديم المجرور على (يَتَوَكَّلُ) لإفادة الاختصاص لأن أهل التوكل الحقيقيين لا يتوكلون إلا على الله تعالى ، وذلك تعريض بالمشركين إذ اعتمدوا في أمورهم على أصنامهم.

[٣٩ ـ ٤٠] (قُلْ يا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلى مَكانَتِكُمْ إِنِّي عامِلٌ فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ (٣٩) مَنْ يَأْتِيهِ عَذابٌ يُخْزِيهِ وَيَحِلُّ عَلَيْهِ عَذابٌ مُقِيمٌ (٤٠))

لما أبلغهم الله من الموعظة أقصى مبلغ ، ونصب لهم من الحجج أسطع حجة ، وثبّت رسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أرسخ تثبيت ، لا جرم أمر رسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بأن يوادعهم موادعة مستقرب النصر ، ويواعدهم ما أعد لهم من خسر.

وعدم عطف جملة (قُلْ) هذه على جملة (قُلْ حَسْبِيَ اللهُ) [الزمر : ٣٨] لدفع توهم أن يكون أمره (قُلْ حَسْبِيَ اللهُ) لقصد إبلاغه إلى المشركين نظير ترك العطف في البيت المشهور في علم المعاني :

وتظن سلمى أنني أبغي بها

بدلا أراها في الضلال تهيم

لم يعطف جملة : أراها في الضلال ، لئلا يتوهم أنها معطوفة على جملة : أبغي بها بدلا ، ولأنها انتقال من غرض الدعوة والمحاجّة إلى غرض التهديد. وابتدأ المقول بالنداء بوصف القوم لما يشعر به من الترقيق لحالهم والأسف على ضلالهم لأن كونهم قومه يقتضي أن لا يدخرهم نصحا.

والمكانة : المكان ، وتأنيثه روعي فيه معنى البقعة ، استعير للحالة المحيطة بصاحبها إحاطة المكان بالكائن فيه. والمعنى : اعملوا على طريقتكم وحالكم من عداوتي ، وتقدم نظيره في سورة الأنعام [١٣٥].

وقرأ الجمهور (مَكانَتِكُمْ) بصيغة المفرد. وقرأ أبو بكر عن عاصم مكاناتكم بصيغة الجمع بألف وتاء.

وقال تعالى هنا : (مَنْ يَأْتِيهِ عَذابٌ يُخْزِيهِ) ليكون التهديد بعذاب خزي في الدنيا

٩٦

وعذاب مقيم في الآخرة. فأما قوله في سورة الأنعام [١٣٥] : (قُلْ يا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلى مَكانَتِكُمْ إِنِّي عامِلٌ فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ تَكُونُ لَهُ عاقِبَةُ الدَّارِ) فلم يذكر فيها العذاب لأنها جاءت بعد تهديدهم بقوله : (إِنَّ ما تُوعَدُونَ لَآتٍ وَما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ) [الأنعام : ١٣٤].

وحذف متعلّق (إِنِّي عامِلٌ) ليعمّ كل متعلّق يصلح أن يتعلق بعمل مع الاختصار فإن مقابلته بقوله : (اعْمَلُوا عَلى مَكانَتِكُمْ) يدل على أنه أراد من (إِنِّي عامِلٌ) أنه ثابت على عمله في نصحهم ودعوتهم إلى ما ينجيهم. وأن حذف ذلك مشعر بأنه لا يقتصر على مقدار مكانته وحالته بل حالة تزداد كل حين قوة وشدة لا يعتريها تقصير ولا يثبطها إعراضهم ، وهذا من مستتبعات الحذف ولم ننبه عليه في سورة الأنعام وفي سورة هود.

و (مَنْ) استفهامية علّقت فعل (تَعْلَمُونَ) عن العمل في مفعوليه.

والعذاب المخزي هو عذاب الدنيا. والمراد به هنا عذاب السيف يوم بدر. والعذاب المقيم هو عذاب الآخرة ، وإقامته خلوده. وتنوين (عَذابٌ) في الموضعين للتعظيم المراد به التهويل.

وأسند فعل (يَأْتِيهِ) إلى العذاب المخزي لأن الإتيان مشعر بأنه يفاجئهم كما يأتي الطارق. وكذلك إسناد فعل (يَحِلُ) إلى العذاب المقيم لأن الحلول مشعر بالملازمة والإقامة معهم ، وهو عذاب الخلود ، ولذلك يسمى منزل القول حلة ، ويقال للقوم القاطنين غير المسافرين هم حلال ، فكان الفعل مناسبا لوصفه بالمقيم. وتعدية فعل (يَحِلُ) بحرف (على) للدلالة على تمكنه.

(إِنَّا أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ لِلنَّاسِ بِالْحَقِّ فَمَنِ اهْتَدى فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّما يَضِلُّ عَلَيْها وَما أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ (٤١))

الجملة تعليل للأمر بأن يقول لهم اعملوا على مكانتكم المفيد موادعتهم وتهوين تصميم كفرهم عليه ، وتثبيته على دعوته. والمعنى : لأنا نزلنا عليك الكتاب بالحق لفائدة الناس وكفاك ذلك شرفا وهداية وكفاك تبليغه إليهم فمن اهتدى من الناس فهدايته لنفسه بواسطتك ومن ضل فلم يهتد به فضلاله على نفسه وما عليك من ضلالهم تبعة لأنك بلغت ما أمرت به. ولذلك خولف بين ما هنا وبين قوله في صدر السورة (إِنَّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِ) [الزمر : ٢] ، لأن تلك في غرض التنويه بشأن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فناسب أن يكون إنزال الكتاب إليه ، و (لِلنَّاسِ) متعلق ب ـ (أَنْزَلْنا) ، و (بِالْحَقِ) حال من (الْكِتابَ) ،

٩٧

والباء للملابسة ، واللام في (لِلنَّاسِ) للعلة ، أي لأجل الناس. وفي الكلام مضاف مفهوم مما تؤذن به اللام من معنى الفائدة والنفع أي لنفع الناس ، أو مما يؤذن به التفريع في قوله : (فَمَنِ اهْتَدى) إلخ. وفاء (فَمَنِ اهْتَدى فَلِنَفْسِهِ) للتفريع وهو تفريع ناشئ من معنى اللام. و (من) شرطية ، أي من حصل منه الاهتداء في المستقبل فإن اهتداءه لفائدة نفسه لا غير ، أي ليست لك من اهتدائه فائدة لذاتك لأن فائدة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم (وهي شرفه وأجره) ثابتة عن التبليغ سواء اهتدى من اهتدى وضل من ضل.

وتقدم نظير هذه الآية في قوله : (قُلْ يا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جاءَكُمُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنِ اهْتَدى فَإِنَّما يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ) آخر سورة يونس [١٠٨] ، وفي قوله : (وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ وَأَنْ أَتْلُوَا الْقُرْآنَ فَمَنِ اهْتَدى فَإِنَّما يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ) في آخر سورة النمل [٩١ ، ٩٢] ، ولكن جيء في تينك الآيتين بصيغة قصر الاهتداء على نفس المهتدي وترك ذلك في هذه السورة ، ووجه ذلك أن تينك الآيتين واردتان بالأمر بمخاطبة المشركين فكان المقام فيهما مناسبا لإفادة أن فائدة اهتدائهم لا تعود إلا لأنفسهم ، أي ليست لي منفعة من اهتدائهم ، خلافا لهذه الآية فإنها خطاب موجه من الله إلى رسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ليس فيها حال من ينزل منزلة المدل باهتدائه.

أما قوله : (وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّما يَضِلُّ عَلَيْها) فصيغة القصر فيه لتنزيل الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم في أسفه على ضلالهم المفضي بهم إلى العذاب منزلة من يعود عليه من ضلالهم ضر ، فخوطب بصيغة القصر ، وهو قصر قلب على خلاف مقتضى الظاهر. ولذلك اتّحدت الآيات الثلاث في الاشتمال على القصر بالنسبة لجانب ضلالهم فإن قوله في سورة النمل [٩٢] (فَقُلْ إِنَّما أَنَا مِنَ الْمُنْذِرِينَ) في معنى : (فَإِنَّما يَضِلُّ عَلَيْها) ، أي ليس ضلالكم عليّ فإنما أنا من المنذرين. وهذه نكت من دقائق إعجاز القرآن.

وقوله : (وَما أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ) القول فيه كالقول في (وَما أَنَا عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ) في سورة يونس [١٠٨]. وجملة و (وَما أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ) عطف على جملة (فَمَنِ اهْتَدى فَلِنَفْسِهِ) أي لست مأمورا بإرغامهم على الاهتداء ، فصيغ هذا الخبر في جملة اسمية للدلالة على ثبات حكم هذا النفي.

(اللهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِها وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنامِها فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الْأُخْرى إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (٤٢))

٩٨

يصلح هذا أن يكون مثلا لحال ضلال الضالين وهدى المهتدين نشأ عن قوله : (فَمَنِ اهْتَدى فَلِنَفْسِهِ) إلى قوله : (وَما أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ) [الزمر : ٤١].

والمعنى : أن استمرار الضالّ على ضلاله قد يحصل بعده اهتداء وقد يوافيه أجله وهو في ضلاله فضرب المثل لذلك بنوم النائم قد تعقبه إفاقة وقد يموت النائم في نومه ، وهذا تهوين على نفس النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم برجاء إيمان كثير ممن هم يومئذ في ضلال وشرك كما تحقّق ذلك. فتكون الجملة تعليلا للجملة قبلها ولها اتصال بقوله : (أَفَمَنْ شَرَحَ اللهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ) إلى قوله : (فِي ضَلالٍ مُبِينٍ) [الزمر : ٢٢].

ويجوز أن يكون انتقالا إلى استدلال على تفرد الله تعالى بالتصرف في الأحوال فإنه ذكر دليل التصرف بخلق الذوات ابتداء من قوله : (خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِ) إلى قوله : (فِي ظُلُماتٍ ثَلاثٍ) [الزمر : ٥ ، ٦] ، ثم دليل التصرف بخلق أحوال ذوات وإنشاء ذوات من تلك الأحوال وذلك من قوله : (أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَسَلَكَهُ يَنابِيعَ فِي الْأَرْضِ) إلى قوله : (لِأُولِي الْأَلْبابِ) [الزمر : ٢١] وأعقب كل دليل بما يظهر فيه أثره من الموعظة والعبرة والزجر عن مخالفة مقتضاه ، فانتقل هنا إلى الاستدلال بحالة عجيبة من أحوال أنفس المخلوقات وهي حالة الموت وحالة النوم. وقد أنبأ عن الاستدلال قوله : (إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ) ، فهذا دليل للناس من أنفسهم ، قال تعالى : (وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلا تُبْصِرُونَ) [الذاريات : ٢١] وقال : (ضَرَبَ لَكُمْ مَثَلاً مِنْ أَنْفُسِكُمْ) [الروم : ٢٨] ، فتكون الجملة استئنافا ابتدائيا للتدرج في الاستدلال ولها اتصال بجملة (خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِ) وجملة (أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ أَنْزَلَ) المتقدمتين ، وعلى كلا الوجهين أفادت الآية إبراز حقيقتين عظيمتين من نواميس الحياتين النفسية والجسدية وتقديم اسم الجلالة على الخبر الفعلي لإفادة تخصيصه بمضمون الخبر ، أي الله يتوفّى لا غيره فهو قصر حقيقي لإظهار فساد أن أشركوا به آلهة لا تملك تصرفا في أحوال الناس.

والتوفّي : الإماتة ، وسميت توفّيا لأن الله إذا أمات أحدا فقد توفّاه أجله فالله المتوفّي وملك الموت متوفّ أيضا لأنه مباشر التوفّي.

والميت : متوفى بصيغة المفعول ، وشاع ذلك فصار التوفّي مرادفا للإماتة والوفاة مرادفة للموت بقطع النظر عن كيفية تصريف ذلك واشتقاقه من مادة الوفاء.

وتقدم في قوله تعالى : (وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ) في سورة البقرة [٢٣٤] : وقوله : (قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ) في سورة السجدة [١١].

٩٩

والأنفس : جمع نفس ، وهي الشخص والذات قال تعالى : (وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلا تُبْصِرُونَ) وتطلق على الروح الذي به الحياة والإدراك.

ومعنى التوفي يتعلق بالأنفس على كلا الإطلاقين. والمعنى : يتوفّى الناس الذين يموتون فإن الذي يوصف بالموت هو الذات لا الروح وأنّ توفيها سلب الأرواح عنها.

وقوله : (وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ) عطف على الأنفس باعتبار قيد (حِينَ مَوْتِها) لأنه في معنى الوصف فكأنه قيل يتوفى الأنفس التي تموت في حالة نومها ، والأنفس التي لم تمت في نومها فأفاقت. ويتعلق (فِي مَنامِها) بقوله : (يَتَوَفَّى) ، أي ويتوفى أنفسا لم تمت يتوفاها في منامها كل يوم ، فعلم أن المراد بتوفّيها هو منامها ، وهذا جار على وجه التشبيه بحسب عرف اللغة إذ لا يطلق على النائم ميّت ولا متوفى. وهو تشبيه نحي به منحى التنبيه إلى حقيقة علمية فإن حالة النوم حالة انقطاع أهم فوائد الحياة عن الجسد وهي الإدراك سوى أن أعضاءه الرئيسيّة لم تفقد صلاحيتها للعودة إلى أعمالها حين الهبوب من النوم ، ولذلك قال تعالى : (وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ وَيَعْلَمُ ما جَرَحْتُمْ بِالنَّهارِ ثُمَّ يَبْعَثُكُمْ فِيهِ) كما تقدم في سورة الأنعام [٦٠].

والفاء في (فَيُمْسِكُ) فاء الفصيحة لأن ما تقدم يقتضي مقدرا يفصح عنه الفاء لبيان توفي النفوس في المقام.

والإمساك : الشدّ باليد وعدم تسليم المشدود. والمعنى : فيبقي ولا يردّ النفس التي قضى عليها بالموت ، أي يمنعها أن ترجع إلى الحياة فإطلاق الإمساك على بقاء حالة الموت تمثيل لدوام تلك الحالة. ومن لطائفه أن أهل الميت يتمنون عود ميتهم لو وجدوا إلى عوده سبيلا ولكن الله لم يسمح لنفس ماتت أن تعود إلى الحياة.

والإرسال : الإطلاق والتمكين من مبارحة المكان للرجوع إلى ما كان والمراد ب (الْأُخْرى الَّتِي لَمْ تَمُتْ) ولكن الله جعلها بمنزلة الميتة. والمعنى : يرد إليها الحياة كاملة. والمقصود من هذا إبراز الفرق بين الوفاتين.

ويتعلق (إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى) بفعل (يُرْسِلُ) لما فيه من معنى يرد الحياة إليها ، أي فلا يسلبها الحياة كلّها إلا في أجلها المسمى ، أي المعيّن لها في تقدير الله تعالى.

والتسمية : التعيين ، وتقدمت في قوله تعالى : (إِذا تَدايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ) في سورة البقرة [٢٨٢].

١٠٠