تفسير التّحرير والتّنوير - ج ٢٤

الشيخ محمّد الطاهر ابن عاشور

تفسير التّحرير والتّنوير - ج ٢٤

المؤلف:

الشيخ محمّد الطاهر ابن عاشور


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة التاريخ العربي للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٢٦٨

لأجل الأجل أي لأجل ما يطلبه ويقتضيه أجل البقاء ، وذلك كقوله تعالى : (وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَها) [يس : ٣٨] ، فالتنكير في (أجل) للإفراد. ويجوز أن يكون المراد بالأجل أجل حياة الناس الذي ينتهي بانتهاء الأعمار المختلفة. وليس العمر إلا أوقاتا محدودة وأنفاسا معدودة. وجري الشمس والقمر تحسب به تلك الأوقات والأنفاس ، فصار جريهما كأنه لأجل.

قال أسقف نجران :

منع البقاء تقلّب الشمس

وطلوعها من حيث لا تمسي

وأقوالهم في هذا المعنى كثيرة.

فالتنكير في أجل للنوعية الذي هو في معنى لآجال مسماة. ولعل تعقيبه بوصف (الْغَفَّارُ) يرجح هذا المحمل كما سيأتي.

والمسمّى : المجعول له وسم ، أي ما به يعين وهو ما عيّنه الله لأن يبلغ إليه. وقد جاء في آيات أخرى (كُلٌّ يَجْرِي إِلى أَجَلٍ) [لقمان : ٢٩] بحرف انتهاء الغاية ، ولام العلة وحرف الغاية متقاربان في المعنى الأصلي وأحسب أن اختلاف التعبير بهما مجرد تفنن في الكلام.

(أَلا هُوَ الْعَزِيزُ الْغَفَّارُ).

استئناف ابتدائي هو في معنى الوعيد والوعد ، فإن وصف (الْعَزِيزُ) كناية عن أنه يفعل ما يشاء لا غالب له فلا تجدي المشركين عبادة أوليائهم ، ووصف (الْغَفَّارُ) مؤذن باستدعائهم إلى التوبة باتباع الإسلام. وفي وصف (الْغَفَّارُ) مناسبة لذكر الأجل لأن المغفرة يظهر أثرها بعد البعث الذي يكون بعد الموت وانتهاء الأجل تحريضا على البدار بالتوبة قبل الموت حين يفوت التدارك. وفي افتتاح الجملة بحرف التنبيه إيذان بأهمية مدلولها الصريح والكنائي.

(خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْها زَوْجَها وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ الْأَنْعامِ ثَمانِيَةَ أَزْواجٍ يَخْلُقُكُمْ فِي بُطُونِ أُمَّهاتِكُمْ خَلْقاً مِنْ بَعْدِ خَلْقٍ فِي ظُلُماتٍ ثَلاثٍ ذلِكُمُ اللهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ (٦))

(خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْها زَوْجَها).

٢١

انتقال إلى الاستدلال بخلق الناس وهو الخلق العجيب. وأدمج فيه الاستدلال بخلق أصلهم وهو نفس واحدة تشعب منها عدد عظيم وبخلق زوج آدم ليتقوّم ناموس التناسل. والجملة يجوز أن تكون في موضع الحال من ضمير الجلالة ، ويجوز أن تكون استئنافا ابتدائيا تكريرا للاستدلال.

والخطاب للمشركين بدليل قوله بعده : (فَأَنَّى تُصْرَفُونَ) ، وهو التفات من الغيبة إلى الخطاب ، ونكتته أنه لما أخبر رسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عنهم بطريق الغيبة أقبل على خطابهم ليجمع في توجيه الاستدلال إليهم بين طريقي التعريض والتصريح. وتقدم نظير هذه الجملة في سورة الأعراف ، إلّا أن في هذه الجملة عطف قوله : (جَعَلَ مِنْها زَوْجَها) بحرف (ثُمَ) الدال على التراخي الرتبي لأن مساقها الاستدلال على الوحدانية وإبطال الشريك بمراتبه ، فكان خلق آدم دليلا على عظيم قدرته تعالى وخلق زوجه من نفسه دليلا آخر مستقل الدلالة على عظيم قدرته. فعطف بحرف (ثُمَ) الدال في عطف الجمل على التراخي الرتبي إشارة إلى استقلال الجملة المعطوفة بها بالدلالة مثل الجملة المعطوفة هي عليها ، فكان خلق زوج آدم منه أدلّ على عظيم القدرة من خلق الناس من تلك النفس الواحدة ومن زوجها لأنه خلق لم تجر به عادة فكان ذلك الخلق أجلب لعجب السامع من خلق الناس فجيء له بحرف التراخي المستعمل في تراخي المنزلة لا في تراخي الزمن لأن زمن خلق زوج آدم سابق على خلق الناس. فأما آية الأعراف فمساقها مساق الامتنان على الناس بنعمة الإيجاد ، فذكر الأصلان للناس معطوفا أحدهما على الآخر بحرف التشريك في الحكم الذي هو الكون أصلا لخلق الناس.

وقد تضمنت الآية ثلاث دلائل على عظم القدرة خلق الناس من ذكر وأنثى بالأصالة وخلق الذكر الأول بالإدماج وخلق الأنثى بالأصالة أيضا.

(وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ الْأَنْعامِ ثَمانِيَةَ أَزْواجٍ).

استدلال بما خلقه الله تعالى من الأنعام عطف على الاستدلال بخلق الإنسان لأن المخاطبين بالقرآن يومئذ قوام حياتهم بالأنعام ولا تخلو الأمم يومئذ من الحاجة إلى الأنعام ولم تزل الحاجة إلى الأنعام حافّة بالبشر في قوام حياتهم. وهذا اعتراض بين جملة (خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ) وبين (يَخْلُقُكُمْ فِي بُطُونِ أُمَّهاتِكُمْ) لمناسبة أزواج الأنعام لزوج النفس الواحدة.

وأدمج في هذا الاستدلال امتنان بما فيها من المنافع للناس لما دل عليه قوله :

٢٢

(لَكُمْ) لأن في الأنعام مواد عظيمة لبقاء الإنسان وهي التي في قوله تعالى : (وَالْأَنْعامَ خَلَقَها لَكُمْ فِيها دِفْءٌ) إلى قوله : (إِلَّا بِشِقِّ الْأَنْفُسِ) [النحل : ٥ ـ ٧] وقوله : (وَمِنْ أَصْوافِها وَأَوْبارِها) إلخ في سورة النحل [٨٠].

والإنزال : نقل الجسم من علوّ إلى سفل ، ويطلق على تذليل الأمر الصعب كما يقال : نزلوا على حكم فلان ، لأن الأمر الصعب يتخيل صعب المنال كالمعتصم بقمم الجبال ، قال خصّاب بن المعلّى من شعراء الحماسة :

أنزلني الدهر على حكمه

من شاهق عال إلى خفض

فإطلاق الإنزال هنا بمعنى التذليل والتمكين على نحو قوله تعالى : (وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ) [الحديد : ٢٥] أي سخرناه للناس فألهمناهم إلى معرفة قينه يتخذونه سيوفا ودروعا ورماحا وعتادا مع شدته وصلابته. ويجوز أن يكون إنزال الأنعام إنزالها الحقيقي ، أي إنزال أصولها من سفينة نوح كقوله تعالى : (وَلَقَدْ خَلَقْناكُمْ ثُمَّ صَوَّرْناكُمْ ثُمَّ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ) [الأعراف : ١١] ، أي خلقنا أصلكم وهو آدم ، قال تعالى : (قُلْنَا احْمِلْ فِيها مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ) [هود : ٤٠] فيكون الإنزال هو الإهباط قال تعالى : (قِيلَ يا نُوحُ اهْبِطْ بِسَلامٍ مِنَّا وَبَرَكاتٍ عَلَيْكَ وَعَلى أُمَمٍ مِمَّنْ مَعَكَ) [هود : ٤٨] ، فهذان وجهان حسنان لإطلاق الإنزال ، وهما أحسن من تأويل المفسرين إنزال الأنعام بمعنى الخلق ، أي لأن خلقها بأمر التكوين الذي ينزل من حضرة القدس إلى الملائكة.

والأزواج : الأنواع ، كما في قوله تعالى : (وَمِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ جَعَلَ فِيها زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ) [الرعد : ٣] والمراد أنواع الإبل والغنم والبقر والمعز.

وأطلق على النوع اسم الزوج الذي هو المثنّى لغيره لأن كل نوع يتقوّم كيانه من الذكر والأنثى وهما زوجان أو أطلق عليها أزواج لأنه أشار إلى ما أنزل من سفينة نوح منها وهو ذكر وأنثى من كل نوع كما تقدم آنفا.

(يَخْلُقُكُمْ فِي بُطُونِ أُمَّهاتِكُمْ خَلْقاً مِنْ بَعْدِ خَلْقٍ فِي ظُلُماتٍ ثَلاثٍ).

بدل من جملة (خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ) وضمير المخاطبين هنا راجع إلى الناس لا غير وهو استدلال بتطور خلق الإنسان على عظيم قدرة الله وحكمته ودقائق صنعه.

والتعبير بصيغة المضارع لإفادة تجدد الخلق وتكرره مع استحضار صورة هذا التطور العجيب استحضارا بالوجه والإجمال الحاصل للأذهان على حسب اختلاف مراتب

٢٣

إدراكها ، ويعلم تفصيله علماء الطب والعلوم الطبيعية وقد بينه الحديث عن النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إن أحدكم يجمع خلقه في بطن أمه أربعين يوما نطفة ثم يكون علقة مثل ذلك ثم يكون مضغة مثل ذلك ثم يرسل إليه الملك فينفخ فيه الروح».

وقوله : (خَلْقاً مِنْ بَعْدِ خَلْقٍ) أي طورا من الخلق بعد طور آخر يخالفه وهذه الأطوار عشرة :

الأول : طور النطفة ، وهي جسم مخاطيّ مستدير أبيض خال من الأعضاء يشبه دودة ، طوله نحو خمسة مليمتر.

الثاني : طور العلقة ، وهي تتكون بعد ثلاثة وثلاثين يوما من وقت استقرار النطفة في الرحم ، وهي في حجم النملة الكبيرة طولها نحو ثلاثة عشر مليمترا يلوح فيها الرأس وتخطيطات من صور الأعضاء.

الثالث : طور المضغة وهي قطعة حمراء في حجم النحلة.

الرابع : عند استكمال شهرين يصير طوله ثلاثة سانتيمتر وحجم رأسه بمقدار نصف بقيته ولا يتميز عنقه ولا وجهه ويستمر احمراره.

الخامس : في الشهر الثالث يكون طوله خمسة عشر سانتيميترا ووزنه مائة غرام ويبدو رسم جبهته وأنفه وحواجبه وأظافره ويستمر احمرار جلده.

السادس : في الشهر الرابع يصير طوله عشرين سانتيميترا ووزنه (٢٤٠) غرامات ، ويظهر في الرأس زغب وتزيد أعضاؤه البطنية على أعضائه الصدرية وتتضح أظافره في أواخر ذلك الشهر.

السابع : في الشهر السادس يصير طوله نحو ثلاثين صنتيمترا ووزنه خمسمائة غرام ويظهر فيه مطبقا وتتصلب أظافره.

الثامن : في الشهر السابع يصير طوله ثمانية وثلاثين صنتيمترا ويقلّ احمرارا جلده ويتكاثف جلده وتظهر على الجلد مادة دهنية دسمة ملتصقة ، ويطول شعر رأسه ويميل إلى الشقرة وتتقبب جمجمته من الوسط.

التاسع : في الشهر الثامن يزيد غلظه أكثر من ازدياد طوله ويكون طوله نحو أربعين

٢٤

صنتيمترا ، ووزنه نحو أربعة أرطال أو تزيد ، وتقوى حركته.

العاشر : في الشهر التاسع يصير طوله من خمسين إلى ستين صنتيمترا ووزنه من ستة إلى ثمانية أرطال. ويتم عظمه ، ويتضخّم رأسه ، ويكثف شعره ، وتبتدئ فيه وظائف الحياة في الجهاز الهضمي والرئة والقلب ، ويصير نماؤه بالغذاء ، وتظهر دورة الدم فيه المعروفة بالدورة الجنينية.

و (الظلمات الثلاث) : ظلمة بطن الأم ، وظلمة الرحم ، وظلمة المشيمة ، وهي غشاء من جلد يخلق مع الجنين محيطا به ليقيه وليكون به استقلاله مما ينجر إليه من الأغذية في دورته الدموية الخاصة به دون أمه. وفي ذكر هذه الظلمات تنبيه على إحاطة علم الله تعالى بالأشياء ونفوذ قدرته إليها في أشدّ ما تكون فيه من الخفاء.

وانتصب (خَلْقاً) على المفعولية المطلقة المبينة للنوعية باعتبار وصفه بأنه (مِنْ بَعْدِ خَلْقٍ) ، ويتعلق قوله : (فِي ظُلُماتٍ ثَلاثٍ) ب (يَخْلُقُكُمْ).

وقرأ الجمهور (أُمَّهاتِكُمْ) بضم الهمزة وفتح الميم في حالي الوصل والوقف وقرأه حمزة في حال الوصل بكسر الهمزة اتباعا لكسرة نون (بُطُونِ) وبكسر الميم اتباعا لكسر الهمزة. وقرأه الكسائي بكسر الميم في حال الوصل مع فتح الهمزة.

(ذلِكُمُ اللهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ).

بعد أن أجري على اسم الله تعالى من الأخبار والصفات القاضية بأنه المتصرف في الأكوان كلها : جواهرها وأعراضها ، ظاهرها وخفيها ، ابتداء من قوله : (خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِ) [الأنعام : ٧٣] ، ما يرشد العاقل إلى أنه المنفرد بالتصرف المستحق العبادة المنفرد بالإلهية أعقب ذلك باسم الإشارة للتنبيه على أنه حقيق بما يرد بعده من أجل تلك التصرفات والصفات. والجملة فذلكة ونتيجة أنتجتها الأدلة السابقة ولذلك فصلت.

واسم الإشارة لتمييز صاحب تلك الصفات عن غيره تمييزا يفضي إلى ما يرد بعد اسم الإشارة على نحو ما قرر في قوله تعالى : (أُولئِكَ عَلى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ) في سورة البقرة[٥].

والمعنى : ذلكم الذي خلق وسخر وأنشأ الناس والأنعام وخلق الإنسان أطوارا هو الله ، فلا تشركوا معه غيره إذ لم تبق شبهة تعذر أهل الشرك بشركهم ، أي ليس شأنه بمشابه

٢٥

حال غيره من آلهتكم قال تعالى : (أَمْ جَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكاءَ خَلَقُوا كَخَلْقِهِ فَتَشابَهَ الْخَلْقُ عَلَيْهِمْ) [الرعد : ١٦].

والإتيان باسمه العلم لإحضار المسمّى في الأذهان باسم مختصّ زيادة في البيان لأن حال المخاطبين نزل منزلة حال من لم يعلم أن فاعل تلك الأفعال العظيمة هو الله تعالى.

واسم الجلالة خبر عن اسم الإشارة. وقوله : (رَبِّكُمْ) صفة لاسم الجلالة.

ووصفه بالربوبية تذكير لهم بنعمة الإيجاد والإمداد وهو معنى الربوبية ، وتوطئة للتسجيل عليهم بكفران نعمته الآتي في قوله : (إِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ اللهَ غَنِيٌّ عَنْكُمْ وَلا يَرْضى لِعِبادِهِ الْكُفْرَ) [الزمر : ٧].

وجملة (لَهُ الْمُلْكُ) خبر ثان عن اسم الإشارة.

والملك : أصله مصدر ملك ، وهو مثلث الميم إلا أن مضمون الميم خصه الاستعمال بملك البلاد ورعاية الناس ، وفيه جاء قوله تعالى : (تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشاءُ) [آل عمران : ٢٦] ، وصاحبه : ملك ، بفتح الميم وكسر اللام ، وجمعه : ملوك.

وتقديم المجرور لإفادة الحصر الادعائي ، أي الملك لله لا لغيره ، وأما ملك الملوك فهو لنقصه وتعرّضه للزوال بمنزلة العدم ، كما تقدم في قوله تعالى : (الْحَمْدُ لِلَّهِ) [الفاتحة : ٢] ، وفي حديث القيامة : «ثم يقول أنا الملك أين ملوك الأرض» ، فالإلهية هي الملك الحقّ ، ولذلك كان ادعاؤهم شركاء للإله الحق خطأ ، فكان الحصر الادعائي لإبطال ادعاء المشركين.

وجملة (لا إِلهَ إِلَّا هُوَ) بيان لجملة الحصر في قوله : (لَهُ الْمُلْكُ). وفرع عليه استفهام إنكاري عن انصرافهم عن توحيد الله تعالى ، ولما كان الانصراف حالة استفهم عنها بكلمة أنى التي هي هنا بمعنى (كيف) كقوله تعالى : (أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ وَلَمْ تَكُنْ لَهُ صاحِبَةٌ) [الأنعام : ١٠١].

والصرف : الإبعاد عن شيء ، والمصروف عنه هنا محذوف ، تقديره : عن توحيده ، بقرينة قوله : (لا إِلهَ إِلَّا هُوَ).

٢٦

وجعلهم مصروفين عن التوحيد ولم يذكر لهم صارفا ، فجاء في ذلك بالفعل المبني للمجهول ولم يقل لهم : فأنى تنصرفون ، نعيا عليهم بأنهم كالمقودين إلى الكفر غير المستقلين بأمورهم يصرفهم الصارفون ، يعني أئمة الكفر أو الشياطين الموسوسين لهم. وذلك إلهاب لأنفسهم ليكفّوا عن امتثال أئمتهم الذين يقولون لهم : (لا تَسْمَعُوا لِهذَا الْقُرْآنِ) [فصلت : ٢٦] ، عسى أن ينظروا بأنفسهم في دلائل الوحدانية المذكورة لهم.

والمعنى : فكيف يصرفكم صارف عن توحيده بعد ما علمتم من الدلائل الآنفة. والمضارع هنا مراد منه زمن الاستقبال بقرينة تفريعه على ما قبله من الدلائل.

(إِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ اللهَ غَنِيٌّ عَنْكُمْ وَلا يَرْضى لِعِبادِهِ الْكُفْرَ وَإِنْ تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى ثُمَّ إِلى رَبِّكُمْ مَرْجِعُكُمْ فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ (٧))

(إِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ اللهَ غَنِيٌّ عَنْكُمْ وَلا يَرْضى لِعِبادِهِ الْكُفْرَ وَإِنْ تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ).

أتبع إنكار انصرافهم عن توحيد الله بعد ما ظهر على ثبوته من الأدلة ، بأن أعلموا بأن كفرهم إن أصرّوا عليه لا يضر الله وإنما يضر أنفسهم. وهذا شروع في الإنذار والتهديد للكافرين ومقابلته بالترغيب والبشارة للمؤمنين فالجملة مستأنفة واقعة موقع النتيجة لما سبق من إثبات توحيد الله بالإلهية.

فجملة (إِنْ تَكْفُرُوا) مبينة لإنكار انصرافهم عن التوحيد ، أي إن كفرتم بعد هذا الزمن فاعلموا أن الله غنيّ عنكم. ومعناه : غنيّ عن إقراركم له بالوحدانية ، أي غير مفتقر له. وهذا كناية عن كون طلب التوحيد منهم لنفعهم ودفع الضر عنهم لا لنفع الله ، وتذكيرهم بهذا ليقبلوا على النظر من أدلة التوحيد. والخبر مستعمل كناية في تنبيه المخاطب على الخطأ من فعله.

وقوله : (وَلا يَرْضى لِعِبادِهِ الْكُفْرَ) اعتراض بين الشرطين لقصد الاحتراس من أن يتوهم السامعون أن الله لا يكترث بكفرهم ولا يعبأ به فيتوهموا أنه والشكر سواء عنده ، ليتأكد بذلك معنى استعمال الخبر في تنبيه المخاطب على الخطأ. وبهذا تعيّن أن يكون المراد من قوله : (لِعِبادِهِ) العباد الذين وجّه الخطاب إليهم في قوله : (إِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ اللهَ غَنِيٌّ عَنْكُمْ) ، وذلك جري على أصل استعمال اللغة لفظ العباد ، كقوله : ويوم نحشرهم

٢٧

(وَما يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ فَيَقُولُ أَأَنْتُمْ أَضْلَلْتُمْ عِبادِي هؤُلاءِ أَمْ هُمْ ضَلُّوا السَّبِيلَ)(١) [الفرقان : ١٧]. الآية ؛ وإن كان الغالب في القرآن في لفظ العباد المضاف إلى اسم الله تعالى أو ضميره أن يطلق على خصوص المؤمنين والمقرّبين ، وقرينة السياق ظاهرة هنا ظهورا دون ظهورها في قوله : (أَأَنْتُمْ أَضْلَلْتُمْ عِبادِي هؤُلاءِ) [الفرقان : ١٧].

والرضى حقيقته : حالة نفسانية تعقب حصول ملائم مع ابتهاج به ، وهو على التحقيق فيه معنى ليس في معنى الإرادة لما فيه من الاستحسان والابتهاج ويعبر عنه بترك الاعتراض ، ولهذا يقابل الرضى بالسخط ، وتقابل الإرادة بالإكراه ، والرضى آئل إلى معنى المحبة. والرضى يترتب عليه نفاسة المرضيّ عند الراضي وتفضيله واختياره ، فإذا أسند الرضى إلى الله تعالى تعيّن أن يكون المقصود لازم معناه الحقيقي لأن الله منزّه عن الانفعالات ، كشأن إسناد الأفعال والصفات الدالة في اللغة على الانفعالات مثل : الرحمن والرءوف ، وإسناد الغضب والفرح والمحبة ، فيؤوّل الرضى بلازمه من الكرامة والعناية والإثابة إن عدي إلى الناس ، ومن النفاسة والفضل إن عدّي إلى أسماء المعاني. وقد فسره صاحب «الكشاف» بالاختيار في قوله تعالى : (وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلامَ دِيناً) في سورة العقود [٣].

وفعل الرضى يعدّى في الغالب بحرف (عن) ، فتدخل على اسم عين لكن باعتبار معنى فيها هو موجب الرضى. وقد يعدّى بالباء فيدخل غالبا على اسم معنى نحو : رضيت بحكم فلان ، ويدخل على اسم ذات باعتبار معنى يدل عليه تمييز بعده نحو : رضيت بالله ربّا ، أو نحوه مثل : (أَرَضِيتُمْ بِالْحَياةِ الدُّنْيا مِنَ الْآخِرَةِ) [التوبة : ٣٨] ، أو قرينة مقام كقول قريش في وضع الحجر الأسود : هذا محمد قد رضينا به ، أي رضينا به حكما إذ هم قد اتفقوا على تحكيم أول داخل.

ويعدّى بنفسه ، ولعله يراعى فيه التضمين ، أو الحذف والإيصال ، فيدخل غالبا على اسم معنى نحو : رضيت بحكم فلان بمعنى : أحببت حكمه. وفي هذه الحالة قد يعدّى إلى مفعول ثان بواسطة لام الجر نحو : (وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلامَ دِيناً) [المائدة : ٣] ، أي رضيته لأجلكم وأحببته لكم ، أي لأجلكم ، أي لمنفعتكم وفائدتكم. وفي هذا التركيب مبالغة في التنويه بالشيء المرضي لدى السامع حتى كأن المتكلم يرضاه لأجل السامع.

__________________

(١) في المطبوعة : (ويوم نحشرهم جميعا فيقول) وهذا خطأ.

٢٨

فإذا كان قوله : (لِعِبادِهِ) عامّا غير مخصوص وهو من صيغ العموم ثار في الآية إشكال بين المتكلمين في تعلّق إرادة الله تعالى بأفعال العباد إذ من الضروريّ أن من عباد الله كثيرا كافرين ، وقد أخبر الله تعالى أنه لا يرضى لعباده الكفر ، وثبت بالدليل أن كل واقع هو مراد الله تعالى إذ لا يقع في ملكه إلا ما يريد فأنتج ذلك بطريقة الشكل الثالث أن يقال : كفر الكافر مراد لله تعالى لقوله تعالى : (وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ ما فَعَلُوهُ) [الأنعام : ١١٢] ولا شيء من الكفر بمرضي لله تعالى لقوله : (وَلا يَرْضى لِعِبادِهِ الْكُفْرَ) ، ينتج القياس بعض ما أراده الله ليس بمرضي له فتعين أن تكون الإرادة والرضى حقيقتين مختلفتين وأن يكون لفظاهما غير مترادفين ، ولهذا قال الشيخ أبو الحسن الأشعري إن الإرادة غير الرضى ، والرضى غير الإرادة والمشيئة ، فالإرادة والمشيئة بمعنى واحد والرضى والمحبة والاختيار بمعنى واحد ، وهذا حمل لهذه الألفاظ القرآنية على معان يمكن معها الجمع بين الآيات قال التفتازانيّ : وهذا مذهب أهل التحقيق.

وينبني عليها القول في تعلق الصفات الإلهية بأفعال العباد فيكون قوله تعالى : (وَلا يَرْضى لِعِبادِهِ الْكُفْرَ) راجعا إلى خطاب التكاليف الشرعية ، وقوله : (وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ ما فَعَلُوهُ) [الأنعام : ١١٢] راجعا إلى تعلق الإرادة بالإيجاد والخلق. ويتركب من مجموعهما ومجموع نظائر كل منهما الاعتقاد بأن للعباد كسبا في أفعالهم الاختيارية وأن الله تتعلق إرادته بخلق تلك الأفعال الاختيارية عند توجه كسب العبد نحوها ، فالله خالق لأفعال العبد غير مكتسب لها. والعبد مكتسب غير خالق ، فإن الكسب عند الأشعري هو الاستطاعة المفسرة عنده بسلامة أسباب الفعل وآلاته ، وهي واسطة بين القدرة والجبر ، أي هي دون تعلق القدرة وفوق تسخير الجبر جمعا بين الأدلة الدينية الناطقة بمعنى : أن الله على كل شيء قدير ، وأنه خالق كل شيء ، وبين دلالة الضرورة على الفرق بين حركة المرتعش وحركة الماشي ، وجمعا بين أدلة عموم القدرة وبين توجيه الشريعة خطابها للعباد بالأمر بالإيمان والأعمال الصالحة ، والنهي عن الكفر والسيئات وترتيب الثواب والعقاب.

وأما الذين رأوا الاتحاد بين معاني الإرادة والمشيئة والرضى وهو قول كثير من أصحاب الأشعري وجميع الماتريدية فسلكوا في تأويل الآية محمل لفظ (لِعِبادِهِ) على العام المخصوص ، أي لعباده المؤمنين واستأنسوا لهذا المحمل بأنه الجاري على غالب استعمال القرآن في لفظة (العباد) لاسم الله ، أو ضميره كقوله : (عَيْناً يَشْرَبُ بِها عِبادُ اللهِ) [الإنسان : ٦] ، قالوا : فمن كفر فقد أراد الله كفره ومن آمن فقد أراد الله إيمانه ، والتزم

٢٩

كلا الفريقين الأشاعرة والماتريدية أصله في تعلق إرادة الله وقدرته بأفعال العباد الاختيارية المسمّى بالكسب ، ولم يختلفا إلا في نسبة الأفعال للعباد : أهي حقيقية أم مجازية ، وقد عدّ الخلاف في تشبيه الأفعال بين الفريقين لفظيا.

ومن العجيب تهويل الزمخشري بهذا القول إذ يقول : «ولقد تمحل بعض الغواة ليثبت لله ما نفاه عن ذاته من الرضى بالكفر فقال : هذا من العام الذي أريد به الخاص إلخ» ، فكان آخر كلامه ردّا لأوله وهل يعدّ التأويل تضليلا أم هل يعد العام المخصوص بالدليل من النادر القليل.

وأما المعتزلة فهم بمعزل عن ذلك كله لأنهم يثبتون القدرة للعباد على أفعالهم وأن أفعال العباد غير مقدورة لله تعالى ويحملون ما ورد في الكتاب من نسبة أفعال من أفعال العباد إلى الله أو إلى قدرته أنه على معنى أنه خالق أصولها وأسبابها ، ويحملون ما ورد من نفي ذلك كما في قوله : (وَلا يَرْضى لِعِبادِهِ الْكُفْرَ) على حقيقته ولذلك أوردوا هذه الآية للاحتجاج بها. وقد أوردها إمام الحرمين في «الإرشاد» في فصل حشر فيه ما استدلّ به المعتزلة من ظواهر الكتاب.

وقوله : (وَإِنْ تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ) عطف على جملة (إِنْ تَكْفُرُوا) والمعنى : وإن تشكروا بعد هذه الموعظة فتقلعوا عن الكفر وتشكروا الله بالاعتراف له بالوحدانية والتنزيه يرض لكم الشكر ، أي يجازيكم بلوازم الرضى. والشكر يتقوّم من اعتقاد وقول وعمل جزاء على نعمة حاصلة للشاكر من المشكور. والضمير المنصوب في قوله : (يَرْضَهُ) عائد إلى الشكر المتصيّد من فعل (إِنْ تَشْكُرُوا).

(وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى).

كأنّ موقع هذه الآية أنه لما ذكر قبلها أن في المخاطبين كافرا وشاكرا وهم في بلد واحد بينهم وشائج القرابة والولاء ، فربما تحرج المؤمنون من أن يمسّهم إثم من جراء كفر أقربائهم وأوليائهم ، أو أنهم خشوا أن يصيب الله الكافرين بعذاب في الدنيا فيلحق منه القاطنين معهم بمكة فأنبأهم الله بأن كفر أولئك لا ينقص إيمان هؤلاء وأراد اطمئنانهم على أنفسهم.

وأصل الوزر ، بكسر الواو : الثقل ، وأطلق على الإثم لأنه يلحق صاحبه تعب كتعب حامل الثقل. ويقال : وزر بمعنى حمل الوزر ، بمعنى كسب الإثم. وتأنيث (وازِرَةٌ) و (أُخْرى) باعتبار إرادة معنى النفس في قوله : (وَاتَّقُوا يَوْماً لا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئاً) [البقرة : ٤٨].

٣٠

والمعنى : لا تحمل نفس وزر نفس أخرى ، أي لا تغني نفس عن نفس شيئا من إثمها ، فلا تطمع نفس بإعانة ذويها وأقربائها ، وكذلك لا تخشى نفس صالحة أن تؤاخذ بتبعة نفس أخرى من ذويها أو قرابتها. وفي هذا تعريض بالمتاركة وقطع اللجاج مع المشركين وأن قصارى المؤمنين أن يرشدوا الضّلال لا أن يلجئوهم إلى الإيمان ، كما تقدم في آخر سورة الأنعام.

(ثُمَّ إِلى رَبِّكُمْ مَرْجِعُكُمْ فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ).

(ثُمَ) للترتيبين الرتبي والتراخي ، أي وأعظم من كون الله غنيا عنكم أنه أعدّ لكم الجزاء على كفركم وسترجعون إليه ، وتقدم نظيرها في آخر سورة الأنعام.

وإنما جاء في آية [الأنعام : ١٦٤] : (بِما كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ) لأنها وقعت إثر آيات كثيرة تضمّنت الاختلاف بين أحوال المؤمنين وأحوال المشركين ولم يجيء مثل ذلك هنا ، فلذلك قيل هنا : (بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) ، أي من كفر من كفر وشكر من شكر.

والإنباء : مستعمل مجازا في الإظهار الحاصل به العلم ، ويجوز أن يكون مستعملا في حقيقة الإخبار بأن يعلن لهم بواسطة الملائكة أعمالهم ، والمعنى : أنه يظهر لكم الحق لا مرية فيه أو يخبركم به مباشرة ، وتقدم بيانه في آخر الأنعام ، وفيه تعريض بالوعد والوعيد.

وجملة (إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ) تعليل لجملة (فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) لأن العليم بذات الصدور لا يغادر شيئا إلا علمه فإذا أنبأ بأعمالهم كان إنباؤه كاملا.

وذات : صاحبة ، مؤنث (ذو) بمعنى صاحب صفة لمحذوف تقديره الأعمال ، أي بالأعمال صاحبة الصدور ، أي المستقرة في النوايا فعبر ب (الصُّدُورِ) عما يحلّ بها ، والصدور مراد بها القلوب المعبر بها عما به الإدراك والعزم ، وتقدم في قوله : (وَلكِنَّ اللهَ سَلَّمَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ) في سورة [الأنفال : ٤٣].

(وَإِذا مَسَّ الْإِنْسانَ ضُرٌّ دَعا رَبَّهُ مُنِيباً إِلَيْهِ ثُمَّ إِذا خَوَّلَهُ نِعْمَةً مِنْهُ نَسِيَ ما كانَ يَدْعُوا إِلَيْهِ مِنْ قَبْلُ وَجَعَلَ لِلَّهِ أَنْداداً لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِهِ قُلْ تَمَتَّعْ بِكُفْرِكَ قَلِيلاً إِنَّكَ مِنْ أَصْحابِ النَّارِ (٨))

(وَإِذا مَسَّ الْإِنْسانَ ضُرٌّ دَعا رَبَّهُ مُنِيباً إِلَيْهِ ثُمَّ إِذا خَوَّلَهُ نِعْمَةً مِنْهُ نَسِيَ ما كانَ يَدْعُوا إِلَيْهِ مِنْ قَبْلُ وَجَعَلَ لِلَّهِ أَنْداداً لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِهِ).

٣١

هذا مثال لتقلب المشركين بين إشراكهم مع الله غيره في العبادة ، وبين إظهار احتياجهم إليه ، فذلك عنوان على مبلغ كفرهم وأقصاه. والجملة معطوفة على جملة (ذلِكُمُ اللهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ) [الزمر : ٦] الآية لاشتراك الجملتين في الدلالة على أن الله منفرد بالتصرف مستوجب للشكر ، وعلى أن الكفر به قبيح ، وتتضمن الاستدلال على وحدانية إلهية بدليل من أحوال المشركين به فإنهم إذا مسهم الضر لجئوا إليه وحده ، وإذا أصابتهم نعمة أعرضوا عن شكره وجعلوا له شركاء.

فالتعريف في (الْإِنْسانَ) تعريف الجنس ولكن عمومه هنا عموم عرفي لفريق من الإنسان وهم أهل الشرك خاصة لأن قوله : (وَجَعَلَ لِلَّهِ أَنْداداً) لا يتفق مع حال المؤمنين.

والقول بأن المراد : انسان معيّن وأنه عتبة بن ربيعة ، أو أبو جهل ، خروج عن مهيع الكلام ، وإنما هذان وأمثالهما من جملة هذا الجنس. وذكر الإنسان إظهار في مقام الإضمار لأن المقصود به المخاطبون بقوله : (خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ) إلى قوله : (فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) [الزمر : ٦ ، ٧] ، فكان مقتضى الظاهر أن يقال : وإذا مسكم الضر دعوتم ربكم إلخ ، فعدل إلى الإظهار لما في معنى الإنسان من مراعاة ما في الإنسانية من التقلب والاضطراب إلا من عصمه الله بالتوفيق كقوله تعالى : (وَيَقُولُ الْإِنْسانُ أَإِذا ما مِتُّ لَسَوْفَ أُخْرَجُ حَيًّا) [مريم : ٦٦] ، وقوله : (أَيَحْسَبُ الْإِنْسانُ أَلَّنْ نَجْمَعَ عِظامَهُ) [القيامة : ٣] وغير ذلك ولأن في اسم الإنسان مناسبة مع النسيان الآتي في قوله : (نَسِيَ ما كانَ يَدْعُوا إِلَيْهِ مِنْ قَبْلُ). وتقدم نظير لهذه الآية في قوله : (وَإِذا مَسَّ النَّاسَ ضُرٌّ دَعَوْا رَبَّهُمْ مُنِيبِينَ إِلَيْهِ) في سورة الروم [٣٣].

والتخويل : الإعطاء والتمليك دون قصد عوض. وعينه واو لا محالة. وهو مشتق من الخول بفتحتين وهو اسم للعبيد والخدم ، ولا التفات إلى فعل خال بمعنى : افتخر ، فتلك مادة أخرى غير ما اشتق منه فعل خوّل.

والنسيان : ذهول الحافظة عن الأمر المعلوم سابقا.

وما صدق (ما) في قوله : (ما كانَ يَدْعُوا إِلَيْهِ مِنْ قَبْلُ) هو الضر ، أي نسي الضر الذي كان يدعو الله إليه ، أي إلى كشفه عنه ، ومفعول (يَدْعُوا) محذوف دل عليه قوله : (دَعا رَبَّهُ) ، وضمير (إِلَيْهِ) عائد إلى (ما) ، أي نسي الضر الذي كان يدعو الله إليه ، أي إلى كشفه. ويجوز أن يكون (ما) صادقا على الدعاء كما تدل عليه الصلة ويكون الضمير المجرور ب (إلى) عائدا إلى (رَبَّهُ) ، أي نسي الدعاء ، وضمّن الدعاء معنى الابتهال

٣٢

والتضرع فعدي بحرف (إلى). وعائد الصلة محذوف دل عليه فعل الصلة تفاديا من تكرر الضمائر. والمعنى : نسي عبادة الله والابتهال إليه.

والأنداد : جمع ندّ بكسر النون ، وهو الكفء ، أي وزاد على نسيان ربه فجعل له شركاء.

واللام في قوله : (لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِهِ) لام العاقبة ، أي لام التعليل المجازي لأن الإضلال لما كان نتيجة الجعل جاز تعليل الجعل به كأنه هو العلة للجاعل. والمعنى : وجعل لله أندادا فضل عن سبيل الله.

وقرأ الجمهور (لِيُضِلَ) بضم الياء ، أي ليضل الناس بعد أن أضل نفسه إذ لا يضل الناس إلا ضالّ. وقرأ ابن كثير وأبو عمرو ويعقوب بفتح الياء ، أي ليضل هو ، أي الجاعل وهو إذا ضلّ أضل الناس.

(قُلْ تَمَتَّعْ بِكُفْرِكَ قَلِيلاً إِنَّكَ مِنْ أَصْحابِ النَّارِ).

استئناف بياني لأن ذكر حالة الإنسان الكافر المعرض عن شكر ربه يثير وصفها سؤال السامع عن عاقبة هذا الكافر ، أي قل يا محمد للإنسان الذي جعل لله أندادا ، أي قل لكل واحد من ذلك الجنس ، أو روعي في الإفراد لفظ الإنسان. والتقدير : قل تمتعوا بكفركم قليلا إنكم من أصحاب النار. وعلى مثل هذين الاعتبارين جاء إفراد كاف الخطاب بعد الخبر عن الإنسان في قوله تعالى : (يَقُولُ الْإِنْسانُ يَوْمَئِذٍ أَيْنَ الْمَفَرُّ* كَلَّا لا وَزَرَ* إِلى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمُسْتَقَرُّ) في سورة القيامة [١٠ ـ ١٢].

والتمتع : الانتفاع الموقّت ، وقد تقدم عند قوله تعالى : (وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتاعٌ إِلى حِينٍ) في سورة [الأعراف : ٢٤].

والباء في (بِكُفْرِكَ) ظرفية أو للملابسة وليست لتعدية فعل التمتع. ومتعلّق التمتع محذوف دل عليه سياق التهديد. والتقدير : تمتع بالسلامة من العذاب في زمن كفرك أو متكسبا بكفرك تمتعا قليلا فأنت آئل إلى العذاب لأنك من أصحاب النار.

ووصف التمتع بالقليل لأن مدة الحياة الدنيا قليل بالنسبة إلى العذاب في الآخرة ، وهذا كقوله تعالى : (فَما مَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا قَلِيلٌ) [التوبة : ٣٨]. وصيغة الأمر في قوله : (تَمَتَّعْ) مستعملة في الإمهال المراد منه الإنذار والوعيد.

وجملة (إِنَّكَ مِنْ أَصْحابِ النَّارِ) بيان للمقصود من جملة (تَمَتَّعْ بِكُفْرِكَ قَلِيلاً) وهو الإنذار بالمصير إلى النار بعد مدة الحياة. و (مِنْ) للتبعيض لأن المشركين بعض الأمم

٣٣

والطوائف المحكوم عليها بالخلود في النار.

وأصحاب النار : هم الذين لا يفارقونها فإن الصحبة تشعر بالملازمة ، فأصحاب النار: المخلّدون فيها.

(أَمَّنْ هُوَ قانِتٌ آناءَ اللَّيْلِ ساجِداً وَقائِماً يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُوا رَحْمَةَ رَبِّهِ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ إِنَّما يَتَذَكَّرُ أُولُوا الْأَلْبابِ (٩))

(أَمَّنْ هُوَ قانِتٌ آناءَ اللَّيْلِ ساجِداً وَقائِماً يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُوا رَحْمَةَ رَبِّهِ).

قرأ نافع وابن كثير وحمزة وحدهم (أَمَّنْ) بتخفيف الميم على أن الهمزة دخلت على (من) الموصولة فيجوز أن تكون الهمزة همزة استفهام و (من) مبتدأ والخبر محذوف دل عليه الكلام قبله من ذكر الكافر في قوله : (وَجَعَلَ لِلَّهِ أَنْداداً) إلى قوله : (مِنْ أَصْحابِ النَّارِ) [الزمر : ٨]. والاستفهام إنكاري والقرينة على إرادة الإنكار تعقيبه بقوله : (قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ) لظهور أن (هَلْ) فيه للاستفهام الإنكاري وبقرينة صلة الموصول. تقديره : أمن هو قانت أفضل أم من هو كافر؟ والاستفهام حينئذ تقريري ويقدر له معادل محذوف دل عليه قوله عقبه : (قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ).

وجعل الفراء الهمزة للنداء و (أَمَّنْ هُوَ قانِتٌ) : النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ناداه الله بالأوصاف العظيمة الأربعة لأنها أوصاف له ونداء لمن هم من أصحاب هذه الأوصاف ، يعني المؤمنين أن يقولوا : هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون ، وعليه فإفراد (قل) مراعاة للفظ (من) المنادى.

وقرأ الجمهور (أَمَّنْ هُوَ قانِتٌ) بتشديد ميم (من) على أنه لفظ مركب من كلمتين (أم) و (من) فأدغمت ميم (أم) في ميم (من). وفي معناه وجهان :

أحدهما : أن تكون (أم) معادلة لهمزة استفهام محذوفة مع جملتها دلت عليها (أم) لاقتضائها معادلا. ودل عليها تعقيبه ب (هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ) لأن التسوية لا تكون إلا بين شيئين. فالتقدير : أهذا الجاعل لله أندادا الكافر خير أمّن هو قانت ، والاستفهام حقيقي والمقصود لازمه ، وهو التنبيه على الخطأ عند التأمل.

والوجه الثاني : أن تكون (أم) منقطعة لمجرد الإضراب الانتقالي. و (أم) تقتضي استفهاما مقدرا بعدها. ومعنى الكلام : دع تهديدهم بعذاب النار وانتقل بهم إلى هذا

٣٤

السؤال : الذي هو قانت ، وقائم ، ويحذر الله ويرجو رحمته. والمعنى : أذلك الإنسان الذي جعل لله أندادا هو قانت إلخ ، والاستفهام مستعمل في التهكم لظهور أنه لا تتلاقى تلك الصفات الأربع مع صفة جعله لله أندادا.

والقانت : العابد. وقد تقدم عند قوله تعالى : (وَقُومُوا لِلَّهِ قانِتِينَ) في سورة [البقرة: ٢٣٨].

والآناء : جمع أنى مثل أمعاء ومعى ، وأقفاء وقفى ، والأنى : الساعة ، ويقال أيضا : إني بكسر الهمزة ، كما تقدم في قوله : (غَيْرَ ناظِرِينَ إِناهُ) في سورة [الأحزاب : ٥٣]. وانتصب (آناءَ) على الظرف ل (قانِتٌ) ، وتخصيص الليل بقنوتهم لأن العبادة بالليل أعون على تمحض القلب لذكر الله ، وأبعد عن مداخلة الرياء وأدل على إيثار عبادة الله على حظ النفس من الراحة والنوم ، فإن الليل أدعى إلى طلب الراحة فإذا آثر المرء العبادة فيه استنار قلبه بحب التقرب إلى الله قال تعالى : (إِنَّ ناشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْئاً وَأَقْوَمُ قِيلاً) [المزمل : ٦] ، فلا جرم كان تخصيص الليل بالذكر دالا على أن هذا القانت لا يخلو من السجود والقيام آناء النهار بدلالة فحوى الخطاب قال تعالى : (إِنَّ لَكَ فِي النَّهارِ سَبْحاً) [المزمل : ٧] ، وبذلك يتم انطباق هذه الصلة على حال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

وقوله : (ساجِداً وَقائِماً) حالان مبينان ل (قانِتٌ) ومؤكدان لمعناه. وجملة (يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُوا رَحْمَةَ رَبِّهِ) حالان ، فالحال الأول والثاني لوصف عمله الظاهر والجملتان اللتان هما ثالث ورابع لوصف عمل قلبه وهو أنه بين الخوف من سيئاته وفلتاته وبين الرجاء لرحمة ربه أن يثيبه على حسناته. وفي هذا تمام المقابلة بين حال المؤمنين الجارية على وفق حال نبيئهم صلى‌الله‌عليه‌وسلم وحال أهل الشرك الذين لا يدعون الله إلا في نادر الأوقات ، وهي أوقات الاضطرار ، ثم يشركون به بعد ذلك ، فلا اهتمام لهم إلا بعاجل الدنيا لا يحذرون الآخرة ولا يرجون ثوابها.

والرجاء والخوف من مقامات السالكين ، أي أوصافهم الثابتة التي لا تتحول. والرجاء : انتظار ما فيه نعيم وملاءمة للنفس. والخوف : انتظار ما هو مكروه للنفس. والمراد هنا : الملاءمة الأخروية لقوله : (يَحْذَرُ الْآخِرَةَ) ، أي يحذر عقاب الآخرة فتعين أن الرجاء أيضا المأمول في الآخرة. وللخوف مزيته من زجر النفس عما لا يرضي الله ، وللرجاء مزيته من حثها على ما يرضي الله وكلاهما أنيس السالكين.

وإنما ينشأ الرجاء على وجود أسبابه لأن المرء لا يرجو إلا ما يظنه حاصلا ولا يظن

٣٥

المرء أمرا إلا إذا لاحت له دلائله ولوازمه ، لأن الظن ليس بمغالطة والمرء لا يغالط نفسه ، فالرجاء يتبع السعي لتحصيل المرجو قال الله تعالى : (وَمَنْ أَرادَ الْآخِرَةَ وَسَعى لَها سَعْيَها وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولئِكَ كانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُوراً) [الإسراء : ١٩] فإن ترقّب المرء المنفعة من غير أسبابها فذلك الترقب يسمى غرورا.

وإنما يكون الرجاء أو الخوف ظنّا مع تردد في المظنون ، أما المقطوع به فهو اليقين واليأس وكلاهما مذموم قال تعالى : (فَلا يَأْمَنُ مَكْرَ اللهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْخاسِرُونَ) [الأعراف : ٩٩] ، وقال : (إِنَّهُ لا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكافِرُونَ) [يوسف : ٨٧].

وقد بسط ذلك حجة الإسلام أبو حامد في كتاب الرجاء والخوف من كتاب «الإحياء». ولله درّ أبي الحسن التهامي إذ يقول :

وإذا رجوت المستحيل فإنما

تبني الرجاء على شفير هار

وسئل الحسن البصري عن رجل يتمادى في المعاصي ويرجو فقال : هذا تمنّ وإنما الرجاء ، قوله : (يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُوا رَحْمَةَ رَبِّهِ).

وقال بعض المفسرين أريد بمن (هُوَ قانِتٌ) أبو بكر ، وقيل عمّار بن ياسر ، وقيل صهيب ، وقيل : أبو ذرّ ، وقيل ابن مسعود ، وهي روايات ضعيفة ولا جرم أن هؤلاء المعدودين هم من أحقّ من تصدق عليه هذه الصلة فهي شاملة لهم ولكن محمل الموصول في الآية على تعميم كل من يصدق عليه معنى الصلة.

(قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ إِنَّما يَتَذَكَّرُ أُولُوا الْأَلْبابِ) استئناف بياني موقعه كموقع قوله : (قُلْ تَمَتَّعْ بِكُفْرِكَ قَلِيلاً) [الزمر : ٨] أثاره وصف المؤمن الطائع ، والمعنى : أعلمهم يا محمد بأن هذا المؤمن العالم بحق ربه ليس سواء للكافر الجاهل بربه. وإعادة فعل (قُلْ) هنا للاهتمام بهذا المقول ولاسترعاء الأسماع إليه.

والاستفهام هنا مستعمل في الإنكار. والمقصود : إثبات عدم المساواة بين الفريقين ، وعدم المساواة يكنّى به عن التفضيل. والمراد : تفضيل الذين يعلمون على الذين لا يعلمون ، كقوله تعالى : (لا يَسْتَوِي الْقاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ وَالْمُجاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فَضَّلَ اللهُ الْمُجاهِدِينَ) [النساء : ٩٥] الآية ، فيعرف المفضّل بالتصريح كما في آية (لا يَسْتَوِي الْقاعِدُونَ) [النساء : ٩٥] أو بالقرينة كما في قوله هنا : (هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ) إلخ لظهور أن العلم كمال ولتعقيبه بقوله : (إِنَّما يَتَذَكَّرُ أُولُوا

٣٦

الْأَلْبابِ). ولهذا كان نفي الاستواء في هذه الآية أبلغ من نفي المماثلة في قول النابغة :

يخبرك ذو عرضهم عني وعالمهم

وليس جاهل شيء مثل من علما

وفعل (يَعْلَمُونَ) في الموضعين منزّل منزلة اللازم فلم يذكر له مفعول. والمعنى : الذين اتصفوا بصفة العلم ، وليس المقصود الذين علموا شيئا معيّنا حتى يكون من حذف المفعولين اختصارا إذ ليس المعنى عليه ، وقد دل على أن المراد الذين اتصفوا بصفة العلم قوله عقبه : (إِنَّما يَتَذَكَّرُ أُولُوا الْأَلْبابِ) أي أهل العقول ، والعقل والعلم مترادفان ، أي لا يستوي الذين لهم علم فهم يدركون حقائق الأشياء على ما هي عليه وتجري أعمالهم على حسب علمهم ، مع الذين لا يعلمون فلا يدركون الأشياء على ما هي عليه بل تختلط عليهم الحقائق وتجري أعمالهم على غير انتظام ، كحال الذين توهموا الحجارة آلهة ووضعوا الكفر موضع الشكر. فتعين أن المعنى : لا يستوي من هو قانت آناء الليل يحذر ربّه ويرجوه ، ومن جعل لله أندادا ليضل عن سبيله. وإذ قد تقرر أن الذين جعلوا لله أندادا هم الكفار بحكم قوله : (قُلْ تَمَتَّعْ بِكُفْرِكَ قَلِيلاً) ثبت أن الذين لا يستوون معهم هم المؤمنون ، أي هم أفضل منهم ، وإذ قد تقرر أن الكافرين من أصحاب النار فقد اقتضى أن المفضلين عليهم هم من أصحاب الجنة.

وعدل عن أن يقول : هل يستوي هذا وذاك ، إلى التعبير بالموصول إدماجا للثناء على فريق ولذم فريق بأن أهل الإيمان أهل علم وأهل الشرك أهل جهالة فأغنت الجملة بما فيها من إدماج عن ذكر جملتين ، فالذين يعلمون هم أهل الإيمان ، قال تعالى : (إِنَّما يَخْشَى اللهَ مِنْ عِبادِهِ الْعُلَماءُ) [فاطر : ٢٨] والذين لا يعلمون هم أهل الشرك الجاهلون ، قال تعالى : (قُلْ أَفَغَيْرَ اللهِ تَأْمُرُونِّي أَعْبُدُ أَيُّهَا الْجاهِلُونَ) [الزمر : ٦٤].

وفي ذلك إشارة إلى أن الإيمان أخو العلم لأن كليهما نور ومعرفة حقّ ، وأن الكفر أخو الضلال لأنه والضلال ظلمة وأوهام باطلة.

هذا ووقع فعل (يَسْتَوِي) في حيّز النفي يكسبه عموم النفي لجميع جهات الاستواء. وإذ قد كان نفي الاستواء كناية عن الفضل آل إلى إثبات الفضل للذين يعلمون على وجه العموم ، فإنك ما تأملت مقاما اقتحم فيه عالم وجاهل إلا وجدت للعالم فيه من السعادة ما لا تجده للجاهل ولنضرب لذلك مثلا بمقامات ستة هي جلّ وظائف الحياة الاجتماعية :

المقام الأول : الاهتداء إلى الشيء المقصود نواله بالعمل به وهو مقام العمل ،

٣٧

فالعالم بالشيء يهتدي إلى طرقه فيبلغ المقصود بيسر وفي قرب ويعلم ما هو من العمل أولى بالإقبال عنه ، وغير العالم به يضل مسالكه ويضيع زمانه في طلبه ؛ فإما أن يخيب في سعيه وإمّا أن يناله بعد أن تتقاذفه الأرزاء وتنتابه النوائب وتختلط عليه الحقائق فربما يتوهم أنه بلغ المقصود حتى إذا انتبه وجد نفسه في غير مراده ، ومثله قوله تعالى : (وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمالُهُمْ كَسَرابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ ماءً حَتَّى إِذا جاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئاً) [النور : ٣٩]. ومن أجل هذا شاع تشبيه العلم بالنور والجهل بالظلمة.

المقام الثاني : ناشئ عن الأول وهو مقام السلام من نوائب الخطأ ومزلات المذلات ، فالعالم يعصمه علمه من ذلك ، والجاهل يريد السلامة فيقع في الهلكة ، فإن الخطأ قد يوقع في الهلاك من حيث طلب الفوز ومثله قوله تعالى : (فَما رَبِحَتْ تِجارَتُهُمْ) [البقرة : ١٦] إذ مثّلهم بالتاجر خرج يطلب فوائد الربح من تجارته فآب بالخسران ولذلك يشبه سعي الجاهل بخبط العشواء ، ولذلك لم يزل أهل النصح يسهلون لطلبة العلم الوسائل التي تقيهم الوقوع فيما لا طائل تحته من أعمالهم.

المقام الثالث : مقام أنس الانكشاف فالعالم تتميز عنده المنافع والمضار وتنكشف له الحقائق فيكون مأنوسا بها واثقا بصحة إدراكه وكلما انكشفت له حقيقة كان كمن لقي أنيسا بخلاف غير العالم بالأشياء فإنه في حيرة من أمره حين تختلط عليه المتشابهات فلا يدري ما ذا يأخذ وما ذا يدع ، فإن اجتهد لنفسه خشي الزلل وإن قلد خشي زلل مقلّده ، وهذا المعنى يدخل تحت قوله تعالى : (كُلَّما أَضاءَ لَهُمْ مَشَوْا فِيهِ وَإِذا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قامُوا) [البقرة : ٢٠].

المقام الرابع : مقام الغنى عن الناس بمقدار العلم والمعلومات فكلما ازداد علم العالم قوي غناه عن الناس في دينه ودنياه.

المقام الخامس : الالتذاذ بالمعرفة ، وقد حصر فخر الدين الرازي اللذة في المعارف وهي لذة لا تقطعها الكثرة. وقد ضرب الله مثلا بالظلّ إذ قال : (وَما يَسْتَوِي الْأَعْمى وَالْبَصِيرُ وَلَا الظُّلُماتُ وَلَا النُّورُ وَلَا الظِّلُّ وَلَا الْحَرُورُ) [فاطر : ١٩ ـ ٢١] فإن الجلوس في الظل يلتذ به أهل البلاد الحارة.

المقام السادس : صدور الآثار النافعة في مدى العمر مما يكسب ثناء الناس في العاجل وثواب الله في الآجل ، فإن العالم مصدر الإرشاد والعلم دليل على الخير وقائد إليه قال الله تعالى : (إِنَّما يَخْشَى اللهَ مِنْ عِبادِهِ الْعُلَماءُ) [فاطر : ٢٨]. والعلم على مزاولته

٣٨

ثواب جزيل ، قال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله ويتدارسونه بينهم إلا نزلت عليهم الملائكة وغشيتهم الرحمة وذكرهم الله فيمن عنده». وعلى بثه مثل ذلك ، قال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث : صدقة جارية ، وعلم بثه في صدور الرجال ، وولد صالح يدعو له بخير».

فهذا التفاوت بين العالم والجاهل في صورة التي ذكرناها مشمول لنفي الاستواء الذي في قوله تعالى : (قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ) وتتشعب من هذه المقامات فروع جمّة وهي على كثرتها تنضوي تحت معنى هذه الآية.

وقوله : (إِنَّما يَتَذَكَّرُ أُولُوا الْأَلْبابِ) واقع موقع التعليل لنفي الاستواء بين العالم وغيره المقصود منه تفضيل العالم والعلم ، فإن كلمة (إنما) مركبة من حرفين (إنّ) و (ما) الكافّة أو النافية فكانت (إن) فيه مفيدة لتعليل ما قبلها مغنية غناء فاء التعليل إذ لا فرق بين (إنّ) المفردة و (إنّ) المركبة مع (ما) ، بل أفادها التركيب زيادة تأكيد وهو نفي الحكم الذي أثبتته (إنّ) عن غير من أثبتته له. وقد أخذ في تعليل ذلك جانب إثبات التذكر للعالمين ، ونفيه من غير العالمين ، بطريق الحصر لأن جانب التذكر هو جانب العمل الديني وهو المقصد الأهم في الإسلام لأن به تزكية النفس والسعادة الأبدية قال النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم : «من يرد الله به خيرا يفقهه في الدين».

والألباب : العقول ، وأولو الألباب : هم أهل العقول الصحيحة ، وهم أهل العلم. فلما كان أهل العلم هم أهل التذكر دون غيرهم أفاد عدم استواء الذين يعلمون والذين لا يعلمون. فليس قوله : (إِنَّما يَتَذَكَّرُ أُولُوا الْأَلْبابِ) كلاما مستقلا.

(قُلْ يا عِبادِ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا رَبَّكُمْ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هذِهِ الدُّنْيا حَسَنَةٌ وَأَرْضُ اللهِ واسِعَةٌ إِنَّما يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسابٍ (١٠))

لما أجري الثناء على المؤمنين بإقبالهم على عبادة الله في أشدّ الآناء وبشدة مراقبتهم إياه بالخوف والرجاء وبتمييزهم بصفة العلم والعقل والتذكر ، بخلاف حال المشركين في ذلك كله ، أتبع ذلك بأمر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالإقبال على خطابهم للاستزادة من ثباتهم ورباطة جأشهم ، والتقدير : قل للمؤمنين ، بقرينة قوله : (يا عِبادِ الَّذِينَ آمَنُوا) إلخ.

وابتداء الكلام بالأمر بالقول للوجه الذي تقدم في نظيره آنفا ، وابتداء المقول بالنداء وبوصف العبودية المضاف إلى ضمير الله تعالى ، كل ذلك يؤذن بالاهتمام بما سيقال وبأنه

٣٩

سيقال لهم عن ربهم ، وهذا وضع لهم في مقام المخاطبة من الله وهي درجة عظيمة. وحذفت ياء المتكلم المضاف إليها (عِبادِ) وهو استعمال كثير في المنادى المضاف إلى ياء المتكلم.

وقرأه العشرة (يا عِبادِ) بدون ياء في الوصل والوقف كما في «إبراز المعاني» لأبي شامة وكما في «الدرة المضيئة» في القراءات الثلاث المتممة للعشر لعلي الضباع المصري ، بخلاف قوله تعالى : (قُلْ يا عِبادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ) [الزمر : ٥٣] الآتي في هذه السورة ، فالمخالفة بينهما مجرد تفنن. وقد يوجه هذا التخالف بأن المخاطبين في هذه الآية هم عباد الله المتقون ، فانتسابهم إلى الله مقرر فاستغني عن إظهار ضمير الجلالة في إضافتهم إليه ، بخلاف الآية الآتية ، فليس في كلمة (يا عِبادِ) من هذه الآية إلّا وجه واحد باتفاق العشرة ولذلك كتبها كتّاب المصحف بدون ياء بعد الدال.

وما وقع في «تفسير ابن عطية» من قوله : وقرأ جمهور القراء (قُلْ يا عِبادِيَ) بفتح الياء. وقرأ أبو عمرو أيضا وعاصم والأعشى وابن كثير (يا عِبادِ) بغير ياء في الوصل ا ه. سهو ، وإنما اختلف القراء في الآية الآتية (قُلْ يا عِبادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ) في هذه السورة [٥٣] فإنها ثبتت فيه ياء المتكلم فاختلفوا كما سنذكره.

والأمر بالتقوى مراد به الدوام على المأمور به لأنهم متّقون من قبل ، وهو يشعر بأنهم قد نزل بهم من الأذى في الدين ما يخشى عليهم معه أن يقصّروا في تقواهم. وهذا الأمر تمهيد لما سيوجه إليهم من أمرهم بالهجرة للسلامة من الأذى في دينهم ، وهو ما عرض به في قوله تعالى : (وَأَرْضُ اللهِ واسِعَةٌ).

وفي استحضارهم بالموصول وصلته إيماء إلى أن تقرر إيمانهم مما يقتضي التقوى والامتثال للمهاجرة. وجملة (لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هذِهِ الدُّنْيا حَسَنَةٌ) وما عطف عليها استئناف بياني لأن إيراد الأمر بالتقوى للمتصفين بها يثير سؤال سائل عن المقصود من ذلك الأمر فأريد بيانه بقوله : (أَرْضُ اللهِ واسِعَةٌ) ، ولكن جعل قوله (لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هذِهِ الدُّنْيا حَسَنَةٌ) تمهيدا له لقصد تعجيل التكفل لهم بموافقة الحسنى في هجرتهم. ويجوز أن تكون جملة (لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هذِهِ الدُّنْيا حَسَنَةٌ) مسوقة مساق التعليل للأمر بالتقوى الواقع بعدها.

والمراد بالذين أحسنوا : الذين اتقوا الله وهم المؤمنون الموصوفون بما تقدم من قوله : (أَمَّنْ هُوَ قانِتٌ) [الزمر : ٩] الآية ، لأن تلك الخصال تدل على الإحسان المفسر بقول النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك» ، فعدل عن التعبير بضمير

٤٠