تفسير التّحرير والتّنوير - ج ٢٤

الشيخ محمّد الطاهر ابن عاشور

تفسير التّحرير والتّنوير - ج ٢٤

المؤلف:

الشيخ محمّد الطاهر ابن عاشور


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة التاريخ العربي للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٢٦٨

عدل عن جوابهم بالحرمان من الخروج إلى ذكر سبب وقوعهم في العذاب ، وإذ قد كانوا عالمين به حين قالوا : (فَاعْتَرَفْنا بِذُنُوبِنا) [غافر : ١١] ، كانت إعادة التوقيف عليه بعد سؤال الصفح عنه كناية عن استدامته وعدم استجابة سؤالهم الخروج منه على وجه يشعر بتحقيرهم. وزيد ذلك تحقيقا بقوله : (فَالْحُكْمُ لِلَّهِ الْعَلِيِّ الْكَبِيرِ).

فالإشارة ب (ذلِكُمْ) إلى ما هم فيه من العذاب الذي أنبأ به قوله : (يُنادَوْنَ لَمَقْتُ اللهِ أَكْبَرُ مِنْ مَقْتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ) [غافر : ١٠] وما عقب به من قولهم : (فَهَلْ إِلى خُرُوجٍ مِنْ سَبِيلٍ) [غافر : ١١].

والباء في (بِأَنَّهُ) للسببية ، أي بسبب كفركم إذا دعي الله وحده. وضمير (بِأَنَّهُ) ضمير الشأن ، وهو مفسر بما بعده من قوله : (إِذا دُعِيَ اللهُ وَحْدَهُ كَفَرْتُمْ وَإِنْ يُشْرَكْ بِهِ تُؤْمِنُوا) ، فالسبب هو مضمون القصة الذي حاصل سبكه : بكفركم بالوحدانية وإيمانكم بالشرك.

و (إِذا) مستعملة هنا في الزمن الماضي لأن دعاء الله واقع في الحياة الدنيا وكذلك كفرهم بوحدانية الله ، فالدعاء الذي مضى مع كفرهم به كان سبب وقوعهم في العذاب.

ومجيء (وَإِنْ يُشْرَكْ بِهِ تُؤْمِنُوا) بصيغة المضارع في الفعلين مؤوّل بالماضي بقرينة ما قبله ، وإيثار صيغة المضارع في الفعلين لدلالتهما على تكرر ذلك منهم في الحياة الدنيا فإن لتكرره أثرا في مضاعفة العذاب لهم.

والدعاء : النداء ، والتوجه بالخطاب. وكلا المعنيين يستعمل فيه الدعاء ويطلق الدعاء على العبادة ، كما سيأتي عند قوله تعالى : (وَقالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ) في هذه السورة [٦٠] ، فالمعنى إذا نودي الله بمسمعكم نداء دالا على أنه إله واحد مثل آيات القرآن الدالة على نداء الله بالوحدانية ، فالدعاء هنا الإعلان والذكر ، ولذلك قوبل بقوله : (فَرْتُمْ وَإِنْ يُشْرَكْ بِهِ تُؤْمِنُوا) ، والدعاء بهذا المعنى أعم من الدعاء بمعنى سؤال الحاجات ولكنه يشمله ، أو إذا عبد الله وحده.

ومعنى (كَفَرْتُمْ) جدّدتم الكفر ، وذلك إمّا بصدور أقوال منهم ينكرون فيها انفراد الله بالإلهية ، وإمّا بملاحظة الكفر ملاحظة جديدة وتذكر آلهتهم. ومعنى : (وَإِنْ يُشْرَكْ بِهِ تُؤْمِنُوا) إن يصدر ما يدل على الإشراك بالله من أقوال زعمائهم ورفاقهم الدالة على تعدد الآلهة أو إذا أشرك به في العبادة تؤمنوا ، أي تجددوا الإيمان بتعدد الآلهة في قلوبكم أو تؤيدوا ذلك بأقوال التأييد والزيادة. ومتعلّق (كَفَرْتُمْ) و (تُؤْمِنُوا) محذوفان لدلالة ما قبلهما. والتقدير : كفرتم بتوحيده وتؤمنوا بالشركاء.

١٦١

وجيء في الشرط الأول ب (إِذا) التي الغالب في شرطها تحقق وقوعه إشارة إلى أن دعاء الله وحده أمر محقق بين المؤمنين لا تخلو عنه أيامهم ولا مجامعهم ، مع ما تفيد (إِذا) من الرغبة في حصول مضمون شرطها.

وجيء في الشرط الثاني بحرف (إِنْ) التي أصلها عدم الجزم بوقوع شرطها ، أو أنّ شرطها أمر مفروض ، مع أن الإشراك محقق تنزيلا للمحقق منزلة المشكوك المفروض للتنبيه على أن دلائل بطلان الشرك واضحة بأدنى تأمل وتدبر فنزل إشراكهم المحقق منزلة المفروض لأن المقام مشتمل على ما يقلع مضمون الشرط من أصله فلا يصلح إلّا لفرضه على نحو ما يفرض المعدوم موجودا أو المحال ممكنا.

والألف واللام في الحكم للجنس. واللام في (لِلَّهِ) للملك أي جنس الحكم ملك لله ، وهذا يفيد قصر هذا الجنس على الكون لله كما تقدم في قوله : (الْحَمْدُ لِلَّهِ) في سورة الفاتحة [٢] وهو قصر حقيقي إذ لا حكم يوم القيامة لغير الله تعالى.

وبهذه الآية تمسك الحرورية يوم حروراء حين تداعى جيش الكوفة وجيش الشام إلى التحكيم فثارت الحرورية على علي بن أبي طالب وقالوا : لا حكم إلا لله (جعلوا التعريف للجنس والصيغة للقصر) وحدّقوا إلى هذه الآية وأغضوا عن آيات جمّة ، فقال عليّ لما سمعها : «كلمة حقّ أريد بها باطل» اضطرب الناس ولم يتم التحكيم.

وإيثار صفتي (الْعَلِيِّ الْكَبِيرِ) بالذكر هنا لأن معناهما مناسب لحرمانهم من الخروج من النار ، أي لعدم نقض حكم الله عليهم بالخلود في النار ، لأن العلوّ في وصفه تعالى علوّ مجازي اعتباري بمعنى شرف القدر وكماله ، فهو العلي في مراتب الكمالات كلها بالذات ، ومن جملة ما يقتضيه ذلك تمام العلم وتمام العدل ، فلذلك لا يحكم إلا بما تقتضيه الحكمة والعدل.

ووصف (الْكَبِيرِ) كذلك هو كبر مجازي ، وهو قوة صفات كماله ، فإن الكبير قوي وهو الغنيّ المطلق ، وكلا الوصفين صيغ على مثال الصفة المشبهة للدلالة على الاتصاف الذاتي المكين ، وإنما يقبل حكم النقض لأحد أمرين إما لعدم جريه على ما يقتضيه من سبب الحكم وهو النقض لأجل مخالفة الحق وهذا ينافيه وصف (الْعَلِيِ) ، وإمّا لأنه جور ومجاوز للحد ، وهذا ينافيه وصف (الْكَبِيرِ) لأنه يقتضي الغنى عن الجور.

(هُوَ الَّذِي يُرِيكُمْ آياتِهِ وَيُنَزِّلُ لَكُمْ مِنَ السَّماءِ رِزْقاً وَما يَتَذَكَّرُ إِلاَّ مَنْ يُنِيبُ (١٣))

١٦٢

هذا استئناف ابتدائي إقبال على خطاب الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم والمؤمنين بعد أن انقضى وصف ما يلاقي المشركون من العذاب ، وما يدعون من دعاء لا يستجاب ، وقرينة ذلك قوله : (وَلَوْ كَرِهَ الْكافِرُونَ) [غافر : ١٤].

ومناسبة الانتقال هي وصفا (الْعَلِيِّ الْكَبِيرِ) [غافر : ١٢] لأن جملة (يُرِيكُمْ آياتِهِ) تناسب وصف العلوّ ، وجملة (يُنَزِّلُ لَكُمْ مِنَ السَّماءِ رِزْقاً) تناسب وصف (الْكَبِيرِ) بمعنى الغنيّ المطلق.

والآيات : دلائل وجوده ووحدانيته. وهي المظاهر العظيمة التي تبدو للناس في هذا العالم كقوله : (هُوَ الَّذِي يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفاً وَطَمَعاً) [الرعد : ١٢] وقوله : (إِنَّ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ لَآياتٍ لِأُولِي الْأَلْبابِ) [آل عمران : ١٩٠]. وتنزيل الرزق من السماء هو نزول المطر لأن المطر سبب الرزق وهو في نفسه آية أدمج معها امتنان ، ولذلك عقب الأمران بقوله : (وَما يَتَذَكَّرُ إِلَّا مَنْ يُنِيبُ).

وصيغة المضارع في (يُرِيكُمْ) و (يُنَزِّلُ) تدل على أن المراد إراءة متجددة وتنزيل متجدد وإنما يكون ذلك في الدنيا ، فتعين أن الخطاب مستأنف مراد به المؤمنون وليس من بقية خطاب المشركين في جهنم ، ويزيد ذلك تأييدا قوله : (فَادْعُوا اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ وَلَوْ كَرِهَ الْكافِرُونَ) [غافر : ١٤].

وعدي فعلا (يرى) و (يُنَزِّلُ) إلى ضمير المخاطبين وهم المؤمنون لأنهم الذين انتفعوا بالآيات فآمنوا وانتفعوا بالرزق فشكروا بالعمل بالطاعات فجعل غيرهم بمنزلة غير المقصودين بالآيات لأنهم لم ينتفعوا بها كما قال تعالى : (وَتِلْكَ الْأَمْثالُ نَضْرِبُها لِلنَّاسِ وَما يَعْقِلُها إِلَّا الْعالِمُونَ) [العنكبوت : ٤٣] فجعل غير العالمين كمن لا يعقل ولا يفقه.

ولذلك ذيلت إراءة الآيات وإنزال الرزق لهم بقوله : (وَما يَتَذَكَّرُ إِلَّا مَنْ يُنِيبُ) أي من آمن ونبذ الشرك لأن الشرك يصدّ أهله عن الإنصاف وإعمال النظر في الأدلة.

والإنابة : التوبة ، وفي صيغة المضارع إشارة إلى أن الإنابة المحصلة للمطلوب هي الإنابة المتجددة المتكررة ، وإذ قد كان المخاطبون منيبين إلى الله كان قوله : (وَما يَتَذَكَّرُ إِلَّا مَنْ يُنِيبُ) دالا بدلالة الاقتضاء على أنهم رأوا الآيات واطمأنوا بها وأنهم عرفوا قدر النعمة وشكروها فكان بين الإنابة وبين التذكر تلازم عادي ، ولذلك فجملة (وَما يَتَذَكَّرُ إِلَّا مَنْ يُنِيبُ) تذييل.

١٦٣

وتقديم (لَكُمْ) على مفعول (يُنَزِّلُ) وهو (رِزْقاً) لكمال الامتنان بأن جعل تنزيل الرزق لأجل الناس ولو أخر المجرور لصار صفة ل (رِزْقاً) فلا يفيد أن التنزيل لأجل المخاطبين بل يفيد أن الرزق صالح للمخاطبين وبين المعنيين بون بعيد ، فكان تقديم المجرور في الترتيب على مفعول الفعل على خلاف مقتضى الظاهر لأن حق المفعول أن يتقدم على غيره من متعلّقات الفعل وإنما خولف الظاهر لهذه النكتة.

وجعل تنزيل الرزق لأجل المخاطبين وهم المؤمنون إشارة إلى أن الله أراد كرامتهم ابتداء وأن انتفاع غيرهم بالرزق انتفاع بالتبع لهم لأنهم الذين بمحل الرضى من الله تعالى.

وتثار من هذه الآية مسألة الاختلاف بين الأشعرية مع الماتريدي ومع المعتزلة في أن الكافر منعم عليه أو لا؟ فعن الأشعري أن الكافر غير منعم عليه في الدنيا ولا في الدين ولا في الآخرة ، وقال القاضي أبو بكر الباقلاني والماتريدي : هو منعم عليه نعمة دنيوية ، لا دينية ولا أخروية ، وقالت المعتزلة : هم منعم عليه نعمة دنيوية ودينية لا أخروية ، فأما الأشعري فلم يعتبر بظاهر الملاذ التي تحصل للكافر في الحياة فإنما ذلك إملاء واستدراج لأن مآلها العذاب المؤلم فلا تستحق اسم النعمة.

وأنا أقول : لو استدل له بأنها حاصلة لهم تبعا فهي لذائذ وليست نعما لأن النعمة لذة أريد منها نفع من وصلت إليه كما أشرت إليه آنفا.

وأما الباقلاني فراعى ظاهر الملاذّ فلم يمنع أن تكون نعما وإن كانت عواقبها آلاما ، وآيات القرآن شاهدة لقوله. وأما المعتزلة فزادوا فزعموا أن الكافر منعم عليه دينا ، وأرادوا بذلك أن الله مكّن الكافر من نعمة القدرة على النظر المؤدي إلى معرفة الله وواجب صفاته. والذي استقر عليه رأي المحققين من المتكلمين أن هذا الخلاف لفظي لأنه غير ناظر إلى حقيقة حالة الكافر في الدنيا والدين ، وإنما نظر كل شق من أهل الخلاف إلى ما حفّ بأحوال الكافر في تلك النعمة فرجع إلى الخلاف في الألفاظ المصطلح عليها ومدلولاتها لا في حقائق المقصود منها.

(فَادْعُوا اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ وَلَوْ كَرِهَ الْكافِرُونَ (١٤))

تفريع على ما شاهدوا من الآيات وما أفيض عليهم من الرزق ، وعلى أنهم المرجون للتذكر ، أي إذ كنتم بهذه الدرجة فادعوا الله مخلصين ، ففي الفاء معنى الفصيحة كما تقدم في قوله : (وَما يَتَذَكَّرُ إِلَّا مَنْ يُنِيبُ) [غافر : ١٣].

١٦٤

والمعنى : أن الله أراكم آياته وأنزل لكم الرزق وما يتذكر بذلك إلا المنيبون وأنتم منهم فادعوا الله مخلصين لتوفر دواعي تلك العبادة.

والدعاء هنا الإعلان وذكر الله ونداؤه ويشمل الدعاء بمعنى سؤال الحاجة شمول الأعم للأخص ، وتقدم آنفا أن الدعاء يطلق على العبادة. والأمر مستعمل في طلب الدوام لأن المؤمنين قد دعوا الله مخلصين له ، فالمقصود : دوموا على ذلك ولو كره الكافرون ، لأن كراهية الكافرين ذلك من المؤمنين تكون سببا لمحاولتهم صرفهم عن ذلك بكل وسيلة يجدون إليها سبيلا فيخشى ذلك أن يفتن فريقا من المؤمنين ، فالكراهية كناية عن المقاومة والصدّ لأنهما لازمان للكراهية لأن شأن الكاره أن لا يصبر على دوام ما يكرهه ، فالأمر بقوله : (فَادْعُوا اللهَ مُخْلِصِينَ) لي نحو الأمر في قوله : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ) [النساء : ١٣٦].

وإظهار اسم الجلالة في قوله : (فَادْعُوا اللهَ) لأن الكلام تفريع لاستجداد غرض آخر فجعل مستقلا عما قبله.

وتقدم تفسير (مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ) في تفسير قوله : (فَاعْبُدِ اللهَ مُخْلِصاً لَهُ الدِّينَ) أول سورة الزمر [٢].

وجملة (وَلَوْ كَرِهَ الْكافِرُونَ) في موضع الحال من فاعل (فَادْعُوا).

و (لَوْ) وصلية تفيد أن شرطها أقصى ما يكون من الأحوال التي يراد تقييد عامل الحال بها ، أي اعبدوه في كل حال حتى في حال كراهية الكافرين ذلك لأن كراهية الكافرين ذلك والمؤمنون بين ظهرانيهم وفي بلاد فيه سلطان الكافرين مظنة لأن يصدهم ذلك عن دعاء الله مخلصين له الدين. وهذا في معنى قوله تعالى : (فَاصْدَعْ بِما تُؤْمَرُ) [الحجر : ٩٤] وقد تقدم تفصيل (لو) هذه عند قوله : (فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْ أَحَدِهِمْ مِلْءُ الْأَرْضِ ذَهَباً وَلَوِ افْتَدى بِهِ) في سورة آل عمران [٩١].

[١٥ ـ ١٦] (رَفِيعُ الدَّرَجاتِ ذُو الْعَرْشِ يُلْقِي الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ لِيُنْذِرَ يَوْمَ التَّلاقِ (١٥) يَوْمَ هُمْ بارِزُونَ لا يَخْفى عَلَى اللهِ مِنْهُمْ شَيْءٌ لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْواحِدِ الْقَهَّارِ (١٦))

(رَفِيعُ الدَّرَجاتِ ذُو الْعَرْشِ يُلْقِي الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ لِيُنْذِرَ يَوْمَ التَّلاقِ (١٥) يَوْمَ هُمْ بارِزُونَ لا يَخْفى عَلَى اللهِ مِنْهُمْ شَيْءٌ).

١٦٥

(رَفِيعُ الدَّرَجاتِ) خبر عن مبتدأ محذوف هو ضمير اسم الجلالة في قوله : (فَادْعُوا اللهَ) [غافر : ١٤] وليس خبرا ثانيا بعد قوله : (هُوَ الَّذِي يُرِيكُمْ آياتِهِ) [غافر : ١٣] لأن الكلام هنا في غرض مستجدّ ، وحذف المسند إليه في مثله حذف اتّباع للاستعمال في حذف مثله ، كذا سماه السكاكي بعد أن يجري من قبل الجملة حديث عن المحذوف كقول عبد الله بن الزّبير أو إبراهيم بن العباس الصولي أو محمد بن سعيد الكاتب :

سأشكر عمرا إن تراخت منيتي

أيادي لم تمنن وإن هي جلّت

فتى غير محجوب الغنى عن صديقه

ولا مظهرا للشكوى إذا النعل زلّت

و (رَفِيعُ) يجوز أن يكون صفة مشبهة. والتعريف في (الدَّرَجاتِ) عوض عن المضاف إليه. والتقدير : رفيعة درجاته ، فلما حول وصف ما هو من شئونه إلى أن يكون وصفا لذاته سلك طريق الإضافة وجعلت الصفة المشبهة خبرا عن ضمير الجلالة وجعل فاعل الصفة مضافا إليه ، وذلك من حالات الصفة المشبهة يقال : فلان حسن فعله ، ويقال : فلان حسن الفعل ، فيؤول قوله : (رَفِيعُ الدَّرَجاتِ) إلى صفة ذاته.

و (الدَّرَجاتِ) مستعارة للمجد والعظمة ، وجمعها إيذان بكثرة العظمات باعتبار صفات مجد الله التي لا تحصر ، والمعنى : أنه حقيق بإخلاص الدعاء إليه. ويجوز أن يكون (رَفِيعُ) من أمثلة المبالغة ، أي كثير رفع الدرجات لمن يشاء وهو معنى قوله تعالى : (نَرْفَعُ دَرَجاتٍ مَنْ نَشاءُ) [يوسف : ٧٦]. وإضافته إلى (الدَّرَجاتِ) من الإضافة إلى المفعول فيكون راجعا إلى صفات أفعال الله تعالى.

والمقصود : تثبيتهم على عبادة الله مخلصين له الدين بالترغيب بالتعرض إلى رفع الله درجاتهم كقوله : (يَرْفَعِ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجاتٍ) في سورة المجادلة [١١].

و (ذُو الْعَرْشِ) خبر ثان وفيه إشارة إلى أن رفع الدرجات منه متفاوت.

كما أن مخلوقاته العليا متفاوتة في العظم والشرف إلى أن تنتهي إلى العرش وهو أعلى المخلوقات كأنه قيل : إن الذي رفع السماوات ورفع العرش ما ذا تقدّرون رفعه درجات عابديه على مراتب عبادتهم وإخلاصهم.

وجملة (يُلْقِي الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ) خبر ثالث ، أو بدل بعض من جملة (رَفِيعُ الدَّرَجاتِ) فإن من رفع الدرجات أن يرفع بعض عباده إلى درجة النبوءة وذلك أعظم رفع الدرجات بالنسبة إلى عباده ، فبدل البعض هو هنا أهم أفراد المبدل منه.

١٦٦

والإلقاء : حقيقته رمي الشيء من اليد إلى الأرض ، ويستعار للاعطاء إذا كان غير مترقب ، وكثر هذا في القرآن ، قال : (فَأَلْقَوْا إِلَيْهِمُ الْقَوْلَ إِنَّكُمْ لَكاذِبُونَ وَأَلْقَوْا إِلَى اللهِ يَوْمَئِذٍ السَّلَمَ) [النحل : ٨٦ ، ٨٧]. واستعير هنا للوحي لأنه يجيء فجأة على غير ترقب كإلقاء الشيء إلى الأرض.

والروح : الشريعة ، وحقيقة الروح : ما به حياة الحيّ من المخلوقات ، ويستعار للنفيس من الأمور وللوحي لأنه به حياة الناس المعنوية وهي كمالهم وانتظام أمورهم ، فكما تستعار الحياة للإيمان والعلم ، كذلك يستعار الروح الذي هو سبب الحياة لكمال النفوس وسلامتها من الطوايا السيئة ، ويطلق الروح على الملك قال : (فَأَرْسَلْنا إِلَيْها رُوحَنا فَتَمَثَّلَ لَها بَشَراً سَوِيًّا) [مريم : ١٧].

و (مِنْ) ابتدائية في (مِنْ أَمْرِهِ) أي بأمره ، فالأمر على ظاهره. ويجوز أن تكون (مِنْ) تبعيضية ظرفا مستقرا صفة (الرُّوحَ) أي بعض شئونه التي لا يطلع عليها غيره إلا من ارتضى فيكون الأمر بمعنى الشأن ، أي الشئون العجيبة ، وقيل : (مِنْ) بيانية وأن الأمر هو الروح وهذا بعيد.

وهذه الآية تشير إلى أن النبوءة غير مكتسبة لأنها ابتدئت بقوله : (فَادْعُوا اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ) [غافر : ١٤] ثم أعقب بقوله : (رَفِيعُ الدَّرَجاتِ) فأشار إلى عبادة الله بإخلاص سبب لرفع الدرجات ، ثم أعقب بقوله : (يُلْقِي الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ) فجيء بفعل الإلقاء وبكون الروح من أمره وبصلة (مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ) ، فآذن بأن ذلك بمحض اختياره وعلمه كما قال تعالى : (اللهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ) رسالاته [الأنعام : ١٢٤]. وهذا يرتبط بقوله في أول السورة [٢] (إِنَّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ فَاعْبُدِ اللهَ مُخْلِصاً لَهُ الدِّينَ) فأمر رسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالإخلاص في العبادة مفرعا على إنزال الكتاب إليه ، وجاء في شأن الناس بقوله : (فَادْعُوا اللهَ مُخْلِصِينَ) [غافر : ١٤] ثم أعقبه بقوله : (رَفِيعُ الدَّرَجاتِ).

وقد ضرب لهم العرش والأنبياء مثلين لرفع الدرجات في العوالم والعقلاء ، وفيه تعريض بتسفيه المشركين (فَقالُوا أَبَشَراً مِنَّا واحِداً نَتَّبِعُهُ) [القمر : ٢٤] ، (وَقالُوا لَوْ لا نُزِّلَ هذَا الْقُرْآنُ عَلى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ) [الزخرف : ٣١] و (قالُوا لَنْ نُؤْمِنَ حَتَّى نُؤْتى مِثْلَ ما أُوتِيَ رُسُلُ اللهِ) [الأنعام : ١٢٤].

وتخلص من ذكر النبوءة إلى النذارة بيوم الجزاء ليعود وصف يوم الجزاء الذي انقطع الكلام عليه من قوله تعالى : (ذلِكُمْ بِأَنَّهُ إِذا دُعِيَ اللهُ وَحْدَهُ كَفَرْتُمْ) [غافر : ١٢] إلخ.

١٦٧

والإنذار : إخبار فيه تحذير مما يسوء ، وهو ضد التبشير إذ هو إخبار بما فيه مسرة. وفعله المجرد : نذر كعلم ، يقال : نذر بالعدوّ فحذره. والهمزة في أنذر للتعدية فحقه أن لا يتعدى بالهمزة إلا إلى مفعول واحد ، وهو الذي كان فاعل الفعل المجرد ، وأن يتعدى إلى الأمر المخبر به بالباء ، يقال : أنذرتهم بالعدوّ ، غير أنه غلب في الاستعمال تضمينه معنى التحذير فعدوه إلى مفعول ثان وهو استعمال القرآن ، وأما قوله في أول الأعراف [٢] (لِتُنْذِرَ بِهِ) فالباء فيه للسببية أو الآلة المجازية وليست للتعدية. وضمير (بِهِ) عائدا إلى الكتاب.

والضمير المستتر في (لِيُنْذِرَ) عائد إلى اسم الجلالة من قوله : (فَادْعُوا اللهَ) [غافر : ١٤] ، والأحسن أن يعود على (مِنْ) الموصولة لينذر من ألقى عليه الروح قومه ، ولأن فيه تخلصا إلى ذكر الرسول الأعظم صلى‌الله‌عليه‌وسلم الذي هو بصدد الإنذار دون الرسل الذين سبقوا إذ لا تلائمهم صيغة المضارع ولأنه مرجّح لإظهار اسم الجلالة في قوله : (لا يَخْفى عَلَى اللهِ مِنْهُمْ شَيْءٌ) كما سيأتي.

و (يَوْمَ التَّلاقِ) هو يوم الحشر ، وسمي يوم التلاقي لأن الناس كلهم يلتقون فيه ، أو لأنهم يلقون ربهم لقاء مجازيا ، أي يقفون في حضرته وأمام أمره مباشرة كما قال تعالى : (الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقاءَنا) [يونس : ٧] أي لا يرجون يوم الحشر. وانتصب (يَوْمَ التَّلاقِ) على أنه مفعول ثان (لِيُنْذِرَ) ، وحذف المفعول الأول لظهوره ، أي لينذر الناس. وبين (التَّلاقِ) و (يُلْقِي) جناس.

وكتب (التَّلاقِ) في المصحف بدون ياء. وقرأه نافع وأبو عمرو في رواية عنه بكسرة بدون ياء. وقرأه الباقون بالياء لأنه وقع في الوصل لا في الوقف فلا موجب لطرح الياء إلا معاملة الوصل معاملة الوقف وهو قليل في النثر فيقتصر فيه على السماع. وكفى برواية نافع وأبي عمرو سماعا.

و (يَوْمَ هُمْ بارِزُونَ) بدل من (يَوْمَ التَّلاقِ). و (هُمْ بارِزُونَ) جملة اسمية ، والمضاف ظرف مستقبل وذلك جائز على الأرجح بدون تقدير.

وضمير الغيبة عائد إلى (الْكافِرُونَ) من قوله : (وَلَوْ كَرِهَ الْكافِرُونَ) [غافر : ١٤].

وجملة (لا يَخْفى عَلَى اللهِ مِنْهُمْ شَيْءٌ) بيان لجملة (هُمْ بارِزُونَ) والمعنى : أنهم واضحة ظواهرهم وبواطنهم فإن ذلك مقتضى قولهم : (مِنْهُمْ شَيْءٌ).

وإظهار اسم الجلالة لأن إظهاره أصرح لبعد معاده بما عقبه من قوله : (عَلى مَنْ

١٦٨

يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ) ، ولأن الأظهر أن ضمير (لِيُنْذِرَ) عائد إلى (مَنْ يَشاءُ).

ومعنى (مِنْهُمْ) من مجموعهم ، أي من مجموع أحوالهم وشئونهم ، ولهذا أوثر ضمير الجمع لما فيه من الإجمال الصالح لتقدير مضاف مناسب للمقام ، وأوثر أيضا لفظ (شَيْءٌ) لتوغله في العموم ، ولم يقل لا يخفى على الله منهم أحد ، أو لا يخفى على الله من أحد شيء ، أي من أجزاء جسمه ، فالمعنى : لا يخفى على الله شيء من أحوالهم ظاهرها وباطنها.

(لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْواحِدِ الْقَهَّارِ).

مقول لقول محذوف ، وحذف القول من حديث البحر. والتقدير : يقول الله لمن الملك اليوم ، ففعل القول المحذوف جملة في موضع الحال ، أو استئناف بياني جوابا عن سؤال سائل عما ذا يقع بعد بروزهم بين يدي الله.

والاستفهام إما تقريري ليشهد الطغاة من أهل المحشر على أنفسهم أنهم كانوا في الدنيا مخطئين فيما يزعمونه لأنفسهم من ملك لأصنامهم حين يضيفون إليها التصرف في ممالك من الأرض والسماء ، مثل قول اليونان بإله البحر وإله الحرب وإله الحكمة ، وقول أقباط مصر بإله الشمس وإله الموت وإله الحكمة ، وقول العرب باختصاص بعض الأصنام ببعض القبائل مثل اللات لثقيف ، وذي الخلصة لدوس ، ومناة للأوس والخزرج. وكذلك ما يزعمونه لأنفسهم من سلطان على الناس لا يشاركهم فيه غيرهم كقول فرعون : (ما عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرِي) [القصص : ٣٨] وقوله : (أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهذِهِ الْأَنْهارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي) [الزخرف : ٥١] ، وتلقيب أكاسرة الفرس أنفسهم بلقب : ملك الملوك (شاهنشاه) ، وتلقيب ملوك الهند أنفسهم بلقب ملك الدنيا (شاه جهان). ويفسر هذا المعنى ما في الحديث في صفة يوم الحشر «ثم يقول الله أنا الملك أين ملوك الأرض» استفهاما مرادا منه تخويفهم من الظهور يومئذ ، أي أين هم اليوم لما ذا لم يظهروا بعظمتهم وخيلائهم.

ويجوز أيضا أن يكون الاستفهام كناية عن التشويق إلى ما يرد بعده من الجواب لأن الشأن أن الذي يسمع استفهاما يترقب جوابه فيتمكن من نفسه الجواب عند سماعه فضل تمكّن ، على أن حصول التشويق لا يفوت على اعتبار الاستفهام للتقرير ، وقريب منه : (وَإِذا سَأَلَكَ عِبادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذا دَعانِ) [البقرة : ١٨٦].

و (الْيَوْمَ) المعرف باللام هو اليوم الحاضر ، وحضوره بالنسبة إلى القول المحكي أنه يقال فيه ، أي اليوم الذي وقع فيه هذا القول كما هو شأن أسماء الزمان الظروف إذا

١٦٩

عرّفت باللام.

وجملة (لِلَّهِ الْواحِدِ الْقَهَّارِ) يجوز أن تكون من بقية القول المقدر الصادر من جانب الله تعالى بأن يصدر من ذلك الجانب استفهام ويصدر منه جوابه لأنه لما كان الاستفهام مستعملا في التقرير أو التشويق كان من الشأن أن يتولى الناطق به الجواب عنه ، ونظيره قوله تعالى : (عَمَّ يَتَساءَلُونَ عَنِ النَّبَإِ الْعَظِيمِ) [النبأ : ١ ، ٢]. ويجوز أن تكون مقول قول آخر محذوف ، أي فيقول المسئولون : (لِلَّهِ الْواحِدِ الْقَهَّارِ) إقرارا منهم بذلك ، والتقدير : فيقول البارزون لله الواحد القهار ، فتكون معترضة.

وذكر الصفتين (الْواحِدِ الْقَهَّارِ) دون غيرهما من الصفات العلى لأن لمعنييهما مزيد مناسبة بقوله : (لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ) حيث شوهدت دلائل الوحدانية لله وقهره جميع الطغاة والجبارين.

(الْيَوْمَ تُجْزى كُلُّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ لا ظُلْمَ الْيَوْمَ إِنَّ اللهَ سَرِيعُ الْحِسابِ (١٧))

لا ريب في أن هذه الجمل الثلاث متصلة بالمقول الصادر من جانب الله تعالى ، سواء كان مجموع الجملتين السابقتين مقولا واحدا أم كانت الثانية منهما من مقول أهل المحشر. وترتيب هذه الجمل الخمس هو أنه لما تقرر أن الملك لله وحده في ذلك اليوم بمجموع الجملتين السابقتين ، عددت آثار التصرف بذلك الملك وهي الحكم على العباد بنتائج أعمالهم وأنه حكم عادل لا يشوبه ظلم ، وأنه عاجل لا يبطئ لأن الله لا يشغله عن إقامة الحق شاغل ولا هو بحاجة إلى التدبر والتأمل في طرق قضائه ، وعلى هذه النتائج جاء ترتيب (الْيَوْمَ تُجْزى كُلُّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ) ، ثم (لا ظُلْمَ الْيَوْمَ) ، ثم (إِنَّ اللهَ سَرِيعُ الْحِسابِ) ، وأما مواقع هاته الجمل الثلاث فإن جملة (الْيَوْمَ تُجْزى) إلخ واقعة موقع البيان لما في جملة (لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ) [غافر : ١٦] وجوابها من إجمال ، وجملة (لا ظُلْمَ الْيَوْمَ) واقعة موقع بدل الاشتمال من جملة (الْيَوْمَ تُجْزى كُلُّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ) أي جزاء عادلا لا ظلم فيه ، أي ليس فيه أقل شوب من الظلم حسبما اقتضاه وقوع النكرة بعد (لا) النافية للجنس.

وتعريف (الْيَوْمَ) في قوله : (الْيَوْمَ تُجْزى كُلُّ نَفْسٍ) وقوله : (لا ظُلْمَ الْيَوْمَ) نظير تعريف (لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ) [غافر : ١٦] ، وجملة (إِنَّ اللهَ سَرِيعُ الْحِسابِ) واقعة موقع

١٧٠

التعليل لوقوع الجزاء في ذلك اليوم ولانتفاء الظلم عن ذلك الجزاء. وتأخيرها عن تينك الجملتين مشير إلى أنها علة لهما ، فحرف التوكيد واقع موقع فاء السببية كما هو شأن (إِنَ) إذا جاءت في غير مقام رد الإنكار ، فسرعة الحساب تقتضي سرعة الحكم. وسرعة الحكم تقتضي تملؤ الحاكم من العلم بالحق ، ومن تقدير جزاء كل عامل على عمله دون تردد ولا بحث لأن الحاكم علام الغيوب ، فكان قوله : (سَرِيعُ الْحِسابِ) علة لجميع ما تقدمه في هذا الغرض. والمعنى : أن الله محاسبهم حسابا سريعا لأنه سريع الحساب.

والحساب مصدر حاسب غيره إذا حسب له ما هو مطلوب بإعداده ، وفائدة ذلك تختلف فتارة يكون الحساب لقصد استحضار أشياء كيلا يضيع منها شيء ، وتارة يكون لقصد توقيف من يتعين توقيفه عليها ، وتارة يكون لقصد مجازاة كل شيء منها بعدله ، وهذا الأخير هو المراد هنا ولأجله سمّي يوم الجزاء يوم الحساب ، وهو المراد في قوله تعالى : (إِنْ حِسابُهُمْ إِلَّا عَلى رَبِّي) [الشعراء : ١١٣]. والباء في قوله : (بِما كَسَبَتْ) للسببية ، أي تجزى بسبب ما كسبت ، أي جزاء مناسبا لما كسبت ، أي عملت.

وفي الآية إيماء إلى أن تأخير القضاء بالحق بعد تبينه للقاضي بدون عذر ضرب من ضروب الجور لأن الحق إن كان حق العباد فتأخير الحكم لصاحب الحق إبقاء لحقه بيد غيره ، ففيه تعطيل انتفاعه بحقه برهة من الزمان وذلك ظلم ، ولعل صاحب الحق في حاجة إلى تعجيل حقه لنفع معطّل أو لدفع ضر جاثم ، ولعله أن يهلك في مدة تأخير حقه فلا ينتفع به ، أو لعل الشيء المحكوم به يتلف بعارض أو قصد فلا يصل إليه صاحبه بعد. وإن كان الحق حقّ الله كان تأخير القضاء فيه إقرارا للمنكر. في «صحيح البخاري» «أن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم استعمل أبا موسى على اليمن ثم أتبعه معاذ بن جبل فلمّا قدم معاذ على أبي موسى ألقى إليه أبو موسى وسادة وقال له : أنزل ، وإذا رجل موثق عند أبي موسى ، قال معاذ : ما هذا؟ قال : كان يهوديا فأسلم ثم تهوّد. قال معاذ : لا أجلس حتى يقتل ، قضاء الله ورسوله ، ثلاث مرات ، فأمر به أبو موسى فقتل».

(وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْآزِفَةِ إِذِ الْقُلُوبُ لَدَى الْحَناجِرِ كاظِمِينَ ما لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلا شَفِيعٍ يُطاعُ (١٨))

الأظهر أن يكون قوله : (وَأَنْذِرْهُمْ) وما بعده معترضا بين جملة (إِنَّ اللهَ سَرِيعُ الْحِسابِ) [غافر : ١٧] وجملة (يَعْلَمُ خائِنَةَ الْأَعْيُنِ) [غافر : ١٩] على الوجهين الآتيين في موقع جملة (يَعْلَمُ خائِنَةَ الْأَعْيُنِ) ، فالواو اعتراضية ، والمناسبة أن ذكر الحساب به يقتضي

١٧١

التذكير بالاستعداد ليوم الحساب وهو يوم الآزفة.

ويوم الآزفة يوم القيامة. وأصل الآزفة اسم فاعل مؤنث مشتق من فعل أزف الأمر ، إذا قرب ، فالآزفة صفة لموصوف محذوف تقديره : الساعة الآزفة ، أو القيامة الآزفة ، مثل الصاخّة ، فتكون إضافة (يَوْمَ) إلى (الْآزِفَةِ) ، حقيقية. وتقدم القول في تعدية الإنذار إلى (اليوم) في قوله : لتنذر (يَوْمَ التَّلاقِ) [غافر : ١٥].

و (إِذِ) بدل من (يَوْمَ) فهو اسم زمان منصوب على المفعول به ، مضاف إلى جملة (الْقُلُوبُ لَدَى الْحَناجِرِ) وأل في (الْقُلُوبُ) و (الْحَناجِرِ) عوض عن المضاف إليه. وأصله : إذ قلوبهم لدى حناجرهم ، فبواسطة (أل) عوض تعريف الإضافة بتعريف العهد وهو رأي نحاة الكوفة ، والبصريون يقدرون : إذ القلوب منهم والحناجر منهم والمعنى : إذ قلوب الذين تنذرهم ، يعني المشركين ، فأمّا قلوب الصالحين يومئذ فمطمئنة.

والقلوب : البضعات الصنوبرية التي تتحرك حركة مستمرة ما دام الجسم حيّا فتدفع الدم إلى الشرايين التي بها حياة الجسم.

والحناجر : جمع حنجرة بفتح الحاء وفتح الجيم وهي الحلقوم. ومعنى القلوب لدى الحناجر : أن القلوب يشتدّ اضطراب حركتها من فرط الجزع مما يشاهده أهلها من بوارق الأهوال حتى تتجاوز القلوب مواضعها صاعدة إلى الحناجر كما قال تعالى في ذكر يوم الأحزاب : (وَإِذْ زاغَتِ الْأَبْصارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَناجِرَ) [الأحزاب : ١٠].

وكاظم : اسم فاعل من كظم كظوما ، إذا احتبس نفسه (بفتح الفاء). فمعنى (كاظِمِينَ) : اكنين لا يستطيعون كلاما. فعلى هذا التأويل لا يقدّر ل (كاظِمِينَ) مفعول لأنه عومل معاملة الفعل اللازم. ويقال : كظم كظما ، إذا سدّ شيئا مجرى ماء أو بابا أو طريقا فهو كاظم ، فعلى هذا يكون المفعول مقدرا. والتقدير : كاظمينها ، أي كاظمين حناجرهم إشفاقا من أن تخرج منها قلوبهم من شدة الاضطراب. وانتصب (كاظِمِينَ) على الحال من ضمير الغائب في قوله : (أَنْذِرْهُمْ) على أن الحال حال مقدرة. ويجوز أن يكون حالا من القلوب على المجاز العقلي بإسناد الكاظم إلى القلوب وإنما الكاظم أصحاب القلوب كما في قوله تعالى : (فَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ) [البقرة : ٧٩] وإنما الكاتبون هم بأيديهم.

وجملة (ما لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلا شَفِيعٍ يُطاعُ) في موضع بدل اشتمال من جملة (الْقُلُوبُ لَدَى الْحَناجِرِ) لأن تلك الحالة تقتضي أن يستشرفوا إلى شفاعة من اتخذوهم

١٧٢

ليشفعوا لهم عند الله فلا يلفون صديقا ولا شفيعا. والحميم : المحب المشفق.

والتعريف في (لِلظَّالِمِينَ) للاستغراق ليعم كل ظالم ، أي مشرك فيشمل الظالمين المنذرين ، ومن مضى من أمثالهم فيكون بمنزلة التذييل ولذلك فليس ذكر الظالمين من الإظهار في مقام الإضمار.

ووصف : (شَفِيعٍ) بجملة (يُطاعُ) وصف كاشف إذ ليس أن المراد لهم شفعاء لا تطاع شفاعتهم لظهور قلة جدوى ذلك ولكن لما كان شأن من يتعرض للشفاعة أن يثق بطاعة المشفوع عنده له. وأتبع (شَفِيعٍ) بوصف (يُطاعُ) لتلازمهما عرفا فهو من إيراد نفي الصفة اللازمة للموصوف. والمقصود : نفي الموصوف بضرب من الكناية التلميحية كقول ابن أحمر :

ولا ترى الضبّ بها ينجحر (١)

أي لا ضبّ فيها فينجحر ، وذلك يفيد مفاد التأكيد.

والمعنى : أن الشفيع إذا لم يطع فليس بشفيع. والله لا يجترئ أحد على الشفاعة عنده إلا إذا أذن له فلا يشفع عنده إلا من يطاع.

(يَعْلَمُ خائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَما تُخْفِي الصُّدُورُ (١٩))

يجوز أن تكون جملة (يَعْلَمُ خائِنَةَ الْأَعْيُنِ) خبرا عن مبتدأ محذوف هو ضمير عائد إلى اسم الجلالة من قوله : (إِنَّ اللهَ سَرِيعُ الْحِسابِ) [غافر : ١٧] على نحو ما قرر قبله في قوله : (رَفِيعُ الدَّرَجاتِ) [غافر : ١٥]. ومجموع الظاهر والمقدر استئناف للمبالغة في الإنذار لأنهم إذا ذكّروا بأن الله يعلم الخفايا كان إنذارا بالغا يقتضي الحذر من كل اعتقاد أو عمل نهاهم الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم عنه ، فبعد أن أيأسهم من شفيع يسعى لهم في عدم المؤاخذة بذنوبهم أيأسهم من أن يتوهموا أنهم يستطيعون إخفاء شيء من نواياهم أو أدنى حركات أعمالهم على ربهم. ويجوز أن تكون خبرا ثانيا عن اسم (إِنَ) في قوله : (إِنَّ اللهَ سَرِيعُ الْحِسابِ) [غافر : ١٧] ، وما بينهما اعتراض كما مرّ على كلا التقديرين.

__________________

(١) أوله : لا تفزع الأرنب أهوالها.

يصف مفازة قاحلة لا ضب فيها ولا أرنب.

١٧٣

و (خائِنَةَ الْأَعْيُنِ) مصدر مضاف إلى فاعله فالخائنة مصدر على وزن اسم الفاعل مثل العافية للمعافاة ، والعاقبة ، والكاذبة في قوله تعالى : (لَيْسَ لِوَقْعَتِها كاذِبَةٌ) [الواقعة: ٢] ويجوز إبقاء (خائِنَةَ) على ظاهر اسم الفاعل فيكون صفة لموصوف محذوف دل عليه (الْأَعْيُنِ) ، أي يعلم نظرة الأعين الخائنة.

وحقيقة الخيانة : عمل من اؤتمن على شيء بضد ما اؤتمن لأجله بدون علم صاحب الأمانة ، ومن ذلك نقض العهد بدون إعلان بنبذه. ومعنى : (خائِنَةَ الْأَعْيُنِ) خيانة النظر ، أي مسارقة النظر لشيء بحضرة من لا يحب النظر إليه. فإضافة (خائِنَةَ) إلى (الْأَعْيُنِ) من إضافة الشيء إلى آلته كقولهم : ضرب السيف.

والمراد ب (خائِنَةَ الْأَعْيُنِ) النظرة المقصود منها إشعار المنظور إليه بما يسوء غيرها الحاضر استهزاء به أو إغراء به. وإطلاق الخائنة بمعنى الخيانة على هذه النظرة استعارة مكنية ، شبه الجليس بالحليف في أنه لما جلس إليك أو جلست إليه فكأنه عاهدك على السلامة ، ألا ترى أن المجالسة يتقدّمها السلام وهو في الأصل إنباء بالمسالمة فإذا نظرت إلى آخر غيركما نظرا خفيا لإشارة إلى ما لا يرضي الجليس من استهزاء أو إغراء فكأنك نقضت العهد المدخول عليه بينكما ، فإطلاق الخيانة على ذلك تفظيع له ، ويتفاوت قرب التشبيه بمقدار تفاوت ما وقعت النظرة لأجله في الإساءة وآثار المضرة. ولذلك قال النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم : «ما يكون لنبي أن تكون له خائنة الأعين» ، أي لا تصدر منه.

و (وَما تُخْفِي الصُّدُورُ) النوايا والعزائم التي يضمرها صاحبها في نفسه ، فأطلق الصدر على ما يكنّ الأعضاء الرئيسية على حسب اصطلاح أصحاب اللغة.

(وَاللهُ يَقْضِي بِالْحَقِّ وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لا يَقْضُونَ بِشَيْءٍ إِنَّ اللهَ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (٢٠))

كان مقتضى الظاهر أن يؤتى بجملة (يَقْضِي بِالْحَقِ) معطوفة بالواو على جملة (يَعْلَمُ خائِنَةَ الْأَعْيُنِ) [غافر : ١٩] فيقال : ويقضى بالحق ولكن عدل عن ذلك لما في الاسم العلم لله تعالى من الإشعار بما يقتضيه المسمى به من صفات الكمال التي منها العدل في القضاء ، ونظيره في الإظهار في مقام الإضمار قوله تعالى : (أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَأْتِي الْأَرْضَ نَنْقُصُها مِنْ أَطْرافِها وَاللهُ يَحْكُمُ لا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ) [الرعد : ٤١]. وليحصل من تقديم المسند إليه على المسند الفعلي تقوّي المعنى ، ومنه قوله تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا

١٧٤

يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللهِ فَسَيُنْفِقُونَها ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ وَالَّذِينَ كَفَرُوا إِلى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ) [الأنفال : ٣٦] أعيد الموصول ولم يؤت بضمير (الَّذِينَ كَفَرُوا) ليفيد تقديم الاسم على الفعل تقوّي الحكم.

والجملة من تمام الغرض الذي سيقت إليه جملة (يَعْلَمُ خائِنَةَ الْأَعْيُنِ) [غافر : ١٩] كما تقدم ، وكلتاهما ناظرة إلى قوله : (ما لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلا شَفِيعٍ) [غافر : ١٨] أي أن ذلك من القضاء بالحق.

وأما جملة والذين تدعون (مِنْ دُونِهِ لا يَقْضُونَ بِشَيْءٍ) فناظرة إلى جملة (ما لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلا شَفِيعٍ) [غافر : ١٨] فبعد أن نفي عن أصنامهم الشفاعة ، نفي عنها القضاء بشيء ما بالحق أو بالباطل وذلك إظهار لعجزها. ولا تحسبنّ جملة والذين تدعون (مِنْ دُونِهِ لا يَقْضُونَ بِشَيْءٍ) مسوقة ضميمة إلى جملة : (وَاللهُ يَقْضِي بِالْحَقِ) ليفيد مجموع الجملتين قصر القضاء بالحق على الله تعالى قصر قلب ، أي دون الأصنام ، كما أفيد القصر من ضم الجملتين في قول السموأل أو عبد الملك الحارثي :

تسيل على حد الظّبات نفوسنا

وليست على غير الظّبات تسيل

لأن المنفي عن آلهتهم أعمّ من المثبت لله تعالى ، وليس مثل ذلك مما يضاد صيغة القصر لكفى في إفادته تقديم المسند إليه على الخبر الفعلي بحمله على إرادة الاختصاص في قوله : (وَاللهُ يَقْضِي بِالْحَقِ). فالمراد من قوله : والذين تدعون (مِنْ دُونِهِ لا يَقْضُونَ بِشَيْءٍ) التذكير بعجز الذين يدعونهم وأنهم غير أهل للإلهية ، وهذه طريقة في إثبات صفة لموصوف ثم تعقيب ذلك بإظهار نقيضه فيما يعدّ مساويا له كما في قول أمية بن أبي الصلت:

تلك المكارم لا قعبان من لبن

شيبا بماء فصار فيما بعد أبوالا

وإلّا لما كان لعطف قوله : لا قعبان من لبن ، مناسبة.

والدعاء يجوز أن يكون بمعنى النداء وأن يكون بمعنى العبادة كما تقدم آنفا.

وجملة (إِنَّ اللهَ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ) مقررة لجمل (يَعْلَمُ خائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَما تُخْفِي الصُّدُورُ) إلى قوله : (لا يَقْضُونَ بِشَيْءٍ) [غافر : ١٩ ، ٢٠]. فتوسيط ضمير الفصل مفيد للقصر وهو تعريض بأن آلهتهم لا تسمع ولا تبصر فكيف ينسبون إليها الإلهية ، وإثبات المبالغة في السمع والبصر لله تعالى يقرر معنى (يَقْضِي بِالْحَقِ) لأن العالم بكل شيء تتعلق حكمته بإرادة الباطل ولا تخطئ أحكامه بالعثار في الباطل. وتأكيد الجملة بحرف

١٧٥

التأكيد تحقيق للقصر. وقد ذكر التفتازانيّ في «شرح المفتاح» في مبحث ضمير الفصل أن القصر يؤكّد.

وقرأ نافع وهشام عن ابن عامر تدعون بتاء الخطاب على الالتفات من الغيبة إلى الخطاب لقرع أسماع المشركين بذلك. وقرأ الجمهور بياء الغيبة على الظاهر.

[٢١ ـ ٢٢] (أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ كانُوا مِنْ قَبْلِهِمْ كانُوا هُمْ أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَآثاراً فِي الْأَرْضِ فَأَخَذَهُمُ اللهُ بِذُنُوبِهِمْ وَما كانَ لَهُمْ مِنَ اللهِ مِنْ واقٍ (٢١) ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كانَتْ تَأْتِيهِمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَكَفَرُوا فَأَخَذَهُمُ اللهُ إِنَّهُ قَوِيٌّ شَدِيدُ الْعِقابِ (٢٢))

انتقال من إنذارهم بعذاب الآخرة على كفرهم إلى موعظتهم وتحذيرهم من أن يحل بهم عذاب الدنيا قبل عذاب الآخرة كما حلّ بأمم أمثالهم.

فالواو عاطفة جملة (أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ) على جملة (وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْآزِفَةِ) [غافر : ١٨] إلخ. والاستفهام تقريري على ما هو الشائع في مثله من الاستفهام الداخل على نفي في الماضي بحرف (لم) ، والتقرير موجه للذين ساروا من قريش ونظروا آثار الأمم الذين أبادهم الله جزاء تكذيبهم رسلهم ، فهم شاهدوا ذلك في رحلتيهم رحلة الشتاء ورحلة الصيف وإنهم حدثوا بما شاهدوه من تضمهم نواديهم ومجالسهم فقد صار معلوما للجميع ، فبهذا الاعتبار أسند الفعل المقرر به إلى ضمير الجمع على الجملة.

والمضارع الواقع بعد (لم) والمضارع الواقع في جوابه منقلبان إلى المضي بواسطة (لم). وتقدم شبيه هذه الآية في آخر سورة فاطر وفي سورة الروم.

والضمير المنفصل في قوله : (كانُوا هُمْ) ضمير فصل عائد إلى (لِلظَّالِمِينَ) [غافر : ١٨] وهم كفار قريش الذين أريدوا بقوله : (وَأَنْذِرْهُمْ) [غافر : ١٨] ، وضمير الفصل لمجرد توكيد الحكم وتقويته وليس مرادا به قصر المسند على المسند إليه ، أي قصر الأشدّية على ضمير : (كانُوا) إذ ليس للقصر معنى هنا كما تقدم في قوله تعالى : (إِنَّنِي أَنَا اللهُ) في سورة طه [١٤] وهذا ضابط التفرقة بين ضمير الفصل الذي يفيد القصر وبين الذي يفيد مجرد التأكيد. واقتصار القزويني في «تلخيص المفتاح» على إفادة ضمير الفصل الاختصاص تقصير تبع فيه كلام «المفتاح» وقد نبه عليه سعد الدين في «شرحه على التلخيص».

١٧٦

والمراد بالقوة القوة المعنوية وهي كثرة الأمة ووفرة وسائل الاستغناء عن الغير كما قال تعالى : (فَأَمَّا عادٌ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَقالُوا مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللهَ الَّذِي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً) [فصلت : ١٥].

وجملة (كانُوا هُمْ أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً) إلخ مستأنفة استئنافا بيانيا لتفصيل الإجمال الذي في قوله : (كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ كانُوا مِنْ قَبْلِهِمْ) لأن العبرة بالتفريع بعدها بقوله : (فَأَخَذَهُمُ اللهُ بِذُنُوبِهِمْ).

وقرأ الجمهور (مِنْهُمْ) بضمير الغائب ، وقرأه ابن عامر منكم بضمير خطاب الجماعة وكذلك رسمت في مصحف الشام ، وهذه الرواية جارية على طريقة الالتفات.

والآثار : جمع أثر ، وهو شيء أو شكل يرسمه فعل شيء آخر ، مثل أثر الماشي في الرمل قال تعالى : (فَقَبَضْتُ قَبْضَةً مِنْ أَثَرِ الرَّسُولِ) [طه : ٩٦] ومثل العشب أثر المطر في قوله تعالى : (فَانْظُرْ إِلى آثارِ رَحْمَتِ اللهِ كَيْفَ يُحْيِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها) [الروم : ٥٠] ، ويستعار الأثر لما يقع بعد شيء كقوله تعالى : (فَلَعَلَّكَ باخِعٌ نَفْسَكَ عَلى آثارِهِمْ) [الكهف : ٦].

والمراد بالأرض : أرض أمتهم.

والفاء في (فَأَخَذَهُمُ اللهُ) لتفريع الأخذ على كونهم أشدّ قوة من قريش لأن القوة أريد بها هنا الكناية عن الإباء من الحق والنفور من الدعوة ، فالتقدير : فأعرضوا ، أو فكفروا فأخذهم الله.

والآخذ : الاستئصال والإهلاك كنّي عن العقاب بالأخذ ، أو استعمل الأخذ مجازا في العقاب.

والذنوب : جمع ذنب وهو المعصية ، والمراد بها الإشراك وتكذيب الرسل ، وذلك يستتبع ذنوبا جمة ، وسيأتي تفسيرها بقوله : (ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كانَتْ تَأْتِيهِمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ).

ومعنى : (وَما كانَ لَهُمْ مِنَ اللهِ مِنْ واقٍ) ما كان لهم من عقابه وقدرته عليهم ، فالواقي : هو المدافع الناصر.

و (مِنْ) الأولى متعلقة ب (واقٍ) ، وقدم الجار والمجرور للاهتمام بالمجرور ، و (مِنْ) الثانية زائدة لتأكيد النفي بحرف (ما) وذلك إشارة إلى المذكور وهو أخذ الله إياهم بذنوبهم.

والباء للسببية ، أي ذلك الأخذ بسبب أنهم كانت تأتيهم رسلهم بالبينات فكفروا

١٧٧

بهم ، وفي هذا تفصيل للإجمال الذي في قوله : (فَأَخَذَهُمُ اللهُ بِذُنُوبِهِمْ). والجملة بعد (أنّ) المفتوحة في تأويل مصدر. فالتقدير : ذلك بسبب تحقق مجيء الرسل إليهم فكفرهم بهم.

وأفاد المضارع في قوله : (تَأْتِيهِمْ) تجدد الإتيان مرة بعد مرة لمجموع تلك الأمم ، أي يأتي لكل أمة منهم رسول ، فجمع الضمير في (تَأْتِيهِمْ) و (رُسُلُهُمْ) وجمع الرسل في قوله : (رُسُلُهُمْ) من مقابلة الجمع بالجمع ، فالمعنى : أن كل أمة منهم أتاها رسول. ولم يؤت بالمضارع في قوله : (فَكَفَرُوا) لأن كفر أولئك الأمم واحد وهو الإشراك وتكذيب الرسل.

وكرر قوله : (فَأَخَذَهُمُ اللهُ) بعد أن تقدم نظيره في قوله : (فَأَخَذَهُمُ اللهُ بِذُنُوبِهِمْ) إلخ إطنابا لتقرير أخذ الله إياهم بكفرهم برسلهم ، وتهويلا على المنذرين بهم أن يساووهم في عاقبتهم كما ساووهم في أسبابها.

وجملة : (إِنَّهُ قَوِيٌّ شَدِيدُ الْعِقابِ) تعليل وتبيين لأخذ الله إياهم وكيفيته وسرعة أخذه المستفادة من فاء التعقيب ، فالقويّ لا يعجزه شيء فلا يعطل مراده ولا يتريث ، و (شَدِيدُ الْعِقابِ) بيان لذلك الأخذ على حد قوله تعالى : (فَأَخَذْناهُمْ أَخْذَ عَزِيزٍ مُقْتَدِرٍ) [القمر : ٤٢].

[٢٣ ـ ٢٤] (وَلَقَدْ أَرْسَلْنا مُوسى بِآياتِنا وَسُلْطانٍ مُبِينٍ (٢٣) إِلى فِرْعَوْنَ وَهامانَ وَقارُونَ فَقالُوا ساحِرٌ كَذَّابٌ (٢٤))

هذا ذكر فريق آخر من الأمم لم يشهد العرب آثارهم وهم قوم فرعون أقباط مصر ، وتقدم نظير هذه الآية في أواخر سورة هود. وتقدم ذكر هامان وهو لقب وزير فرعون في سورة القصص. وفي هذه القصة أنها تزيد على ما أجمل من قصص أمم أخرى أن فيها عبرتين : عبرة بكيد المكذبين وعنادهم ثم هلاكهم ، وعبرة بصبر المؤمنين وثباتهم ثم نصرهم ، وفي كلتا العبرتين وعيد ووعد.

وجملة : (فَقالُوا ساحِرٌ كَذَّابٌ) معترضة بين جملة (وَلَقَدْ أَرْسَلْنا مُوسى) وبين جملة (فَلَمَّا جاءَهُمْ بِالْحَقِ) [غافر : ٢٥].

وقارون هو من بني إسرائيل كذب موسى ، وتقدم ذكره في القصص ، وقد قيل إنه كان منقطعا إلى فرعون وخادما له ، وهذا بعيد لأنه كان في زمرة من خرج مع موسى ، أي فاشترك أولئك في رمي رسولهم بالكذب والسحر كما فعلت قريش.

١٧٨

(فَلَمَّا جاءَهُمْ بِالْحَقِّ مِنْ عِنْدِنا قالُوا اقْتُلُوا أَبْناءَ الَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ وَاسْتَحْيُوا نِساءَهُمْ وَما كَيْدُ الْكافِرِينَ إِلاَّ فِي ضَلالٍ (٢٥))

أي رموه ابتداء بأنه ساحر كذاب توهما أنهم يلقمونه حجر الإحجام فلما استمر على دعوته وجاءهم بالحق ، أي أظهر لهم الآيات الحقّ ، أي الواضحة ، فأطلق (جاءَهُمْ) على ظهور الحق كقوله تعالى : (جاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْباطِلُ) [الإسراء : ٨١].

و (مِنْ عِنْدِنا) وصف للحق لإفادة أنه حق خارق للعادة لا يكون إلا من تسخير الله وتأييده ، وهو آيات نبوته التسع.

ووجه وقوع (فَلَمَّا جاءَهُمْ بِالْحَقِّ مِنْ عِنْدِنا) بعد قوله : (أَرْسَلْنا مُوسى بِآياتِنا) [غافر : ٢٣] مع اتحاد مفاد الجملتين فإن مفاد جملة (جاءَهُمْ) مساو لمفاد جملة (أَرْسَلْنا) ومفاد قوله : (بِالْحَقِ) مساو لمفاد قوله : (بِآياتِنا وَسُلْطانٍ مُبِينٍ) [غافر : ٢٣] أن الأول للتنويه برسالة موسى وعظمة موقفه أمام أعظم ملوك الأرض يومئذ ، وأما قوله : (فَلَمَّا جاءَهُمْ بِالْحَقِ) فهو بيان لدعوته إياهم وما نشأ عنها ، وتقدير الكلام : أرسلنا موسى بآياتنا إلى فرعون فلما جاءهم بالحق ، فسلكت في هذا النظم طريقة الإطناب للتنويه والتشريف.

وجملة (فَقالُوا ساحِرٌ كَذَّابٌ) معترضة. وأرادوا بقولهم اقتلوا أبناء الذين معه أن يرهبوا أتباعه حتى ينفضوا عنه فلا يجد أنصارا ويبقى بنو إسرائيل في خدمة المصريين.

وضمير (جاءَهُمْ) يحمل على أنه عائد إلى غير مذكور في اللفظ لأنه ضمير جمع يدل عليه المقام وهم أهل مجلس فرعون الذين لا يخلو عنهم مجلس الملك في مثل هذه الحوادث العظيمة كما في قوله تعالى : (وَقالَ فِرْعَوْنُ يا أَيُّهَا الْمَلَأُ ما عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرِي فَأَوْقِدْ لِي يا هامانُ عَلَى الطِّينِ) [القصص : ٣٨] الآية. وليس عائدا إلى فرعون وهامان وقارون ، لأن قارون لم يكن مع فرعون حين دعاه موسى ولم يكن من المكذبين لموسى في وقت حضوره لدى فرعون ولكنه طغا بعد خروج بني إسرائيل من مصر وبلغ به طغيانه إلى الكفر كما تقدم في قصته في سورة القصص.

والضمير في قولهم : (اقْتُلُوا) مخاطب به فرعون خطاب تعظيم مثل (رَبِّ ارْجِعُونِ) [المؤمنون : ٩٩]. وإنما أبهم القائلون لعدم تعلق الغرض بعلمه ، ففعل (قالُوا) بمنزلة المبني للنائب أو بمنزلة : قال قائل ، لأن المقصود قوله بعده : (وَما كَيْدُ الْكافِرِينَ

١٧٩

إِلَّا فِي ضَلالٍ). وهو محل الاعتبار لقريش بأن كيد أمثالهم كان مضاعا فكذلك يكون كيدهم. وهذا القتل غير القتل الذي فعله فرعون الذي ولد موسى في زمنه.

وسمي هذا الرأي كيدا لأنهم تشاوروا فيه فيما بينهم دون أن يعلم بذلك موسى والذين آمنوا معه وأنهم أضمروه ولم يعلنوه ثم شغلهم عن إنفاذه ما حلّ بهم من المصائب التي ذكرت في قوله تعالى في سورة الأعراف [١٣٠] : (وَلَقَدْ أَخَذْنا آلَ فِرْعَوْنَ بِالسِّنِينَ) الآية ، ثم بقوله : (فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمُ الطُّوفانَ وَالْجَرادَ) [الأعراف : ١٣٣] الآية.

والضلال : الضياع والاضمحلال كقوله : (قالُوا أَإِذا ضَلَلْنا فِي الْأَرْضِ أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ) [السجدة : ١٠] أي هذا الكيد الذي دبروه قد أخذ الله على أيديهم فلم يجدوا لانقاذه سبيلا.

(وَقالَ فِرْعَوْنُ ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسى وَلْيَدْعُ رَبَّهُ إِنِّي أَخافُ أَنْ يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَنْ يُظْهِرَ فِي الْأَرْضِ الْفَسادَ (٢٦))

عطف (وَقالَ) بالواو يدل على أنه قال هذا القول في موطن آخر ولم يكن جوابا لقولهم : (اقْتُلُوا أَبْناءَ الَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ) [غافر : ٢٥] ، وفي هذا الأسلوب إيماء إلى أن فرعون لم يعمل بإشارة الذين قالوا : (اقْتُلُوا أَبْناءَ الَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ) وأنه سكت ولم يراجعهم بتأييد ولا إعراض ، ثم رأى أن الأجدر قتل موسى دون أن يقتل الذين آمنوا معه لأن قتله أقطع لفتنتهم.

ومعنى : (ذَرُونِي) إعلامهم بعزمه بضرب من إظهار ميله لذلك وانتظاره الموافقة عليه بحيث يمثل حاله وحال المخاطبين بحال من يريد فعل شيء فيصدّ عنه ، فلرغبته فيه يقول لمن يصده : دعني أفعل كذا ، لأن ذلك التركيب مما يخاطب به الممانع والملائم ونحوهما ، قال طرفة :

فان كنت لا تستطيع دفع منيتي

فدعني أبادرها بما ملكت يدي

 ثم استعمل هذا في التعبير عن الرغبة ولم يكن ثمة معارض أو ممانع ، وهو استعمال شائع في هذا وما يرادفه مثل : دعني وخلّني ، كما في قوله تعالى : (ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيداً) [المدثر : ١١] وقوله : (وَذَرْنِي وَالْمُكَذِّبِينَ) [المزمل : ١١] ، وقول أبي القاسم السهيلي :

١٨٠