تفسير التّحرير والتّنوير - ج ٢٤

الشيخ محمّد الطاهر ابن عاشور

تفسير التّحرير والتّنوير - ج ٢٤

المؤلف:

الشيخ محمّد الطاهر ابن عاشور


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة التاريخ العربي للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٢٦٨

بسم الله الرّحمن الرّحيم

٤٠ ـ سورة المؤمن

وردت تسمية هذه السورة في السنة «حم المؤمن» روى الترمذي عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : قرأ (حم) المؤمن إلى (إِلَيْهِ الْمَصِيرُ) [غافر : ١ ـ ٣] ، وآية الكرسي حين يصبح حفظ بهما» الحديث. وبذلك اشتهرت في مصاحف المشرق ، وبذلك ترجمها البخاري في «صحيحه» والترمذي في «الجامع». ووجه التسمية أنها ذكرت فيها قصة مؤمن آل فرعون ولم تذكر في سورة أخرى بوجه صريح.

والوجه في إعراب هذا الاسم حكاية كلمة (حم) ساكنة الميم بلفظها الذي يقرأ. وبإضافته إلى لفظ «المؤمن» بتقدير : سورة حم ذكر المؤمن أو لفظ المؤمن وتسمى أيضا «سورة الطّول» لقوله تعالى في أولها : (ذِي الطَّوْلِ) [غافر : ٣] وقد تنوسي هذا الاسم. وتسمى سورة غافر لذكر وصفه تعالى : (غافِرِ الذَّنْبِ) [غافر : ٣] في أولها. وبهذا الاسم اشتهرت في مصاحف المغرب.

وهي مكية بالاتفاق وعن الحسن استثناء قوله تعالى : (وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِبْكارِ) [غافر : ٥٥] ، لأنه كان يرى أنها نزلت في فرض الصلوات الخمس وأوقاتها. ويرى أن فرض صلوات خمس وأوقاتها ما وقع إلا في المدينة وإنما كان المفروض بمكة ركعتين كل يوم من غير توقيت ، وهو من بناء ضعيف على ضعيف فإن الجمهور على أن الصلوات الخمس فرضت بمكة في أوقاتها على أنه لا يتعين أن يكون المراد بالتسبيح في تلك الآية الصلوات بل يحمل على ظاهر لفظه من كل قول ينزه به الله تعالى.

وأشذ منه ما روي عن أبي العالية أن قوله تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ يُجادِلُونَ فِي آياتِ اللهِ بِغَيْرِ سُلْطانٍ أَتاهُمْ إِنْ فِي صُدُورِهِمْ إِلَّا كِبْرٌ ما هُمْ بِبالِغِيهِ) [غافر : ٥٦] نزلت في يهود من المدينة جادلوا النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم في أمر الدجال وزعموا أنه منهم. وقد جاء في أول السورة [٤]

١٤١

(ما يُجادِلُ فِي آياتِ اللهِ إِلَّا الَّذِينَ كَفَرُوا). والمراد بهم : المشركون.

وهذه السورة جعلت الستين في عداد ترتيب نزول السور نزلت بعد سورة الزمر وقبل سورة فصّلت وهي أول سور (آل حم) نزولا. وقد كانت هذه السورة مقروءة عقب وفاة أبي طالب ، أي سنة ثلاث قبل الهجرة لما سيأتي أن أبا بكر قرأ آية (أَتَقْتُلُونَ رَجُلاً أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللهُ) [غافر : ٢٨] حين آذى نفر من قريش رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم حول الكعبة ، وإنما اشتد أذى قريش رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بعد وفاة أبي طالب.

والسور المفتتحة بكلمة (حم) سبع سور مرتبة في المصحف على ترتيبها في النزول ويدعى مجموعها «آل حم» جعلوا لها اسم (آل) لتآخيها في فواتحها. فكأنها أسرة واحدة وكلمة (آل) تضاف إلى ذي شرف (ويقال لغير المقصود تشريفه أهل فلان) قال الكميت:

قرأنا لكم في آل حاميم آية

تأوّلها منا فقيه ومعرب

يريد قول الله تعالى في سورة «حم عسق» (قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبى) [الشورى : ٢٣] على تأويل غير ابن عباس فلذلك عززه بقوله : تأوّلها منا فقيه ومعرب.

وربما جمعت السور المفتتحة بكلمة (حم) فقيل الحواميم جمع تكسير على زنة فعاليل لأن مفرده على وزن فاعيل وزنا عرض له من تركيب اسمي الحرفين : حا ، ميم ، فصار كالأوزان العجمية مثل (قابيل) ، و (راحيل) وما هو بعجمي لأنه وزن عارض لا يعتدّ به. وجمع التكسير على فعاليل يطرد في مثله. وقد ثبت أنهم جمعوا (حم) على حواميم في أخبار كثيرة عن ابن مسعود ، وابن عباس ، وسمرة بن جندب ، ونسب في بعض الأخبار إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ولم يثبت بسند صحيح. ومثله السور المفتتحة بكلمة (طس) أو (طسم) جمعوها على طواسين بالنون تغليبا. وأنشد أبو عبيدة أبياتا لم يسم قائلها :

حلفت بالسبع الألى قد طوّلت

وبمئين بعدها قد أمّئت

وبثمان ثنيت وكررت

وبالطواسين اللواتي ثلثت

وبالحواميم اللواتي سبعت

وبالمفصل التي قد فصّلت

وعن أبي عبيدة والفراء أن قول العامة الحواميم ليس من كلام العرب وتبعهما أبو منصور الجواليقي.

وقد عدت آيها أربعا وثمانين في عد أهل المدينة وأهل مكة ، وخمسا وثمانين في

١٤٢

عد أهل الشام والكوفة ، واثنتين وثمانين في عد أهل البصرة.

أغراض هذه السورة

تضمنت هذه السورة أغراضا من أصول الدعوة إلى الإيمان ، فابتدئت بما يقتضي تحدي المعاندين في صدق القرآن كما اقتضاه الحرفان المقطّعان في فاتحتها كما تقدم في أول سورة البقرة [١].

وأجري على اسم الله تعالى من صفاته ما فيه تعريض بدعوتهم إلى الإقلاع عما هم فيه ، فكانت فاتحة السورة مثل ديباجة الخطبة مشيرة إلى الغرض من تنزيل هذه السورة. وعقب ذلك بأنّ دلائل تنزيل هذا الكتاب من الله بينة لا يجحدها إلا الكافرون من الاعتراف بها حسدا ، وأن جدالهم تشغيب وقد تكرر ذكر المجادلين في آيات الله خمس مرات في هذه السورة ، وتمثيل حالهم بحال الأمم التي كذبت رسل الله بذكرهم إجمالا ، ثم التنبيه على آثار استئصالهم وضرب المثل بقوم فرعون. وموعظة مؤمن آل فرعون قومه بمواعظ تشبه دعوة محمدصلى‌الله‌عليه‌وسلم قومه. والتنبيه على دلائل تفرد الله تعالى بالإلهية إجمالا. وإبطال عبادة ما يعبدون من دون الله. والتذكير بنعم الله على الناس ليشكره الذين أعرضوا عن شكره. والاستدلال على إمكان البعث. وإنذارهم بما يلقون من هوله وما يترقبهم من العذاب ، وتوعدهم بأن لا نصير لهم يومئذ وبأن كبراءهم يتبرءون منهم. وتثبيت الله رسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بتحقيق نصر هذا الدين في حياته وبعد وفاته. وتخلل ذلك الثناء على المؤمنين ووصف كرامتهم وثناء الملائكة عليهم.

وورد في فضل هذه السورة الحديث الذي رواه الترمذي عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «من قرأ (حم) المؤمن إلى (إِلَيْهِ الْمَصِيرُ) [غافر : ١ ، ٣] وآية الكرسي حين يصبح حفظ بهما حتى يمسي ، ومن قرأهما حين يمسي حفظ بهما حتى يصبح»

(حم (١))

القول فيه كالقول في نظائره من الحروف المقطّعة في أوائل السور ، وأن معظمها وقع بعده ذكر القرآن وما يشير إليه لتحدّي المنكرين بالعجز عن معارضته. وقد مضى ذلك في أول سورة البقرة وذكرنا هنالك أن الحروف التي أسماؤها ممدودة الآخر ينطق بها في هذه الفواتح مقصورة بحذف الهمزة تخفيفا لأنها في حالة الوقف مثل اسم (حا) في هذه السورة واسم (را) في (الر) واسم (يا) في (يس).

١٤٣

(تَنْزِيلُ الْكِتابِ مِنَ اللهِ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ (٢))

القول فيه كالقول في فاتحة سورة الزمر. ويزاد هنا أن المقصود بتوجيه هذا الخبر هم المشركون المنكرون أن القرآن منزل من عند الله. فتجريد الخبر عن المؤكد إخراج له على خلاف مقتضى الظاهر بجعل المنكر كغير المنكر لأنه يحف به من الأدلة ما إن تأمّله ارتدع عن إنكاره فما كان من حقه أن ينكر ذلك.

(غافِرِ الذَّنْبِ وَقابِلِ التَّوْبِ شَدِيدِ الْعِقابِ ذِي الطَّوْلِ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ إِلَيْهِ الْمَصِيرُ (٣))

أجريت على اسم الله ستة نعوت معارف ، بعضها بحرف التعريف وبعضها بالإضافة إلى معرّف بالحرف.

ووصف الله بوصفي (الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ) [غافر : ٢] هنا تعريض بأن منكري تنزيل الكتاب منه مغلوبون مقهورون ، وبأن الله يعلم ما تكنّه نفوسهم فهو محاسبهم على ذلك ، ورمز إلى أن القرآن كلام العزيز العليم فلا يقدر غير الله على مثله ولا يعلم غير الله أن يأتي بمثله.

وهذا وجه المخالفة بين هذه الآية ونظيرتها من أول سورة الزمر التي جاء فيها وصف (الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ) [الزمر : ١] على أنه يتأتى في الوصف بالعلم ما تأتّى في بعض احتمالات وصف (الْحَكِيمِ) في سورة الزمر. ويتأتى في الوصفين أيضا ما تأتّى هنالك من طريقي إعجاز القرآن. وفي ذكرهما رمز إلى أن الله أعلم حيث يجعل رسالته وأنه لا يجاري أهواء الناس فيمن يرشحونه لذلك من كبرائهم (وَقالُوا لَوْ لا نُزِّلَ هذَا الْقُرْآنُ عَلى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ) [الزخرف : ٣١].

وفي اتباع الوصفين العظيمين بأوصاف (غافِرِ الذَّنْبِ وَقابِلِ التَّوْبِ شَدِيدِ الْعِقابِ ذِي الطَّوْلِ) ترشيح لذلك التعريض كأنه يقول : إن كنتم أذنبتم بالكفر بالقرآن فإن تدارك ذنبكم في مكنتكم لأن الله مقرّر اتصافه بقبول التوبة وبغفران الذنب فكما غفر لمن تابوا من الأمم فقبل إيمانهم يغفر لمن يتوب منكم.

وتقديم (غافِرِ) على (قابِلِ التَّوْبِ) مع أنه مرتب عليه في الحصول للاهتمام بتعجيل الإعلام به لمن استعدّ لتدارك أمره فوصف (غافِرِ الذَّنْبِ وَقابِلِ التَّوْبِ) تعريض بالترغيب ، وصفتا (شَدِيدِ الْعِقابِ ذِي الطَّوْلِ) تعريض بالترهيب. والتوب : مصدر تاب،

١٤٤

والتوب بالمثناة والثوب بالمثلثة والأوب كلها بمعنى الرجوع ، أي الرجوع إلى أمر الله وامتثاله بعد الابتعاد عنه. وإنما عطفت صفة (وَقابِلِ التَّوْبِ) بالواو على صفة (غافِرِ الذَّنْبِ) ولم تفصل كما فصلت صفتا (الْعَلِيمِ) [غافر : ٢] (غافِرِ الذَّنْبِ) وصفة (شَدِيدِ الْعِقابِ) إشارة إلى نكتة جليلة وهي إفادة أن يجمع للمذنب التائب بين رحمتين بين أن يقبل توبته فيجعلها له طاعة ، وبين أن يمحو عنه بها الذنوب التي تاب منها وندم على فعلها ، فيصبح كأنه لم يفعلها. وهذا فضل من الله.

وقوله : (شَدِيدِ الْعِقابِ) إفضاء بصريح الوعيد على التكذيب بالقرآن لأن مجيئه بعد قوله : (تَنْزِيلُ الْكِتابِ مِنَ اللهِ) [غافر : ٢] يفيد أنه المقصود من هذا الكلام بواسطة دلالة مستتبعات التراكيب.

والمراد ب (غافِرِ) و (قابِلِ) أنه موصوف بمدلوليهما فيما مضى إذ ليس المراد أنه سيغفر وسيقبل ، فاسم الفاعل فيهما مقطوع عن مشابهة الفعل ، وهو غير عامل عمل الفعل ، فلذلك يكتسب التعريف بالإضافة التي تزيد تقريبه من الأسماء ، وهو المحمل الذي لا يناسب غيره هنا.

و (شَدِيدِ) صفة مشبّهة مضافة لفاعلها ، وقد وقعت نعتا لاسم الجلالة اعتدادا بأن التعريف الداخل على فاعل الصفة يقوم مقام تعريف الصفة فلم يخالف ما هو المعروف في الكلام من اتحاد النعت والمنعوت في التعريف واكتساب الصفة المشبهة التعريف بالإضافة هو قول نحاة الكوفة طردا لباب التعريف بالإضافة ، وسيبويه يجوز اكتساب الصفات المضافة التعريف بالإضافة إلّا الصفة المشبهة لأن إضافتها إنما هي لفاعلها في المعنى لأن أصل ما تضاف إليه الصفة المشبهة أنه كان فاعلا فكانت إضافتها إليه مجرد تخفيف لفظي والخطب سهل.

والطول يطلق على سعة الفضل وسعة المال ، ويطلق على مطلق القدرة كما في «القاموس» ، وظاهره الإطلاق وأقره في «تاج العروس» وجعله من معنى هذه الآية ، ووقوعه مع (شَدِيدِ الْعِقابِ) ومزاوجتها بوصفي (غافِرِ الذَّنْبِ وَقابِلِ التَّوْبِ) ليشير إلى التخويف بعذاب الآخرة من وصف (شَدِيدِ الْعِقابِ) ، وبعذاب الدنيا من وصف (ذِي الطَّوْلِ) كقوله : (أَوْ نُرِيَنَّكَ الَّذِي وَعَدْناهُمْ فَإِنَّا عَلَيْهِمْ مُقْتَدِرُونَ) [الزخرف : ٤٢] ، وقوله : (قُلْ إِنَّ اللهَ قادِرٌ عَلى أَنْ يُنَزِّلَ آيَةً) [الأنعام : ٣٧]. وأعقب ذلك بما يدل على الوحدانية وبأن المصير ، أي المرجع إليه تسجيلا لبطلان الشرك وإفسادا لإحالتهم البعث.

فجملة (لا إِلهَ إِلَّا هُوَ) في موضع الصفة ، وأتبع ذلك بجملة (إِلَيْهِ الْمَصِيرُ) إنذارا

١٤٥

بالبعث والجزاء لأنه لما أجريت صفات (غافِرِ الذَّنْبِ وَقابِلِ التَّوْبِ شَدِيدِ الْعِقابِ) أثير في الكلام الإطماع والتخويف فكان حقيقا بأن يشعروا بأن المصير إما إلى ثوابه وإما إلى عقابه فليزنوا أنفسهم ليضعوها حيث يلوح من حالهم.

وتقديم المجرور في (إِلَيْهِ الْمَصِيرُ) للاهتمام وللرعاية على الفاصلة بحرفين : حرف لين ، وحرف صحيح مثل : العليم ، والبلاد ، وعقاب.

وقد اشتملت فاتحة هذه السورة على ما يشير إلى جوامع أغراضها ويناسب الخوض في تكذيب المشركين بالقرآن ويشير إلى أنهم قد اعتزوا بقوتهم ومكانتهم وأن ذلك زائل عنهم كما زال عن أمم أشد منهم ، فاستوفت هذه الفاتحة كمال ما يطلب في فواتح الأغراض مما يسمى براعة المطلع أو براعة الاستهلال.

(ما يُجادِلُ فِي آياتِ اللهِ إِلاَّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَلا يَغْرُرْكَ تَقَلُّبُهُمْ فِي الْبِلادِ (٤))

استئناف بياني نشأ من قوله : (تَنْزِيلُ الْكِتابِ مِنَ اللهِ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ) [غافر : ٢] المقتضي أن كون القرآن منزلا من عند الله أمر لا ريب فيه كما تقدم ، فينشأ في نفوس السامعين أن يقولوا : فما بال هؤلاء المجادلين في صدق نسبة القرآن إلى الله لم تقنعهم دلائل نزول القرآن من الله ، فأجيب بأنه ما يجادل في صدق القرآن إلا الذين كفروا بالله وإذ قد كان كفر المكذبين بالقرآن أمرا معلوما كان الإخبار عنهم بأنهم كافرون غير مقصود منه إفادة اتصافهم بالكفر ، فتعين أن يكون الخبر غير مستعمل في فائدة الخبر لا بمنطوقه ولا بمفهومه ، فإن مفهوم الحصر وهو : أن الذين آمنوا لا يجادلون في آيات الله كذلك أمر معلوم مقرر ، فيجوز أن يجعل المراد بالذين كفروا نفس المجادلين في آيات الله وأن المراد بكفرهم كفرهم بوحدانية الله بسبب إشراكهم ، فالمعنى : لا عجب في جدالهم بآيات الله فإنهم أتوا بما هو أعظم وهو الإشراك على طريقة قوله تعالى : (يَسْئَلُكَ أَهْلُ الْكِتابِ أَنْ تُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ كِتاباً مِنَ السَّماءِ فَقَدْ سَأَلُوا مُوسى أَكْبَرَ مِنْ ذلِكَ فَقالُوا أَرِنَا اللهَ جَهْرَةً) [النساء : ١٥٣].

ويجوز أن يجعل المراد بالذين كفروا جميع الكافرين بالله من السابقين والحاضرين ، أي ما الجدل في آيات الله إلا من شأن أهل الكفر والإشراك ، ومجادلة مشركي مكة شعبة من شعب مجادلة كل الكافرين ، فيكون استدلالا بالأعمّ على الخاص ، وعلى كلا الوجهين ترك عطف هذه الجملة على التي قبلها.

والمراد بالمجادلة هنا المجادلة بالباطل بقرينة السياق فمعنى (فِي آياتِ اللهِ) في

١٤٦

صدق آيات الله بقرينة قوله : (تَنْزِيلُ الْكِتابِ مِنَ اللهِ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ) [غافر : ٢] فتعين تقدير مضاف دل عليه المقام كما دل قوله تعالى عن إبراهيم عليه‌السلام : (يُجادِلُنا فِي قَوْمِ لُوطٍ) [هود : ٧٤] ، على تقدير : في إهلاك قوم لوط ، فصيغة المفاعلة للمبالغة في الفعل من جانب واحد لإفادة التكرر مثل : سافر وعافاه الله ، وهم يتلونون في الاختلاق ويعاودون التكذيب والقول الزور من نحو قولهم : (أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ) [الأنعام : ٢٥] ، (سِحْرٌ مُبِينٌ) [المائدة : ١١٠] ، (بِقَوْلِ كاهِنٍ) [الحاقة : ٤٢] ، (بِقَوْلِ شاعِرٍ) [الحاقة : ٤١] لا ينفكون عن ذلك. ومن المجادلة توركهم على الرسولصلى‌الله‌عليه‌وسلم بسؤاله أن يأتيهم بآيات كما يقترحون ، نحو قولهم : (لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعاً) [الإسراء : ٩٠] الآيات وقولهم : (لَوْ لا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيراً) [الفرقان : ٧] الآيات.

وقد كان لتعلق (فِي) الظرفية بالجدال ، ولدخوله على نفس الآيات دون أحوالها في قوله : (ما يُجادِلُ فِي آياتِ اللهِ) موقع عظيم من البلاغة لأن الظرفية تحوي جميع أصناف الجدال ، وجعل مجرور الحرف نفس الآيات دون تعيين نحو صدقها أو وقوعها أو صنفها ، فكان قوله : (فِي آياتِ اللهِ) جامعا للجدل بأنواعه ولمتعلّق الجدل باختلاف أحواله والمراد الجدال بالباطل كما دل عليه تنظير حالهم بحال من قال فيهم (وَجادَلُوا بِالْباطِلِ) [غافر : ٥] فإذا أريد الجدال بالحق يقيد فعل الجدال بما يدل عليه.

والمعنى : ما يجادل في آيات الله أنها من عند الله ، فإن القرآن تحدّاهم أن يأتوا بمثله فعجزوا ، وإنما هو تلفيق وتستر عن عجزهم عن ذلك واعتصام بالمكابرة فمجادلتهم بعد ما تقدم من التحدّي دالة على تمكن الكفر منهم وأنهم معاندون وبذلك حصل المقصود من فائدة هذا وإلّا فكونهم كفارا معلوم.

وإظهار اسم الجلالة في قوله : (ما يُجادِلُ فِي آياتِ اللهِ) دون أن يقول : في آياته ، لتفظيع أمرها بالصريح لأن ذكر اسم الجلالة مؤذن بتفظيع جدالهم وكفرهم وللتصريح بزيادة التنويه بالقرآن.

وفرع قوله : (فَلا يَغْرُرْكَ تَقَلُّبُهُمْ فِي الْبِلادِ) على مضمون (ما يُجادِلُ فِي آياتِ اللهِ إِلَّا الَّذِينَ كَفَرُوا) لما علمت من أن مقتضى تلك الجملة أن المجادلين في آيات الله هم أهل الكفر ، وذلك من شأنه أن يثير في نفس من يراهم في متعة ونعمة أن يتساءل في نفسه كيف يتركهم الله على ذلك ويظنّ أنهم أمنوا من عذاب الله ، ففرع عليه الجواب (فَلا يَغْرُرْكَ تَقَلُّبُهُمْ فِي الْبِلادِ) أي إنما هو استدراج ومقدار من حلم الله ورحمته بهم وقتا ما ،

١٤٧

أو أن معناه نحن نعلم أنهم يجادلون في آياتنا إصرارا على الكفر فلا يوهمك تقلبهم في البلاد أنا لا نؤاخذهم بذلك.

والغرور : ظن أحد شيئا حسنا وهو بضده يقال : غرّك ، إذا جعلك تظن السيّئ حسنا. ويكون التغرير بالقول أو بتحسين صورة القبيح.

والتقلب : اختلاف الأحوال ، وهو كناية عن تناول محبوب ومرغوب. و (الْبِلادِ) الأرض ، وأريد بها هنا الدنيا كناية عن الحياة.

والمخاطب بالنهي في قوله : (فَلا يَغْرُرْكَ) يجوز أن يكون غير معين فيعم كل من شأنه أن يغره تقلب الذين كفروا في البلاد ، وعلى هذا يكون النهي جاريا على حقيقة بابه ، أي موجها إلى من يتوقع منه الغرور ، ومثله كثير في كلامهم ، قال كعب بن زهير :

فلا يغرّنك ما منّت وما وعدت

إنّ الأمانيّ والأحلام تضليل

ويجوز أن يكون الخطاب موجها للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم على أن تكون صيغة النهي تمثيلية بتمثيل حال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم في استبطائه عقاب الكافرين بحال من غرّه تقلبهم في البلاد سالمين ، كقوله تعالى : (ذَرْهُمْ يَأْكُلُوا وَيَتَمَتَّعُوا وَيُلْهِهِمُ الْأَمَلُ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ) [الحجر : ٣].

والمعنى : لا يوهمنك تناولهم مختلف النعماء واللذات في حياتهم أننا غير مؤاخذيهم على جدالهم في آياتنا ، أو لا يوهمنك ذلك أننا لا نعلم ما هم عليه فلم نؤاخذهم به تنزيلا للعالم منزلة الجاهل في شدة حزن الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم على دوام كفرهم ومعاودة أذاهم كقوله : (وَلا تَحْسَبَنَّ اللهَ غافِلاً عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ) [إبراهيم : ٤٢] ، وفي معنى هذه قوله تعالى : (لا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلادِ مَتاعٌ قَلِيلٌ ثُمَّ مَأْواهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهادُ) وتقدمت في آل عمران [١٩٦ ، ١٩٧].

(كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَالْأَحْزابُ مِنْ بَعْدِهِمْ وَهَمَّتْ كُلُّ أُمَّةٍ بِرَسُولِهِمْ لِيَأْخُذُوهُ وَجادَلُوا بِالْباطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ فَأَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كانَ عِقابِ (٥))

جملة (كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ) وما بعدها بيان لجملة (فَلا يَغْرُرْكَ تَقَلُّبُهُمْ فِي الْبِلادِ) [غافر : ٤] باعتبار التفريع الواقع عقب هاته الجمل من قوله : (فَأَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كانَ عِقابِ) ، فالمعنى : سبقتهم أمم بتكذيب الرسل كما كذبوك وجادلوا بالباطل رسلهم كما جادلك هؤلاء فأخذتهم فكيف رأيت عقابي إياهم كذلك مثل هؤلاء في إمهالهم إلى أن آخذهم.

١٤٨

والأحزاب : جمع حزب بكسر الحاء وسكون الزاي وهو اسم للجماعة الذين هم سواء في شأن : من اعتقاد أو عمل أو عادة. والمراد بهم هنا الأمم الذين كانت كل أمة منهم متفقة في الدين ، فكل أمة منهم حزب فيما اتفقت عليه.

وفي قوله : (مِنْ بَعْدِهِمْ) إشارة إلى أن قوم نوح كانوا حزبا أيضا فكانوا يدينون بعبادة الأصنام : يغوث ، ويعوق ، ونسر ، وودّ ، وسواع ، وكذلك كانت كل أمة من الأمم التي كذبت الرسل حزبا متفقين في الدين ، فعاد حزب ، وثمود حزب ، وأصحاب الأيكة حزب ، وقوم فرعون حزب. والمعنى : أنهم جميعا اشتركوا في تكذيب الرسل وإن تخالف بعض الأمم مع بعضها في الأديان. وفي الجمع بين (قَبْلَهُمْ) و (مِنْ بَعْدِهِمْ) محسّن الطباق في الكلام.

والهمّ : العزم. وحقه أن يعدّى بالباء إلى المعاني لأن العزم فعل نفساني لا يتعلق إلا بالمعاني. كقوله تعالى : (وَهَمُّوا بِما لَمْ يَنالُوا) [التوبة : ٧٤] ، ولا يتعدّى إلى الذوات ، فإذا عدّي إلى اسم ذات تعيّن تقدير معنى من المعاني التي تلابس الذات يدل عليها المقام كما في قوله تعالى : (وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ) [يوسف : ٢٤] أي همّت بمضاجعته. وقد يذكر بعد اسم الذات ما يدل على المعنى الذي يهمّ به كما في قوله هنا : (لِيَأْخُذُوهُ) إن الهمّ بأخذه ، وارتكاب هذا الأسلوب لقصد الإجمال الذي يعقبه التفصيل ، ومثله تعلق أفعال القلوب بالأسماء في ظننتك جائيا ، أي ظننت مجيئك.

والأخذ يستعمل مجازا بمعنى التصرف في الشيء بالعقاب والتعذيب والقتل ونحو ذلك من التنكيل ، قال تعالى : (فَأَخَذَهُمْ أَخْذَةً رابِيَةً) [الحاقة : ١٠] ويقال للأسير : أخيذ ، وللقتيل : أخيذ.

واختير هذا الفعل هنا ليشمل مختلف ما همّت به كل أمة برسولها من قتل أو غيره كما قال تعالى : (وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ) [الأنفال : ٣٠].

والمعنى : أن الأمم السابقة من الكفرة لم يقتصروا على تكذيب الرسول بل تجاوزوا ذلك إلى غاية الأذى من الهمّ بالقتل كما حكى الله عن ثمود : (قالُوا تَقاسَمُوا بِاللهِ لَنُبَيِّتَنَّهُ وَأَهْلَهُ ثُمَّ لَنَقُولَنَّ لِوَلِيِّهِ ما شَهِدْنا مَهْلِكَ أَهْلِهِ وَإِنَّا لَصادِقُونَ) [النمل : ٤٩]. وقد تآمر كفار قريش على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ليلة دار الندوة ليقتلوه أن يتجمع نفر من جميع عشائرهم فيضربوه بالسيوف ضربة رجل واحد كيلا يستطيع أولياؤه من بني هاشم الأخذ بثأره ، فأخذ الله الأمم عقوبة لهم على همهم برسلهم فأهلكهم واستأصلهم.

١٤٩

ويفهم من تفريع قوله : (فَأَخَذْتُهُمْ) على قوله : (وَهَمَّتْ كُلُّ أُمَّةٍ بِرَسُولِهِمْ لِيَأْخُذُوهُ) إنذار المشركين أن همهم بقتل الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم هو منتهى أمد الإمهال لهم ، فإذا صمّموا العزم على ذلك أخذهم الله كما أخذ الأمم المكذبة قبلهم حين همّت كل أمة برسولهم ليأخذوه فإن قريشا لما همّوا بقتل الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنجاه الله منهم بالهجرة ثم أمكنه من نواصيهم يوم بدر. والمراد ب (كُلُّ أُمَّةٍ) كل أمة من الأحزاب المذكورين.

وضمير (وَجادَلُوا بِالْباطِلِ) عائد على (كُلُّ أُمَّةٍ). والمقصود : من تعداد جرائم الأمم السابقة من تكذيب الرسل والهمّ بقتلهم والجدال بالباطل تنظير حال المشركين النازل فيهم قوله : (ما يُجادِلُ فِي آياتِ اللهِ إِلَّا الَّذِينَ كَفَرُوا) [غافر : ٤] بحال الأمم السابقين سواء ، لينطبق الوعيد على حالهم أكمل انطباق في قوله : (فَأَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كانَ عِقابِ).

والباء في قوله : (بِالْباطِلِ) للملابسة ، أي جادلوا ملابسين للباطل فالمجرور في موضع الحال من الضمير ، أو الباء للآلة بتنزيل الباطل منزلة الآلة لجدالهم فيكون الظرف لغوا متعلقا ب (جادَلُوا). وتقييد (جادَلُوا) هذا بقيد كونه (بِالْباطِلِ) يقتضي تقييد ما أطلق في قوله : (ما يُجادِلُ فِي آياتِ اللهِ إِلَّا الَّذِينَ كَفَرُوا).

والإدحاض : إبطال الحجة ، قال تعالى : (حُجَّتُهُمْ داحِضَةٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ) [الشورى: ١٦]. والمعنى : أنهم زوروا الباطل في صورة الحقّ وروّجوه بالسفسطة في صورة الحجّة ليبطلوا حجج الحق وكفى بذلك تشنيعا لكفرهم.

وفرع على قوله : (فَأَخَذْتُهُمْ) قوله : (فَكَيْفَ كانَ عِقابِ) كما فرّع قوله : (فَلا يَغْرُرْكَ تَقَلُّبُهُمْ فِي الْبِلادِ) [غافر : ٤] على جملة (ما يُجادِلُ فِي آياتِ اللهِ إِلَّا الَّذِينَ كَفَرُوا) [غافر : ٤] فيجري توجيه الاستفهام هنا على نحو ما جرى من توجيه الخطاب هناك.

والأخذ هنا : الغلب. والاستفهام ب (فَكَيْفَ كانَ عِقابِ) مستعمل في التعجيب من حالة العقاب وذلك يقتضي أن المخاطب بالاستفهام قد شاهد ذلك الأخذ والعقاب وإنما بني ذلك على مشاهدة آثار ذلك الأخذ في مرور الكثير على ديارهم في الأسفار كما أشار إليه قوله تعالى : (وَإِنَّها لَبِسَبِيلٍ مُقِيمٍ) [الحجر : ٧٦] ونحوه ، وفي سماع الأخبار عن نزول العقاب بهم وتوصيفهم ، فنزل جميع المخاطبين منزلة من شاهد نزول العذاب بهم ، ففي هذا الاستفهام تحقيق وتثبيت لمضمون جملة (فَأَخَذْتُهُمْ).

ويجوز أن يكون في هذا الاستفهام معنى التقرير بناء على أن المقصود بقوله : (ذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ) إلى قوله : (فَأَخَذْتُهُمْ) التعريض بتهديد المشركين من قريش

١٥٠

بتنبيههم على ما حلّ بالأمم قبلهم لأنهم أمثالهم في الإشراك والتكذيب فلذلك يكون الاستفهام عمّا حلّ بنظرائهم تقريريا لهم بذلك.

وحذفت ياء المتكلم من (عِقابِ) تخفيفا مع دلالة الكسرة عليها.

(وَكَذلِكَ حَقَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّهُمْ أَصْحابُ النَّارِ (٦))

الواو عاطفة على جملة (فَكَيْفَ كانَ عِقابِ) [غافر : ٥] ، أي ومثل ذلك الحقّ حقت كلمات ربك فالمشار إليه المصدر المأخوذ من قوله : حقت كلمات ربك على نحو ما قرر غير مرة ، أولاها عند قوله تعالى : (وَكَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً) في سورة البقرة [١٤٣] ، وهو يفيد أن المشبه بلغ الغاية في وجه الشبه حتى لو أراد أحد أن يشبهه لم يشبهه إلا بنفسه.

ولك أن تجعل المشار إليه الأخذ المأخوذ من قوله : (فَأَخَذْتُهُمْ) [غافر : ٥] ، أي ومثل ذلك الأخذ الذي أخذ الله به قوم نوح والأحزاب من بعدهم حقت كلمات الله على الذين كفروا ، فعلم من تشبيه تحقق كلمات الله على الذين كفروا بذلك الأخذ لأن ذلك الأخذ كان تحقيقا لكلمات الله ، أي تصديقا لما أخبرهم به من الوعيد ، فالمراد ب (الَّذِينَ كَفَرُوا) جميع الكافرين ، فالكلام تعميم بعد تخصيص فهو تذييل لأن المراد بالأحزاب الأمم المعهودة التي ذكرت قصصها فيكون (الَّذِينَ كَفَرُوا) أعم. وبذلك يكون التشبيه في قوله : (وَكَذلِكَ حَقَّتْ) كلمات ربك جاريا على أصل التشبيه من المغايرة بين المشبه والمشبه به ، وليس هو من قبيل قوله تعالى : (وَكَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً) [البقرة : ١٤٣] ونظائره.

ويجوز أن يكون المراد ب (الَّذِينَ كَفَرُوا) عين المراد بقوله آنفا : (ما يُجادِلُ فِي آياتِ اللهِ إِلَّا الَّذِينَ كَفَرُوا) [غافر : ٤] أي مثل أخذ قوم نوح والأحزاب حقت كلمات ربك على كفار قومك ، أي حقت عليهم كلمات الوعيد إذا لم يقلعوا عن كفرهم.

و (كلمات الله) هي أقواله التي أوحى بها إلى الرسل بوعيد المكذبين ، و (عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا) يتعلق ب (حَقَّتْ).

وقوله : (أَنَّهُمْ أَصْحابُ النَّارِ) يجوز أن يكون بدلا من (كَلِمَةُ رَبِّكَ) بدلا مطابقا فيكون ضمير (أَنَّهُمْ) عائد إلى (الَّذِينَ كَفَرُوا) ، أي حق عليهم أن يكونوا أصحاب النار ، وفي هذا إيماء إلى أن الله غير معاقب أمة الدعوة المحمدية بالاستئصال لأنه أراد أن يخرج منهم ذرية مؤمنين.

ويجوز أن يكون على تقدير لام التعليل محذوفة على طريقة كثرة حذفها قبل (أنّ).

١٥١

والمعنى : لأنهم أصحاب النار ، فيكون ضمير (أَنَّهُمْ) عائدا إلى جميع ما ذكر قبله من قوم نوح والأحزاب من بعدهم ومن الذين كفروا.

وقرأ الجمهور (كَلِمَةُ رَبِّكَ) بالإفراد. وقرأ نافع وابن عامر وأبو جعفر بصيغة الجمع ، والإفراد هنا مساو للجمع لأن المراد به الجنس بقرينة أن الضمير المجرور ب (على) تعلق بفعل (حَقَّتْ) وهو ضمير جمع فلا جرم أن تكون الكلمة جنسا صادقا بالمتعدد بحسب تعدد أزمان كلمات الوعيد وتعدد الأمم المتوعّدة.

(الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْماً فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذابَ الْجَحِيمِ (٧))

استئناف ابتدائي اقتضاه الانتقال من ذكر الوعيد المؤذن بذم الذين كفروا إلى ذكر الثناء على المؤمنين ، فإن الكلام الجاري على ألسنة الملائكة مثل الكلام الجاري على ألسنة الرسل إذ الجميع من وحي الله ، والمناسبة المضادّة بين الحالين والمقالين.

ويجوز أن يكون استئنافا بيانيا ناشئا عن وعيد المجادلين في آيات الله أن يسأل سائل عن حال الذين لا يجادلون في آيات الله فآمنوا بها.

وخص في هذه الآية طائفة من الملائكة موصوفة بأوصاف تقتضي رفعة شأنهم تذرعا من ذلك إلى التنويه بشأن المؤمنين الذين تستغفر لهم هذه الطائفة الشريفة من الملائكة ، وإلا فإن الله قد أسند مثل هذا الاستغفار لعموم الملائكة في قوله في سورة الشورى [٥] (وَالْمَلائِكَةُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِمَنْ فِي الْأَرْضِ) أي من المؤمنين بقرينة قوله فيها بعده : (وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ اللهُ حَفِيظٌ عَلَيْهِمْ) [الشورى : ٦].

و (الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ) هم الموكّلون برفع العرش المحيط بالسماوات وهو أعظم السماوات ، ولذلك أضيف إلى الله في قوله تعالى : (وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمانِيَةٌ) [الحاقة : ١٧].

و (مَنْ حَوْلَهُ) طائفة من الملائكة تحفّ بالعرش تحقيقا لعظمته قال تعالى : (وَتَرَى الْمَلائِكَةَ حَافِّينَ مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ) [الزمر : ٧٥] ، ولا حاجة إلى الخوض في عددهم (وَما يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ) [المدثر : ٣١].

والإخبار عن صنفي الملائكة بأنهم يسبحون ويؤمنون به ؛ توطئة وتمهيد للإخبار عنهم

١٥٢

بأنهم يستغفرون للذين آمنوا فذلك هو المقصود من الخبر ، فقدم له ما فيه تحقيق استجابة استغفارهم لصدوره ممن دأبهم التسبيح وصفتهم الإيمان.

وصيغة المضارع في (يُسَبِّحُونَ) و (يُؤْمِنُونَ) و (يَسْتَغْفِرُونَ) مفيدة لتجدد ذلك وتكرره ، وذلك مشعر بأن المراد أنهم يفعلون ذلك في الدنيا كما هو الملائم لقوله : (فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تابُوا) وقوله : (وَأَدْخِلْهُمْ جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدْتَهُمْ) [غافر : ٨] وقوله : (وَمَنْ تَقِ السَّيِّئاتِ) [غافر : ٩] إلخ وقد قال في الآية الأخرى (وَيَسْتَغْفِرُونَ لِمَنْ فِي الْأَرْضِ) [الشورى : ٥] أي من المؤمنين كما تقدم.

ومعنى تجدد الإيمان المستفاد من (وَيُؤْمِنُونَ) تجدد ملاحظته في نفوس الملائكة وإلا فإن الإيمان عقد ثابت في النفوس وإنما تجدده بتجدد دلائله وآثاره. وفائدة الإخبار عنهم بأنهم يؤمنون مع كونه معلوما في جانب الملائكة التنويه بشأن الإيمان بأنه حال الملائكة ، والتعريض بالمشركين أن لم يكونوا مثل أشرف أجناس المخلوقات مثل قوله تعالى في حق إبراهيم (وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ) [الأنعام : ١٦١].

وجملة (رَبَّنا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْماً) مبيّنة ل (يَسْتَغْفِرُونَ) ، وفيها قول محذوف دلت عليه طريقة التكلم في قولهم : (رَبَّنا).

والباء في (بِحَمْدِ رَبِّهِمْ) للملابسة ، أي يسبحون الله تسبيحا مصاحبا للحمد ، فحذف مفعول (يُسَبِّحُونَ) لدلالة المتعلّق به عليه.

والمراد ب (لِلَّذِينَ آمَنُوا) المؤمنون المعهودون وهم المؤمنون بمحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم لأنهم المقصود في هذا المقام وإن كان صالحا لكل المؤمنين.

وافتتح دعاء الملائكة للمؤمنين بالنداء لأنه أدخل في التضرع وأرجى للإجابة ، وتوجهوا إلى الله بالثناء بسعة رحمته وعلمه لأن سعة الرحمة مما يطمع باستجابة الغفران ، وسعة العلم تتعلق بثبوت إيمان الذين آمنوا.

ومعنى السعة في الصفتين كثرة تعلقاتهما ، وذكر سعة العلم كناية عن يقينهم بصدق إيمان المؤمنين فهو بمنزلة قول القائل ، أنت تعلم أنهم آمنوا بك ووحّدوك.

وجيء في وصفه تعالى بالرحمة الواسعة والعلم الواسع بأسلوب التمييز المحوّل عن النسبة لما في تركيبه من المبالغة بإسناد السعة إلى الذات ظاهرا حتى كأنّ ذاته هي التي وسعت ، فذلك إجمال يستشرف به السامع إلى ما يرد بعده فيجيء بعده التمييز المبيّن لنسبة السعة أنها من جانب الرحمة وجانب العلم ، وهي فائدة تمييز النسبة في كلام العرب ، لأن

١٥٣

للتفصيل بعد الإجمال تمكينا للصفة في النفس كما في قوله تعالى : (وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْباً) [مريم : ٤]. والمراد أن الرحمة والعلم وسعا كل موجود ، الآن ، أي في الدنيا وذلك هو سياق الدعاء كما تقدم آنفا ، فما من موجود في الدنيا إلا وقد نالته قسمة من رحمة الله سواء في ذلك المؤمن والكافر والإنسان والحيوان.

و (كُلَّ شَيْءٍ) كل موجود ، وهو عام مخصوص بالعقل بالنسبة للرحمة ، أي كل شيء محتاج إلى الرحمة ، وتلك هي الموجودات التي لها إدراك تدرك به الملائم والمنافر والنافع والضار ، من الإنسان والحيوان ، إذ لا فائدة في تعلق الرحمة بالحجر والشجر ونحوهما. وأما بالنسبة إلى العلم فالعموم على بابه قال تعالى : (أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ) [الملك : ١٤].

ولما كان سياق هذا الدعاء أنه واقع في الدنيا كما تقدم اندفع ما عسى أن يقال إن رحمة الله لا تسع المشركين يوم القيامة إذ هم في عذاب خالد فلا حاجة إلى تخصيص عموم كل شيء بالنسبة إلى سعة الرحمة بمخصصات الأدلة المنفصلة القاضية بعدم سعة رحمة الله للمشركين بعد الحساب.

وتفرع على هذه التوطئة بمناجاة الله تعالى ما هو المتوسّل إليه منها وهو طلب المغفرة للذين تابوا لأنه إذا كان قد علم صدق توبة من تاب منهم وكانت رحمته وسعت كلّ شيء فقد استحقوا أن تشملهم رحمته لأنهم أحرياء بها.

ومفعول (فَاغْفِرْ) محذوف للعلم ، أي اغفر لهم ما تابوا منه ، أي ذنوب الذين تابوا. والمراد بالتوبة : الإقلاع عن المعاصي وأعظمها الإشراك بالله.

واتباع سبيل الله هو العمل بما أمرهم واجتناب ما نهاهم عنه ، فالإرشاد يشبه الطريق الذي رسمه الله لهم ودلهم عليه فإذا عملوا به فكأنهم اتبعوا السبيل فمشوا فيه فوصلوا إلى المقصود.

(وَقِهِمْ عَذابَ الْجَحِيمِ) عطف على (فَاغْفِرْ) فهو من جملة التفريع فإن الغفران يقتضي هذه الوقاية لأن غفران الذنب هو عدم المؤاخذة به. وعذاب الجحيم جعله الله لجزاء المذنبين ، إلا أنهم عضدوا دلالة الالتزام بدلالة المطابقة إظهارا للحرص على المطلوب. والجحيم : شدة الالتهاب ، وسميت به جهنم دار الجزاء على الذنوب.

[٨ ـ ٩] (رَبَّنا وَأَدْخِلْهُمْ جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدْتَهُمْ وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبائِهِمْ

١٥٤

وَأَزْواجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (٨) وَقِهِمُ السَّيِّئاتِ وَمَنْ تَقِ السَّيِّئاتِ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمْتَهُ وَذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (٩))

إعادة النداء في خلال جمل الدعاء اعتراض للتأكيد بزيادة التضرع ، وهذا ارتقاء من طلب وقايتهم العذاب إلى طلب إدخالهم مكان النعيم.

والعدن : الإقامة ، أي الخلود. والدعاء لهم بذلك مع تحققهم أنهم موعودون به تأدب مع الله تعالى لأنه لا يسأل عما يفعل ، كما تقدم في سورة آل عمران [١٩٤] قوله : (رَبَّنا وَآتِنا ما وَعَدْتَنا عَلى رُسُلِكَ).

ويجوز أن يكون المراد بقولهم : (وَأَدْخِلْهُمْ) عجّل لهم بالدخول. ويجوز أن يكون ذلك تمهيدا لقولهم : (وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبائِهِمْ وَأَزْواجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ) فإن أولئك لم يكونوا موعودين به صريحا. و (مَنْ صَلَحَ) عطف على الضمير المنصوب في (أَدْخِلْهُمْ).

والمعنى دعاء بأن يجعلهم الله معهم في مساكن متقاربة ، كما تقدم في قوله تعالى : (هُمْ وَأَزْواجُهُمْ فِي ظِلالٍ) في سورة يس [٥٦] ، وقوله : (أَلْحَقْنا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ) في سورة الطور [٢١].

ورتبت القرابات في هذه الآية على ترتيبها الطبيعي فإن الآباء أسبق علاقة بالأبناء ثم الأزواج ثم الذريات.

وجملة (إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) اعتراض بين الدعوات استقصاء للرغبة في الإجابة بداعي محبة الملائكة لأهل الصلاح لما بين نفوسهم والنفوس الملكية من التناسب. واقتران هذه الجملة بحرف التأكيد للاهتمام بها. و (إنّ) في مثل هذا المقام تغني غناء فاء السببية ، أي فعزتك وحكمتك هما اللتان جرّأتانا على سؤال ذلك من جلالك ، فالعزة تقتضي الاستغناء عن الانتفاع بالأشياء النفيسة فلما وعد الصالحين الجنة لم يكن لله ما يضنه بذلك فلا يصدر منه مطل ، والحكمة تقتضي معاملة المحسن بالإحسان.

وأعقبوا بسؤال النجاة من العذاب والنعيم بدار الثواب بدعاء بالسلامة من عموم كل ما يسوءهم يوم القيامة بقولهم : (وَقِهِمُ السَّيِّئاتِ) وهو دعاء جامع إذ السيئات هنا جمع سيئة وهي الحالة أو الفعلة التي تسوء من تعلقت به مثل ما في قوله : (فَوَقاهُ اللهُ سَيِّئاتِ ما مَكَرُوا) [غافر : ٤٥] وقوله تعالى : (وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَطَّيَّرُوا بِمُوسى وَمَنْ مَعَهُ)

١٥٥

[الأعراف : ١٣١] صيغت على وزن فيعلة للمبالغة في قيام الوصف بالموصوف مثل قيّم وسيّد وصيقل ، فالمعنى : وقهم من كل ما يسوءهم.

فالتعريف في (السَّيِّئاتِ) للجنس وهو صالح لإفادة الاستغراق ، فوقوعه في سياق ما هو كالنفي وهو فعل الوقاية يفيد عموم الجنس ، على أن بساط الدعاء يقتضي عموم الجنس ولو بدون لام نفي كقول الحريري :

يا أهل ذا المغني وقيتم ضرا

وفي الحديث «اللهم أعط منفقا خلفا ، وممسكا تلفا» أي كلّ منفق وممسك.

والمراد : إبلاغ هؤلاء المؤمنين أعلى درجات الرضى والقبول يوم الجزاء بحيث لا ينالهم العذاب ويكونون في بحبوحة النعيم ولا يعتريهم ما يكدرهم من نحو التوبيخ والفضيحة. وقد جاء هذا المعنى في آيات كثيرة كقوله : (فَوَقاهُمُ اللهُ شَرَّ ذلِكَ الْيَوْمِ) [الإنسان : ١١].

وجملة (وَمَنْ تَقِ السَّيِّئاتِ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمْتَهُ) تذييل ، أي وكل من وقي السيئات يوم القيامة فقد نالته رحمة الله ، أي نالته الرحمة كاملة ففعل (رَحِمْتَهُ) مراد به تعظيم مصدره.

وقد دل على هذا المراد في هذه الآية قوله : (وَذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ) إذ أشير إلى المذكور من وقاية السيئات إشارة للتنويه والتعظيم. ووصف الفوز بالعظيم لأنه فوز بالنعيم خالصا من الكدرات التي تنقص حلاوة النعمة.

وتنوين (يَوْمَئِذٍ) عوض عن المضاف إليه ، أي يوم إذ تدخلهم جنات عدن.

(إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنادَوْنَ لَمَقْتُ اللهِ أَكْبَرُ مِنْ مَقْتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ إِذْ تُدْعَوْنَ إِلَى الْإِيمانِ فَتَكْفُرُونَ (١٠))

مقابلة سؤال الملائكة للمؤمنين بالنعيم الخالص يوم القيامة بما يخاطب به المشركون يومئذ من التوبيخ والتنديم وما يراجعون به من طلب العفو مؤذنة بتقدير معنى الوعد باستجابة دعاء الملائكة للمؤمنين ، فطيّ ذكر ذلك ضرب من الإيجاز.

والانتقال منه إلى بيان ما سيحل بالمشركين يومئذ ضرب من الأسلوب الحكيم لأن قوله : (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنادَوْنَ) الآيات مستأنف استئنافا بيانيا كأنّ سائلا سأل عن تقبل دعاء الملائكة للمؤمنين فأجيب بأن الأهم أن يسأل عن ضد ذلك ، وفي هذا الأسلوب

١٥٦

إيماء ورمز إلى أن المهم من هذه الآيات كلها هو موعظة أهل الشرك رجوعا إلى قوله : وكذلك حقت كلمات (رَبِّكَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّهُمْ أَصْحابُ النَّارِ) [غافر : ٦] والمراد ب (الَّذِينَ كَفَرُوا) هنا مشركو أهل مكة ، فإنهم المقصود بهذه الأخبار كما تقدم آنفا في قوله : (وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا) [غافر : ٧].

والمعنى : أنهم يناديهم الملائكة تبليغا عن رب العزة ، قال تعالى : (أُولئِكَ يُنادَوْنَ مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ) [فصلت : ٤٤] وهو بعد عن مرتبة الجلال ، أي ينادون وهم في جهنم كما دل عليه قوله : (فَهَلْ إِلى خُرُوجٍ مِنْ سَبِيلٍ) [غافر : ١١].

واللام في (لَمَقْتُ اللهِ) لام القسم. والمقت : شدة البغض. و (إِذْ تُدْعَوْنَ) ظرف ل (مَقْتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ).

و (إِذْ) ظرف للزمن الماضي ، أي حين كنتم تدعون إلى الإيمان على لسان الرسولصلى‌الله‌عليه‌وسلم وذلك في الدنيا بقرينة (تُدْعَوْنَ) وجيء بالمضارع في (تُدْعَوْنَ) و (فَتَكْفُرُونَ) للدلالة على تكرر دعوتهم إلى الإيمان وتكرر كفرهم ، أي تجدده.

ومعنى : مقتهم أنفسهم حينئذ أنهم فعلوا لأنفسهم ما يشبه المقت إذ حرموها من فضيلة الإيمان ومحاسن شرائعه ورضوا لأنفسهم دين الكفر بعد أن أوقظوا على ما فيه من ضلال ومغبّة سوء ، فكان فعلهم ذلك شبيها بفعل المرء لبغيضه من الضر والكيد ، وهذا كما يقال : فلان عدو نفسه. وفي حديث سعد بن أبي وقاص عن عمر بن الخطاب أن عمر قال لنساء من قريش يسألن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ويستكثرن ، فلما دخل عمر ابتدرن الحجاب فقال لهن : «يا عدوّات أنفسهن أتهبنني ولا تهبن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم».

فالمقت مستعار لقلة التدبر فيما يضر. وقد أشار إلى وجه هذه الاستعارة قوله : (إِذْ تُدْعَوْنَ إِلَى الْإِيمانِ فَتَكْفُرُونَ) فمناط الكلام هو (فَتَكْفُرُونَ) وفي ذكر (يُنادَوْنَ) ما يدل على كلام محذوف تقديره : أن الذين كفروا يمقتهم الله وينادون لمقت الله إلخ.

ومعنى مقت الله : بغضه إياهم وهو مجاز مرسل أطلق على المعاملة بآثار البغض من التحقير والعقاب فهو أقرب إلى حقيقة البغض لأن المراد به أثره وهو المعاملة بالنكال ، وهو شائع شيوع نظائره مما يضاف إلى الله مما تستحيل حقيقته عليه ، وهذا الخبر مستعمل في التوبيخ والتنديم.

و (أَكْبَرُ) بمعنى أشد وأخطر أثرا ، فإطلاق الكبر عليه مجاز لأن الكبر من أوصاف

١٥٧

الأجسام لكنه شاع إطلاقه على القوة في المعاني. ولما كان مقتهم أنفسهم حرمهم من الإيمان الذي هو سبب النجاة والصلاح وكان غضب الله عليهم أوقعهم في العذاب كان مقت الله إياهم أشدّ وأنكى من مقتهم أنفسهم لأن شدة الإيلام أقوى من الحرمان من الخير. والمقت الأول قريب من قوله : (أُولئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدى فَما رَبِحَتْ تِجارَتُهُمْ) [البقرة : ١٦] ، والمقت الثاني قريب من قوله تعالى : (وَلا يَزِيدُ الْكافِرِينَ كُفْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ إِلَّا مَقْتاً) [فاطر : ٣٩] وهو مقت العذاب. هذا هو الوجه في تفسير الآية الملاقي لتناسق نظمها ، وللمفسرين فيها وجوه أخر تدنو وتبعد مما ذكرنا فاستعرضها واحكم فيها.

و (أَنْفُسَكُمْ) يتنازعه (لَمَقْتُ اللهِ) ، و (مَقْتِكُمْ) فهو مفعول المصدرين المضافين إلى فاعليهما.

وبني فعل (تُدْعَوْنَ) إلى النائب للعلم بالفاعل لظهور أن الداعي هو الرسولصلى‌الله‌عليه‌وسلم أو الرسل عليهم‌السلام. وتفريع (فَتَكْفُرُونَ) بالفاء على (تُدْعَوْنَ) يفيد أنهم أعقبوا الدعوة بالكفر ، أي بتجديد كفرهم السابق وبإعلانه أي دون أن يتمهلوا مهلة النظر والتدبر فيما دعوا إليه.

(قالُوا رَبَّنا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ فَاعْتَرَفْنا بِذُنُوبِنا فَهَلْ إِلى خُرُوجٍ مِنْ سَبِيلٍ (١١))

جواب عن النداء الذي نودوا به من قبل الله تعالى فحكي مقالهم على طريقة حكاية المحاورات بحذف حرف العطف ، طمعوا أن يكون اعترافهم بذنوبهم وسيلة إلى منحهم خروجا من العذاب خروجا ما ليستريحوا منه ولو بعض الزمن ، وذلك لأن النداء الموجه إليهم من قبل الله أوهمهم أن فيه إقبالا عليهم.

والمقصود من الاعتراف هو اعترافهم بالحياة الثانية لأنهم كانوا ينكرونها وأما الموتتان والحياة الأولى فإنما ذكرن إدماجا للاستدلال في صلب الاعتراف تزلفا منهم ، أي أيقنّا أن الحياة الثانية حق وذلك تعريض بأن إقرارهم صدق لا مواربة فيه ولا تصنع لأنه حاصل عن دليل ، ولذلك جعل مسببا على هذا الكلام بعطفه بفاء السببية في قوله : (فَاعْتَرَفْنا بِذُنُوبِنا).

والمراد بإحدى الموتتين : الحالة التي يكون بها الجنين لحما لا حياة فيه في أول

١٥٨

تكوينه قبل أن ينفخ فيه الروح ، وإطلاق الموت على تلك الحالة مجاز وهو مختار الزمخشري والسكاكي بناء على أن حقيقة الموت انعدام الحياة من الحي بعد أن اتصف بالحياة ، فإطلاقه على حالة انعدام الحياة قبل حصولها فيه استعارة ، إلا أنها شائعة في القرآن حتى ساوت الحقيقة فلا إشكال في استعمال (أَمَتَّنَا) في حقيقته ومجازه ، ففي ذلك الفعل جمع بين الحقيقة والاستعارة التبعية تبعا لجريان الاستعارة في المصدر ، ولا مانع من ذلك لأنه واقع ووارد في الكلام البليغ كاستعمال المشترك في معنييه ، والذين لا يرون تقييد مدلول الموت بأن يكون حاصلا بعد الحياة يكون إطلاق الموت على حالة ما قبل الاتصاف بالحياة عندهم واضحا ، وتقدم في قوله تعالى : (وَكُنْتُمْ أَمْواتاً فَأَحْياكُمْ) في سورة البقرة [٢٨] ، على أن إطلاق الموت على الحالة التي قبل نفخ الروح في هذه الآية أسوغ لأن فيه تغليبا للموتة الثانية. وأما الموتة الثانية فهي الموتة المتعارفة عند انتهاء حياة الإنسان والحيوان.

والمراد بالاحياءتين : الاحياءة الأولى عند نفخ الروح في الجسد بعد مبدأ تكوينه ، والإحياءة الثانية التي تحصل عند البعث ، وهو في معنى قوله تعالى : (وَكُنْتُمْ أَمْواتاً فَأَحْياكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ) [البقرة : ٢٨].

وانتصب (اثْنَتَيْنِ) في الموضعين على الصفة لمفعول مطلق محذوف. والتقدير : موتتين اثنتين وإحياءتين اثنتين فيجيء في تقدير موتتين تغليب الاسم الحقيقي على الاسم المجازي عند من يقيّد معنى الموت.

وقد أورد كثير من المفسرين إشكال أن هنالك حياة ثالثة لم تذكر هنا وهي الحياة في القبر التي أشار إليها حديث سؤال القبر وهو حديث اشتهر بين المسلمين من عهد السلف ، وفي كون سؤال القبر يقتضي حياة الجسم حياة كاملة احتمال ، وقد يتأول بسؤال روح الميت عند جسده أو بحصول حياة بعض الجسد أو لأنها لما كانت حياة مؤقتة بمقدار السؤال ليس للمتصف بها تصرف الإحياء في هذا العالم ، لم يعتد بها لا سيما والكلام مراد منه التوطئة لسؤال خروجهم من جهنم ، وبهذا يعلم أن الآية بمعزل عن أن يستدل بها لثبوت الحياة عند السؤال في القبر.

وتفرع قولهم : (فَاعْتَرَفْنا بِذُنُوبِنا) على قولهم : (وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ) اعتبار أن إحدى الإحياءتين كانت السبب في تحقق ذنوبهم التي من أصولها إنكارهم البعث فلما رأوا البعث رأي العين أيقنوا بأنهم مذنبون إذ أنكروه ومذنبون بما استكثروه من الذنوب لاغترارهم بالأمن من المؤاخذة عليهم بعد الحياة العاجلة.

١٥٩

فجملة (فَاعْتَرَفْنا بِذُنُوبِنا) إنشاء إقرار بالذنوب ولذلك جيء فيه بالفعل الماضي كما هو غالب صيغ الخبر المستعمل في الإنشاء مثل صيغ العقود نحو : بعت. والمعنى : نعترف بذنوبنا.

وجعلوا هذا الاعتراف ضربا من التوبة توهما منهم أن التوبة تنفع يومئذ ، فلذلك فرعوا عليه : (فَهَلْ إِلى خُرُوجٍ مِنْ سَبِيلٍ) ، فالاستفهام مستعمل في العرض والاستعطاف كليا لرفع العذاب ، وقد تكرر في القرآن حكاية سؤال أهل النار الخروج أو التخفيف ولو يوما.

والاستفهام بحرف هل مستعمل في الاستعطاف. وحرف (مِنْ) زائد لتوكيد العموم الذي في النكرة ليفيد تطلبهم كل سبيل للخروج وشأن زيادة (مِنْ) أن تكون في النفي وما في معناه دون الإثبات. وقد عدّ الاستفهام بهل خاصة من مواقع زيادة (مِنْ) لتوكيد العموم كقوله تعالى : (وَتَقُولُ هَلْ مِنْ مَزِيدٍ) [ق : ٣٠] ، وتقدم ذلك عند قوله تعالى : (فَهَلْ لَنا مِنْ شُفَعاءَ فَيَشْفَعُوا لَنا) في سورة الأعراف [٥٣] ، وأن وجه اختصاص هل بوقوع (مِنْ) الزائدة في المستفهم عنه بها أنه كثر استعمال الاستفهام بها في معنى النفي ، وزيادة (مِنْ) حينئذ لتأكيد النفي وتنصيص عموم النفي ، فخف وقوعها بعد هل على ألسن أهل الاستعمال.

وتنكير خروج للنّوعية تلطفا في السؤال ، أي إلى شيء من الخروج قليل أو كثير لأن كل خروج ينتفعون به راحة من العذاب كقولهم : (ادْعُوا رَبَّكُمْ يُخَفِّفْ عَنَّا يَوْماً مِنَ الْعَذابِ) [غافر : ٤٩].

والسبيل : الطريق واستعير إلى الوسيلة التي يحصل بها الأمر المرغوب ، وكثر تصرف الاستعمال في إطلاقات السبيل والطريق والمسلك والبلوغ على الوسيلة وبحصول المقصود.

وتنكير (سَبِيلٍ) كتنكير (خُرُوجٍ) أي من وسيلة كيف كانت بحق أو بعفو بتخفيف أو غير ذلك.

قال في «الكشاف» «وهذا كلام من غلب عليه اليأس والقنوط» يريد أنّ في اقتناعهم بخروج ما دلالة على أنهم يستبعدون حصول الخروج.

(ذلِكُمْ بِأَنَّهُ إِذا دُعِيَ اللهُ وَحْدَهُ كَفَرْتُمْ وَإِنْ يُشْرَكْ بِهِ تُؤْمِنُوا فَالْحُكْمُ لِلَّهِ الْعَلِيِّ الْكَبِيرِ (١٢))

١٦٠