تفسير التّحرير والتّنوير - ج ٢٤

الشيخ محمّد الطاهر ابن عاشور

تفسير التّحرير والتّنوير - ج ٢٤

المؤلف:

الشيخ محمّد الطاهر ابن عاشور


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة التاريخ العربي للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٢٦٨

ما ينتفع به انتفاعا مؤجلا. والقرار : الدوام في المكان. والقصر المستفاد من قوله (إِنَّما هذِهِ الْحَياةُ الدُّنْيا مَتاعٌ) قصر موصوف على صفة ، أي لا صفة للدنيا إلا أنها نفع موقت ، وهو قصر قلب لتنزيل قومه في تهالكهم على منافع الدنيا منزلة من يحسبها منافع خالدة.

وجملتا (مَنْ عَمِلَ سَيِّئَةً) إلى آخرهما بيان لجملة (وَإِنَّ الْآخِرَةَ هِيَ دارُ الْقَرارِ) والقصر المستفاد من ضمير الفصل في قوله (وَإِنَّ الْآخِرَةَ هِيَ دارُ الْقَرارِ) قصر قلب نظير القصر في قوله : (إِنَّما هذِهِ الْحَياةُ الدُّنْيا مَتاعٌ) ، وهو مؤكد للقصر في قوله : (إِنَّما هذِهِ الْحَياةُ الدُّنْيا مَتاعٌ) من تأكيد إثبات ضد الحكم لضد المحكوم عليه ، وهو قصر قلب ، أي لا الدنيا. (ومن) من قوله : (مَنْ عَمِلَ سَيِّئَةً) شرطية. ومعنى (إِلَّا مِثْلَها) المماثلة في الوصف الذي دل عليه اسم السيّئة وهو الجزاء السّيّئ ، أي لا يجزي عن عمل السوء بجزاء الخير ، أي لا يطمعوا أن يعلموا السيئات وأنهم يجازون عليها جزاء خير. وفي «صحيح البخاري» عن وهب بن منبه وكان كثير الوعظ للناس فقيل له ، إنك بوعظك تقنط الناس فقال : «أأنا أقدر أن أقنط الناس والله يقول : (يا عِبادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللهِ) [الزمر : ٥٣] ولكنكم تحبون أن تبشّروا بالجنة على مساوي أعمالكم». وكأن المؤمن خصّ الجزاء بالأعمال لأنهم كانوا متهاونين بالأعمال وكان قصارى ما يهتمون به هو حسن الاعتقاد في الآلهة ، ولذلك توجد على جدر المعابد المصرية صورة الحساب في هيئة وضع قلب الميت في الميزان ليكون جزاؤه على ما يفسر عنه ميزان قلبه.

ولذلك ترى مؤمن آل فرعون لم يهمل ذكر الإيمان بعد أن اهتم بتقديم الأعمال فتراه يقول : (وَمَنْ عَمِلَ صالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى وَهُوَ مُؤْمِنٌ) ، فالإيمان هو أسّ هيكل النجاة ، ولذلك كان الكفر أسّ الشقاء الأبدي فإن كل عمل سيّئ فإن سوءه وفساده جزئي منقض فكان العقاب عليه غير أبدي ، وأما الكفر فهو سيئة دائمة مع صاحبها لأن مقرّها قلبه واعتقاده وهو ملازم له فلذلك كان عقابه أبديا ، لأن الحكمة تقتضي المناسبة بين الأسباب وآثارها فدل قوله : (فَلا يُجْزى إِلَّا مِثْلَها) أن جزاء الكفر شقاء أبدي لأن مثل الكفر في كونه ملازما للكافر إن مات كافرا.

وبهذا البيان أبطلنا قول المعتزلة والخوارج بمساواة مرتكب الكبائر للكافر في الخلود في العذاب ، بأنه قول يفضي إلى إزالة مزية الإيمان ، وذلك تنافيه أدلة الشريعة البالغة مبلغ القطع ، ونظير هذا المعنى قوله تعالى : (فَكُّ رَقَبَةٍ أَوْ إِطْعامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ يَتِيماً ذا

٢٠١

مَقْرَبَةٍ أَوْ مِسْكِيناً ذا مَتْرَبَةٍ ثُمَّ كانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا) [البلد : ١٣ ـ ١٧].

وترتيبه دخول الجنة على عمل الصالحات معناه : من عمل صالحا ولم يعمل سيئة بقرينة مقابلته بقوله : (مَنْ عَمِلَ سَيِّئَةً فَلا يُجْزى إِلَّا مِثْلَها) ، فإن خلط المؤمن عملا صالحا وسيئا فالمقاصة ، وبيانه في تفاصيل الشريعة.

وقوله : (بِغَيْرِ حِسابٍ) كناية على سعة الرزق ووفرته كما تقدم عند قوله تعالى : (إِنَّ اللهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشاءُ بِغَيْرِ حِسابٍ) في سورة آل عمران [٣٧].

و (مَنْ) في قوله : (وَمَنْ عَمِلَ صالِحاً) إلخ شرطية ، وجوابها (فَأُولئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ). وجيء باسم الإشارة للتنبيه على أن المشار إليه يستحق ما سيذكر بعد اسم الإشارة من أجل ما ذكر قبل اسم الإشارة من الأوصاف ، وهي عمل الصالحات مع الإيمان زيادة على استفادة ذلك من تعليقه على الجملة الشرطية. وتقديم المسند إليه على المسند الفعلي في جملة جواب الشرط لإفادة الحصر. والمعنى : أنكم إن متم على الشرك والعمل السيّئ لا تدخلونها.

وقوله : (مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى) بيان لما في (مَنْ) من الإبهام من جانب احتمال التعميم فلفظ (ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى) مراد به عموم الناس بذكر صنفيهم تنصيصا على إرادة العموم ، وليس المقصود به إفادة مساواة الأنثى للذكر في الجزاء على الأعمال إذ لا مناسبة له في هذا المقام ، وتعريضا بفرعون وخاصته أنهم غير مفلتين من الجزاء.

وقرأ الجمهور (يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ) بفتح الياء. وقرأه ابن كثير وأبو عمرو وأبو بكر عن عاصم بضمها وفتح الخاء ، والمعنى واحد.

[٤١ ـ ٤٣] (وَيا قَوْمِ ما لِي أَدْعُوكُمْ إِلَى النَّجاةِ وَتَدْعُونَنِي إِلَى النَّارِ (٤١) تَدْعُونَنِي لِأَكْفُرَ بِاللهِ وَأُشْرِكَ بِهِ ما لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَأَنَا أَدْعُوكُمْ إِلَى الْعَزِيزِ الْغَفَّارِ (٤٢) لا جَرَمَ أَنَّما تَدْعُونَنِي إِلَيْهِ لَيْسَ لَهُ دَعْوَةٌ فِي الدُّنْيا وَلا فِي الْآخِرَةِ وَأَنَّ مَرَدَّنا إِلَى اللهِ وَأَنَّ الْمُسْرِفِينَ هُمْ أَصْحابُ النَّارِ (٤٣))

أعاد نداءهم وعطفت حكايته بواو العطف للإشارة إلى أن نداءه اشتمل على ما يقتضي في لغتهم أن الكلام قد تخطى من غرض إلى غرض وأنه سيطرق ما يغاير أول كلامه مغايرة ما تشبه مغايرة المتعاطفين في لغة العرب ، وأنه سيرتقي باستدراجهم في درج

٢٠٢

الاستدلال إلى المقصود بعد المقدمات ، فانتقل هنا إلى أن أنكر عليهم شيئا جرى منهم نحوه وهو أنهم أعقبوا موعظته إياهم بدعوته للإقلاع عن ذلك وأن يتمسك بدينهم وهذا شيء مطوي في خلال القصة دلت عليه حكاية إنكاره عليهم ، وهو كلام آيس من استجابتهم لقوله فيه : (فَسَتَذْكُرُونَ ما أَقُولُ لَكُمْ) [غافر : ٤٤] ، ومتوقّع أذاهم لقوله : (وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللهِ) [غافر : ٤٤] ، ولقوله تعالى آخر القصة : (فَوَقاهُ اللهُ سَيِّئاتِ ما مَكَرُوا) [غافر : ٤٥] فصرّح هنا وبيّن بأنه لم يزل يدعوهم إلى اتباع ما جاء به موسى وفي اتّباعه النجاة من عذاب الآخرة فهو يدعوهم إلى النجاة حقيقة ، وليس إطلاق النجاة على ما يدعوهم إليه بمجاز مرسل بل يدعوهم إلى حقيقة النجاة بوسائط.

والاستفهام في (ما لِي أَدْعُوكُمْ إِلَى النَّجاةِ) استفهام تعجبي باعتبار تقييده بجملة الحال وهي (وَتَدْعُونَنِي إِلَى النَّارِ) فجملة (وَتَدْعُونَنِي إِلَى النَّارِ) في موضع الحال بتقدير مبتدأ ، أي وأنتم تدعونني إلى النار وليست بعطف لأن أصل استعمال : ما لي أفعل ، وما لي لا أفعل ونحوه ، أن يكون استفهاما عن فعل أو حال ثبت للمجرور باللام (وهي لام الاختصاص) ، ومعنى لام الاختصاص يكسب مدخولها حالة خفيّا سببها الذي علق بمدخول اللام نحو قوله تعالى : (ما لَكُمْ إِذا قِيلَ لَكُمُ انْفِرُوا فِي سَبِيلِ اللهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الْأَرْضِ) [التوبة : ٣٨] (ما لِيَ لا أَرَى الْهُدْهُدَ) [النمل : ٢٠] وقولك لمن يستوقفك : ما لك؟ فتكون الجملة التي بعد اسم الاستفهام وخبره جملة فعلية.

وتركيب : ما لي ونحوه ، هو كتركيب : هل لك ونحوه في قوله تعالى : (فَقُلْ هَلْ لَكَ إِلى أَنْ تَزَكَّى) [النازعات : ١٨] وقول كعب بن زهير :

ألا بلغا عني بجيرا رسالة

فهل لك فيما قلت ويحك هل لك

فإذا قامت القرينة على انتفاء إرادة الاستفهام الحقيقي انصرف ذلك إلى التعجب من الحالة ، أو إلى الإنكار أو نحو ذلك. فالمعنى هنا على التعجب يعني أنه يعجب من دعوتهم إياه لدينهم مع ما رأوا من حرصه على نصحهم ودعوتهم إلى النجاة وما أتاهم به من الدلائل على صحة دعوته وبطلان دعوتهم.

وجملة (تَدْعُونَنِي لِأَكْفُرَ بِاللهِ) بيان لجملة (وَتَدْعُونَنِي إِلَى النَّارِ) لأن الدعوة إلى النار أمر مجمل مستغرب فبينه ببيان أنهم يدعونه إلى التلبس بالأسباب الموجبة عذاب النار. والمعنى : تدعونني للكفر بالله وإشراك ما لا أعلم مع الله في الإلهية.

٢٠٣

ومعنى (ما لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ) ما ليس لي بصحته أو بوجوده علم ، والكلام كناية عن كونه يعلم أنها ليست آلهة بطريق الكناية بنفي اللازم عن نفي الملزوم.

وعطف عليه (وَأَنَا أَدْعُوكُمْ إِلَى الْعَزِيزِ الْغَفَّارِ) فكان بيانا لمجمل جملة (أَدْعُوكُمْ إِلَى النَّجاةِ). وإبراز ضمير المتكلم في قوله : (وَأَنَا أَدْعُوكُمْ) لإفادة تقوّي الخبر بتقديم المسند إليه على خبره الفعلي.

وفعل الدعوة إذا ربط بمتعلق غير مفعوله يعدّى تارة باللام وهو الأكثر في الكلام ، ويعدى بحرف (إلى) وهو الأكثر في القرآن لما يشتمل عليه من الاعتبارات ولذلك علق به معموله في هذه الآية أربع مرات ب (إلى) ومرة باللام مع ما في ربط فعل الدعوة بمتعلقه الذي هو من المعنويات من مناسبة لام التعليل مثل (تَدْعُونَنِي لِأَكْفُرَ بِاللهِ وَأُشْرِكَ بِهِ) ، وربطه بما هو ذات بحرف (إلى) في قوله : (أَدْعُوكُمْ إِلَى النَّجاةِ) فإن النجاة هي نجاة من النار فهي نجاة من أمر محسوس ، وقوله : (وَتَدْعُونَنِي إِلَى النَّارِ) وقوله : (وَأَنَا أَدْعُوكُمْ إِلَى الْعَزِيزِ الْغَفَّارِ لا جَرَمَ أَنَّما تَدْعُونَنِي إِلَيْهِ لَيْسَ لَهُ دَعْوَةٌ فِي الدُّنْيا) إلخ ، لأن حرف (إلى) دالّ على الانتهاء لأن الذي يدعو أحدا إلى شيء إنما يدعوه إلى أن ينتهي إليه ، فالدعاء إلى الله الدعاء إلى توحيده بالربوبية فشبه بشيء محسوس تشبيه المعقول بالمحسوس ، وشبه اعتقاده صحته بالوصول إلى الشيء المسعي إليه ، وشبهت الدعوة إليه بالدلالة على الشيء المرغوب الوصول إليه فكانت في حرف (إلى) استعارة مكنية وتخييلية وتبعية ، وفي (الْعَزِيزِ الْغَفَّارِ) استعارة مكنية ، وفي (أَدْعُوكُمْ) استعارة تبعية وتخييلية.

وعدل عن اسم الجلالة إلى الصفتين (الْعَزِيزِ الْغَفَّارِ) لإدماج الاستدلال على استحقاقه الإفراد بالإلهية والعبادة ، بوصفه (الْعَزِيزِ) لأنه لا تناله الناس بخلاف أصنامهم فإنها ذليلة توضع على الأرض ويلتصق بها القتام وتلوثها الطيور بذرقها ، ولإدماج ترغيبهم في الإقلاع عن الشرك بأن الموحد بالإلهية يغفر لهم ما سلف من شركهم به حتى لا ييأسوا من عفوه بعد أن أساءوا إليه.

وجملة (لا جَرَمَ أَنَّما تَدْعُونَنِي) بيان لجملة (تَدْعُونَنِي لِأَكْفُرَ بِاللهِ). وكلمة (لا جَرَمَ) بفتحتين في الأفصح من لغات ثلاث فيها ، كلمة يراد بها معنى لا يثبت أو لا بد ، فمعنى ثبوته لأن الشيء الذي لا ينقطع هو باق وكل ذلك يؤول إلى معنى حق وقد يقولون : لا ذا جرم ، ولا أنّ ذا جرم ، ولا عنّ ذا جرم ، ولا جر بدون ميم ترخيما للتخفيف.

٢٠٤

والأظهر أن (جَرَمَ) اسم لا فعل لأنه لو كان فعلا لكان ماضيا بحسب صيغته فيكون دخول (لا) عليه من خصائص استعمال الفعل في الدعاء.

والأكثر أن يقع بعدها (أنّ) المفتوحة المشددة فيقدر معها حرف (في) ملتزما حذفه غالبا. والتقدير : لا شك في أن ما تدعونني إليه ليس له دعوة. وتقدم بيان معنى (لا جَرَمَ) وأن جرم فعل أو اسم عند قوله تعالى : (لا جَرَمَ أَنَّهُمْ فِي الْآخِرَةِ هُمُ الْأَخْسَرُونَ) في سورة هود [٢٢].

وما صدق ما الأصنام ، وأعيد الضمير عليها مفردا في قوله : (لَيْسَ لَهُ) مراعاة لإفراد لفظ (ما).

وقوله : (لا جَرَمَ أَنَّما تَدْعُونَنِي إِلَيْهِ) إلى قوله : (أَصْحابُ النَّارِ) واقع موقع التعليل لجملتي (ما لِي أَدْعُوكُمْ إِلَى النَّجاةِ وَتَدْعُونَنِي إِلَى النَّارِ) لأنه إذا تحقق أن لا دعوة للأصنام في الدنيا بدليل المشاهدة ، ولا في الآخرة بدلالة الفحوى ، فقد تحقق أنها لا تنجي أتباعها في الدنيا ولا يفيدهم دعاؤها ولا نداؤها. وتحقق إذن أن المرجو للإنعام في الدنيا والآخرة هو الربّ الذي يدعوهم هو إليه. وهذا دليل إقناعي غير قاطع للمنازع في إلهية رب هذا المؤمن ولكنه أراد إقناعهم واستحفظهم دليله لأنهم سيظهر لهم قريبا أن رب موسى له دعوة في الدنيا ثقة منه بأنهم سيرون انتصار موسى على فرعون ويرون صرف فرعون عن قتل موسى بعد عزمه عليه فيعلمون أن الذي دعا إليه موسى هو المتصرف في الدنيا فيعلمون أنه المتصرف في الآخرة.

ومعنى (لَيْسَ لَهُ دَعْوَةٌ) انتفاء أن يكون الدعاء إليه بالعبادة أو الالتجاء نافعا لا نفي وقوع الدعوة لأن وقوعها مشاهد. فهذا من باب «لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب» وقولهم : ليس ذلك بشيء ، أي بشيء نافع ، وبهذا تعلم أن (دَعْوَةٌ) مصدر متحمل معنى ضمير فاعل ، أي ليست دعوة داع ، وأنّ ضمير (لَهُ) عائد إلى (ما) الموصولة ، أي لا يملك دعوة الداعين ، أي لا يملك إجابتهم.

وعطفت على هذه الجملة جملة (وَأَنَّ مَرَدَّنا إِلَى اللهِ) عطف اللازم على ملزومه لأنه إذا تبين أن رب موسى المسمى (الله) هو الذي له الدعوة ، تبين أن المرد أي المصير إلى الله في الدنيا بالالتجاء والاستنصار وفي الآخرة بالحكم والجزاء. ولو عطف مضمون هذه الجملة بالفاء المفيدة للتفريع لكانت حقيقة بها ، ولكن عدل عن ذلك إلى عطفها بالواو اهتماما بشأنها لتكون مستقلة الدلالة بنفسها غير باحث سامعها على ما ترتبط به ، لأن

٢٠٥

الشيء المتفرع على شيء يعتبر تابعا له ، كما قال الأصوليون في أنّ جواب السائل غير المستقل بنفسه تابع لعموم السّؤال.

وكذلك جملة (وَأَنَّ الْمُسْرِفِينَ هُمْ أَصْحابُ النَّارِ) بالنسبة إلى تفرع مضمونها على مضمون جملة (وَأَنَّ مَرَدَّنا إِلَى اللهِ) لأنه إذا كان المصير إليه كان الحكم والجزاء بين الصائرين إليه من مثاب ومعاقب فيتعين أن المعاقب هم الكافرون بالله.

فالإسراف هنا : إفراط الكفر ، ويشمل ما قيل : إنه أريد هنا سفك الدم بغير حق ليصرف فرعون عن قتل موسى عليه‌السلام. والوجه أن يعم أصحاب الجرائم والآثام. والتعريف فيه تعريف الجنس المفيد للاستغراق وهو تعريض بالذين يخاطبهم إذ هم مسرفون على كل تقدير فهم مسرفون في إفراط كفرهم بالرب الذي دعا إليه موسى ، ومسرفون فيما يستتبعه ذلك من المعاصي والجرائم فضمير الفصل في قوله : (هُمْ أَصْحابُ النَّارِ) يفيد قصرا ادعائيا لأنهم المتناهون في صحبة النار بسبب الخلود بخلاف عصاة المؤمنين ، وهذا لحمل كلام المؤمن على موافقة الواقع لأن المظنون به أنه نبي أو ملهم وإلّا فإن المقام مقام تمييز حال المؤمنين من حال المشركين ، وليس مقام تفصيل درجات الجزاء في الآخرة.

(فَسَتَذْكُرُونَ ما أَقُولُ لَكُمْ وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللهِ إِنَّ اللهَ بَصِيرٌ بِالْعِبادِ (٤٤))

هذا الكلام متاركة لقومه وتنهية لخطابه إياهم ولعله استشعر من ملامحهم أو من مقاطعتهم كلامه بعبارات الإنكار ، ما أياسه من تأثرهم بكلامه ، فتحدّاهم بأنهم إن أعرضوا عن الانتصاح لنصحه سيندمون حين يرون العذاب إما في الدنيا كما اقتضاه تهديده لهم بقوله: (إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ مِثْلَ يَوْمِ الْأَحْزابِ) [غافر : ٣٠] ، أو في الآخرة كما اقتضاه قوله : (إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ يَوْمَ التَّنادِ) [غافر : ٣٢] ، فالفاء تفريع على جملة (ما لِي أَدْعُوكُمْ إِلَى النَّجاةِ وَتَدْعُونَنِي إِلَى النَّارِ) [غافر : ٤١].

وفعل ستذكرون مشتق من الذّكر بضم الذال وهو ضد النسيان ، أي ستذكرون في عقولكم ، أي ما أقول لكم الآن يحضر نصب بصائركم يوم تحققه ، فشبه الإعراض بالنسيان ورمز إلى النسيان بما هو من لوازمه في العقل ملازمة الضد لضده وهو التذكر على طريقة المكنية وفي قرينتها استعارة تبعية. والمعنى سيحلّ بكم من العذاب ما يذكّركم ما أقوله : إنّه سيحل بكم.

٢٠٦

وجملة (وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللهِ) عطف على جملة (ما لِي أَدْعُوكُمْ إِلَى النَّجاةِ وَتَدْعُونَنِي إِلَى النَّارِ) ، ومساق هذه الجملة مساق الانتصاف منهم لما أظهروه له من الشرّ ، يعني : أني أكل شأني وشأنكم معي إلى الله فهو يجزي كل فاعل بما فعل ، وهذا كلام منصف فالمراد ب (أَمْرِي) شأني ومهمّي. ويدل لمعنى الانتصاف تعقيبه بقوله : (إِنَّ اللهَ بَصِيرٌ بِالْعِبادِ) معللا تفويض أمره معهم إلى الله بأن الله عليم بأحوال جميع العباد فعموم العباد شمله وشمل خصومه.

وقال في «الكشاف» قوله : (وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللهِ) لأنهم توعدوه ا ه. يعني أن فيه إشعارا بذلك بمعونة ما بعده.

و (بِالْعِبادِ) الناس يطلق على جماعتهم اسم العباد ، ولم أر إطلاق العبد على الإنسان الواحد ولا إطلاق العبيد على الناس.

والبصير : المطلع الذي لا يخفى عليه الأمر. والباء للتعدية كما في قوله تعالى : (فَبَصُرَتْ بِهِ عَنْ جُنُبٍ) [القصص : ١١] ، فإذا أرادوا تعدية فعل البصر بنفسه قالوا : أبصره.

[٤٥ ـ ٤٦] (فَوَقاهُ اللهُ سَيِّئاتِ ما مَكَرُوا وَحاقَ بِآلِ فِرْعَوْنَ سُوءُ الْعَذابِ (٤٥) النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْها غُدُوًّا وَعَشِيًّا وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذابِ (٤٦))

تفريع (فَوَقاهُ اللهُ) مؤذن بأنهم أضمروا مكرا به. وتسميته مكرا مؤذن بأنهم لم يشعروه به وأن الله تكفل بوقايته لأنه فوّض أمره إليه. والمعنى : فأنجاه الله ، فيجوز أن يكون نجا مع موسى وبني إسرائيل فخرج معهم ، ويجوز أن يكون فرّ من فرعون ولم يعثروا عليه.

و (ما) مصدرية. والمعنى : سيئات مكرهم. وإضافة (سَيِّئاتِ) إلى (مكر) إضافة بيانية ، وهي هنا في قوة إضافة الصفة إلى الموصوف لأن المكر سيئ. وإنما جمع السيئات باعتبار تعدد أنواع مكرهم التي بيّتوها.

وحاق : أحاط. والعذاب : الغرق. والتعريف للعهد لأنه مشهور معلوم. وتقدم له ذكر في السور النازلة قبل هذه السورة.

٢٠٧

ومناسبة فعل (حاقَ) لذلك العذاب أنه مما يحيق على الحقيقة ، وإنما كان الغرق سوء عذاب لأن الغريق يعذب باحتباس النفس مدة وهو يطفو على الماء ويغوص فيه ويرعبه هول الأمواج وهو موقن بالهلاك ثم يكون عرضة لأكل الحيتان حيّا وميّتا وذلك ألم في الحياة وخزي بعد الممات يذكرون به بين الناس.

وقوله : (النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْها غُدُوًّا وَعَشِيًّا) يجوز أن يكون جملة وقعت بدلا من جملة (وَحاقَ بِآلِ فِرْعَوْنَ سُوءُ الْعَذابِ) ، فيجعل (النَّارُ) مبتدأ ويجعل جملة (يُعْرَضُونَ عَلَيْها) خبرا عنه ويكون مجموع الجملة من المبتدأ وخبره بدل اشتمال من جملة (وَحاقَ بِآلِ فِرْعَوْنَ سُوءُ الْعَذابِ) لأن سوء العذاب إذا أريد به الغرق كان مشتملا على موتهم وموتهم يشتمل على عرضهم على النار غدوّا وعشيّا ، فالمذكور عذابان : عذاب الدنيا وعذاب الغرق وما يلحق به من عذاب قبل عذاب يوم القيامة.

ويجوز أن يكون (النَّارُ) بدلا مفردا من (سُوءُ الْعَذابِ) بدلا مطابقا وجملة (يُعْرَضُونَ عَلَيْها) حالا من (النَّارُ) فيكون المذكور في الآية عذابا واحدا ولم يذكر عذاب الغرق. وعلى كلا الوجهين فالمذكور في الآية عذاب قبل عذاب يوم القيامة فذلك هو المذكور بعده بقوله : (وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذابِ).

والعرض حقيقته : إظهار شيء لمن يراه لترغيب أو لتحذير وهو يتعدّى إلى الشيء المظهر بنفسه وإلى من يظهر لأجله بحرف (على) ، وهذا يقتضي أن المعروض عليه لا يكون إلا من يعقل ومنزّلا منزلة من يعقل ، وقد يقلب هذا الاستعمال لقصد المبالغة كقول العرب «عرضت الناقة على الحوض» ، وحقه : عرضت الحوض على الناقة ، وهو الاستعمال الذي في هذه الآية وقوله في سورة الأحقاف [٢٠] (وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ). وقد عدّ علماء المعاني القلب من أنواع تخريج الكلام على خلاف مقتضى الظاهر ومثلوا له بقول العرب : عرضت الناقة على الحوض. واختلفوا في عدّه من أفانين الكلام البليغ فعدّه منها أبو عبيدة والفارسي والسكاكي ولم يقبله الجمهور ، وقال القزويني : إن تضمن اعتبارا لطيفا قبل وإلّا ردّ.

وعندي أن الاستعمالين على مقتضى الظاهر وأن العرض قد كثر في معنى الإمرار دون قصد الترغيب كما يقال : عرض الجيش على أميره واستعرضه الأمير. ولعلّ أصله مجاز ساوى الحقيقة فليس في الآيتين قلب ولا في قول العرب : عرضت الناقة على الحوض ، قلب ، ويقال : عرض بنو فلان على السيف ، إذا قتلوا به. وخرج في «الكشف» آية الأحقاف على قولهم : عرض على السيف.

٢٠٨

ومعنى عرضهم على النار أن أرواحهم تشاهد المواضع التي أعدت لها في جهنم ، وهو ما يبينهحديث عبد الله بن عمر في «الصحيح» قال : قال رسول الله : «إن أحدكم إذا مات عرض عليه مقعده بالغداة والعشي إن كان من أهل الجنة فمن أهل الجنة ، وإن كان من أهل النار فمن أهل النار فيقال : هذا مقعدك حتى يبعثك الله يوم القيامة».

وقوله : (غُدُوًّا وَعَشِيًّا) كناية عن الدوام لأن الزمان لا يخلو عن هاذين الوقتين.

وقوله : (وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذابِ) هذا ذكر عذاب الآخرة الخالد ، أي يقال : أدخلوا آل فرعون أشد العذاب ، وعلم من عذاب آل فرعون أن فرعون داخل في ذلك العذاب بدلالة الفحوى.

وقرأ نافع وحمزة والكسائي وحفص وأبو جعفر ويعقوب (أَدْخِلُوا) بهمزة قطع وكسر الخاء. وقرأ الباقون بهمزة وصل وضم الخاء على معنى أن القول موجّه إلى آل فرعون وأن (آلَ فِرْعَوْنَ) منادى بحذف الحرف.

[٤٧ ـ ٤٨] (وَإِذْ يَتَحاجُّونَ فِي النَّارِ فَيَقُولُ الضُّعَفاءُ لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعاً فَهَلْ أَنْتُمْ مُغْنُونَ عَنَّا نَصِيباً مِنَ النَّارِ (٤٧) قالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُلٌّ فِيها إِنَّ اللهَ قَدْ حَكَمَ بَيْنَ الْعِبادِ (٤٨))

يجوز أن يكون (إِذْ) معمولا ل (اذكر) محذوف فيكون عطفا على جملة (وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْآزِفَةِ) ، والضمير عائدا إلى (الَّذِينَ يُجادِلُونَ فِي آياتِ اللهِ بِغَيْرِ سُلْطانٍ) [غافر : ٣٥] وما بين هذا وذاك اعتراض واستطراد لأنها قصد منها عظة المشركين بمن سبقهم من الأمم المكذبين فلما استوفي ذلك عاد الكلام إليهم. ويفيد ذلك صريح الوعيد للمشركين بعد أن ضربت لهم الأمثال كما قال تعالى : (وَلِلْكافِرِينَ أَمْثالُها) [محمد : ١٠] ، وقد تكرر في القرآن موعظة المشركين بمثل هذا كقوله تعالى : (إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا) الآية في سورة البقرة [١٦٦] ، وقوله : (قالَتْ أُخْراهُمْ لِأُولاهُمْ رَبَّنا هؤُلاءِ أَضَلُّونا فَآتِهِمْ عَذاباً ضِعْفاً مِنَ النَّارِ) الآية في سورة الأعراف [٣٨].

ويجوز أن تكون (وَإِذْ يَتَحاجُّونَ) عطفا على جملة (وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذابِ) [غافر : ٤٦] لأن (إذ) و (يوم) كليهما ظرف بمعنى (حين) ، فيكون المعنى : وحين تقوم الساعة يقال : أدخلوا آل فرعون أشدّ العذاب ، وحين يتحاج أهل النار فيقول الضعفاء إلخ.

٢٠٩

وقرن (فَيَقُولُ الضُّعَفاءُ) بالفاء لإفادة كون هذا القول ناشئا عن تحاجّهم في النار مع كون ذلك دالا على أنه في معنى متعلّق (إِذْ) ، وهذا استعمال من استعمالات الفاء التي يسميها النحاة زائدة ، وأثبت زيادتها جماعة منهم الأخفش والفراء والأعلم وابن برهان ، وحكاه عن أصحابه البصريين. وضمير (يَتَحاجُّونَ) على هذا الوجه عائد إلى آل فرعون. ويفيد مع ذلك تعريضا بوعيد المشركين كما هو مقتضى المماثلة المسوقة وضمير (يَتَحاجُّونَ) غير عائد إلى (آلَ فِرْعَوْنَ) [غافر : ٤٦] لأن ذلك يأباه قوله : (وَقالَ الَّذِينَ فِي النَّارِ لِخَزَنَةِ جَهَنَّمَ ادْعُوا رَبَّكُمْ) [غافر : ٤٩] وقوله : (أَوَلَمْ تَكُ تَأْتِيكُمْ رُسُلُكُمْ بِالْبَيِّناتِ) [غافر : ٥٠] ولم يأت آل فرعون إلا رسول واحد هو موسى عليه‌السلام فيعود ضمير (يَتَحاجُّونَ) إلى معلوم من المقام وهم أهل النار.

والتحاجّ : الاحتجاج من جانبين فأكثر ، أي إقامة كل فريق حجته وهو يقتضي وقوع خلاف بين المتحاجّين إذ الحجة تأييد لدعوى لدفع الشك في صحتها.

والضعفاء : عامة الناس الذين لا تصرّف لهم في أمور الأمة. والذين استكبروا : سادة القوم ، أي الذين تكبروا كبرا شديدا ، فالسين والتاء فيه للمبالغة. وقول الضعفاء للكبراء هذا الكلام يحتمل أنه على حقيقته فهو ناشئ عما اعتادوه من اللجإ إليهم في مهمهم حين كانوا في الدنيا فخالوا أنهم يتولون تدبير أمورهم في ذلك المكان ولهذا أجاب الذين استكبروا بما يفيد أنهم اليوم سواء في العجز وعدم الحيلة فقالوا : (إِنَّا كُلٌّ فِيها) أي لو أغنينا عنكم لأغنينا عن أنفسنا.

وتقديم قولهم : (إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعاً) على طلب التخفيف عنهم من النار ، مقدمة للطلب لقصد توجيهه وتعليله وتذكيرهم بالولاء الذي بينهم في الدنيا ، يلهمهم الله هذا القول لافتضاح عجز المستكبرين أن ينفعوا أتباعهم تحقيرا لهم جزاء على تعاظمهم الذي كانوا يتعاظمون به في الدنيا.

ويحتمل أن قول الضعفاء ليس مستعملا في حقيقة الحث على التخفيف عنهم ولكنه مستعمل في التوبيخ ، أي كنتم تدعوننا إلى دين الشرك فكانت عاقبة ذلك أنا صرنا في هذا العذاب فهل تستطيعون الدفع عنا. وتأكيد (إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعاً) ب (إنّ) للاهتمام بالخبر وليس لرد إنكار.

والتبع : اسم لمن يتبع غيره ، يستوي فيه الواحد والجمع ، وهو مثل خدم وحشم لأن أصله مصدر ، فلذلك استوى فيه الواحد والجمع ، وقيل التبع : جمع لا يجري على الواحد ، فهو إذن من الجموع النادرة.

٢١٠

والاستفهام في قوله : (فَهَلْ أَنْتُمْ مُغْنُونَ) مستعمل في الحث واللوم على خذلانهم وترك الاهتمام بما هم فيه من عذاب.

وجيء بالجملة الاسمية الدالة على الثبات ، أي هل من شأنكم أنكم مغنون عنّا. و (مُغْنُونَ) اسم فاعل من أغنى غناء بفتح الغين والمدّ ، أي فائدة وإجزاء.

والنصيب : الحظ والحصة من الشيء ، قال تعالى : (لِلرِّجالِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوالِدانِ وَالْأَقْرَبُونَ) إلى قوله : (نَصِيباً مَفْرُوضاً) [النساء : ٧].

وقد ضمّن (مُغْنُونَ) معنى دافعون ورادّون ، فلذلك عدي إلى مفعول وهو (نَصِيباً) أي جزءا من حر النار غير محدد المقدار من قوتها ، و (مِنَ النَّارِ) بيان ل (نَصِيباً) كقوله تعالى : (فَهَلْ أَنْتُمْ مُغْنُونَ عَنَّا مِنْ عَذابِ اللهِ مِنْ شَيْءٍ) [إبراهيم : ٢١] فهم قانعون بكل ما يخفف عنهم من شدة حرّ النار وغير طامعين في الخروج منها. ويجوز أن يكون (مُغْنُونَ) على معناه دون تضمين ويكون (نَصِيباً) منصوبا على المفعول المطلق لمغنون والتقدير غناء نصيبا ، أي غناء ما ولو قليلا. و (مِنَ النَّارِ) متعلقا ب (مُغْنُونَ) كقوله تعالى : (وَما أُغْنِي عَنْكُمْ مِنَ اللهِ مِنْ شَيْءٍ) [يوسف : ٦٧]. ويجوز أن يكون النصيب الجزء من أزمنة العذاب فيكون على حذف مضاف تقديره : من مدة النار.

ولما كان جواب الذين استكبروا للذين استضعفوا جاريا في مجرى المحاورة جرّد فعل (قالَ) من حرف العطف على طريقة المحاورة كما تقدم غير مرة.

ومعنى قولهم : (إِنَّا كُلٌّ فِيها) نحن وأنتم مستوون في الكون في النار فكيف تطمعون أن ندفع عنكم شيئا من العذاب. وعلى وجه أن يكون قول الضعفاء (إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعاً) إلى آخره توبيخا ولوما لزعمائهم يكون قول الزعماء (إِنَّا كُلٌّ فِيها) اعترافا بالغلط ، أي دعوا لومنا وتوبيخنا فقد كفانا أنا معكم في النار وتأكيد الكلام ب (إنّ) للاهتمام بتحقيقه أو لتنزيل من طالبوهم بالغناء عنهم من عذاب النار مع مشاهدتهم أنهم في العذاب مثلهم ، منزلة من يحسبهم غير واقعين في النار ، وفي هذا التنزيل ضرب من التوبيخ يقولون : ألستم تروننا في النار مثلكم فكيف نغني عنكم. و (كُلٌ) مرفوع بالابتداء وخبره (فِيها) والجملة من المبتدأ وخبره خبر (إنّ) وتنوين (كل) تنوين عوض عن المضاف إليه ، إذ التقدير : إنا كلّنا في النار.

وجملة (إِنَّ اللهَ قَدْ حَكَمَ بَيْنَ الْعِبادِ) تتنزل منزلة بدل الاشتمال من جملة (إِنَّا كُلٌ

٢١١

فِيها) فكلتا الجملتين جواب لهم مؤيس من حصول التخفيف عنهم. والمعنى : نحن مستوون في العذاب وهو حكم الله فلا مطمع في التقصي من حكمه فقد جوزي كل فريق بما يستحق.

وما في هذه الجملة الثانية من عموم تعلق فعل الحكم بين العباد ما يجعل هذا البدل بمنزلة التذييل ، أي أن الله حكم بين العباد كلهم بجزاء أعمالهم فكان قسطنا من الحكم هذا العذاب. فكلمة (بَيْنَ) هنا مستعملة في معناها الحقيقي وهو المكان المتوسط ، أي وقع حكمه وقضاؤه في مجمعهم الذي حضره من حكم عليه ومن حكم له ومن لم يتعرض للحكومة لأنه من أهل الكرامة بالجنة ، فليست كلمة (بين) هنا بمنزلة (بين) في قوله تعالى : (فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِما أَنْزَلَ اللهُ) [المائدة : ٤٨] فإنها في ذلك مستعملة مجازا في التفرقة بين المحق والمبطل.

وفي هذه الآية عبرة لزعماء الأمم وقادتهم أن يحذروا الارتماء بأنفسهم في مهاوي الخسران فيوقعوا المقتدين بهم في تلك المهاوي فإن كان إقدامهم ومغامرتهم بأنفسهم وأممهم على علم بعواقب ذلك كانوا أحرياء بالمذمة والخزي في الدنيا ومضاعفة العذاب في الآخرة ، إذ ما كان لهم أن يغرّوا بأقوام وكلوا أمورهم بقادتهم عن حسن ظن فيهم ، أن يخونوا أمانتهم فيهم كما قال تعالى : (وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقالَهُمْ وَأَثْقالاً مَعَ أَثْقالِهِمْ) [العنكبوت : ١٣] ، وإن كان قحمهم أنفسهم في مضائق الزعامة عن جهل بعواقب قصورهم وتقصيرهم فإنهم ملومون على عدم التوثق من كفاءتهم لتدبير الأمة فيخبطوا بها خبط عشواء حتى يزلوا بها فيهووا بها من شواهق بعيدة فيصيروا رميما ، ويلقوا في الآخرة جحيما.

[٤٩ ـ ٥٠] (وَقالَ الَّذِينَ فِي النَّارِ لِخَزَنَةِ جَهَنَّمَ ادْعُوا رَبَّكُمْ يُخَفِّفْ عَنَّا يَوْماً مِنَ الْعَذابِ (٤٩) قالُوا أَوَلَمْ تَكُ تَأْتِيكُمْ رُسُلُكُمْ بِالْبَيِّناتِ قالُوا بَلى قالُوا فَادْعُوا وَما دُعاءُ الْكافِرِينَ إِلاَّ فِي ضَلالٍ (٥٠))

لما لم يجدوا مساغا للتخفيف من العذاب في جانب كبرائهم ، وتنصّل كبراؤهم من ذلك أو اعترفوا بغلطهم وتوريطهم قومهم وأنفسهم تمالأ الجميع على محاولة طلب تخفيف العذاب بدعوة من خزنة جهنم ، فلذلك أسند القول إلى الذين في النار ، أي جميعهم من الضعفاء والذين استكبروا.

٢١٢

وخزنة : جمع خازن ، وهو الحافظ لما في المكان من مال أو عروض. و (لِخَزَنَةِ جَهَنَّمَ) هم الملائكة الموكّلون بما تحويه من النار ووقودها والمعذبين فيها وموكلون بتسيير ما تحتوي عليه دار العذاب وأهلها ولذلك يقال لهم : خزنة النار ، لأن الخزن لا يتعلق بالنار بل بما يحويها فليس قوله هنا : (جَهَنَّمَ) إظهارا في مقام الإضمار إذ لا يحسن إضافة خزنة إلى النار ولو تقدم لفظ جهنم لقال : لخزنتها ، كما في قوله في سورة الملك [٦ ـ ٨] (وَلِلَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ عَذابُ (جَهَنَّمَ) وَبِئْسَ الْمَصِيرُ) إلى قوله : (سَأَلَهُمْ خَزَنَتُها) فإن الضمير ل (جَهَنَّمَ) لا ل (النَّارِ).

وفي «الكشاف» أنه من الإظهار في مقام الإضمار للتهويل بلفظ (جَهَنَّمَ) ، والمسلك الذي سلكناه أوضح.

وفي إضافة (رب) إلى ضمير المخاطبين ضرب من الإغراء بالدعاء ، أي لأنكم أقرب إلى استجابته لكم. ولما ظنّوهم أرجى للاستجابة سألوا التخفيف يوما من أزمنة العذاب وهو أنفع لهم من تخفيف قوة النار الذي سألوه من مستكبريهم.

وجزم (يُخَفِّفْ) بعد الأمر بالدعاء ، ولعله بتقدير لام الأمر لكثرة الاستعمال ، ومن أهل العربية من يجعله جزما في جواب الطلب لتحقيق التسبب. فيكون فيه إيذان بأن الذين في النار واثقون بأن خزنة جهنم إذا دعوا الله استجاب لهم. وهذا الجزم شائع بعد الأمر بالقول وما في معناه لهذه النكتة وحقه الرفع أو إظهار لام الأمر. وتقدم الكلام عليه عند قوله تعالى : (قُلْ لِعِبادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا يُقِيمُوا الصَّلاةَ) في سورة إبراهيم [٣١].

وضمّن (يُخَفِّفْ) معنى ينقص فنصب (يَوْماً) ، أو هو على تقدير مضاف ، أي عذاب يوم ، أي مقدار يوم ، وانتصب (يَوْماً) على المفعول به ل (يُخَفِّفْ).

واليوم كناية عن القلة ، أي يخفف عنا ولو زمنا قليلا. و (مِنَ الْعَذابِ) بيان ل (يَوْماً) لأنه أريد به المقدار فاحتاج إلى البيان على نحو التمييز. ويجوز تعلقه ب (يُخَفِّفْ).

وجواب خزنة جهنم لهم بطريق الاستفهام التقريري المراد به : إظهار سوء صنيعهم بأنفسهم إذ لم يتبعوا الرسل حتى وقعوا في هذا العذاب ، وتنديمهم على ما أضاعوه في حياتهم الدنيا من وسائل النجاة من العقاب. وهو كلام جامع يتضمن التوبيخ ، والتنديم ، والتحسير ، وبيان سبب تجنب الدعاء لهم ، وتذكيرهم بأن الرسل كانت تحذرهم من الخلود في العذاب.

٢١٣

والواو في قوله : (أَوَلَمْ تَكُ تَأْتِيكُمْ رُسُلُكُمْ) لم يعرج المفسرون على موقعها. وهي واو العطف عطف بها (خزنة جهنم) كلامهم على كلام الذين في النار من قبيل طريقة عطف المتكلم كلاما على كلام صدر من المخاطب إيماء إلى أن حقه أن يكون من بقية كلامه وأن لا يغفله ، وهو ما يلقب بعطف التلقين كقوله تعالى : (قالَ إِنِّي جاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِماماً قالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي) [البقرة : ١٢٤] فإن أهل النار إذا تذكروا ذلك علموا وجاهة تنصل خزنة جهنم من الشفاعة لهم ، وتفريع (فَادْعُوا) على ذلك ظاهر على كلا التقديرين. وهمزة الاستفهام مقدمة من التأخير على التقديرين ، لوجوب صدارتها.

وجملة (وَما دُعاءُ الْكافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلالٍ) يجوز أن تكون من كلام خزنة جهنم تذييلا لكلامهم يبين أن قولهم : (فَادْعُوا) مستعمل في التنبيه على الخطأ ، أي دعاؤكم لم ينفعكم لأن دعاء الكافرين في ضلال والواو اعتراضية ، ويجوز أن تكون من كلام الله تعالى تذييلا واعتراضا.

والبينات : الحجج الواضحة والدعوات الصريحة إلى اتباع الهدى. فلم يسعهم إلا الاعتراف بمجيء الرسل إليهم بالبينات فقالوا : بلى فرد عليهم خزنة جهنم بالتنصل من أن يدعوا الله بذلك ، إلى إيكال أمرهم إلى أنفسهم بقولهم : (فَادْعُوا) تفريعا على اعترافهم بمجيء الرسل إليهم بالبينات.

ومعنى تفريعه عليه هو أنه مفرع عليه باعتبار معناه الكنائي الذي هو التنصل من أن يدعوا لهم ، أي كما توليتم الإعراض عن الرسل استبدادا بآرائكم فتولّوا اليوم أمر أنفسكم فادعوا أنتم ، فإن «من تولى قرها يتولّى حرّها» ، فالأمر في قوله : (فَادْعُوا) مستعمل في الإباحة أو في التسوية ، وفيه تنبيه على خطإ السائلين في سؤالهم.

وزيادة فعل الكون في (أَوَلَمْ تَكُ تَأْتِيكُمْ) للدلالة على أن مجيء الرسل إلى الأمم أمر متقرر محقّق ، لما يدل عليه فعل الكون من الوجود بمعنى التحقق ، وأما الدلالة على أن فعل الإتيان كان في الزمن الماضي فهو مستفاد من (لم) النافية في الماضي.

والضلال : الضياع ، وأصله : خطأ الطريق ، كما في قوله تعالى : (أَإِذا ضَلَلْنا فِي الْأَرْضِ أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ) [السجدة : ١٠].

والمعنى : أن دعاءهم لا ينفعهم ولا يقبل منهم ، وسواء كان قوله : (وَما دُعاءُ الْكافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلالٍ) من كلام الملائكة أو من كلام الله تعالى فهو مقتض عموم دعائهم

٢١٤

لأن المصدر المضاف من صيغ العموم فيقتضي أن دعاء الكافرين غير متقبل في الآخرة وفي الدنيا لأن عموم الذوات يستلزم عموم الأزمنة والأمكنة.

وأما ما يوهم استجابة دعاء الكافرين نحو قوله تعالى : (قُلْ مَنْ يُنَجِّيكُمْ مِنْ ظُلُماتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ تَدْعُونَهُ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً لَئِنْ) أنجيتنا (مِنْ هذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ قُلِ اللهُ يُنَجِّيكُمْ مِنْها) [الأنعام : ٦٣ ، ٦٤] وقوله : (دَعَوُا اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ لَئِنْ أَنْجَيْتَنا مِنْ هذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ فَلَمَّا أَنْجاهُمْ إِذا هُمْ يَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِ) [يونس : ٢٢ ، ٢٣] ، فظاهر أن هذه لا تدل على استجابة كرامة ولكنها لتسجيل كفرهم ونكرانهم ، وقد يتوهم في بعض الأحوال أن يدعو الكافر فيقع ما طلبه وإنما ذلك لمصادفة دعائه وقت إجابة دعاء غيره من الصالحين ، وكيف يستجاب دعاء الكافر وقد جاء عن النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم استبعاد استجابة دعاء المؤمن الذي يأكل الحرام ويلبس الحرام في حديث مسلم عن أبي هريرة : «ذكر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم رجلا يطيل السّفر أشعث أغبر يمدّ يديه إلى السماء : يا ربّ يا ربّ ، ومطعمه حرام ومشربه حرام وغذّي بالحرام فأنّى يستجاب له». ولهذا لم يقل الله : فلما استجاب دعاءهم ، وإنما قال : فلما نجاهم ، أي لأنه قدّر نجاتهم من قبل أن يدعوا أو لأن دعاءهم صادف دعاء بعض المؤمنين.

[٥١ ـ ٥٢] (إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهادُ (٥١) يَوْمَ لا يَنْفَعُ الظَّالِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ وَلَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ (٥٢))

كلام مستأنف وهو استخلاص للعبرة من القصص الماضية مسوق لتسلية الرسولصلى‌الله‌عليه‌وسلم ووعده بحسن العاقبة ، وتسلية المؤمنين ووعدهم بالنصر وحسن العاقبة في الدنيا والآخرة. وذلك أن الكلام من ابتداء السورة كان بذكر مجادلة المشركين في القرآن بقوله تعالى: (ما يُجادِلُ فِي آياتِ اللهِ إِلَّا الَّذِينَ كَفَرُوا) [غافر : ٤] وأومأ إلى الرسولصلى‌الله‌عليه‌وسلم بأن شيعهم آئلة إلى خسار بقوله : (فَلا يَغْرُرْكَ تَقَلُّبُهُمْ فِي الْبِلادِ) [غافر : ٤] ، وامتد الكلام في الرد على المجادلين وتمثيل حالهم بحال أمثالهم من الأمم التي آل أمرها إلى خيبة واضمحلال في الدنيا وإلى عذاب دائم في الآخرة ولما استوفى الغرض مقتضاه من اطناب البيان بيّن الله لرسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عقبه أنه ينصر رسله والذين آمنوا في الدنيا كما دل عليه قوله في آخر الكلام (فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌ) [غافر : ٧٧].

وقد علم من فعل النصر أن هنالك فريقا منصورا عليهم الرسل والمؤمنون في الدنيا

٢١٥

والآخرة ، ومن المتعين أنهم الفريق المعاند للرسل وللمؤمنين ، فنصر الرسل والمؤمنين عليهم في الدنيا بإظهارهم عليهم وإبادتهم ، وفي الآخرة بنعيم الجنة لهم وعذاب النار لأعدائهم.

والتعبير بالمضارع في قوله : (لَنَنْصُرُ) لما فيه من استحضار حالات النصر العجيبة التي وصف بعضها في هذه السورة ووصف بعض آخر في سور أخرى تقدم نزولها ، وإلا فإن نصر الرسل الذين سبقوا محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم قد مضى ونصر محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم مترقّب غير حاصل حين نزول الآية. وتأكيد الخبر ب (إنّ) وبجعل المسند فعليا في قوله : (لَنَنْصُرُ) مراعى فيه حال المعرّض بهم بأن الله ينصر رسله عليهم وهم المشركون لأنهم كانوا يكذبون بذلك.

وهذا وعد للمؤمنين بأن الله ناصرهم على من ظلمهم في الحياة الدنيا بأن يوقع الظالم في سوء عاقبة أو بأن يسلط عليه من ينتقم منه بنحو أو أشدّ مما ظلم به مؤمنا.

والأشهاد : جمع شاهد. والقيام : الوقوف في الموقف. والأشهاد : الرسل ، والملائكة الحفظة والمؤمنون من هذه الأمة ، كما أشار إليه قوله : (لِتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ) [البقرة : ١٤٣] ، وذلك اليوم هو يوم الحشر ، وشهادة الرسل على الذين كفروا بهم من جملة نصرهم عليهم وكذلك شهادة المؤمنين.

و (يَوْمَ لا يَنْفَعُ الظَّالِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ) بدل من (يَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهادُ) وهو منصوب على البدلية من الظرف. والمراد بالظالمين : المشركون. والمعذرة اسم مصدر اعتذر ، وتقدم عند قوله تعالى : (قالُوا مَعْذِرَةً إِلى رَبِّكُمْ) في سورة الأعراف [١٦٤].

وظاهر إضافة المعذرة إلى ضميرهم أنهم تصدر منهم يومئذ معذرة يعتذرون بها عن الأسباب التي أوجبت لهم العذاب مثل قولهم : (رَبَّنا هؤُلاءِ أَضَلُّونا) [الأعراف : ٣٨] وهذا لا ينافي قوله تعالى : (وَلا يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ) [المرسلات : ٣٦] الذي هو في انتفاء الاعتذار من أصله لأن ذلك الاعتذار هو الاعتذار المأذون فيه ، وقد تقدم ذلك عند قوله تعالى : فيومئذ لا تنفع (الَّذِينَ ظَلَمُوا مَعْذِرَتُهُمْ) في سورة الروم [٥٧].

وقرأ نافع وعاصم وحمزة والكسائي وخلف (لا يَنْفَعُ) بالياء التحتية لأن الفاعل وهو «معذرة» غير حقيقي التأنيث وللفصل بين الفعل وفاعله بالمفعول. وقرأ الباقون بالتاء الفوقية على اعتبار التأنيث اللفظي.

٢١٦

و (لَهُمُ اللَّعْنَةُ) عطف على جملة (لا يَنْفَعُ الظَّالِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ) أي ويوم لهم اللعنة. واللعنة : البعد والطرد ، أي من رحمة الله ، (وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ) هي جهنم. وتقديم (لهم) في هاتين الجملتين للاهتمام بالانتقام منهم.

[٥٣ ـ ٥٤] (وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْهُدى وَأَوْرَثْنا بَنِي إِسْرائِيلَ الْكِتابَ (٥٣) هُدىً وَذِكْرى لِأُولِي الْأَلْبابِ (٥٤))

هذا من أوضح مثل نصر الله رسله والذين آمنوا بهم وهو أشبه الأمثال بالنصر الذي قدره الله تعالى للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم والمؤمنين فإن نصر موسى على قوم فرعون كوّن الله به أمة عظيمة لم تكن يؤبه بها وأوتيت شريعة عظيمة وملكا عظيما ، وكذلك كان نصر النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم والمؤمنين وكان أعظم من ذلك وأكمل وأشرف.

فجملة : (وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْهُدى) إلخ معترضة بين (إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنا) [غافر: ٥١] وبين التفريع عليه في قوله : (فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌ) [غافر : ٥٥] ، وأيّ نصر أعظم من الخلاص من العبودية والقلة والتبع لأمة أخرى في أحكام تلائم أحوال الأمة التابعة ، إلى مصير الأمة مالكة أمر نفسها ذات شريعة ملائمة لأحوالها ومصالحها وسيادة على أمم أخرى ، وذلك مثل المسلمين مع النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وبعده وهو إيماء إلى الوعد بأن القرآن الذي كذّب به المشركون باق موروث في الأمة الإسلامية.

والهدى الذي أوتيه موسى هو ما أوحي إليه من الأمر بالدعوة إلى الدين الحق ، أي الرسالة وما أنزل إليه من الشريعة وهي المراد بالكتاب ، أي التوراة ، وهو الذي أورثه الله بني إسرائيل ، أي جعله باقيا فيهم بعد موسى عليه‌السلام فهم ورثوه عن موسى ، أي أخذوه منه في حياته وأبقاه الله لهم بعد وفاته ، فإطلاق الإيراث استعارة. وفي ذلك إيذان بأن الكتاب من جملة الهدى الذي أوتيه موسى ، قال تعالى : (إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْراةَ فِيها هُدىً وَنُورٌ) [المائدة : ٤٤] ، ففي الكلام إيجاز حذف تقديره : ولقد آتينا موسى الهدى والكتاب وأورثنا بني إسرائيل الكتاب ، فإن موسى أوتى من الهدى ما لم يرثه بنو إسرائيل وهو الرسالة وأوتي من الهدى ما أورثه بنو إسرائيل وهو الشريعة التي في التوراة.

و (هُدىً) و (ذِكْرى) حالان من (الْكِتابَ) ، أي هدى لبني إسرائيل وذكرى لهم ، ففيه علم ما لم يعلمه المتعلمون ، وفيه ذكرى لما علمه أهل العلم منهم ، وتشمل الذكرى استنباط الأحكام من نصوص الكتاب وهو الذي يختص بالعلماء منهم من أنبيائهم

٢١٧

وقضاتهم وأحبارهم ، فيكون (لِأُولِي الْأَلْبابِ) متعلقا ب (ذِكْرى).

وأولو الألباب : أولو العقول الراجحة القادرة على الاستنباط.

(فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌّ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِبْكارِ (٥٥))

تفريع على قوله : (إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنا) [غافر : ٥١] أي فاعلم أنّا ناصروك والذين آمنوا واصبر على ما تلاقيه من قومك ولا تهن.

وجملة : (إِنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌ) تعليل للأمر بالصبر. و (إِنَ) للاهتمام بالخبر وهي في مثل هذا المقام تغني غناء فاء التعليل فكأنه قيل : فوعد الله حق ويفاد بأن التأكيد الذي هو للاهتمام والتحقيق.

ووعد الله هو وعد رسوله بالنصر في الآية السابقة وفي غير ما آية. والمعنى لا تستبطئ النصر فإنه واقع ، وذلك ما نصر به النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم في أيامه على المشركين يوم بدر ويوم الفتح ويوم حنين وفي أيام الغزوات الأخرى. وما عرض من الهزيمة يوم أحد كان امتحانا وتنبيها على سوء مغبة عدم الحفاظ على وصية الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن لا يبرحوا من مكانهم ثم كانت العاقبة للمؤمنين.

وعطف على الأمر بالصبر الأمر بالاستغفار والتسبيح فكانا داخلين في سياق التفريع على الوعد بالنصر رمز إلى تحقيق الوعد لأنه أمر عقبه بما هو من آثار الشكر كناية عن كون نعمة النصر حاصلة لا محالة ، وهذه كناية رمزية.

والأمر بالاستغفار أمر بأن يطلب من الله تعالى المغفرة التي اقتضتها النبوءة ، أي اسأل الله دوام العصمة لتدوم المغفرة ، وهذا مقام التخلية عن الأكدار النفسية ، وفيه تعريض بأن أمته مطلوبون بذلك بالأحرى كقوله : (وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ) [الزمر : ٦٥] وأيضا فالنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم مأمور بالاستغفار تعبدا وتأدبا. وأمر بتسبيح الله تعالى وتنزيهه بالعشي والإبكار ، أي الأوقات كلها فاقتصر على طرفي أوقات العمل.

والعشيّ : آخر النهار إلى ابتداء ظلمة الليل ، ولذلك سمي طعام الليل عشاء ، وسميت الصلاة الأخيرة بالليل عشاء. والإبكار : اسم لبكرة النهار كالإصباح اسم

٢١٨

للصباح ، والبكرة أول النهار ، وتقدمت في قوله : (أَنْ سَبِّحُوا بُكْرَةً وَعَشِيًّا) في سورة مريم [١١]. وتقدم العشيّ في قوله : (وَلا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَداةِ وَالْعَشِيِ) في سورة الأنعام [٥٢]. وهذا مقام التحلّي بالكمالات النفسية وبذلك يتم الشكر ظاهرا وباطنا. وجعل الأمران معطوفين على الأمر بالصبر لأن الصبر هنا لانتظار النصر الموعود ، ولذلك لم يؤمر بالصبر لمّا حصل النصر في قوله : (إِذا جاءَ نَصْرُ اللهِ وَالْفَتْحُ وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللهِ أَفْواجاً فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ) [النصر : ١ ـ ٣] فإن ذلك مقام محض الشكر دون الصبر.

وقد أخبر الله نبيئه صلى‌الله‌عليه‌وسلم بأنه قد غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر كما في أول سورة الفتح ، فتعين أن أمره بالاستغفار في سورة غافر قبل أن يخبره بذلك ، لطلب دوام المغفرة ، وكان أمره به في سورة النصر بعد أن أخبره بغفران ما تقدم من ذنبه وما تأخر ، للارشاد إلى شكر نعمة النصر ، وقد قال بعض الصحابة للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم في شأن عبادته : إن الله قد غفر لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر ، فقال ؛ «أفلا أكون عبدا شكورا». وكان يكثر أن يقول في سجوده «سبحانك اللهم ربنا وبحمدك اللهم اغفر لي». بعد نزول سورة (إِذا جاءَ نَصْرُ اللهِ) [النصر : ١] قالت عائشة رضي‌الله‌عنها يتأول القرآن. وبحكم السياق تعلم أن الآية لا علاقة لها بفرض الصلاة ولا بأوقاتها وإنما هي على نحو قوله تعالى : (فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ) في سورة النصر [٣].

(إِنَّ الَّذِينَ يُجادِلُونَ فِي آياتِ اللهِ بِغَيْرِ سُلْطانٍ أَتاهُمْ إِنْ فِي صُدُورِهِمْ إِلاَّ كِبْرٌ ما هُمْ بِبالِغِيهِ فَاسْتَعِذْ بِاللهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (٥٦))

(إِنَّ الَّذِينَ يُجادِلُونَ فِي آياتِ اللهِ بِغَيْرِ سُلْطانٍ أَتاهُمْ إِنْ فِي صُدُورِهِمْ إِلَّا كِبْرٌ ما هُمْ بِبالِغِيهِ).

جرى الكلام من أول السورة إلى هنا في ميدان الرد على مجادلة المشركين في آيات الله ودحض شبههم وتوعدهم على كفرهم وضرب الأمثال لهم بأمثالهم من أهل العناد ابتداء من قوله : (ما يُجادِلُ فِي آياتِ اللهِ إِلَّا الَّذِينَ كَفَرُوا) [غافر : ٤] وقوله : (أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ كانُوا مِنْ قَبْلِهِمْ) [غافر : ٢١] ، كما ذكرت أمثال أضدادهم من أهل الإيمان من حضر منهم ومن غبر من قوله : (وَلَقَدْ أَرْسَلْنا مُوسى بِآياتِنا وَسُلْطانٍ مُبِينٍ إِلى فِرْعَوْنَ) [هود : ٩٦ ، ٩٧] ثم قوله : (وَقالَ رَجُلٌ مُؤْمِنٌ مِنْ

٢١٩

آلِ فِرْعَوْنَ) [غافر : ٢٨] ، وختم ذلك بوعد النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم والمؤمنين بالنصر كما نصر النبيئون من قبله والذين آمنوا بهم ، وأمر بالصبر على عناد قومه والتوجه إلى عبادة ربه ، فكان ذكر الذين يجادلون في آيات الله بغير سلطان عقب ذلك من باب المثل المشهور : «الشيء بالشيء يذكر».

وبهذه المناسبة انتقل هنا إلى كشف ما تكنه صدور المجادلين من أسباب جدالهم بغير حق ، ليعلم الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم دخيلتهم فلا يحسب أنهم يكذبونه تنقصا له ولا تجويزا للكذب عليه ، ولكن الذي يدفعهم إلى التكذيب هو التكبر عن أن يكونوا تبعا للرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم ووراء الذين سبقوهم بالإيمان ممن كانوا لا يعبئون بهم. وهذا نحو قوله تعالى : (قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ فَإِنَّهُمْ لا يُكَذِّبُونَكَ وَلكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآياتِ اللهِ يَجْحَدُونَ) [الأنعام : ٣٣].

فقوله : (إِنَّ الَّذِينَ يُجادِلُونَ فِي آياتِ اللهِ) الآية استئناف ابتدائي وهو كالتكرير لجملة (الَّذِينَ يُجادِلُونَ فِي آياتِ اللهِ بِغَيْرِ سُلْطانٍ أَتاهُمْ كَبُرَ مَقْتاً عِنْدَ اللهِ) [غافر : ٣٥] تكرير تعداد للتوبيخ عند تنهية غرض الاستدلال كما يوقّف الموبخ المرة بعد المرة. و (الَّذِينَ يُجادِلُونَ) هم مشركو أهل مكة وهم المخبر عنهم في قوله أول السورة : (ما يُجادِلُ فِي آياتِ اللهِ إِلَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَلا يَغْرُرْكَ تَقَلُّبُهُمْ فِي الْبِلادِ) [غافر : ٤]. ومعنى المجادلة في آيات الله تقدم هنالك.

ويتعلق قوله : (بِغَيْرِ سُلْطانٍ) ب (يُجادِلُونَ). والباء للمصاحبة ، أي مصاحب لهم غير سلطان ، أي غير حجة ، أي أنهم يجادلون مجادلة عناد وغصب.

وفائدة هذا القيد تشنيع مجادلتهم وإلا فإن المجادلة في آيات الله لا تكون إلا بغير سلطان لأن آيات الله لا تكون مخالفة للواقع فهذا القيد نظير القيد في قوله : (وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَواهُ بِغَيْرِ هُدىً مِنَ اللهِ) [القصص : ٥٠] ، وكذلك وصف (سُلْطانٍ) بجملة (أَتاهُمْ) لزيادة تفظيع مجادلتهم بأنها عرية عن حجة لديهم فهم يجادلون بما ليس لهم به علم ، وتقدم نظير أول هذه الآية في أثناء قصة موسى وفرعون في هذه السورة.

و (إِنَ) في قوله : (إِنْ فِي صُدُورِهِمْ إِلَّا كِبْرٌ) نافية والجار والمجرور خبر مقدم ، والاستثناء مفرّغ ، و (كِبْرٌ) مبتدأ مؤخّر ، والجملة كلها خبر عن (الَّذِينَ يُجادِلُونَ). وأطلق الصدور على القلوب مجازا بعلاقة الحلول ، والمراد ضمائر أنفسهم ، والعرب يطلقون القلب على العقل لأن القلب هو الذي يحس الإنسان بحركته عند الانفعالات النفسية من الفرح وضده والاهتمام بالشيء. والكبر من الانفعالات النفسية ، وهو : إدراك الإنسان

٢٢٠