تفسير التّحرير والتّنوير - ج ٢٤

الشيخ محمّد الطاهر ابن عاشور

تفسير التّحرير والتّنوير - ج ٢٤

المؤلف:

الشيخ محمّد الطاهر ابن عاشور


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة التاريخ العربي للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٢٦٨

اللهُ عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنا أَلَيْسَ اللهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ) [الأنعام : ٥٣] ، وكقول أبي مسعود الأنصاري للمغيرة بن شعبة حين كان أمير الكوفة وقد أخر الصلاة يوما «ما هذا يا مغيرة أليس قد علمت أن جبريل نزل فصلّى فصلّى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم». وكقول الحجاج في خطبته في أهل الكوفة «ألستم أصحابي بالأهواز حين رمتم الغدر» إلخ.

والتكبر : شدة الكبر ، ومن أوصاف الله تعالى المتكبر ، والكبر : إظهار المرء التعاظم على غيره لأنه يعدّ نفسه عظيما. وتعريف المتكبرين هنا للاستغراق ، وأصحاب التكبر مراتب أقواها الشرك ، قال تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ داخِرِينَ) [غافر : ٦٠] وهو المعني بقول النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «لا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال حبة من خردل من كبر ولا يدخل النار من كان في قلبه حبة خردل من إيمان» أخرجه مسلم عن ابن مسعود ، ألا ترى أنه قابله بالإيمان ، ودونه مراتب كثيرة متفاوتة في قوة حقيقة ماهية التكبر ، وكلها مذمومة. وما يدور على الألسن : أن الكبر على أهل الكبر عبادة ، فليس بصحيح.

وفي وصفهم بالمتكبرين إيماء إلى أن عقابهم بتسويد وجوههم كان مناسبا لكبريائهم لأن المتكبر إذا كان سيّئ الوجه انكسرت كبرياؤه لأن الكبرياء تضعف بمقدار شعور صاحبها بمعرفة الناس نقائصه.

(وَيُنَجِّي اللهُ الَّذِينَ اتَّقَوْا بِمَفازَتِهِمْ لا يَمَسُّهُمُ السُّوءُ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (٦١))

عطف على جملة (تَرَى الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى اللهِ وُجُوهُهُمْ مُسْوَدَّةٌ) [الزمر : ٦٠] إلى آخرها ، أي وينجي الله الذين اتقوا من جهنم لأنهم ليسوا بمتكبرين. وهذا إيذان بأن التقوى تنافي التكبر لأن التقوى كمال الخلق الشرعي وتقتضي اجتناب المنهيات وامتثال الأمر في الظاهر والباطن ، والكبر مرض قلبي باطني فإذا كان الكبر ملقيا صاحبه في النار بحكم قوله : (أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوىً لِلْمُتَكَبِّرِينَ) [الزمر : ٦٠] فضد أولئك ناجون منها وهم المتقون إذ التقوى تحول دون أسباب العقاب التي منها الكبر ، فالذين اتقوا هم أهل التقوى وهي معروفة ، ولذلك ففعل (اتَّقَوْا) منزل منزلة اللازم لا يقدّر له مفعول.

والمفازة يجوز أن تكون مصدرا ميميا للفوز وهو الفلاح ، مثل المتاب وقوله تعالى : (إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ مَفازاً) [النبأ : ٣١] ، ولحاق التاء به من قبيل لحاق هاء التأنيث بالمصدر في نحو قوله تعالى : (لَيْسَ لِوَقْعَتِها كاذِبَةٌ) [الواقعة : ٢]. وتقدم ذلك في اسم سورة الفاتحة وعند قوله تعالى : (فَلا تَحْسَبَنَّهُمْ بِمَفازَةٍ مِنَ الْعَذابِ) في آل عمران [١٨٨] ، والباء

١٢١

للملابسة ، أي متلبسين بالفوز أو الباء للسببية ، أي بسبب ما حصلوا عليه من الفوز. ويجوز أن تكون المفازة اسما للفلاة ، كما في قول لبيد :

لورد تقلص الغيطان عنه

يبذ مفازة الخمس الكمال

سميت مفازة باسم مكان الفوز ، أي النجاة وتأنيثها بتأويل البقعة ، وسموها مفازة باعتبار أن من حل بها سلم من أن يلحقه عدوّه ، كما قال العديل :

ودون يد الحجاج من أن تنالني

بساط بأيدي أنا عجات عريض

وقول النابغة :

تدافع الناس عنا حين نركبها

من المظالم تدعى أمّ صبار

وعلى هذا المعنى فالباء بمعنى (في). والمفازة : الجنة. وإضافة مفازة إلى ضميرهم كناية عن شدة تلبسهم بالفوز حتى عرف بهم كما يقال : فاز فوز فلان.

وقرأ الجمهور (بِمَفازَتِهِمْ) بصيغة المفرد. وقرأ حمزة والكسائي وأبو بكر عن عاصم وخلف بمفازاتهم بصيغة الجمع وهي تجري على المعنيين في المفازة لأن المصدر قد يجمع باعتبار تعدد الصادر منه ، أو باعتبار تعدد أنواعه ، وكذلك تعدد أمكنة الفوز بتعدد الطوائف ، وعلى هذا فإضافة المفازة إلى ضمير (الَّذِينَ اتَّقَوْا) لتعريفها بهم ، أي المفازة التي علمتم أنها لهم وهي الجنة ، وقد علم ذلك من آيات وأخبار منها قوله تعالى : (إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ مَفازاً حَدائِقَ وَأَعْناباً وَكَواعِبَ أَتْراباً) [النبأ : ٣١ ، ٣٣].

وجملة (لا يَمَسُّهُمُ السُّوءُ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ) مبيّنة لجملة (وَيُنَجِّي اللهُ الَّذِينَ اتَّقَوْا بِمَفازَتِهِمْ) لأن نفي مسّ السوء هو إنجاؤهم ونفي الحزن عنهم نفي لأثر المس السوء. وجيء في جانب نفي السوء بالجملة الفعلية لأن ذلك لنفي حالة أهل النار عنهم ، وأهل النار في مسّ من السوء متجدد. وجيء في نفي الحزن عنهم بالجملة الاسمية لأن أهل النار أيضا في حزن وغم ثابت لازم لهم.

ومن لطيف التعبير هذا التفنن ، فإن شأن الأسواء الجسدية تجدد آلامها وشأن الأكدار القلبية دوام الإحساس بها.

[٦٢ ـ ٦٣] (اللهُ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ (٦٢) لَهُ مَقالِيدُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ اللهِ أُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ (٦٣))

١٢٢

هذا استئناف ابتدائي تمهيد لقوله : (قُلْ أَفَغَيْرَ اللهِ تَأْمُرُونِّي أَعْبُدُ) [الزمر : ٦٤] في ذكر تمسك الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم والرسل من قبله بالتوحيد ونبذ الشرك والبراءة منه والتصلب في مقاومته والتصميم على قطع دابره ، وجعلت الجمل الثلاث من قوله : (اللهُ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ) إلى قوله : (السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) مقدمات تؤيد ما يجيء بعدها من قوله : (قُلْ أَفَغَيْرَ اللهِ تَأْمُرُونِّي أَعْبُدُ) [الزمر : ٦٤].

وقد اشتمل هذا الاستئناف ومعطوفاته على ثلاث جمل وجملة رابعة :

فالجملة الأولى : (اللهُ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ) وهذه الجملة أدخلت كل موجود في أنه مخلوق لله تعالى ، فهو وليّ التصرف فيه لا يخرج من ذلك إلّا ذات الله تعالى وصفاته فهي مخصوصة من هذا العموم بدليل العقل وهو أنه خالق كل شيء فلو كان خالق نفسه أو صفاته لزم توقف الشيء على ما يتوقف هو عليه وهذا ما يسمى بالدّور في الحكمة ، واستحالته عقلية ، فخص هذا العموم العقل. والمقصود من هذا إثبات حقيقة ، والزام الناس بتوحيده لأنه خالقهم ، وليس في هذا قصد ثناء ولا تعاظم ، والمقصود من هذه المقدمة تذكير الناس بأنهم جميعا هم وما معهم عبيد لله وحده ليس لغيره منّة عليهم بالإيجاد.

الجملة الثانية : (وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ) وجيء بها معطوفة لأن مدلولها مغاير لمدلول التي قبلها. والوكيل المتصرف في شيء بدون تعقب ولما لم يعلّق بذلك الوصف شيء علم أنه موكول إليه جنس التصرف وحقيقته التي تعم جميع أفراد ما يتصرف فيه ، فعم تصرفه أحوال جميع الموجودات من تقدير الأعمال والآجال والحركات ، وهذه المقدمة تقتضي الاحتياج إليه بالإمداد فهم بعد أن أوجدهم لم يستغنوا عنه لمحة ما.

الجملة الثالثة : (لَهُ مَقالِيدُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) وجيء بها مفصولة لأنها تفيد بيان الجملة التي قبلها فإن الوكيل على شيء يكون هو المتصرف في العطاء والمنع.

والمقاليد : جمع إقليد بكسر الهمزة وسكون القاف وهذا جمع على غير قياس ، وإقليد قيل معرب عن الفارسية ، وأصله (كليد) قيل من الرومية وأصله (أقليدس) وقيل كلمة يمانية وهو مما تقاربت فيه اللغات وهي كناية عن حفظ ذخائرها ، فذخائر الأرض عناصرها ومعادنها وكيفيات أجوائها وبحارها ، وذخائر السماوات سير كواكبها وتصرفات أرواحها في عوالمها وعوالمنا وما لا يعلمه إلا الله تعالى. ولما كانت تلك العناصر والقوى شديدة النفع للناس وكان الناس في حاجة إليها شبهت بنفائس المخزونات فصحّ

١٢٣

أيضا أن تكون المقاليد استعارة مكنية ، وهي أيضا استعارة مصرحة للأمر الإلهي التكويني والتسخيري الذي يفيض به على الناس من تلك الذخائر المدّخرة كقوله تعالى : (وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا عِنْدَنا خَزائِنُهُ وَما نُنَزِّلُهُ إِلَّا بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ) [الحجر : ٢١].

وهذه المقدمة تشير إلى أن الله هو معطي ما يشاء لمن يشاء من خلقه ، ومن أعظم ذلك النبوءة وهدي الشريعة فإن جهل المشركين بذلك هو الذي جرّأهم على أن أنكروا اختصاص محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالرسالة دونهم ، واختصاص أتباعه بالهدى فقالوا : (أَهؤُلاءِ مَنَّ اللهُ عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنا) [الأنعام : ٥٣]. فهذه الجمل اشتملت على مقدمات ثلاث تقتضي كل واحدة منها دلالة على وحدانية الله بالخلق ، ثم بالتصرف المطلق في مخلوقاته ، ثم بوضع النظم والنواميس الفطرية والعقلية والتهذيبية في نظام العالم وفي نظام البشر. وكل ذلك موجب توحيده وتصديق رسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم والاستمساك بعروته كما رشد بذلك أهل الإيمان.

فأما الجملة الرابعة وهي : (وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ اللهِ أُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ) فتحتمل الاعتراض ولكن اقترانها بالواو بعد نظائرها يرجح أن تكون الواو فيها عاطفة وأنها مقصودة بالعطف على ما قبلها لأن فيها زيادة على مفاد الجملة قبلها ، وتكون مقدمة رابعة للمقصود تجهيلا للذين هم ضد المقصود من المقدمات فإن الاستدلال على الحق بإبطال ضده ضرب من ضروب الاستدلال. لأن الاستدلال يعود إلى ترغيب وتنفير فإذا كان الذين كفروا بآيات الله خاسرين لا جرم كان الذين آمنوا بآيات الله هم الفائزين ، فهذه الجملة تقابل جملة (وَيُنَجِّي اللهُ الَّذِينَ اتَّقَوْا بِمَفازَتِهِمْ) [الزمر : ٦١] المنتقل منها إلى هؤلاء الآيات ، وهي مع ذلك مفيدة إنذارهم وتأفين آرائهم ، لأن موقعها بعد دلائل الوحدانية وهي آيات دالّة على أن الله واحد يقتضي التنديد عليهم في عدم الاهتداء بها.

ووصف (الَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ اللهِ) بأنهم الخاسرون لأنهم كفروا بآيات من له مقاليد خزائن الخير فعرّضوا أنفسهم للحرمان مما في خزائنه وأعظمها خزائن خير الآخرة.

وآيات الله هي دلائل وجوده ووحدانيته التي أشارت إليها الجمل الثلاث السابقة.

والإخبار عن الذين كفروا باسم الإشارة للتنبيه عن أن المشار إليهم خسروا لأجل ما وصفوا به قبل اسم الإشارة وهو الكفر بآيات الله. وتوسط ضمير الفصل لإفادة حصر الخسارة فيهم وهو قصر ادعائي بناء على عدم الاعتداد بخسارة غيرهم بالنسبة إلى خسارتهم فخسارتهم أعظم خسارة.

١٢٤

(قُلْ أَفَغَيْرَ اللهِ تَأْمُرُونِّي أَعْبُدُ أَيُّهَا الْجاهِلُونَ (٦٤))

هذا نتيجة المقدمات وهو المقصود بالإثبات ، فالفاء في قوله : (أَفَغَيْرَ اللهِ) لتفريع الكلام المأمور الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم بأن يقوله على الكلام الموحى به إليه ليقرع به أسماعهم ، فإن الحقائق المتقدمة موجهة إلى المشركين فبعد تقررها عندهم وإنذارهم على مخالفة حالهم لما تقتضيه تلك الحقائق أمر الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم بأن يوجّه إليهم هذا الاستفهام الإنكاري منوعا على ما قبله إذ كانت أنفسهم قد خسئت بما جبهها من الكلام السابق تأييسها لهم من محاولة صرف الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن التوحيد إلى عبادة غير الله.

وتوسط فعل (قُلْ) اعتراض بين التفريع والمفرّع عنه لتصيير المقام لخطاب المشركين خاصة بعد أن كان مقام الكلام قبله مقام البيان لكل سامع من المؤمنين وغيرهم ، فكان قوله : (قُلْ) هو الواسطة في جعل التفريع خاصّا بهم ، وهذا من بديع النظم ووفرة المعاني وهو حقيق بأن نسميه «تلوين البساط».

و (فَغَيْرَ اللهِ) منصوب ب (أَعْبُدُ) الذي هو متعلق ب (تَأْمُرُونِّي) على حذف حرف الجر مع (أن) وحذف حرف الجر مع (أن) كثير فقوله : (أَعْبُدُ) على تقدير : أن أعبد فلما حذف الجار المتعلق ب (تَأْمُرُونِّي) حذفت (أن) التي كانت متصلة به ، كما حذفت في قول طرفه :

ألا أيهذا الزاجري احضر الوغى

وأن أشهد اللذات هل أنت مخلدي

وهذا استعمال جائز عند أبي الحسن الأخفش وابن مالك ونحاة الأندلس.

والجمهور يمنعونه ويجعلون قوله : (أَعْبُدُ) هو المستفهم عنه ، وفعل (تَأْمُرُونِّي) اعتراضا أو حالا ، والتقدير : أأعبد غير الله حال كونكم تأمرونني بذلك ، ومنه قولهم في المثل : تسمع بالمعيدي خير من أن تراه ، وفي الحديث «وتعين الرجل على دابته فتحمله عليها أو تحمل عليها متاعه صدقة».

وقرأ نافع (تَأْمُرُونِّي) بنون واحدة خفيفة على حذف واحدة من النونين اللتين همانون الرفع ونون الوقاية على الخلاف في المحذوفة وهو كثير في القرآن كقوله : (فَبِمَ تُبَشِّرُونَ) [الحجر : ٥٤] ، وفتح نافع ياء المتكلم للتخفيف والتفادي من المدّ. وقرأ الجمهور (تَأْمُرُونِّي) بتشديد النون إدغاما للنونين مع تسكين الياء للتخفيف. وقرأ ابن كثير بتشديد النون وفتح الياء. وقرأ ابن عامر تأمرونني بإظهار النونين وتسكين الياء.

١٢٥

ونداؤهم بوصف الجاهلين تقريع لهم بعد أن وصفوا بالخسران ليجمع لهم بين نقص الآخرة ونقص الدنيا. والجهل هنا ضد العلم لأنهم جهلوا دلالة الدلائل المتقدمة فلم تفد منهم شيئا فعموا عن دلائل الوحدانية التي هي بمرأى منهم ومسمع فجهلوا دلالتها على الصانع الواحد ولم يكفهم هذا الحظ من الجهل حتى تدلّوا إلى حضيض عبادة أجسام من الصخر الأصم. وإطلاق الجهل على ضد العلم إطلاق عربي قديم قال النابغة :

يخبرك ذو عرضهم عني وعالمهم

وليس جاهل شيء مثل من علما

وقال السموأل أو عبد الملك بن عبد الرحيم الحارثي :

سلي إن جهلت الناس عنا وعنهم

فليس سواء عالم وجهول

وحذف مفعول (الْجاهِلُونَ) لتنزيل الفعل منزلة اللازم كأنّ الجهل صار لهم سجية فلا يفقهون شيئا فهم جاهلون بما أفادته الدلائل من الوحدانية التي لو علموها لما أشركوا ولما دعوا النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى اتباع شركهم ، وهم جاهلون بمراتب النفوس الكاملة جهلا أطمعهم أن يصرفوا النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن التوحيد وأن يستزّلوه بخزعبلاتهم وإطماعهم إياه أن يعبدوا الله إن هو شاركهم في عبادة أصنامهم يحسبون الدّين مساومة ومغابنة وتطفيفا.

[٦٥ ـ ٦٦] (وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخاسِرِينَ (٦٥) بَلِ اللهَ فَاعْبُدْ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ (٦٦))

تأييد لأمره بأن يقول للمشركين تلك المقالة مقالة إنكار أن يطمعوا منه في عبادة الله ، بأنه قول استحقوا أن يرموا بغلظته لأنهم جاهلون بالأدلة وجاهلون بنفس الرسول وزكائها. وأعقب بأنهم جاهلون بأن التوحيد هو سنة الأنبياء وأنهم لا يتطرق الإشراك حوالي قلوبهم ، فالمقصود الأهم من هذا الخبر التعريض بالمشركين إذ حاولوا النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم على الاعتراف بإلهية أصنامهم.

والواو عاطفة على جملة (قُلْ) [الزمر : ٦٤]. وتأكيد الخبر بلام القسم وبحرف (قد) تأكيد لما فيه من التعريض للمشركين.

والوحي : الإعلام من الله بواسطة الملك. والذين من قبله هم الأنبياء والمرسلون. فالمراد القبلية في صفة النبوءة ف (الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ) مراد به الأنبياء.

وجملة (لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ) مبيّنة لمعنى أوحي كقوله تعالى : (فَوَسْوَسَ

١٢٦

إِلَيْهِ الشَّيْطانُ قالَ يا آدَمُ هَلْ أَدُلُّكَ عَلى شَجَرَةِ الْخُلْدِ) [طه : ١٢٠].

والتاء في (أَشْرَكْتَ) تاء الخطاب لكل من أوحي إليه بمضمون هذه الجملة من الأنبياء فتكون الجملة بيانا لما أوحي إليه وإلى الذين من قبله. ويجوز أن يكون الخطاب للنبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم فتكون الجملة بيانا لجملة (أُوحِيَ إِلَيْكَ) ، ويكون (وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ) اعتراضا لأن البيان تابع للمبين عمومه ونحوه. وأيّا ما كان فالمقصود بالخطاب تعريض بقوم الذي أوحى إليه لأن فرض إشراك النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم غير متوقّع. واللام في (لَئِنْ أَشْرَكْتَ) موطئة للقسم المحذوف دالة عليه ، واللام في (لَيَحْبَطَنَ) لام جواب القسم.

والحبط : البطلان والدحض ، حبط عمله : ذهب باطلا. والمراد بالعمل هنا : العمل الصالح الذي يرجى منه الجزاء الحسن الأبدي.

ومعنى حبطه : أن يكون لغوا غير مجازى عليه. وتقدم حكم الإشراك بعد الإيمان ، وحكم رجوع ثواب العمل لصاحبه إن عاد إلى الإيمان بعد أن أبطل إيمانه عند قوله تعالى : (وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كافِرٌ فَأُولئِكَ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ) في سورة البقرة [٢١٧].

ثم عطف عليه أن صاحب الإشراك من الخاسرين ، شبه حاله حينئذ بحال التاجر الذي أخرج مالا ليربح فيه زيادة مال فعاد وقد ذهب ماله الذي كان بيده أو أكثره ، فالكلام تمثيل لحال من أشرك بعد التوحيد فإن الإشراك قد طلب به مبتكروه زيادة القرب من الله إذ قالوا : (ما نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونا إِلَى اللهِ زُلْفى) [الزمر : ٣] (وَيَقُولُونَ هؤُلاءِ شُفَعاؤُنا عِنْدَ اللهِ) [يونس : ١٨] فكان حالهم كحال التاجر الذي طلب الزيادة على ما عنده من المال ولكنه طلب الربح من غير بابه ، فباء بخسرانه وتبابه. وفي تقدير فرض وقوع الإشراك من الرسول والذين من قبله مع تحقق عصمتهم التنبيه على عظم أمر التوحيد وخطر الإشراك ليعلم الناس أن أعلى الدرجات في الفضل لو فرض أن يأتي عليها الإشراك لما أبقى منها أثرا ولدحضها دحضا.

و (بَلِ) لإبطال مضمون جملة (لَئِنْ أَشْرَكْتَ) أي بل لا تشرك ، أو لإبطال مضمون جملة (أَفَغَيْرَ اللهِ تَأْمُرُونِّي أَعْبُدُ).

والفاء في قوله : (فَاعْبُدْ) يظهر أنها تفريع على التحذير من حبط العمل ومن الخسران فحصل باجتماع (بَلِ) والفاء ، في صدر الجملة ، أن جمعت غرضين : غرض

١٢٧

إبطال كلامهم ، وغرض التحذير من أحوالهم ، وهذا وجه رشيق.

ومقتضى كلام سيبويه : أن الفاء مفرّعة على فعل أمر محذوف يقدر بحسب المقام ، وتقديره : تنبّه فاعبد الله (أي تنبه لمكرهم ولا تغترر بما أمروك أن تعبد غير الله) فحذف فعل الأمر اختصارا فلما حذف استنكر الابتداء بالفاء فقدموا مفعول الفعل الموالي لها فكانت الفاء متوسطة كما هو شأنها في نسج الكلام وحصل مع ذلك التقديم حصر. وجعل الزمخشري والزجاج الفاء جزائية دالة على شرط مقدر أي يدل عليه السياق ، تقديره : إن كنت عاقلا مقابل قوله : (أَيُّهَا الْجاهِلُونَ) [الزمر : ٦٤] فاعبد الله ، فلما حذف الشرط (أي إيجازا) عوض عنه تقديم المفعول وهو قريب من كلام سيبويه. وعن الكسائي والفراء الفاء مؤذنة بفعل قبلها يدل عليه الفعل الموالي لها ، والتقدير : الله أعبد فاعبد ، فلما حذف الفعل الأول حذف مفعول الفعل الملفوظ به للاستغناء عنه بمفعول الفعل المحذوف.

وتقديم المعمول على (فَاعْبُدْ) لإفادة القصر ، كما تقدم في قوله : (قُلِ اللهَ أَعْبُدُ) في هذه السورة [١٤] ، أي أعبد الله لا غيره ، وهذا في مقام الرد على المشركين كما تضمنه قوله : (قُلْ أَفَغَيْرَ اللهِ تَأْمُرُونِّي أَعْبُدُ أَيُّهَا الْجاهِلُونَ) [الزمر : ٦٤].

والشكر هنا : العمل الصالح لأنه عطف على إفراد الله تعالى بالعبادة فقد تمحض معنى الشكر هنا للعمل الذي يرضي الله تعالى والقول عموم الخطاب للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ولمن قبله أو في خصوصه بالنبيء صلى‌الله‌عليه‌وسلم ويقاس عليه الأنبياء كالقول في (لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ).

(وَما قَدَرُوا اللهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَالسَّماواتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ (٦٧))

لما جرى الكلام على أن الله تعالى خلق كل شيء وأن له مقاليد السماوات والأرض وهو ملك عوالم الدنيا ، وذيل ذلك بأن الذين كفروا بدليل الوحدانية هم الخاسرون ، وانتقل الكلام هنا إلى عظمة ملك الله تعالى في العالم الأخروي الأبدي ، وأن الذين كفروا بآيات الله الدالة على ملكوت الدنيا قد خسروا بترك النظر ، فلو اطلعوا على عظيم ملك الله في الآخرة لقدّروه حقّ قدره فتكون الواو عاطفة جملة (وَالْأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ) على جملة (لَهُ مَقالِيدُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) [الزمر : ٦٣] ويكون قوله : (وَما قَدَرُوا اللهَ) إلخ معترضا بين الجملتين ، اقتضاها التناسب مع جملة (وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ اللهِ أُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ) [الزمر : ٦٣].

١٢٨

ويجوز أن تكون معطوفة على جملة (اللهُ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ) [الزمر : ٦٢] فتكون جملة (وَما قَدَرُوا اللهَ حَقَّ قَدْرِهِ) وجملة (وَالْأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ) كلتاهما معطوفتين على جملة (اللهُ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ) [الزمر : ٦٢]. والمعنى : هو هو ، إلا أن الحال أوضح إفصاحا عنه.

ويجوز أن تكون جملة (وَالْأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ) عطف غرض على غرض انتقل به إلى وصف يوم القيامة وأحوال الفريقين فيه ، وجملة (وَما قَدَرُوا اللهَ حَقَّ قَدْرِهِ) اعتراضا ، وهو تمثيل لحال الجاهل بعظمة شيء بحال من لم يحقق مقدار صبرة فنقصها عن مقدارها ، فصار معنى (ما قَدَرُوا اللهَ) : ما عرفوا عظمته حيث لم ينزهوه عما لا يليق بجلاله من الشريك في إلهيته.

و (حَقَّ قَدْرِهِ) من إضافة الصفة إلى الموصوف ، أي ما قدروا الله قدره الحقّ ، فانتصب (حَقَ) على النيابة عن المفعول المطلق المبيّن للنوع ، وتقدم نظير هذا في سورة الأنعام.

وجميع : أصله اسم مفعول مثل قتيل ، قال لبيد :

عريت وكان بها الجميع فأبكروا

منها وغودر نؤيها وثمامها

وبذلك استعمل توكيدا مثل (كلّ) و (أجمع) قال تعالى : (يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللهُ جَمِيعاً) في سورة المجادلة [٦]. وقد وقع (جَمِيعاً) هنا حالا من (الْأَرْضُ) واسم (الْأَرْضُ) مؤنث فكان تجريد (جميع) من علامة التأنيث جريا على الوجه الغالب في جريان فعيل بمعنى مفعول على موصوفه ، وقد تلحقه علامة التأنيث كقول امرئ القيس :

فلو أنها نفس تموت جميعة

ولكنها نفس تساقط أنفسا

وانتصب (جَمِيعاً) هنا على الحال من (الْأَرْضُ) وتقدم نظيره آنفا في قوله : (قُلْ لِلَّهِ الشَّفاعَةُ جَمِيعاً) [الزمر : ٤٤].

والقبضة بفتح القاف المرّة من القبض ، وتقدم في قوله : (فَقَبَضْتُ قَبْضَةً مِنْ أَثَرِ الرَّسُولِ) في سورة طه [٩٦].

والإخبار عن الأرض بهذا المصدر الذي هو بمعنى المفعول كالخلق بمعنى المخلوق للمبالغة في الاتصاف بالمعنى المصدري وإنما صيغ لها وزن المرة تحقيرا لها في جانب عظمة ملك الله تعالى ، وإنما لم يجأ بها مضمومة القاف بمعنى الشيء المقبوض لئلا تفوت المبالغة في الاتصاف ولا الدلالة على التحقير فالقبضة مستعارة للتناول استعارة تصريحية ، والقبضة تدل على تمام التمكن من المقبوض وأن المقبوض لا تصرّف له ولا تحرّك.

١٢٩

وهذا إيماء إلى تعطيل حركة الأرض وانقماع مظاهرها إذ تصبح في عالم الآخرة شيئا موجودا لا عمل له وذلك بزوال نظام الجاذبية وانقراض أسباب الحياة التي كانت تمد الموجودات الحية على سطح الأرض من حيوان ونبات.

وطيّ السماوات : استعارة مكنية لتشويش تنسيقها واختلال أبعاد أجرامها ، فإن الطي ردّ ولفّ بعض شقق الثوب أو الورق على بعض بعد أن كانت مبسوطة منتشرة على نسق مناسب للمقصود من نشره فإذا انتهى المقصود طوي المنشور ، قال تعالى : (يَوْمَ نَطْوِي السَّماءَ كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ كَما بَدَأْنا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ) [الأنبياء : ١٠٤]. وإثبات الطي تخييل.

والباء في (بِيَمِينِهِ) للآلة والسببية. واليمين : وصف لليد ولا يد هنا وإنما هي كناية عن القدرة لأن العمل يكون باليد اليمين قال الشاعر أنشده الفرّاء والمبرد ، قال القرطبي :

ولما رأيت الشمس أشرق نورها

تناولت منها حاجتي بيمين

أي بقدرة. وضمير (منها) يعود على مذكور في أبيات قبله.

والمقصود من هاتين الجملتين تمثيل عظمة الله تعالى بحال من أخذ الأرض في قبضته ومن كانت السماوات مطوية أفلاكها وآفاقها بيده تشبيه المعقول بالمتخيّل وهي تمثيلية تنحل أجزاؤها إلى استعارتين ، وفيها دلالة على أن الأرض والسماوات باقية غير مضمحلة ولكن نظامهما المعهود اعتراه تعطيل ، وفي «الصحيح» عن أبي هريرة قال سمعت رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول : «يقبض الله الأرض ويطوي السماوات بيمينه ثم يقول أنا الملك أين ملوك الأرض». وعن عبد الله بن مسعود قال : جاء حبر من الأحبار إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال: يا محمد إنّا نجد أن الله يجعل السماوات على إصبع ، والأرضين على إصبع ، والشجر على إصبع ، والماء والثّرى على إصبع ، وسائر الخلق على إصبع. فيقول أنا الملك ، فضحك رسول الله حتى بدت نواجذه تصديقا لقول الحبر ثم قرأ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : (وَما قَدَرُوا اللهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَالسَّماواتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ).

ومعنى قوله : ثم قرأ هذه الآية ، نزلت قبل ذلك لأنها مما نزل بمكة. والحبر من أحبار يهود المدينة ، وقول الراوي : تصديقا لقول الحبر ، مدرج في الحديث من فهم الراوي كما جزم به أبو العباس القرطبي في كتابه : «المفهم على صحيح مسلم» ، وقال

١٣٠

الخطّابي روى هذا الحديث غير واحد عن عبد الله بن مسعود من طريق عبيدة فلم يذكروا قوله تصديقا لقول الحبر ، ولعله من الراوي ظنّ وحسبان. ا ه ـ ، أي فهو من إدراج إبراهيم النخعي رواية عن عبيدة. وإنما كان ضحك النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم استهزاء بالحبر في ظنه أن الله يفعل ذلك حقيقة وأن له يدا وأصابع حسب اعتقاد اليهود التجسيم ولذلك أعقبه بقراءة (وَما قَدَرُوا اللهَ حَقَّ قَدْرِهِ) لأن افتتاحها يشتمل على إبطال ما توهمه الحبر ونظراؤه من الجسمية ، وذلك معروف من اعتقادهم وقد ردّه القرآن عليهم غير مرة مما هو معلوم فلم يحتج النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى التصريح بإبطاله واكتفى بالإشارة التي يفهمها المؤمنون ، ثم أشار إلى أن ما توهمه اليهودي توزيعا على الأصابع إنما هو مجاز عن الأخذ والتصرف. وفي بعض روايات الحديث فنزل قوله تعالى : (وَما قَدَرُوا اللهَ حَقَّ قَدْرِهِ) وهو وهم من بعض رواته وكيف وهذه مكية وقصة الحبر مدنية.

وجملة (سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ) إنشاء تنزيه لله تعالى عن إشراك المشركين له آلهة وهو يؤكد جملة (وَما قَدَرُوا اللهَ حَقَّ قَدْرِهِ).

(وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلاَّ مَنْ شاءَ اللهُ ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرى فَإِذا هُمْ قِيامٌ يَنْظُرُونَ (٦٨))

انتقال من إجمال عظمة القدرة يوم القيامة إلى تفصيلها لما فيه من تهويل وتمثيل لمجموع الأحوال يومئذ مما ينذر الكافر ويبشر المؤمن ويذكر بإقامة العدل والحق ، ثم تمثيل إزجاء المشركين إلى جهنم وسوق المؤمنين إلى الجنة.

فالجملة من عطف القصة على القصة ، ومناسبة العطف ظاهرة ، وعبر بالماضي في قوله : (وَنُفِخَ) وقوله : (فَصَعِقَ) مجازا لأنه محقق الوقوع مثل قوله : (أَتى أَمْرُ اللهِ) [النحل : ١] ، ويجوز أن تكون الواو للحال بتقدير (قد) أي والحال قد نفخ في الصور ، فتكون صيغة الماضي في فعلي (نفخ وصعق) مستعملة في حقيقتها. وابتدئت الجملة بحديث النفخ في الصور إذ هو ميقات يوم القيامة وما يتقدمه من موت كل حي على وجه الأرض. وتكرر ذكره في القرآن والسنة.

والصور : بوق ينادى به البعيد المتفرق مثل الجيش ، ومثل النداء للصلاة فقد كان اليهود ينادون به : للصلاة الجامعة ، كما جاء في حديث بدء الأذان في الإسلام. والمراد به هنا نداء الخلق لحضور الحشر أحيائهم وأمواتهم ، وتقدم عند قوله : (يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ) في الأنعام

١٣١

[٧٣]. وهو علامة لأمر التكوين ، فالأحياء يصعقون فيموتون (كما يموت المفزوع) بالنفخة الأولى ، والأموات يصعقون اضطرابا تدبّ بسببه فيهم الحياة فيكونون مستعدين لقبول الحياة ، فإذا نفخت النفخة الثانية حلّت الأرواح في الأجساد المخلوقة لهم على مثال ما بلي من أجسادهم التي بليت ، أو حلّت الأرواح في الأجساد التي لم تزل باقية غير بالية كأجساد الذين صعقوا عند النفخة الأولى ، ويجوز أن يكون بين النفختين زمن تبلى فيه جميع الأجساد.

والاستثناء من اسم الموصول الأول ، أي إلا من أراد الله عدم صعقه وهم الملائكة والأرواح ، وتقدم في سورة النمل [٨٧] (وَيَوْمَ يُنْفَخُ)(١)(فِي الصُّورِ فَفَزِعَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ).

و (ثُمَ) تؤذن بتراخي الرتبة لأنها عاطفة جملة ، ويجوز أن تفيد مع ذلك المهلة المناسبة لما بين النفختين. و (أُخْرى) صفة لمحذوف ، أي نفخة أخرى ، وهي نفخة مخالف تأثيرها لتأثير النفخة الأولى ، لأن الأولى نفخة إهلاك وصعق ، والثانية نفخة إحياء وذلك باختلاف الصوتين أو باختلاف أمري التكوين. وإنما ذكرت النفخة الثانية في هذه الآية ولم تذكر في قوله في سورة النمل [٨٧] (وَيَوْمَ يُنْفَخُ)(٢)(فِي الصُّورِ فَفَزِعَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شاءَ اللهُ وَكُلٌّ أَتَوْهُ داخِرِينَ) لأن تلك في غرض الموعظة بفناء الدنيا وهذه الآية في غرض عظمة شأن الله في يوم القيامة ، وكذلك وصف النفخة بالواحدة في سورة الحاقة [١٣ ، ١٥] (فَإِذا نُفِخَ فِي الصُّورِ نَفْخَةٌ واحِدَةٌ وَحُمِلَتِ الْأَرْضُ وَالْجِبالُ فَدُكَّتا دَكَّةً واحِدَةً فَيَوْمَئِذٍ وَقَعَتِ الْواقِعَةُ) وذكرت هنا نفختان.

وضمير (هُمْ) عائد على (مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ) فيما بقي من مفهومه بعد التخصيص ب (إِلَّا مَنْ شاءَ اللهُ) وهم الذين صعقوا صعق ممات وصعق اضطراب يهيأ لقبول الحياة عند النفخة.

وإذا للمفاجأة للتنبيه على سرعة حلول الحياة فيهم وقيامهم إثره و (قِيامٌ) جمع قائم.

وجملة (يَنْظُرُونَ) حال. والنظر : الإبصار ، وفائدة هذه الحال الدلالة على أنهم حيوا حياة كاملة لا غشاوة معها على أبصارهم ، أي لا دهش فيها كما في قوله تعالى : (فَإِنَّما هِيَ زَجْرَةٌ واحِدَةٌ فَإِذا هُمْ يَنْظُرُونَ) في سورة الصافات [١٩] ، أو أريد أنهم ينظرون نظر المقلّب بصره الباحث. ويجوز أن يكون من النظرة ، أو الانتظار.

__________________

(١ ، ٢) في المطبوعة (ونفخ) ، وهو خطأ.

١٣٢

[٦٩ ـ ٧٠] (وَأَشْرَقَتِ الْأَرْضُ بِنُورِ رَبِّها وَوُضِعَ الْكِتابُ وَجِيءَ بِالنَّبِيِّينَ وَالشُّهَداءِ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ (٦٩) وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ ما عَمِلَتْ وَهُوَ أَعْلَمُ بِما يَفْعَلُونَ (٧٠))

صوّرت هذه الآيات جلال ذلك الموقف وجماله أبدع تصوير والتعريف في (الْأَرْضِ) تعريف العهد الذكري الضمني فقد تضمن قوله : (فَإِذا هُمْ قِيامٌ يَنْظُرُونَ) [الزمر : ٦٨] أنهم قيام على قرار فإن القيام يستدعي مكانا تقوم فيه تلك الخلائق وهو أرض الحشر وهي الساهرة في قوله تعالى في سورة النازعات [١٣ ، ١٤] : (فَإِنَّما هِيَ زَجْرَةٌ واحِدَةٌ فَإِذا هُمْ بِالسَّاهِرَةِ) وفسرت بأنها الأرض البيضاء النقية وليس المراد الأرض التي كانوا عليها في الدنيا فإنها قد اضمحلت قال تعالى : (يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ) [إبراهيم : ٤٨].

وإشراق الأرض انتشار الضوء عليها ، يقال : أشرقت الأرض ، ولا يقال : أشرقت الشمس ، كما تقدم عند قوله : (بِالْعَشِيِّ وَالْإِشْراقِ) في سورة ص [١٨].

وإضافة النور إلى الرب إضافة تعظيم لأنه منبعث من جانب القدس وهو الذي في قوله تعالى : (اللهُ نُورُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكاةٍ فِيها مِصْباحٌ) الآية من سورة النور [٣٥]. فإضافة نور إلى الرب إضافة تشريف للمضاف كقوله تعالى : (هذِهِ ناقَةُ اللهِ لَكُمْ آيَةً) [الأعراف : ٧٣] كما أن إضافة (رب) إلى ضمير الأرض لتشريف المضاف إليه ، أي بنور خاص خلقه الله فيها لا بسطوع مصباح ولا بنور كوكب شمس أو غيرها ، وإذ قد كان النور نورا ذاتيا لتلك الأرض كان إشارة إلى خلوصها من ظلمات الأعمال فدل على أن ما يجري على تلك الأرض من الأعمال والأحداث حق وكمال في بابه لأن عالم الأنوار لا يشوبه شيء من ظلمات الأعمال ، ألا ترى أن العالم الأرضي لمّا لم يكن نيّرا بذاته بل كان نوره مقتبسا من شروق الشمس والكواكب ليلا كان ما على وجه الأرض من الأعمال والمخلوقات خليطا من الخير والشر. وهذا يغني عن جعل النور مستعارا للعدل فإن ذلك المعنى حاصل بدلالة الالتزام كناية ، ولو حمل النور على معنى العدل لكان أقل شمولا لأحوال الحق والكمال وهو يغني عنه قوله : (وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ). هذا هو الوجه في تفسير الآية وقد ذهب فيها المفسرون من السلف والخلف طرائق شتى.

١٣٣

و (الْكِتابُ) تعريفه تعريف الجنس ، أي وضعت الكتب وهي صحائف أعمال العباد أحضرت للحساب بما فيها من صالح وسيّئ. والوضع : الحطّ ، والمراد به هنا الإحضار.

ومجيء النبيئين للشهادة على أممهم ، كما تقدم في قوله تعالى : (فَكَيْفَ إِذا جِئْنا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنا بِكَ عَلى هؤُلاءِ شَهِيداً) في سورة النساء [٤١].

والشهداء : جمع شهيد وهو الشاهد ، قال تعالى : (وَجاءَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَعَها سائِقٌ وَشَهِيدٌ) في سورة ق [٢١]. والمراد الشهداء من الملائكة الحفظة الموكلين بإحصاء أعمال العباد. وضمير (بَيْنَهُمْ) عائد إلى (مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ) [الزمر : ٦٨] أي قضي بين الناس بالحق.

ويجوز أن يكون المراد بالكتاب كتب الشرائع التي شرعها الله للعباد على ألسنة الرسل ويكون إحضارها شاهدة على الأمم بتفاصيل ما بلّغه الرسل إليهم لئلا يزعموا أنهم لم تبلغهم الأحكام. وقد صوّرت الآية صورة المحكمة الكاملة التي أشرقت بنور العدل ، وصدر الحكم على ما يستحقه المحكوم فيهم من كرامة ونذالة ، ولذلك قال : (وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِ) أي صدر القضاء فيهم بما يستحقون وهو مسمى الحق ، فمن القضاء ما هو فصل بين الناس في معاملات بعضهم مع بعض من كل ظالم ومظلوم ومعتد ومعتدى عليه في اختلاف المعتقدات واختلاف المعاملات قال تعالى : (إِنَّ رَبَّكَ لَيَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فِيما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ) [النحل : ١٢٤].

ومن القضاء القضاء على كل نفس بما هي به حقيقة من مرتبة الثواب أو العقاب وهو قوله : (وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ ما عَمِلَتْ). فقضاء الله هو القضاء العام الذي لا يقتصر على

إنصاف المتداعين كقضاء القاضي ، ولا على سلوك الداعرين كقضاء والي الشرطة ، ولا على مراقبة المغيّرين كقضاء والي الحسبة ، ولكنه قضاء على كل نفس فيما اعتدت وفيما سلكت وفيما بدلت ، ويزيد على ذلك بأنه قضاء على كل نفس بما اختلت به من عمل وبما أضمرته من ضمائر إن خيرا فخير وإن شرّا فشرّ. وإلى ذلك تشير المراتب الثلاث في الآية : مرتبة (وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ) ، ومرتبة (وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ ما عَمِلَتْ) ، ومرتبة (وَهُوَ أَعْلَمُ بِما يَفْعَلُونَ).

والتوفية : إعطاء الشيء وافيا لا نقص فيه عن الحق في إعطائه ولا عن عطاء أمثاله. وفي قوله : (ما عَمِلَتْ) مضاف محذوف ، أي جزاء ما عملت لظهور أن ما عمله المرء لا يوفاه بعد أن عمله وإنما يوفى جزاءه.

١٣٤

والقول في الأفعال الماضوية في قوله : (وَأَشْرَقَتِ) ، (وَوُضِعَ) ، وجاء ، (وَوُفِّيَتْ) كالقول في قوله : (وَنُفِخَ فِي الصُّورِ) [الزمر : ٦٨].

[٧١ ـ ٧٢] (وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلى جَهَنَّمَ زُمَراً حَتَّى إِذا جاؤُها فُتِحَتْ أَبْوابُها وَقالَ لَهُمْ خَزَنَتُها أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَتْلُونَ عَلَيْكُمْ آياتِ رَبِّكُمْ وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقاءَ يَوْمِكُمْ هذا قالُوا بَلى وَلكِنْ حَقَّتْ كَلِمَةُ الْعَذابِ عَلَى الْكافِرِينَ (٧١) قِيلَ ادْخُلُوا أَبْوابَ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها فَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ (٧٢))

هذا تنفيذ القضاء الذي جاء في قوله : (وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِ) [الزمر : ٦٩] وقوله : (وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ ما عَمِلَتْ) [الزمر : ٧٠] ، فإن عاقبة ذلك ونتيجته إيداع المجرمين في العقاب وإيداع الصالحين في دار الثواب.

وابتدئ في الخبر بذكر مستحقي العقاب لأنه الأهم في هذا المقام إذ هو مقام إعادة الموعظة والترهيب للذين لم يتعظوا بما تكرر في القرآن من العظات مثل هذه فأما أهل الثواب فقد حصل المقصود منهم فما يذكر عنهم فإنما هو تكرير بشارة وثناء.

والسّوق : أن يجعل الماشي ماشيا آخر يسير أمامه ويلازمه ، وضدّه القود ، والسوق مشعر بالإزعاج والإهانة ، قال تعالى : (كَأَنَّما يُساقُونَ إِلَى الْمَوْتِ) [الأنفال : ٦].

والزّمر : جمع زمرة ، وهي الفوج من الناس المتبوع بفوج آخر ، فلا يقال : مرت زمرة من الناس ، إلّا إذا كانت متبوعة بأخرى ، وهذا من الألفاظ التي مدلولها شيء مقيّد. وإنما جعلوا زمرا لاختلاف درجات كفرهم ، فإن كان المراد بالذين كفروا مشركي قريش المقصودين بهذا الوعيد كان اختلافهم على حسب شدة تصلبهم في الكفر وما يخالطه من حدب على المسلمين أو فظاظة ، ومن محايدة للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أو أذى ، وإن كان المراد بهم جميع أهل الشرك كما تقتضيه حكاية الموقف مع قوله : (أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ) كان تعدد زمرهم على حسب أنواع إشراكهم.

و (حَتَّى) ابتدائية و (إِذا) ظرف لزمان المستقبل يضمّن معنى الشرط غالبا ، أي سيقوا سوقا ملازما لهم بشدته متصل بزمن مجيئهم إلى النار.

وجملة (فُتِحَتْ) جواب (إِذا) لأنها ضمنت معنى الشرط وأغنى ذكر (إِذا) عن الإتيان ب ـ (لمّا) التوقيتية ، والتقدير : فلما جاءوها فتحت أبوابها ، أي وكانت مغلقة لتفتح في وجوههم حين مجيئهم فجأة تهويلا ورعبا.

١٣٥

وقرأ الجمهور فتحت بتشديد التاء للمبالغة في الفتح. وقرأه عاصم وحمزة والكسائي وخلف بتخفيف التاء على أصل الفعل.

والخزنة : جمع خازن وهو الوكيل والبوّاب غلب عليه اسم الخازن لأنه يقصد لخزن المال.

والاستفهام الموجه إلى أهل النار استفهام تقريري مستعمل في التوبيخ والزجر كما دل عليه قولهم بعده : (ادْخُلُوا أَبْوابَ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها فَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ).

و (مِنْكُمْ) صفة ل (رُسُلٌ) ، والمقصود من الوصف التورك عليهم لأنهم كانوا يقولون : (أَبَشَراً مِنَّا واحِداً نَتَّبِعُهُ) [القمر : ٢٤] ، والتلاوة : قراءة الرسالة والكتاب لأن القارئ يتلو بعض الكلام ببعض ، وأصل الآيات : العلامات مثل آيات الطريق. وأطلقت على الأقوال الدالة على الحق ، والمراد بها هنا الأقوال الموحى بها إلى الرسل مثل صحف إبراهيم وموسى والقرآن ، وأخصّها باسم الآيات هي آيات القرآن لأنها استكملت كنه الآيات باشتمالها على عظم الدلالة على الحق وإذ هي معجزات بنظمها ولفظها ، وما عداه يسمى آيات على وجه المشاكلة كما في حديث الرجم : أن اليهودي الذي أحضر التوراة وضع يده على آية الرجم ، ولأن في معاني كثير من القرآن والكتب السماوية ما فيه دلائل نظرية على الوحدانية والبعث ونحوها من الاستدلال.

وأسندت التلاوة إلى جميع الرسل وإن كان فيهم من ليس له كتاب ، على طريقة التغليب.

وإضافة (يوم) إلى ضمير المخاطبين باعتبار كونهم فيه كقول النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم في خطبة حجة الوداع «كحرمة يومكم هذا في شهركم هذا في بلدكم هذا»فالإضافة قائمة مقام التعريف ب (أل) العهدية.

وجوابهم بحرف (بَلى) إقرار بإبطال المنفي وهو إتيان الرسل وتبليغهم فمعناه إثبات إتيان الرسل وتبليغهم.

وكلمة (الْعَذابِ) هي الوعيد به على ألسنة الرسل كما في قول بعضهم في الآية الأخرى : (فَحَقَّ عَلَيْنا قَوْلُ رَبِّنا إِنَّا لَذائِقُونَ) [الصافات : ٣١] أي تحققت فينا ، فالتعريف في كلمة (الْعَذابِ) تعريف الجنس لإضافتها إلى معرفة بلام الجنس ، أي كلمات.

ومحل الاستدراك هو ما طوي في الكلام مما اقتضى أن تحق عليهم كلمات الوعيد ، وذلك بإعراضهم من الإصغاء لأمر الرسل ، فالتقدير : ولكن تكبّرنا وعاندنا فحقت

١٣٦

كلمة العذاب على الكافرين ، وهذا الجواب من قبيل جواب المتندم المكروب فإنه يوجز جوابه ويقول لسائله أو لائمة : الأمر كما ترى.

ولم يعطف فعل (قالُوا) على ما قبله لأنه جاء في معرض المقاولة كما تقدم غير مرة انظر قوله تعالى : (أَتَجْعَلُ فِيها مَنْ يُفْسِدُ فِيها) إلى قوله : (قالَ إِنِّي أَعْلَمُ ما لا تَعْلَمُونَ) [البقرة : ٣٠].

وفعل (قِيلَ) مبني للنائب للعلم بالفاعل إذ القائل : ادخلوا أبواب جهنم ، هم خزنتها.

ودخول الباب : ولوجه لوصول ما وراءه قال تعالى : (ادْخُلُوا عَلَيْهِمُ الْبابَ) [المائدة : ٢٣] أي لجوا الأرض المقدسة ، وهي أريحا.

والمثوى : محل الثواء وهو الإقامة ، والمخصوص بالذم محذوف دل عليه ما قبله والتقدير : بئس مثوى المتكبرين جهنم ووصفوا ب (الْمُتَكَبِّرِينَ) لأنهم أعرضوا عن قبول الإسلام تكبرا عن أن يتبعوا واحدا منهم.

(وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ زُمَراً حَتَّى إِذا جاؤُها وَفُتِحَتْ أَبْوابُها وَقالَ لَهُمْ خَزَنَتُها سَلامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوها خالِدِينَ (٧٣))

أطلق على تقدمة المتقين إلى الجنة فعل السّوق على طريقة المشاكلة ل (سِيقَ) [الزمر : ٧١] الأول ، والمشاكلة من المحسنات ، وهي عند التحقيق من قبيل الاستعارة التي لا علاقة لها إلّا المشابهة الجملية التي تحمل عليها مجانسة اللفظ. وجعلهم زمرا بحسب مراتب التقوى.

والواو في جملة (وَفُتِحَتْ أَبْوابُها) واو الحال ، أي حين جاءوها وقد فتحت أبوابها فوجدوا الأبواب مفتوحة على ما هو الشأن في اقتبال أهل الكرامة.

وقد وهم في هذه الواو بعض النحاة مثل ابن خالويه والحريري وتبعهما الثعلبي في «تفسيره» فزعموا أنها واو تدخل على ما هو ثامن إمّا لأن فيه مادة ثمانية كقوله : (وَيَقُولُونَ سَبْعَةٌ وَثامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ) [الكهف : ٢٢] ، فقالوا في (وَفُتِحَتْ أَبْوابُها) جيء بالواو لأن أبواب الجنة ثمانية ، وإما لأنه ثامن في التعداد نحو قوله تعالى : (التَّائِبُونَ الْعابِدُونَ) إلى قوله : (وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنْكَرِ) [التوبة : ١١٢] فإنه الوصف الثامن في التعداد ووقوع هذه الواوات مصادفة غريبة ، وتنبّه أولئك إلى تلك المصادفة تنبه لطيف ولكنه لا طائل تحته في

١٣٧

معاني القرآن بله بلاغته ، وقد زينه ابن هشام في «مغني اللبيب» ، وتقدم الكلام عليها عند قوله تعالى : (التَّائِبُونَ الْعابِدُونَ) في سورة التوبة [١١٢] وعند قوله : (وَيَقُولُونَ سَبْعَةٌ وَثامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ) في سورة الكهف [٢٢].

و (إِذا) هنا لمجرد الزمان غير مضمنة معنى الشرط ، فالتقدير : حتّى زمن مجيئهم إلى أبواب الجنة ، أي خلّتهم الملائكة الموكلون بإحفافهم عند أبواب الجنة ، كحالة من يهدي العروس إلى بيتها فإذا أبلغها بابه خلّى بينها وبين بيتها ، كأنهم يقولون : هذا منزلكم فدونكموه ، فتلقتهم خزنة الجنة بالسلام.

و (طِبْتُمْ) دعاء بالطيب لهم ، أي التزكية وطيب الحالة ، والجملة إنشاء تكريم ودعاء.

والخلاف بين القراء في (فُتِحَتْ) هنا كالخلاف في نظيره المذكور آنفا.

(وَقالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَنا وَعْدَهُ وَأَوْرَثَنَا الْأَرْضَ نَتَبَوَّأُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ نَشاءُ فَنِعْمَ أَجْرُ الْعامِلِينَ (٧٤))

عطف هذا الكلام يؤذن بأن قولهم ذلك غير جواب لقول الملائكة بل حمدوا الله على ما منحهم من النعيم الذي وعدهم به ، وإنما وعدهم به بعنوان الأعمال الصالحة فلما كانوا أصحاب الأعمال الصالحة جعلوا وعد العاملين للصالحات وعدا لهم لتحقق المعلق عليه الوعد فيهم. ومعنى (صَدَقَنا) حقق لنا وعده.

وقوله : (أَوْرَثَنَا الْأَرْضَ) كلام جرى مجرى المثل لمن ورث الملك قال تعالى : (أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُها عِبادِيَ الصَّالِحُونَ) [الأنبياء : ١٠٥] فعبر القرآن عن مراد أهل الجنة المختلفي اللغات بهذا التركيب العربي الدال على معاني ما نطقوا به من لغاتهم المختلفة. ويجوز أن يكون أهل الجنة نطقوا بكلام عربي ألهمهم الله إياه فقد جاء في الآثار أن كلام أهل الجنة بالعربية الفصحى. ولفظ (الْأَرْضَ) جار على مراعاة التركيب التمثيلي لأن الأرض قد اضمحلت أو بدلت. ويجوز أن يكون لفظ (الْأَرْضَ) مستعارا للجنّة لأنها قرارهم كما أن الأرض قرار الناس في الحياة الأولى.

وإطلاق الإيراث استعارة تشبيها للإعطاء بالتوريث في سلامته من تعب الاكتساب.

والتبوؤ : السكني والحلول ، والمعنى : أنهم يتنقلون في الغرف والبساتين تفننا في النعيم.

١٣٨

وأرادوا ب (الْعامِلِينَ) أنفسهم ، أي عاملي الخير ، وهذا من التصريح بالحقائق فليس فيه عيب تزكية النفس ، لأن ذلك العالم عالم الحقائق الكاملة المجردة عن شوب النقائص.

واعلم أن الآيات وصفت مصير أهل الكفر ومصير المتقين يوم الحشر ، وسكتت عن مصير أهل المعاصي الذين لم يلتحقوا بالمتقين بالتوبة من الكبائر وغفران الصغائر باجتناب الكبائر ، وهذه عادة القرآن في الإعراض عن وصف رجال من الأمة الإسلامية بمعصية ربهم إلا عند الاقتضاء لبيان الأحكام ، فإن الكبائر من أمر الجاهلية فما كان لأهل الإسلام أن يقعوا فيها فإذا وقعوا فيها فعليهم بالتوبة ، فإذا ماتوا غير تائبين فإن الله تعالى يحصي لهم حسنات أعمالهم وطيبات نواياهم فيقاصّهم بها إن شاء ، ثم هم فيما دون ذلك يقتربون من العقاب بمقدار اقترابهم من حال أهل الكفر في وفرة المعاصي فيؤمر بهم إلى النار ، أو إلى الجنة ، ومنهم أهل الأعراف. وقد تقدمت نبذة من هذا الشأن في سورة الأعراف.

(وَتَرَى الْمَلائِكَةَ حَافِّينَ مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَقِيلَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ (٧٥))

(وَتَرَى الْمَلائِكَةَ حَافِّينَ مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ).

عطف على ما قبله من ذكر أحوال يوم القيامة التي عطف بعضها على بعض ابتداء من قوله تعالى : (وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ) [الزمر : ٦٨] إن من جملة تلك الأحوال حف الملائكة حول العرش.

والخطاب للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فيكون إيذانا بأنها رؤية دنو من العرش وملائكته ، وذلك تكريم له بأن يكون قد حواه موكب الملائكة الذين حول العرش.

والحفّ : الإحداق بالشيء والكون بجوانبه.

وجملة (يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ) حال ، أي يقولون أقوالا تدل على تنزيه الله تعالى وتعظيمه ملابسة لحمدهم إياه. فالباء في (بِحَمْدِ رَبِّهِمْ) للملابسة تتعلق ب (يُسَبِّحُونَ).

وفي استحضار الله تعالى بوصف ربهم إيماء إلى أن قربهم من العرش ترفيع في مقام العبودية الملازمة للخلائق.

(وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِ).

١٣٩

تأكيد لجملة (وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ) [الزمر : ٦٩] المتقدمة.

(وَقِيلَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ).

يجوز أن يكون توكيدا لجملة (وَقالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَنا وَعْدَهُ) [الزمر : ٧٤].

ويجوز أن يكون حكاية قول آخر لقائلين من الملائكة والرسل وأهل الجنة ، فهو أعم من القول المتقدم الذي هو قول المسوقين إلى الجنة من المتقين ، فهذا قولهم يحمدون الله على عدل قضائه وجميع صفات كماله.

١٤٠