تفسير التّحرير والتّنوير - ج ٢٤

الشيخ محمّد الطاهر ابن عاشور

تفسير التّحرير والتّنوير - ج ٢٤

المؤلف:

الشيخ محمّد الطاهر ابن عاشور


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة التاريخ العربي للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٢٦٨

دعني على حكم الهوى أتضرع

فعسى يلين لي الحبيب ويخشع

وذلك يستتبع كناية عن خطر ذلك العمل وصعوبة تحصيله لأن مثله مما يمنع المستشار مستشيره من الإقدام عليه ، ولذلك عطف عليه : (وَلْيَدْعُ رَبَّهُ) لأن موسى خوّفهم عذاب الله وتحدّاهم بالآيات التسع. ولام الأمر في (وَلْيَدْعُ رَبَّهُ) مستعملة في التسوية وعدم الاكتراث. وجملة (إِنِّي أَخافُ أَنْ يُبَدِّلَ دِينَكُمْ) تعليل للعزم على قتل موسى. والخوف مستعمل في الإشفاق ، أي أظن ظنا قويا أن يبدل دينكم. وحذفت (من) التي يتعدى بها فعل (أَخافُ) لأنها وقعت بينه وبين (أن).

والتبديل : تعويض الشيء بغيره. وتوسم فرعون ذلك من إنكار موسى على فرعون زعمه أنه إله لقومه فإن تبديل الأصول يقتضي تبديل فروع الشريعة كلها.

والإضافة في قوله : (دِينَكُمْ) تعريض بأنهم أولى بالذبّ عن الدين وإن كان هو دينه أيضا لكنه تجرد في مشاورتهم عن أن يكون فيه مراعاة لحظ نفسه كما قالوا هم (أَتَذَرُ مُوسى وَقَوْمَهُ لِيُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَيَذَرَكَ وَآلِهَتَكَ) [الأعراف : ١٢٧] وذلك كله إلهاب وتحضيض.

والأرض : هي المعهودة عندهم وهي مملكة فرعون.

ومعنى إظهار موسى الفساد عندهم أنه يتسبب في ظهوره بدعوته إلى تغيير ما هم عليه من الديانة والعوائد. وأطلق الإظهار على الفشوّ والانتشار على سبيل الاستعارة. وقد حمله غروره وقلة تدبره في الأمور على ظن أن ما خالف دينهم يعدّ فسادا إذ ليست لهم حجة لدينهم غير الإلف والانتفاع العاجل.

وقرأ نافع وابن كثير وابن عامر وأبو عمرو وأبو جعفر وأن بواو العطف. وقرأ غيرهم (أَوْ أَنْ) ب (أو) التي للترديد ، أي لا يخلو سعي موسى عن حصول أحد هاذين. وقرأ نافع وأبو عمرو وأبو بكر عن عاصم وأبو جعفر بضم ياء (يُظْهِرَ) ونصب (الْفَسادَ) أي يبدل دينكم ويكون سببا في ظهور الفساد. وقرأه ابن كثير وابن عامر وحمزة والكسائي وحفص عن عاصم ويعقوب وخلف بفتح الياء وبرفع الفساد على معنى أن الفساد يظهر بسبب ظهور أتباع موسى ، أو بأن يجترئ غيره على مثل دعواه بأن تزول حرمة الدولة ، لأن شأن أهل الخوف عن عمل أن ينقلب جبنهم شجاعة إذا رأوا نجاح من اجترأ على العمل الذي يريدون مثله.

١٨١

(وَقالَ مُوسى إِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ مِنْ كُلِّ مُتَكَبِّرٍ لا يُؤْمِنُ بِيَوْمِ الْحِسابِ (٢٧))

هذا حكاية كلام صدر من موسى في غير حضرة فرعون لا محالة ، لأن موسى لم يكن ممن يضمه ملأ استشارة فرعون حين قال لقومه : (ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسى) [غافر : ٢٦] ولكن موسى لما بلغه ما قاله فرعون في ملائه قال موسى في قومه : (إِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ) ، ولذلك حكي فعل قوله معطوفا بالواو لأن ذلك القول لم يقع في محاورة مع مقال فرعون بخلاف الأقوال المحكية في سورة الشعراء [١٨ ـ ٣١] من قوله : (قالَ أَلَمْ نُرَبِّكَ فِينا وَلِيداً) إلى قوله : (قالَ فَأْتِ بِهِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ).

وقوله : (عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ مِنْ كُلِّ مُتَكَبِّرٍ) خطاب لقومه من بني إسرائيل تطمينا لهم وتسكينا لإشفاقهم عليه من بطش فرعون. والمعنى : إني أعددت العدة لدفع بطش فرعون العوذ بالله من كل متكبر لا يؤمن بيوم الحساب وفي مقدمة هؤلاء المتكبرين فرعون.

ومعنى ذلك : أن موسى علم أنه سيجد مناوين متكبرين يكرهون ما أرسله الله به إليهم ، فدعا ربه وعلم أن الله ضمن له الحفظ وكفاه ضير كل معاند ، وذلك ما حكي في سورة طه [٤٥ ، ٤٦] : (قالا رَبَّنا إِنَّنا نَخافُ أَنْ يَفْرُطَ عَلَيْنا أَوْ أَنْ يَطْغى قالَ لا تَخافا إِنَّنِي مَعَكُما أَسْمَعُ وَأَرى) فأخبر موسى قومه بأن ربه حافظ له ليثقوا بالله كما كان مقام النبي لا حين كان في أول البعثة تحرسه أصحابه في الليل فلما نزل قوله تعالى : (فَاصْدَعْ بِما تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ إِنَّا كَفَيْناكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ) [الحجر : ٩٤ ، ٩٥] الآية أمر أصحابه بأن يتخلوا عن حراسته.

وتأكيد الخبر بحرف (إنّ) متوجه إلى لازم الخبر وهو أن الله ضمن له السلامة وأكد

ذلك لتنزيل بعض قومه أو جلهم منزلة من يتردد في ذلك لما رأى من إشفاقهم عليه.

والعوذ : الالتجاء إلى المحل الذي يستعصم به العائذ فيدفع عنه من يروم ضره ، يقال: عاذ بالجبل ، وعاذ بالجيش ، وقال تعالى : (فَاسْتَعِذْ بِاللهِ مِنَ الشَّيْطانِ الرَّجِيمِ) [النحل : ٩٨].

وعبر عن الجلالة بصفة الرب مضافا إلى ضمير المتكلم لأن في صفة الرب إيماء إلى توجيه العوذ به لأن العبد يعوذ بمولاه. وزيادة وصفه برب المخاطبين للإيماء إلى أن

١٨٢

عليهم أن لا يجزعوا من مناواة فرعون لهم وأن عليهم أن يعوذوا بالله من كل ما يفظعهم.

وجعلت صفة (لا يُؤْمِنُ بِيَوْمِ الْحِسابِ) مغنية عن صفة الكفر أو الإشراك لأنها تتضمن الإشراك وزيادة ، لأنه إذا اجتمع في المرء التجبر والتكذيب بالجزاء قلّت مبالاته بعواقب أعماله فكملت فيه أسباب القسوة والجرأة على الناس.

(وَقالَ رَجُلٌ مُؤْمِنٌ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إِيمانَهُ أَتَقْتُلُونَ رَجُلاً أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللهُ وَقَدْ جاءَكُمْ بِالْبَيِّناتِ مِنْ رَبِّكُمْ وَإِنْ يَكُ كاذِباً فَعَلَيْهِ كَذِبُهُ وَإِنْ يَكُ صادِقاً يُصِبْكُمْ بَعْضُ الَّذِي يَعِدُكُمْ إِنَّ اللهَ لا يَهْدِي مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذَّابٌ (٢٨))

عطف قول هذا الرجل يقتضي أنه قال قوله هذا في غير مجلس شورى فرعون ، لأنه لو كان قوله جاريا مجرى المحاورة مع فرعون في مجلس استشارته ، أو كان أجاب به عن قول فرعون : (ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسى) [غافر : ٢٦] لكانت حكاية قوله بدون عطف على طريقة المحاورات. والذي يظهر أن الله ألهم هذا الرجل بأن يقول مقالته إلهاما كان أول مظهر من تحقيق الله لاستعاذة موسى بالله ، فلما شاع توعد فرعون بقتل موسى عليه‌السلام جاء هذا الرجل إلى فرعون ناصحا ولم يكن يتهمه فرعون لأنه من آله.

وخطابه بقوله : (أَتَقْتُلُونَ) موجّه إلى فرعون لأن فرعون هو الذي يسند إليه القتل لأنه الآمر به ، ولحكاية كلام فرعون عقب كلام مؤمن آل فرعون بدون عطف بالواو في قوله : (قالَ فِرْعَوْنُ ما أُرِيكُمْ إِلَّا ما أَرى) [غافر : ٢٩].

ووصفه بأنه من آل فرعون صريح في أنه من القبط ولم يكن من بني إسرائيل خلافا لبعض المفسرين ألا ترى إلى قوله تعالى بعده : (يا قَوْمِ لَكُمُ الْمُلْكُ الْيَوْمَ ظاهِرِينَ فِي الْأَرْضِ فَمَنْ يَنْصُرُنا مِنْ بَأْسِ اللهِ إِنْ جاءَنا) [غافر : ٢٩] فإن بني إسرائيل لم يكن لهم ملك هنالك.

والأظهر أنه كان من قرابة فرعون وخاصته لما يقتضيه لفظ آل من ذلك حقيقة أو مجازا. والمراد أنه مؤمن بالله ومؤمن بصدق موسى ، وما كان إيمانه هذا إلا لأنه كان رجلا صالحا اهتدى إلى توحيد الله إما بالنظر في الأدلة فصدّق موسى عند ما سمع دعوته كما اهتدى أبو بكر الصديق رضي‌الله‌عنه إلى تصديق النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم في حين سماع دعوته فقال له : «صدقت». وكان كتمه الإيمان متجددا مستمرا تقية من فرعون وقومه إذ علم أن إظهاره الإيمان يضره ولا ينفع غيره كما كان (سقراط) يكتم إيمانه بالله في بلاد اليونان خشية أن يقتلوه انتصارا لآلهتهم.

١٨٣

وأراد بقوله : (أَتَقْتُلُونَ رَجُلاً) إلى آخره أن يسعى لحفظ موسى من القتل بفتح باب المجادلة في شأنه لتشكيك فرعون في تكذيبه بموسى ، وهذا الرجل هو غير الرجل المذكور في سورة القصص [٢٠] في قوله تعالى : (وَجاءَ رَجُلٌ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ يَسْعى) فإن تلك القصة كانت قبيل خروج موسى من مصر ، وهذه القصة في مبدأ دخوله مصر. ولم يوصف هنالك بأنه مؤمن ولا بأنه من آل فرعون بل كان من بني إسرائيل كما هو صريح سفر الخروج. والظاهر أن الرجل المذكور هنا كان رجلا صالحا نظّارا في أدلة التوحيد ولم يستقر الإيمان في قلبه على وجهه إلا بعد أن سمع دعوة موسى ، وإن الله يقيض لعباده الصالحين حماة عند الشدائد.

قيل اسم هذا الرجل حبيب النجّار وقيل سمعان ، وقد تقدم في سورة (يس) أن حبيبا النجار من رسل عيسى عليه‌السلام. وقصة هذا الرجل المؤمن من آل فرعون غير مذكورة في «التوراة» بالصريح ولكنها مذكورة إجمالا في الفقرة السابعة من الإصحاح العاشر «فقال عبيد فرعون إلى متى يكون لنا هذا (أي موسى) فخّا أطلق الرجال ليعبدوا الرب إلههم».

والاستفهام في (أَتَقْتُلُونَ) استفهام إنكار ، أي يقبح بكم أن تقتلوا نفسا لأنه يقول ربي الله ، أي ولم يجبركم على أن تؤمنوا به ولكنه قال لكم قولا فاقبلوه أو ارفضوه ، فهذا محمل قوله : (أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللهُ) وهو الذي يمكن الجمع بينه وبين كون هذا الرجل يكتم إيمانه.

و (أَنْ يَقُولَ). مجرور بلام التعليل المقدرة لأنها تحذف مع (أن) كثيرا. وذكر اسم الله لأنه الذي ذكره موسى ولم يكن من أسماء آلهة القبط.

وأما قوله : (وَقَدْ جاءَكُمْ بِالْبَيِّناتِ مِنْ رَبِّكُمْ) فهو ارتقاء في الحجاج بعد أن استأنس في خطاب قومه بالكلام الموجّه فارتقى إلى التصريح بتصديق موسى بعلة أنه جاء بالبينات ، أي الحجج الواضحة بصدقه ، وإلى التصريح بأن الذي سماه الله في قوله : (أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللهُ) هو رب المخاطبين فقال : (مِنْ رَبِّكُمْ). فجملة (وَقَدْ جاءَكُمْ بِالْبَيِّناتِ مِنْ رَبِّكُمْ) في موضع الحال من قوله : (رَجُلاً) والباء في (بِالْبَيِّناتِ) للمصاحبة.

وقوله : (وَإِنْ يَكُ كاذِباً فَعَلَيْهِ كَذِبُهُ) رجوع إلى ضرب من إيهام الشك في صدق موسى ليكون كلامه مشتملا على احتمالي تصديق وتكذيب يتداولهما في كلامه فلا يؤخذ عليه أنه مصدق لموسى بل يخيل إليهم أنه في حالة نظر وتأمل ليسوق فرعون وملأه إلى أدلة صدق موسى بوجه لا يثير نفورهم ، فالجملة عطف على جملة (وَقَدْ جاءَكُمْ بِالْبَيِّناتِ) فتكون حالا.

١٨٤

وقدم احتمال كذبه على احتمال صدقه زيادة في التباعد عن ظنهم به الانتصار لموسى فأراد أن يظهر في مظهر المهتم بأمر قومه ابتداء.

ومعنى : (وَإِنْ يَكُ كاذِباً فَعَلَيْهِ كَذِبُهُ) استنزالهم للنظر ، أي فعليكم بالنظر في آياته ولا تعجلوا بقتله ولا باتباعه فإن تبين لكم كذبه فيما تحداكم به وما أنذركم به من مصائب فلم يقع شيء من ذلك لم يضركم ذلك شيئا وعاد كذبه عليه بأن يوسم بالكاذب ، وإن تبين لكم صدقه يصبكم بعض ما توعّدكم به ، أي تصبكم بوارقه فتعلموا صدقه فتتبعوه ، وهذا وجه التعبير ب (بَعْضُ) دون أن يقول : يصبكم الذي يعدكم به. والمراد بالوعد هنا الوعد بالسوء وهو المسمى بالوعيد. أي فإن استمررتم على العناد يصبكم جميع ما توعّدكم به بطريق الأولى.

وقد شابه مقام أبي بكر الصديق مقام مؤمن آل فرعون إذ آمن بالنبيء صلى‌الله‌عليه‌وسلم حين سمع دعوته ولم يكن من آله ، ويوم جاء عقبة بن أبي معيط إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم (والنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بفناء الكعبة) يخنقه بثوبه فأقبل أبو بكر فأخذ بمنكب عقبة ودفعه وقال : (أَتَقْتُلُونَ رَجُلاً أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللهُ وَقَدْ جاءَكُمْ بِالْبَيِّناتِ مِنْ رَبِّكُمْ). قال علي بن أبي طالب : «والله ليوم أبي بكر خير من مؤمن آل فرعون ، إنّ مؤمن آل فرعون رجل يكتم إيمانه وإن أبا بكر كان يظهر إيمانه وبذل ماله ودمه».

وأقول : كان أبو بكر أقوى يقينا من مؤمن آل فرعون لأن مؤمن آل فرعون كتم إيمانه وأبو بكر أظهر إيمانه.

وجملة (إِنَّ اللهَ لا يَهْدِي مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذَّابٌ) يجوز أنها من قول مؤمن آل فرعون ، فالمقصود منها تعليل قوله : (وَإِنْ يَكُ كاذِباً فَعَلَيْهِ كَذِبُهُ وَإِنْ يَكُ صادِقاً يُصِبْكُمْ بَعْضُ الَّذِي يَعِدُكُمْ) أي لأن الله لا يقره على كذبه فإن كان كاذبا على الله فلا يلبث أن يفتضح أمره أو يهلكه ، كما قال تعالى : (وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنا بَعْضَ الْأَقاوِيلِ لَأَخَذْنا مِنْهُ بِالْيَمِينِ ثُمَّ لَقَطَعْنا مِنْهُ الْوَتِينَ) [الحاقة : ٤٤ ـ ٤٦] لأن الله لا يمهل الكاذب عليه ، ولأنه إذا جاءكم بخوارق العادات فقد تبين صدقه لأن الله لا يخرق العادة بعد تحدي المتحدّي بها إلّا ليجعلها أمارة على أنه مرسل منه لأن تصديق الكاذب محال على الله تعالى.

ومعنى : (يُصِبْكُمْ بَعْضُ الَّذِي يَعِدُكُمْ) أي مما توعدكم بوقوعه في الدنيا ، أو في الآخرة وكيف إذا كانت البينة نفسها مصائب تحلّ بهم مثل الطوفان والجراد وبقية التسع الآيات.

١٨٥

والمسرف : متجاوز المعروف في شيء ، فالمراد هنا مسرف في الكذب لأن أعظم الكذب أن يكون على الله ، قال تعالى : (وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللهِ كَذِباً أَوْ قالَ أُوحِيَ إِلَيَّ وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَيْءٌ) [الأنعام : ٩٣].

وإذا كان المراد الإسراف في الكذب تعين أن قوله : (كَذَّابٌ) عطف بيان وليس خبرا ثانيا إذ ليس ثمة إسراف هنا غير إسراف الكذب ، وفي هذا اعتراف من هذا المؤمن بالله الذي أنكره فرعون ، رماه بين ظهرانيهم. ويجوز أن تكون جملة (إِنَّ اللهَ لا يَهْدِي) إلى آخرها جملة معترضة بين كلامي مؤمن آل فرعون ليست من حكاية كلامه وإنما هي قول من جانب الله في قرآنه يقصد منها تزكية هذا الرجل المؤمن إذ هداه الله للحق ، وأنه تقيّ صادق ، فيكون نفي الهداية عن المسرف الكذاب كناية عن تقوى هذا الرجل وصدقه لأنه نطق عن هدى والله لا يعطي الهدى من هو مسرف كذاب.

(يا قَوْمِ لَكُمُ الْمُلْكُ الْيَوْمَ ظاهِرِينَ فِي الْأَرْضِ فَمَنْ يَنْصُرُنا مِنْ بَأْسِ اللهِ إِنْ جاءَنا قالَ فِرْعَوْنُ ما أُرِيكُمْ إِلاَّ ما أَرى وَما أَهْدِيكُمْ إِلاَّ سَبِيلَ الرَّشادِ (٢٩))

(يا قَوْمِ لَكُمُ الْمُلْكُ الْيَوْمَ ظاهِرِينَ فِي الْأَرْضِ فَمَنْ يَنْصُرُنا مِنْ بَأْسِ اللهِ إِنْ جاءَنا).

لما توسم نهوض حجته بينهم وأنها داخلت نفوسهم ، أمن بأسهم ، وانتهز فرصة انكسار قلوبهم ، فصارحهم بمقصوده من الإيمان بموسى على سنن الخطباء وأهل الجدل بعد تقرير المقدمات والحجج أن يهجموا على الغرض المقصود ، فوعظهم بهذه الموعظة.

وأدخل قومه في الخطاب فناداهم ليستهويهم إلى تعضيده أمام فرعون فلا يجد فرعون بدّا من الانصياع إلى اتفاقهم وتظاهرهم ، وأيضا فإن تشريك قومه في الموعظة أدخل في باب النصيحة فابتدأ بنصح فرعون لأنه الذي بيده الأمر والنهي ، وثنّى بنصيحة الحاضرين من قومه تحذيرا لهم من مصائب تصيبهم من جراء امتثالهم أمر فرعون بقتل موسى فإن ذلك يهمهم كما يهمّ فرعون. وهذا الترتيب في إسداء النصيحة نظير الترتيب في قول النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم : «ولأئمّة المسلمين وعامتهم» (١). ولا يخفى ما في ندائهم بعنوان أنهم قومه من الاستصغاء لنصحه وترقيق قلوبهم لقوله.

وابتداء الموعظة بقوله : (لَكُمُ الْمُلْكُ الْيَوْمَ ظاهِرِينَ فِي الْأَرْضِ) تذكير بنعمة الله عليهم ، وتمهيد لتخويفهم من غضب الله ، يعني : لا تغرنكم عظمتكم وملككم فإنهما

__________________

(١) بعض حديث أوله : الدين النصيحة قالوا لمن يا رسول الله قال لله ولرسوله إلخ.

١٨٦

معرضان للزوال إن غضب الله عليكم.

والمقصود : تخويف فرعون من زوال ملكه ، ولكنه جعل الملك لقومه لتجنب مواجهة فرعون بفرض زوال ملكه.

والأرض : أرض مصر ، أي نافذا حكمكم في هذا الصقع.

وفرع على هذا التمهيد : (فَمَنْ يَنْصُرُنا مِنْ بَأْسِ اللهِ إِنْ جاءَنا) ، و (من) للاستفهام الإنكاري عن كل ناصر ، فالمعنى : فلا نصر لنا من بأس الله. وأدمج نفسه مع قومه في (يَنْصُرُنا) و (جاءَنا) ، ليريهم أنه يأبى لقومه ما يأباه لنفسه وأن المصيبة إن حلت لا تصيب بعضهم دون بعض.

ومعنى (ظاهِرِينَ) غالبين ، وتقدم آنفا ، أي إن كنتم قادرين على قتل موسى فالله قادر على هلاككم.

والبأس : القوة على العدوّ والمعاند ، فهو القوة على الضر.

(قالَ فِرْعَوْنُ ما أُرِيكُمْ إِلَّا ما أَرى وَما أَهْدِيكُمْ إِلَّا سَبِيلَ الرَّشادِ)

تفطن فرعون إلى أنه المعرّض به في خطاب الرجل المؤمن قومه فقاطعه كلامه وبيّن سبب عزمه على قتل موسى عليه‌السلام بأنه ما عرض عليهم ذلك إلا لأنه لا يرى نفعا إلا في قتل موسى ولا يستصوب غير ذلك ويرى ذلك هو سبيل الرشاد ، وكأنه أراد لا يترك لنصيحة مؤمنهم مدخلا إلى نفوس ملئه خيفة أن يتأثروا بنصحه فلا يساعدوا فرعون على قتل موسى. ولكون كلام فرعون صدر مصدر المقاطعة لكلام المؤمن جاء فعل قول فرعون مفصولا غير معطوف وهي طريقة حكاية المقاولات والمحاورة.

ومعنى : (ما أُرِيكُمْ) : ما أجعلكم رائين إلا ما أراه لنفسي ، أي ما أشير عليكم بأن تعتقدوا إلا ما أعتقده ، فالرؤية علمية ، أي لا أشير إلا بما هو معتقدي.

والسبيل : مستعار للعمل ، وإضافته إلى الرشاد قرينة ، أي ما أهديكم وأشير عليكم إلا بعمل فيه رشاد. وكأنه يعرّض بأن كلام مؤمنهم سفاهة رأي. والمعنى الحاصل من الجملة الثانية غير المعنى الحاصل من الجملة الأولى كما هو بيّن وكما هو مقتضى العطف.

[٣٠ ـ ٣١] (وَقالَ الَّذِي آمَنَ يا قَوْمِ إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ مِثْلَ يَوْمِ الْأَحْزابِ (٣٠) مِثْلَ

١٨٧

دَأْبِ قَوْمِ نُوحٍ وَعادٍ وَثَمُودَ وَالَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ وَمَا اللهُ يُرِيدُ ظُلْماً لِلْعِبادِ (٣١))

لما كان هذا تكملة لكلام الذي آمن ولم يكن فيه تعريج على محاورة فرعون على قوله: (ما أُرِيكُمْ إِلَّا ما أَرى) [غافر : ٢٩] إلخ وكان الذي آمن قد جعل كلام فرعون في البين واسترسل يكمل مقالته عطف فعل قوله بالواو ليتصل كلامه بالكلام الذي قبله ، ولئلا يتوهم أنه قصد به مراجعة فرعون ولكنه قصد إكمال خطابه ، وعبر عنه بالذي آمن لأنه قد عرف بمضمون الصلة بعد ما تقدم. وإعادته نداء قومه تأكيد لما قصده من النداء الأول حسبما تقدم.

وجعل الخوف وما في معناه يتعدى إلى المخوف منه بنفسه وإلى المخوف عليه بحرف (على) قال لبيد يرثي أخاه أربد :

أخشى على أربد الحتوف ولا

أخشى عليه الرياح والمطرا

و (يَوْمِ الْأَحْزابِ) مراد به ، الجنس لا (يوم) معين بقرينة إضافته إلى جمع أزمانهم

متباعدة. فالتقدير : مثل أيام الأحزاب ، فإفراد يوم للإيجاز ، مثل بطن في قول الشاعر وهو من شواهد سيبويه في باب الصفة المشبهة بالفاعل :

كلوا في بعض بطنكم تعفّوا

فإن زمانكم زمن خميص

والمراد بأيام الأحزاب أيام إهلاكهم والعرب يطلقون اليوم على يوم الغالب ويوم المغلوب. والأحزاب الأمم لأن كل أمة حزب تجمعهم أحوال واحدة وتناصر بينهم فلذلك تسمى الأمة حزبا ، وتقدم عند قوله تعالى : (كُلُّ حِزْبٍ بِما لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ) في سورة المؤمنين [٥٣].

والدأب : العادة والعمل الذي يدأب عليه عامله ، أي يلازمه ويكرره ، وتقدم في قوله تعالى : (كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ) في أول آل عمران [١١].

وانتصب (مِثْلَ دَأْبِ قَوْمِ نُوحٍ) على عطف البيان من (مِثْلَ يَوْمِ الْأَحْزابِ) ولما كان بيانا له كان ما يضافان إليه متحدا لا محالة فصار الأحزاب و (الدأب) في معنى واحد وإنما يتم ذلك بتقدير مضاف متحد فيهما ، فالتقدير : مثل يوم جزاء الأحزاب. مثل يوم جزاء دأب قوم نوح وعاد وثمود ، أي جزاء عملهم. ودأبهم الذي اشتركوا فيه هو الإشراك بالله.

وهذا يقتضي أن القبط كانوا على علم بما حلّ بقوم نوح وعاد وثمود ، فأما قوم نوح فكان طوفانهم مشهورا ، وأما عاد وثمود فلقرب بلادهم من البلاد المصرية وكان عظيما لا

١٨٨

يخفى على مجاوريهم.

وجملة (وَمَا اللهُ يُرِيدُ ظُلْماً لِلْعِبادِ) معترضة ، والواو اعتراضية وهي اعتراض بين كلاميه المتعاطفين ، أي أخاف عليكم جزاء عادلا من الله وهو جزاء الإشراك.

والظلم يطلق على الشرك (إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ) [لقمان : ١٣] ، ويطلق على المعاملة بغير الحق ، وقد جمع قوله : (وَمَا اللهُ يُرِيدُ ظُلْماً لِلْعِبادِ) نفي الظلم بمعنييه على طريقة استعمال المشترك في معنييه. وكذلك فعل (يُرِيدُ) يطلق بمعنى المشيئة كقوله : (ما يُرِيدُ اللهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ) [المائدة : ٦] ويطلق بمعنى المحبة كقوله : (ما أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ) [الذاريات : ٥٧] ، فلما وقع فعل الإرادة في حيّز النفي اقتضى عموم نفي الإرادة بمعنييها على طريقة استعمال المشترك في معنييه ، فالله تعالى لا يحب صدور ظلم من عباده ولا يشاء أن يظلم عباده. وأول المعنيين في الإرادة وفي الظلم أعلق بمقام الإنذار ، والمعنى الثاني تابع للأول لأنه يدل على أن الله تعالى لا يترك عقاب أهل الشرك لأنه عدل ، لأن التوعد بالعقاب على الشرك والظلم أقوى الأسباب في إقلاع الناس عنه ، وصدق الوعيد من متممات ذلك مع كونه مقتضى الحكمة لإقامة العدل.

وتقديم اسم (اللهُ) على الخبر الفعلي لإفادة قصر مدلول المسند على المسند إليه ، وإذ كان المسند واقعا في سياق النفي كان المعنى : قصر نفي إرادة الظلم على الله تعالى قصر قلب ، أي الله لا يريد ظلما للعباد بل غيره يريدونه لهم وهم قادة الشرك وأئمته إذ يدعونهم إليه ويزعمون أن الله أمرهم به قال تعالى : (وَإِذا فَعَلُوا فاحِشَةً قالُوا وَجَدْنا عَلَيْها آباءَنا وَاللهُ أَمَرَنا بِها قُلْ إِنَّ اللهَ لا يَأْمُرُ بِالْفَحْشاءِ) [الأعراف : ٢٨].

هذا على المعنى الأول للظلم ، وأما على المعنى الثاني فالمعنى : ما الله يريد أن يظلم عباده ولكنهم يظلمون أنفسهم باتباع أئمتهم على غير بصيرة كقوله تعالى : (إِنَّ اللهَ لا يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْئاً وَلكِنَّ النَّاسَ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ) [يونس : ٤٤] وبظلمهم دعاتهم وأئمتهم كما قال تعالى : (وَما زادُوهُمْ غَيْرَ تَتْبِيبٍ) [هود : ١٠١] ، فلم يخرج تقديم المسند إليه على الخبر الفعلي في سياق النفي في هذه الآية عن مهيع استعماله في إفادة قصر المسند على المسند إليه فتأمله.

[٣٢ ـ ٣٣] (وَيا قَوْمِ إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ يَوْمَ التَّنادِ (٣٢) يَوْمَ تُوَلُّونَ مُدْبِرِينَ ما لَكُمْ مِنَ اللهِ مِنْ عاصِمٍ وَمَنْ يُضْلِلِ اللهُ فَما لَهُ مِنْ هادٍ (٣٣))

١٨٩

أعقب تخويفهم بعقاب الدنيا الذي حلّ مثله بقوم نوح وعاد وثمود والذين من بعدهم بأن خوّفهم وأنذرهم عذاب الآخرة عاطفا جملته على جملة عذاب الدنيا.

وأقحم بين حرف العطف والمعطوف نداء قومه للغرض الذي تقدم آنفا.

و (يَوْمَ التَّنادِ) هو يوم الحساب والحشر ، سمي (يَوْمَ التَّنادِ) لأن الخلق يتنادون يومئذ : فمن مستشفع ومن متضرع ومن مسلّم ومهنّئ ومن موبّخ ومن معتذر ومن آمر ومن معلن بالطاعة قال تعالى : (يَوْمَ يُنادِيهِمْ) [فصلت : ٤٧] ، (أُولئِكَ يُنادَوْنَ مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ) [فصلت : ٤٤] ، (وَنادى أَصْحابُ الْجَنَّةِ أَصْحابَ النَّارِ) [الأعراف : ٤٤] ، (وَنادى أَصْحابُ النَّارِ أَصْحابَ الْجَنَّةِ) [الأعراف : ٥٠] ، (يَوْمَ نَدْعُوا كُلَّ أُناسٍ بِإِمامِهِمْ) [الإسراء : ٧١] ، (دَعَوْا هُنالِكَ ثُبُوراً) [الفرقان : ١٣] ، (يَوْمَ يَدْعُ الدَّاعِ إِلى شَيْءٍ نُكُرٍ) [القمر : ٦] ونحو ذلك.

ومن بديع البلاغة ذكر هذا الوصف لليوم في هذا المقام ليذكرهم أنه في موقفه بينهم يناديهم ب (يا قوم) ناصحا ومريدا خلاصهم من كل نداء مفزع يوم القيامة ، وتأهيلهم لكل نداء سارّ فيه.

وقرأ الجمهور (يَوْمَ التَّنادِ) بدون ياء في الوصل والوقف وهو غير منون ولكن عومل معاملة المنوّن لقصد الرعاية على الفواصل ، كقول التاسعة من نساء حديث أم زرع : «زوجي رفيع العماد ، طويل النجاد ، كثير الرماد ، قريب البيت من الناد» فحذفت الياء من كلمة (الناد) وهي معرفة.

وقرأ ابن كثير يوم التنادي بإثبات الياء على الأصل اعتبارا بأن الفاصلة هي قوله : (فَما لَهُ مِنْ هادٍ).

و (يَوْمَ تُوَلُّونَ) بدل من (يَوْمَ التَّنادِ) ، والتولي : الرجوع ، والإدبار : أن يرجع من الطريق التي وراءه ، أي من حيث أتى هربا من الجهة التي ورد إليها لأنه وجد فيها ما يكره ، أي يوم تفرّون من هول ما تجدونه. و (مُدْبِرِينَ) حال مؤكدة لعاملها وهو (تُوَلُّونَ).

وجملة (ما لَكُمْ مِنَ اللهِ مِنْ عاصِمٍ) في موضع الحال. والمعنى : حالة لا ينفعكم التولّي.

والعاصم : المانع والحافظ. و (مِنَ اللهِ) متعلق ب (عاصِمٍ) ، و (مِنَ) المتعلقة به للابتداء ، تقول : عصمه من الظالم ، أي جعله في منعة مبتدأة من الظالم. وضمن فعل (عصم) معنى : أنقذ وانتزع ، ومعنى : (مِنَ اللهِ) من عذابه وعقابه لأن المنع إنما تتعلق به المعاني لا الذوات. و (مِنَ) الداخلة على (عاصِمٍ) مزيدة لتأكيد النفي.

١٩٠

وأغنى الكلام على تعدية فعل : (أَخافُ عَلَيْكُمْ مِثْلَ يَوْمِ الْأَحْزابِ) [غافر : ٣٠] عن إعادته هنا.

وجملة (وَمَنْ يُضْلِلِ اللهُ فَما لَهُ مِنْ هادٍ) عطف على جملة (إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ يَوْمَ التَّنادِ) لتضمنها معنى : إني أرشدتكم إلى الحذر من يوم التنادي.

وفي الكلام إيجاز بحذف جمل تدل عليها الجملة المعطوفة. والتقدير : هذا إرشاد لكم فإن هداكم الله عملتم به وإن أعرضتم عنه فذلك لأن الله أضلكم ومن يضلل الله فما له من هاد ، وفي هذه الجملة معنى التذييل.

ومعنى إسناد الإضلال والإغواء ونحوهما إلى الله أن يكون قد خلق نفس الشخص وعقله خلقا غير قابل لمعاني الحق والصواب ، ولا ينفعل لدلائل الاعتقاد الصحيح.

وأراد من هذه الصلة العموم الشامل لكل من حرمه الله التوفيق ، وفيه تعريض بتوقعه أن يكون فرعون وقومه من جملة هذا العموم ، وآثر لهم هذا دون أن يقول : (وَمَنْ يَهْدِ اللهُ فَما لَهُ مِنْ مُضِلٍ) [الزمر : ٣٧] لأنه أحسّ منهم الإعراض ولم يتوسم فيهم مخائل الانتفاع بنصحه وموعظته.

[٣٤ ـ ٣٥] (وَلَقَدْ جاءَكُمْ يُوسُفُ مِنْ قَبْلُ بِالْبَيِّناتِ فَما زِلْتُمْ فِي شَكٍّ مِمَّا جاءَكُمْ بِهِ حَتَّى إِذا هَلَكَ قُلْتُمْ لَنْ يَبْعَثَ اللهُ مِنْ بَعْدِهِ رَسُولاً كَذلِكَ يُضِلُّ اللهُ مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ مُرْتابٌ (٣٤) الَّذِينَ يُجادِلُونَ فِي آياتِ اللهِ بِغَيْرِ سُلْطانٍ أَتاهُمْ كَبُرَ مَقْتاً عِنْدَ اللهِ وَعِنْدَ الَّذِينَ آمَنُوا كَذلِكَ يَطْبَعُ اللهُ عَلى كُلِّ قَلْبِ مُتَكَبِّرٍ جَبَّارٍ (٣٥))

(وَلَقَدْ جاءَكُمْ يُوسُفُ مِنْ قَبْلُ بِالْبَيِّناتِ فَما زِلْتُمْ فِي شَكٍّ مِمَّا جاءَكُمْ بِهِ حَتَّى إِذا هَلَكَ قُلْتُمْ لَنْ يَبْعَثَ اللهُ مِنْ بَعْدِهِ رَسُولاً).

توسم فيهم قلة جدوى النصح لهم وأنهم مصممون على تكذيب موسى فارتقى في موعظتهم إلى اللوم على ما مضى ، ولتذكيرهم بأنهم من ذرية قوم كذّبوا يوسف لما جاءهم بالبينات فتكذيب المرشدين إلى الحق شنشنة معروفة في أسلافهم فتكون سجية فيهم. وتأكيد الخبر ب (قد) ولام القسم لتحقيقه لأنهم مظنة أن ينكروه لبعد عهدهم به.

فالمجيء في قوله : (جاءَكُمْ) مستعار للحصول والظهور والباء للملابسة ، أي ولقد ظهر لكم يوسف ببيّنات. ولا يلزم أن يكون إظهار البينات مقارنا دعوة إلى شرع لأنه لما

١٩١

أظهر البينات وتحققوا مكانته كان عليهم بحكم العقل السليم أن يتبينوا آياته ويستهدوا طريق الهدى والنجاة ، فإن الله لم يأمر يوسف بأن يدعو فرعون وقومه ، لحكمة لعلّها هي انتظار الوقت والحال المناسب الذي ادخره الله لموسى عليه‌السلام.

والبيّنات : الدلائل البينة المظهرة أنه مصطفى من الله للإرشاد إلى الخير ، فكان على كل عاقل أن يتبع خطاه ويترسم آثاره ويسأله عما وراء هذا العالم الماديّ ، بناء على أن معرفة الوحدانية واجبة في أزمان الفترات : إما بالعقل ، أو بما تواتر بين البشر من تعاليم الرسل السابقين على الخلاف بين المتكلمين.

والبينات : إخباره بما هو مغيب عنهم من أحوالهم بطريق الوحي في تعبير الرّؤى ، وكذلك آية العصمة التي انفرد بها من بينهم وشهدت له بها امرأة العزيز وشاهد أهلها حتى قال الملك : (ائْتُونِي بِهِ أَسْتَخْلِصْهُ لِنَفْسِي) [يوسف : ٥٤] ، فكانت دلائل نبوءة يوسف واضحة ولكنهم لم يستخلصوا منها استدلالا يقتفون به أثره في صلاح آخرتهم ، وحرصوا على الانتفاع به في تدبير أمور دنياهم فأودعوه خزائن أموالهم وتدبير مملكتهم ، فقال له الملك : (إِنَّكَ الْيَوْمَ لَدَيْنا مَكِينٌ أَمِينٌ) [يوسف : ٥٤]. ولم يخطر ببالهم أن يسترشدوا به في سلوكهم الديني. فإن قلت : إذا لم يهتدوا إلى الاسترشاد بيوسف في أمور دينهم وألهاهم الاعتناء بتدبير الدنيا عن تدبير الدين فلما ذا لم يدعهم يوسف إلى الاعتقاد بالحق واقتصر على أن سأل من الملك : (اجْعَلْنِي عَلى خَزائِنِ الْأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ) [يوسف : ٥٥].

قلت : لأن الله لم يأمره بالدعوة للإرشاد إلا إذا سئل منه ذلك لحكمة كما علمت آنفا ، فأقامه الله مقام المفتي والمرشد لمن استرشد لا مقام المحتسب المغيّر للمنكر ، و (اللهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ) رسالاته [الأنعام : ١٢٤] ، فلما أقامه الله كذلك وعلم يوسف من قول الملك : (إِنَّكَ الْيَوْمَ لَدَيْنا مَكِينٌ أَمِينٌ) [يوسف : ٥٤] أن الملك لا يريد إلا تدبير مملكته وأمواله ، لم يسأله أكثر مما يفي له بذلك. وأما وجوب طلبهم المعرفة والاسترشاد منه فذلك حق عليهم ، فمعنى : (فَما زِلْتُمْ فِي شَكٍّ مِمَّا جاءَكُمْ بِهِ) الإنحاء على أسلافهم في قلة الاهتمام بالبحث عن الكمال الأعلى وهو الكمال النفساني باتباع الدين القويم ، أي فما زال أسلافكم يشعرون بأن يوسف على أمر عظيم من الهدى غير مألوف لهم ويهرعون إليه في مهماتهم ثم لا تعزم نفوسهم على أن يطلبوا منه الإرشاد في أمور الدين. فهم من أمره في حالة شك ، أي كان حاصل ما بلغوا إليه في شأنه أنهم في شك مما يكشف لهم

١٩٢

عن واجبهم نحوه فانقضت مدة حياة يوسف بينهم وهم في شك من الأمر. فالملام متوجه عليهم لتقصيرهم في طلب ما ينجيهم بعد الموت قال تعالى : (مَنْ كانَ يُرِيدُ الْعاجِلَةَ عَجَّلْنا لَهُ فِيها) [الإسراء : ١٨] الآيتين.

و (حَتَّى) للغاية وغايتها هو مضمون الجملة التي بعدها وهي جملة : (إِذا هَلَكَ) ، و (إِذا) هنا اسم لزمان المضي مجرورة ب (حتى) وليست بظرف ، أي حتى زمن هلاك يوسف قلتم : لن يبعث الله من بعده رسولا ، أي قال أسلافكم في وقت وفاة يوسف : لا يبعث الله في المستقبل أبدا رسولا بعد يوسف ، يعنون : أنا كنا مترددين في الإيمان بيوسف فقد استرحنا من التردد فإنه لا يجيء من يدّعي الرسالة عن الله من بعده ، وهذا قول جرى منهم على عادة المعاندين والمقاومين لأهل الإصلاح والفضل أن يعترفوا بفضلهم بعد الموت تندما على ما فاتهم من خير كانوا يدعونهم إليه.

وفيه ضرب من المبالغة في الكمال في عصره كما يقال : خاتمة المحققين ، وبقية الصالحين ، ومن لا يأتي الزمان بمثله ، وحاصله أنهم كانوا في شك من بعثة رسول واحد ، وأنهم أيقنوا أن من يدّعي الرسالة بعده كاذب فلذلك كذبوا موسى.

ومقالتهم هذه لا تقتضي أنهم كانوا يؤمنون بأنه رسول ضرورة أنهم كانوا في شك من ذلك وإنما أرادوا بها قطع هذا الاحتمال في المستقبل وكشف الشك عن نفوسهم وظاهر هذه الآية أن يوسف كان رسولا لظاهر قوله : (قُلْتُمْ لَنْ يَبْعَثَ اللهُ مِنْ بَعْدِهِ رَسُولاً) أن رسولا محال من ضمير (مِنْ بَعْدِهِ). والوجه أن يكون قوله : (رَسُولاً) مفعول (يَبْعَثَ) وأنه لا يقتضي وصف يوسف به فإنه لم يرد في الأخبار عدّة في الرسل ولا أنه دعا إلى دين في مصر وكيف والله يقول : (ما كانَ لِيَأْخُذَ أَخاهُ فِي دِينِ الْمَلِكِ إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللهُ) [يوسف : ٧٦] ولا شك في أنه نبيء إذا وجد مساغا للإرشاد أظهره كقوله : (يا صاحِبَيِ السِّجْنِ أَأَرْبابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللهُ الْواحِدُ الْقَهَّارُ ما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا أَسْماءً سَمَّيْتُمُوها أَنْتُمْ وَآباؤُكُمْ ما أَنْزَلَ اللهُ بِها مِنْ سُلْطانٍ) [يوسف : ٣٩ ، ٤٠] وقوله : (إِنِّي تَرَكْتُ مِلَّةَ قَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كافِرُونَ وَاتَّبَعْتُ مِلَّةَ آبائِي إِبْراهِيمَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ ما كانَ لَنا أَنْ نُشْرِكَ بِاللهِ مِنْ شَيْءٍ) [يوسف : ٣٧ ، ٣٨].

وعدي فعل (جاءَكُمْ) إلى ضمير المخاطبين. وأسند (فَما زِلْتُمْ) و (قُلْتُمْ) إلى ضميرهم أيضا ، وهم ما كانوا موجودين حينئذ قصدا لحمل تبعة أسلافهم عليهم وتسجيلا عليهم بأن التكذيب للناصحين واضطراب عقولهم في الانتفاع بدلائل الصدق قد ورثوه عن

١٩٣

أسلافهم في جبلّتهم وتقرر في نفوسهم فانتقاله إليهم جيلا بعد جيل كما تقدم في خطاب بني إسرائيل في سورة البقرة [٤٩] : (وَإِذْ نَجَّيْناكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ) ونحوه.

(كَذلِكَ يُضِلُّ اللهُ مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ مُرْتابٌ الَّذِينَ يُجادِلُونَ فِي آياتِ اللهِ بِغَيْرِ سُلْطانٍ أَتاهُمْ كَبُرَ مَقْتاً عِنْدَ اللهِ وَعِنْدَ الَّذِينَ آمَنُوا كَذلِكَ يَطْبَعُ اللهُ عَلى كُلِّ قَلْبِ مُتَكَبِّرٍ جَبَّارٍ) جرى أكثر المفسرين على أن هذه الجمل حكاية لبقية كلام المؤمن وبعضهم جعل بعضها من حكاية كلام المؤمن وبعضها كلاما من الله تعالى ، وذلك من تجويز أن يكون قوله : (الَّذِينَ يُجادِلُونَ) إلخ بدلا أو مبتدأ ، وسكت بعضهم عن ذلك مقتصرا على بيان المعنى دون تصدّ لبيان اتصالها بما قبلها.

والذي يظهر أن قوله : (كَذلِكَ يُضِلُّ اللهُ مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ مُرْتابٌ) إلى قوله : (جَبَّارٍ). كله من كلام الله تعالى معترض بين كلام المؤمن وكلام فرعون فإن هذا من المعاني الإسلامية قصد منه العبرة بحال المكذبين بموسى تعريضا بمشركي قريش ، أي كضلال قوم فرعون يضل الله من هو مسرف مرتاب أمثالكم ، فكذلك يكون جزاؤكم ، ويؤيد هذا الوجه قوله في آخرها : (وَعِنْدَ الَّذِينَ آمَنُوا) فإن مؤمن آل فرعون لم يكن معه مؤمن بموسى وهارون غيره ، وهذا من باب تذكر الشيء بضده ، ومما يزيد يقينا بهذا أن وصف (الَّذِينَ يُجادِلُونَ فِي آياتِ اللهِ) تكرر أربع مرات من أول هذه السورة ، ثم كان هنا وسطا في قوله : (إِنَّ الَّذِينَ يُجادِلُونَ فِي آياتِ اللهِ بِغَيْرِ سُلْطانٍ أَتاهُمْ إِنْ فِي صُدُورِهِمْ إِلَّا كِبْرٌ ما هُمْ بِبالِغِيهِ) [غافر : ٥٦] ، ثم كان خاتمة في قوله : (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُجادِلُونَ فِي آياتِ اللهِ أَنَّى يُصْرَفُونَ) [غافر : ٦٩].

والإشارة في قوله كذلك : إلى الضلال المأخوذ من قوله : (يُضِلُّ اللهُ) أي مثل ذلك الضلال يضل الله المسرفين المرتابين ، أي أن ضلال المشركين في تكذيبهم محمداصلى‌الله‌عليه‌وسلم مثل ضلال قوم فرعون في تكذيبهم موسى عليه‌السلام. والخطاب بالكاف المقترنة باسم الإشارة خطاب للمسلمين.

والمسرف : المفرط في فعل لا خير فيه. والمرتاب : الشديد الريب ، أي الشك.

وإسناد الإضلال إلى الله كإسناد نفي الهداية إليه في قوله : (إِنَّ اللهَ لا يَهْدِي مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذَّابٌ) [غافر : ٢٨] ، وتقدم آنفا.

١٩٤

وقوله : (الَّذِينَ يُجادِلُونَ فِي آياتِ اللهِ) يجوز أن يكون مبتدأ خبره (كَبُرَ مَقْتاً) ويجوز أن يكون بدلا من (من) في قوله : (مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ مُرْتابٌ) فبيّن أن ما صدق (من) جماعة لا واحد ، فروعي في (مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ مُرْتابٌ) لفظ (من) فأخبر عنه بالإفراد ، وروعي في البدل معنى (من) فأبدل منه موصول الجمع. وصلة (الَّذِينَ) عرف بها المشركون من قريش قال تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي آياتِنا لا يَخْفَوْنَ عَلَيْنا) [فصلت: ٤٠] وقال في هذه السورة [٤] : (ما يُجادِلُ فِي آياتِ اللهِ إِلَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَلا يَغْرُرْكَ تَقَلُّبُهُمْ فِي الْبِلادِ).

واختيار المضارع في (يُجادِلُونَ) لإفادة تجدد مجادلتهم وتكررها وأنهم لا ينفكون عنها. وهذا صريح في ذمهم وكناية عن ذم جدالهم الذي أوجب ضلالهم.

وفي الموصولية إيماء إلى علة إضلالهم ، أي سبب خلق الضلال في قلوبهم الإسراف بالباطل تكرر مجادلتهم قصدا للباطل. والمجادلة : تكرير الاحتجاج لإثبات مطلوب المجادل وإبطال مطلوب من يخالفه قال تعالى : (وَجادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ) [النحل : ١٢٥] ، فمن المجادلة في آيات الله المحاجّة لإبطال دلالتها ، ومنها المكابرة فيها كما قالوا : (قُلُوبُنا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونا إِلَيْهِ وَفِي آذانِنا وَقْرٌ وَمِنْ بَيْنِنا وَبَيْنِكَ حِجابٌ) [فصلت : ٥] ، ومنها قطع الاستماع لها ، كما قال عبد الله بن أبيّ بن سلول في وقت صراحة كفره للنبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم وقد جاء النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم مجلسا فيه ابن سلول فقرأ عليهم القرآن فقال عبد الله بن سلول لا أحسن مما تقول أيّها المرء ولا تغشنا به في مجالسنا واجلس في رحلك فمن جاءك فاقرأ عليه.

و (بِغَيْرِ سُلْطانٍ) متعلق ب (يُجادِلُونَ) ، والباء للاستعانة ، والسلطان : الحجة.

والمعنى : أنهم يجادلون بما ليس بحجة ولكن باللّجاج والاستهزاء. و (أَتاهُمْ) صفة ل (سُلْطانٍ). والإتيان مستعار للظهور والحصول.

وحصول الحجة هو اعتقادها ولوحها في العقل ، أي يجادلون جدلا ليس مما تثيره العقول والنظر الفكري ولكنه تمويه وإسكات.

وجملة (كَبُرَ مَقْتاً عِنْدَ اللهِ) خبر إن من باب الإخبار بالإنشاء ، وهي إنشاء ذمّ جدالهم المقصود منه كمّ فم الحق ، أي كبر جدالهم مقتا عند الله ، ففاعل (كَبُرَ) ضمير الجدال المأخوذ من (يُجادِلُونَ) على طريقة قوله : (اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوى) [المائدة: ٨].

١٩٥

و (مَقْتاً) تمييز للكبر وهو تمييز نسبة محول عن الفاعل ، والتقدير : كبر مقت جدالهم.

وفعل (كَبُرَ) هنا ملحق بأفعال الذم مثل : ساء ، لأن وزن فعل بضم العين يجيء بمعنى : نعم وبئس ، ولو كانت ضمة عينه أصلية وبهذا تفظيع بالصراحة بعد أن استفيد من صلة الموصول أن جدالهم هو سبب إضلالهم ذلك الإضلال المكين ، فحصل بهذا الاستئناف تقرير فظاعة جدالهم بطريقي الكناية والتصريح.

والكبر : مستعار للشدة ، أي مقت جدالهم مقتا شديدا. والمقت : شدة البغض ، وهو كناية عن شدة العقاب على ذلك من الله. وكونه مقتا عند الله تشنيع لهم وتفظيع.

أما عطف (وَعِنْدَ الَّذِينَ آمَنُوا) فلم أر في التفاسير الكثيرة التي بين يدي من عرج على فائدة عطف (وَعِنْدَ الَّذِينَ آمَنُوا) ما عدا المهائمي في «تبصرة الرحمن» إذ قال : (كَبُرَ مَقْتاً عِنْدَ اللهِ) وهو موجب للإضلال ، ويدل على أنه كبر مقتا أنه عند الذين آمنوا ، وهم المظاهر التي يظهر فيها ظهور الحق ا ه. وكلمة المهائمي كلمة حسنة يعني أن كونه مقتا عند الله لا يحصل في علم الناس إلا بالخبر فزيد الخبر تأييدا بالمشاهدة فإن الذين آمنوا على قلتهم يومئذ يظهر بينهم بغض مجادلة المشركين.

وعندي : أن أظهر من هذا أنّ الله أراد التنويه بالمؤمنين ولم يرد إقناع المشركين فإنهم لا يعبئون ببغض المؤمنين ولا يصدقون ببغض الله إيّاهم ، فالمقصود الثناء على المؤمنين بأنهم يكرهون الباطل ، كما قال : (وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِناتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ) [التوبة : ٧١] مع الإشارة إلى تبجيل مكانتهم بأن ضمت عنديتهم إلى عندية الله تعالى على نحو قوله تعالى : (شَهِدَ اللهُ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلائِكَةُ وَأُولُوا الْعِلْمِ) [آل عمران : ١٨] وقوله : يا أيها النبي (حَسْبُكَ اللهُ وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ) [الأنفال : ٦٤] وقوله : (هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ) [الأنفال : ٦٢] ونحو قول النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم لما ذكر حديث كلام الذئب فتعجب بعض من حضر فقال : «آمنت بذلك وأبو بكر» ولم يكن أبو بكر في المجلس.

وفي إسناد كراهية الجدال في آيات الله بغير سلطان للمؤمنين تلقين للمؤمنين بالإعراض عن مجادلة المشركين على نحو ما في قوله تعالى : (وَإِذا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ) [القصص : ٥٥] ، وقوله : (وَإِذا خاطَبَهُمُ الْجاهِلُونَ قالُوا سَلاماً) [الفرقان : ٦٣] وقوله : (وَإِذا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِراماً) [الفرقان : ٧٢].

١٩٦

والقول في (كَذلِكَ يَطْبَعُ اللهُ عَلى كُلِّ قَلْبِ مُتَكَبِّرٍ جَبَّارٍ) كالقول في (كَذلِكَ يُضِلُّ اللهُ مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ مُرْتابٌ).

والطبع : الختم ، وتقدم في قوله تعالى : (خَتَمَ اللهُ عَلى قُلُوبِهِمْ) في سورة البقرة [٧].

والختم والطبع والأكنّة : خلق الضلالة في القلب ، أي النفس. والمتكبر : ذو الكبر المبالغ فيه ولذلك استعيرت صيغة التكلف. والجبّار : مثال مبالغة من الجبر ، وهو الإكراه ، فالجبار : الذي يكره الناس على ما لا يحبون عمله لظلمه.

وقرأ الجمهور : (عَلى كُلِّ قَلْبِ مُتَكَبِّرٍ) بإضافة (قَلْبِ) إلى (مُتَكَبِّرٍ). وقرأ أبو عمرو وحده وابن ذكوان عن ابن عامر بتنوين (قَلْبِ) على أن يكون (مُتَكَبِّرٍ) و (جَبَّارٍ) صفتين ل (قَلْبِ) ، ووصف القلب بالتكبر والجبر مجاز عقلي. والمقصود وصف صاحبه كقوله تعالى : (فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ) [البقرة : ٢٨٣] لأنه سبب الإثم كما يقال : رأت عيني وسمعت أذني.

[٣٦ ـ ٣٧] (وَقالَ فِرْعَوْنُ يا هامانُ ابْنِ لِي صَرْحاً لَعَلِّي أَبْلُغُ الْأَسْبابَ (٣٦) أَسْبابَ السَّماواتِ فَأَطَّلِعَ إِلى إِلهِ مُوسى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ كاذِباً وَكَذلِكَ زُيِّنَ لِفِرْعَوْنَ سُوءُ عَمَلِهِ وَصُدَّ عَنِ السَّبِيلِ وَما كَيْدُ فِرْعَوْنَ إِلاَّ فِي تَبابٍ (٣٧))

(وَقالَ فِرْعَوْنُ يا هامانُ ابْنِ لِي صَرْحاً لَعَلِّي أَبْلُغُ الْأَسْبابَ (٣٦) أَسْبابَ السَّماواتِ فَأَطَّلِعَ إِلى إِلهِ مُوسى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ كاذِباً)

هذه مقالة أخرى لفرعون في مجلس آخر غير المجلس الذي حاجّه فيه موسى ولذلك عطف قوله بالواو كما أشرنا إليه فيما عطف من الأقوال السابقة آنفا ، وكما أشرنا إليه في سورة القصص ، وتقدم الكلام هنالك مستوفى على نظير معنى هذه الآية على حسب ظاهرها ، وتقدم ذكر (هامان) والصرح هنالك.

وقد لاح لي هنا محمل آخر أقرب أن يكون المقصود من الآية ينتظم مع ما ذكرناه هنالك في الغاية ويخالفه في الدلالة ، وذلك أن يكون فرعون أمر ببناء صرح لا لقصد الارتقاء إلى السماوات بل ليخلو بنفسه رياضة ليستمد الوحي من الربّ الذي ادعى موسى أنه أوحى إليه إذ قال : (إِنَّا قَدْ أُوحِيَ إِلَيْنا أَنَّ الْعَذابَ عَلى مَنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى) [طه : ٤٨]

١٩٧

فإن الارتياض في مكان منعزل عن الناس كان من شعار الاستيحاء الكهنوتي عندهم ، وكان فرعون يحسب نفسه أهلا لذلك لزعمه أنه ابن الآلهة وحامي الكهنة والهياكل. وإنما كان يشغله تدبير أمر المملكة فكان يكل شئون الديانة إلى الكهنة في معابدهم ، فأراد في هذه الأزمة الجدلية أن يتصدى لذلك بنفسه ليكون قوله الفصل في نفي وجود إله آخر تضليلا لدهماء أمته ، لأنه أراد التوطئة للإخبار بنفي إله أخر غير آلهتهم فأراد أن يتولى وسائل النفي بنفسه كما كانت لليهود محاريب للخلوة للعبادة كما تقدم عند قوله تعالى : (فَخَرَجَ عَلى قَوْمِهِ مِنَ الْمِحْرابِ) [مريم : ١١] وقوله : (كُلَّما دَخَلَ عَلَيْها زَكَرِيَّا الْمِحْرابَ) [آل عمران : ٣٧] ومن اتخاذ الرهبان النصارى صوامع في أعالي الجبال للخلوة للتعبد ، ووجودها عند هذه الأمم يدل على أنه موجودة عند الأمم المعاصرة لهم والسابقة عليهم.

والأسباب : جمع سبب ، والسبب ما يوصّل إلى مكان بعيد ، فيطلق السبب على الطريق ، ويطلق على الحبل لأنهم كانوا يتوصلون به إلى أعلى النخيل. والمراد هنا : طرق السماوات ، كما في قول زهير :

ومن هاب أسباب المنايا ينلنه

وإن يرق أسباب السماء بسلّم

وانتصب (أَسْبابَ السَّماواتِ) على البدل المطابق لقوله : (الْأَسْبابَ). وجيء بهذا الأسلوب من الإجمال ثم التفصيل للتشويق إلى المراد بالأسباب تفخيما لشأنها وشأن عمله لأنه أمر عجيب ليورد على نفس متشوقة إلى معرفته وهي نفس (هامان).

والاطّلاع بتشديد الطاء مبالغة في الطلوع ، والطلوع : الظهور. والأكثر أن يكون ظهورا من ارتفاع ، ويعرف ذلك أو عدمه بتعدية الفعل فإن عدي بحرف (على) فهو الظهور من ارتفاع ، وإن عدي بحرف (إلى) فهو ظهور مطلق.

وقرأ الجمهور : (فَأَطَّلِعَ) بالرفع تفريعا على (أَبْلُغُ) كأنه قيل : أبلغ ثم اطّلع ، وقرأه حفص عن عاصم بالنصب على جواب الترجي لمعاملة الترجي معاملة التمني وإن كان ذلك غير مشهور ، والبصريون ينكرونه كأنه قيل : متى بلغت اطلعت ، وقد تكون له هاهنا نكتة وهي استعارة حرف الرجاء إلى معنى التمني على وجه الاستعارة التبعية إشارة إلى بعد ما ترجاه ، وجعل نصب الفعل بعده قرينة على الاستعارة.

وبين (إِلى) و (إِلهِ) الجناس الناقص بحرف كما ورد مرتين في قول أبي تمام :

يمدّون من أيد عواص عواصم

تصول بأسياف قواض قواضب

١٩٨

وجملة (وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ كاذِباً) معترضة للاحتراس من أن يظن (هامان) وقومه أن دعوة موسى أوهنت منه يقينه بدينه وآلهته وأنه يروم أن يبحث بحث متأمل ناظر في أدلة المعرفة فحقق لهم أنه ما أراد بذلك إلا نفي ما ادعاه موسى بدليل الحس. وجيء بحرف التوكيد المعزّز بلام الابتداء لينفي عن نفسه اتهام وزيره إياه بتزلزل اعتقاده في دينه. والمعنى : إني أفعل ذلك ليظهر كذب موسى.

والظن هنا مستعمل في معنى اليقين والقطع ، ولذلك سمى الله عزمه هذا كيدا في قوله: (وَما كَيْدُ فِرْعَوْنَ إِلَّا فِي تَبابٍ).

(وَكَذلِكَ زُيِّنَ لِفِرْعَوْنَ سُوءُ عَمَلِهِ وَصُدَّ عَنِ السَّبِيلِ وَما كَيْدُ فِرْعَوْنَ إِلَّا فِي تَبابٍ) جملة (وَكَذلِكَ زُيِّنَ لِفِرْعَوْنَ) عطف على جملة (وَقالَ فِرْعَوْنُ) لبيان حال اعتقاده وعمله بعد أن بين حال أقواله ، والمعنى : أنه قال قولا منبعثا عن ضلال اعتقاد ومغريا بفساد الأعمال. ولهذا الاعتبار اعتبار جميع أحوال فرعون لم تفصل هذه الجملة عن التي قبلها إذ لم يقصد بها ابتداء قصة أخرى ، وهذا مما سموه بالتوسط بين كمالي الاتصال والانقطاع في باب الفصل والوصل من علم المعاني. وافتتاحها ب (كَذلِكَ) كافتتاح قوله تعالى : (وَكَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً) في سورة البقرة [١٤٣] ، أي مثل ذلك التزيين أي تزيين عمل فرعون زيّن له سوء عمله مبالغة في أن تزيين عمله له بلغ من القوة في نوعه ما لا يوجد له شبه يشبّه به فمن أراد تشبيهه فليشبّهه بعينه.

وبني فعل (زُيِّنَ) إلى المجهول لأن المقصود معرفة مفعول التزيين لا معرفة فاعله ، أي حصل له تزيين سوء عمله في نفسه فحسب الباطل حقّا والضلال اهتداء.

وقرأ الجمهور : (وَصُدَّ) بفتح الصاد وهو يجوز اعتباره قاصرا الذي مضارعه يصدّ بكسر الصاد ، ويجوز اعتباره متعديا الذي مضارعه يصد بضم الصاد ، أي أعرض عن السبيل ومنع قومه اتباع السبيل. وقرأه حمزة والكسائي وعاصم بضم الصاد.

والقول فيه كالقول في : (زُيِّنَ لِفِرْعَوْنَ سُوءُ عَمَلِهِ).

وتعريف (السَّبِيلِ) للعهد ، أي سبيل الله ، أو سبيل الخير ، أو سبيل الهدى. ويجوز أن يكون التعريف للدلالة على الكمال في النوع ، أي صد عن السبيل الكامل الصالح.

وجملة (وَما كَيْدُ فِرْعَوْنَ إِلَّا فِي تَبابٍ) عطف على جملة (وَكَذلِكَ زُيِّنَ لِفِرْعَوْنَ سُوءُ عَمَلِهِ) ، والمراد بكيده ما أمر به من بناء الصرح والغاية منه ، وسمي كيدا لأنه عمل

١٩٩

ليس المراد به ظاهره بل أريد به الإفضاء إلى إيهام قومه كذب موسى عليه‌السلام.

والتباب : الخسران والهلاك ، ومنه : (تَبَّتْ يَدا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَ) [المسد : ١] ، وحرف الظرفية استعارة تبعية لمعنى شدة الملابسة كأنه قيل : «وما كيد فرعون إلّا بتباب شديد». والاستثناء من أحوال مقدرة.

[٣٨ ـ ٤٠] (وَقالَ الَّذِي آمَنَ يا قَوْمِ اتَّبِعُونِ أَهْدِكُمْ سَبِيلَ الرَّشادِ (٣٨) يا قَوْمِ إِنَّما هذِهِ الْحَياةُ الدُّنْيا مَتاعٌ وَإِنَّ الْآخِرَةَ هِيَ دارُ الْقَرارِ (٣٩) مَنْ عَمِلَ سَيِّئَةً فَلا يُجْزى إِلاَّ مِثْلَها وَمَنْ عَمِلَ صالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ يُرْزَقُونَ فِيها بِغَيْرِ حِسابٍ (٤٠))

هذا مقال في مقام آخر قاله مؤمن آل فرعون ، فهذه المقالات المعطوفة بالواو مقالات متفرقة. فابتدأ موعظته بندائهم ليلفت إليه أذهانهم ويستصغي أسماعهم ، وبعنوان أنهم قومه لتصغى إليه أفئدتهم. ورتب خطبته على أسلوب تقديم الإجمال ثم تعقيبه بالتفصيل ، فابتدأ بقوله : (اتَّبِعُونِ أَهْدِكُمْ سَبِيلَ الرَّشادِ) ، وسبيل الرشاد مجمل وهو على إجماله مما تتوق إليه النفوس ، فربط حصوله باتّباعهم إيّاه مما يقبل بهم على تلقّي ما يفسر هذا السبيل ، ويسترعي أسماعهم إلى ما يقوله إذ لعله سيأتيهم بما ترغبه أنفسهم إذ قد يظنون أنه نقح رأيه ونخل مقاله وأنه سيأتي بما هو الحق الملائم لهم. وتقدم ذكر (سَبِيلَ الرَّشادِ) آنفا.

وأعاد النداء تأكيدا لإقبالهم إذ لاحت بوارقه فأكمل مقدمته بتفصيل ما أجمله يذكرهم بأن الحياة الدنيا محدودة بأجل غير طويل ، وأن وراءها حياة أبدية ، لأنه علم أن أشدّ دفاعهم عن دينهم منبعث عن محبة السيادة والرفاهية ، وذلك من متاع الدنيا الزائل وأن الخير لهم هو العمل للسعادة الأبدية. وقد بنى هذه المقدمة على ما كانوا عليه من معرفة أن وراء هذه الحياة حياة أبدية فيها حقيقة السعادة والشقاء ، وفيها الجزاء على الحسنات والسّيئات بالنعيم أو العذاب ، إذ كانت ديانتهم تثبت حياة أخرى بعد الحياة الدنيا ولكنها حرفت معظم وسائل السعادة والشقاوة ، فهذه حقائق مسلّمة عندهم على إجمالها وهي من نوع الأصول الموضوعة في صناعة الجدل ، وبذلك تمّت مقدمة خطبته وتهيأت نفوسهم لبيان مقصده المفسّر لإجمال مقدمته.

فجملة (إِنَّما هذِهِ الْحَياةُ الدُّنْيا مَتاعٌ) مبينة لجملة (أَهْدِكُمْ سَبِيلَ الرَّشادِ). والمتاع :

٢٠٠