تفسير التّحرير والتّنوير - ج ٢٤

الشيخ محمّد الطاهر ابن عاشور

تفسير التّحرير والتّنوير - ج ٢٤

المؤلف:

الشيخ محمّد الطاهر ابن عاشور


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة التاريخ العربي للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٢٦٨

وهي الأجل المسمّى أي الموت فلا طور بعد الشيخوخة. وأما الأجل المقدّر للذين يهلكون قبل أن يبلغوا الشيخوخة فقد استفيد من قوله : (وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى مِنْ قَبْلُ) أن من قبل بعض هذه الأطوار ، أي يتوفى قبل أن يخرج طفلا وهو السقط أو قبل أن يبلغ الأشدّ ، أو يتوفّى قبل أن يكون شيخا. ولتعلقه بما يليه خاصة عطف عليه بالواو ولم يعطف ب (ثم) كما عطفت المجرورات الأخرى ، والمعنى : أن الله قدّر انقراض الأجيال وخلقها بأجيال أخرى ، فالحي غايته الفناء وإن طالت حياته ، ولمّا خلقه على حالة تؤول إلى الفناء لا محالة كان عالما بأن من جملة الغايات في ذلك الخلق أن يبلغوا أجلا.

وبني (قَبْلُ) على الضم على نية معنى المضاف إليه ، أي من قبل ما ذكر. والأشدّ: القوة في البدن ، وهو ما بين ثمان عشرة سنة إلى الثلاثين وتقدم في سورة يوسف [٢٢].

وشيوخ : جمع شيخ ، وهو من بلغ سن الخمسين إلى الثمانين ، وتقدم عند قوله تعالى: (وَهذا بَعْلِي شَيْخاً) في سورة هود [٧٢]. ويجوز في (شيوخ) ضم الشين. وبه قرأ نافع وأبو عمرو وحفص عن عاصم وأبو جعفر ويعقوب وخلف. ويجوز كسر الشين وبه قرأ ابن كثير وحمزة ، والكسائي.

وقوله : (وَلَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ) عطف على (وَلِتَبْلُغُوا أَجَلاً مُسَمًّى) أي أن من جملة ما أراده الله من خلق الإنسان على الحالة المبينة ، أن تكون في تلك الخلقة دلالة لآحاده على وجود هذا الخالق الخلق البديع ، وعلى انفراده بالإلهية ، وعلى أن ما عداه لا يستحق وصف الإلهية ، فمن عقل ذلك من الناس فقد اهتدى إلى ما أريد منه ومن لم يعقل ذلك فهو بمنزلة عديم العقل. ولأجل هذه النكتة لم يؤت لفعل (تَعْقِلُونَ) بمفعول ولا بمجرور لأنه نزل منزلة اللازم ، أي رجاء أن يكون لكم عقول فهو مراد لله من ذلك الخلق فمن حكمته أن جعل ذلك الخلق العجيب علة لأمور كثيرة.

(هُوَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ فَإِذا قَضى أَمْراً فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (٦٨))

استئناف خامس ومناسبة موقعه من قوله : (هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ تُرابٍ) إلى قوله: (ثُمَّ يُخْرِجُكُمْ طِفْلاً) إلى (وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى مِنْ قَبْلُ وَلِتَبْلُغُوا أَجَلاً مُسَمًّى وَلَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ) [غافر : ٦٧] فإن من أول ما يرجى أن يعقلوه هو ذلك التصرف البديع بخلق الحياة في الإنسان عند تكوينه بعد أن كان جثة لا حياة فيها ، وخلق الموت فيه عند انتهاء أجله بعد أن كان حيا متصرفا بقوته وتدبيره.

٢٤١

فمعنى (يُحْيِي) يوجد المخلوق حيّا. ومعنى (يُمِيتُ) أنه يعدم الحياة عن الذي كان حيّا ، وهذا هو محل العبرة. وأما إمكان الإحياء بعد الإماتة فمدلول بدلالة قياس التمثيل العقلي وليس هو صريح الآية. والمقصود الامتنان بالحياة تبعا لقوله قبل هذا : (هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ تُرابٍ) إلى قوله : (ثُمَّ يُخْرِجُكُمْ طِفْلاً) [غافر : ٦٧].

وفي قوله : (يُحْيِي وَيُمِيتُ) المحسن البديعي المسمى الطّباق. وفرع على هذا الخبر إخبار بأنه إذا أراد أمرا من أمور التكوين من إحياء أو إماتة أو غيرهما فإنه يقدر على فعله دون تردّد ولا معالجة ، بل بمجرد تعلق قدرته بالمقدور وذلك التعلق هو توجيه قدرته للإيجاد أو الإعدام. فالفاء من قوله : (فَإِذا قَضى) فاء تفريع الإخبار بما بعدها على الإخبار بما قبلها.

وقول : (كُنْ) تمثيل لتعلق القدرة بالمقدور بلا تأخير ولا عدّة ولا معاناة وعلاج بحال من يرد إذن غيره بعمل فلا يزيد على أن يوجه إليه أمرا فإن صدور القول عن القائل أسرع أعمال الإنسان وأيسر ، وقد اختير لتقريب ذلك أخصر فعل وهو (كُنْ) المركب من حرفين متحرك وساكن.

[٦٩ ـ ٧٢] (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُجادِلُونَ فِي آياتِ اللهِ أَنَّى يُصْرَفُونَ (٦٩) الَّذِينَ كَذَّبُوا بِالْكِتابِ وَبِما أَرْسَلْنا بِهِ رُسُلَنا فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (٧٠) إِذِ الْأَغْلالُ فِي أَعْناقِهِمْ وَالسَّلاسِلُ يُسْحَبُونَ (٧١) فِي الْحَمِيمِ ثُمَّ فِي النَّارِ يُسْجَرُونَ (٧٢))

بنيت هذه السورة على إبطال جدل الذين يجادلون في آيات الله جدال التكذيب والتورّك كما تقدم في أول السورة إذ كان من أولها قوله : (ما يُجادِلُ فِي آياتِ اللهِ إِلَّا الَّذِينَ كَفَرُوا) [غافر : ٤] وتكرر ذلك خمس مرات فيها ، فنبه على إبطال جدالهم في مناسبات الإبطال كلها إذ ابتدئ بإبطاله على الإجمال عقب الآيات الثلاث من أولها بقوله: (ما يُجادِلُ فِي آياتِ اللهِ إِلَّا الَّذِينَ كَفَرُوا) [غافر : ٤] ثم بإبطاله بقوله : (الَّذِينَ يُجادِلُونَ فِي آياتِ اللهِ بِغَيْرِ سُلْطانٍ أَتاهُمْ كَبُرَ مَقْتاً عِنْدَ اللهِ) [غافر : ٣٥] ، ثم بقوله : (إِنَّ الَّذِينَ يُجادِلُونَ فِي آياتِ اللهِ بِغَيْرِ سُلْطانٍ أَتاهُمْ إِنْ فِي صُدُورِهِمْ إِلَّا كِبْرٌ) [غافر : ٥٦] ثم بقوله : (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُجادِلُونَ فِي آياتِ اللهِ أَنَّى يُصْرَفُونَ).

وذلك كله إيماء إلى أن الباعث لهم على المجادلة في آيات الله هو ما اشتمل عليه القرآن من إبطال الشرك فلذلك أعقب كل طريقة من طرائق إبطال شركهم بالإنحاء على جدالهم في آيات الله ، فجملة (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُجادِلُونَ فِي آياتِ اللهِ) مستأنفة للتعجيب

٢٤٢

من حال انصرافهم عن التصديق بعد تلك الدلائل البيّنة. والاستفهام مستعمل في التقرير وهو منفي لفظا ، والمراد به : التقرير على الإثبات ، كما تقدم غير مرة ، منها عند قوله : (قالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ) في سورة البقرة [٢٦٠].

والرؤية علمية ، وفعلها معلق عن العمل بالاستفهام ب (أَنَّى يُصْرَفُونَ) ، و (أنّى) بمعنى (كيف) ، وهي مستعملة في التعجيب مثل قوله : (أَنَّى يَكُونُ لِي وَلَدٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ) [آل عمران : ٤٧] أي أرأيت عجيب انصرافهم عن التصديق بالقرآن بصارف غير بيّن منشؤه ، ولذلك بني فعل (يُصْرَفُونَ) للنائب لأن سبب صرفهم عن الآيات ليس غير أنفسهم. ويجوز أن تكون (أنّى) بمعنى (أين) ، أي ألا تعجب من أين يصرفهم صارف عن الإيمان حتى جادلوا في آيات الله مع أن شبه انصرافهم عن الإيمان منتفية بما تكرر من دلائل الآفاق وأنفسهم وبما شاهدوا من عاقبة الذين جادلوا في آيات الله ممن سبقهم ، وهذا كما يقول المتعجب من فعل أحد «أين يذهب بك».

وبناء فعل (يُصْرَفُونَ) للمجهول على هذا الوجه للتعجيب من الصارف الذي يصرفهم وهو غير كائن في مكان غير نفوسهم.

وأبدل (الَّذِينَ كَذَّبُوا بِالْكِتابِ) من (الَّذِينَ يُجادِلُونَ) لأن صلتي الموصولين صادقتان على شيء واحد ، فالتكذيب هو ما صدق الجدال ، والكتاب : القرآن.

وعطف (وَبِما أَرْسَلْنا بِهِ رُسُلَنا) يجوز أن يكون على أصل العطف مقتضيا المغايرة ، فيكون المراد : وبما أرسلنا به رسلنا من الكتب قبل نزول القرآن ، فيكون تكذيبهم ما أرسلت به الرسل مرادا به تكذيبهم جميع الأديان كقوله تعالى : (وَما قَدَرُوا اللهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِذْ قالُوا ما أَنْزَلَ اللهُ عَلى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ) [الأنعام : ٩١] ، ويحتمل أنه أريد به التكذيب بالبعث فلعلهم لما جاءهم محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم بإثبات البعث سألوا عنه أهل الكتاب فأثبتوه فأنكر المشركون جميع الشرائع لذلك. ويجوز أن يكون عطف مرادف ، فائدته التوكيد ، والمراد ب (رُسُلَنا) محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم كقوله : (كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ الْمُرْسَلِينَ) [الشعراء : ١٠٥] يعني الرسول نوحا على أن في العطف فائدة زائدة على ما في المعطوف عليه وهي أن مما جاء به الرسولصلى‌الله‌عليه‌وسلم مواعظ وإرشادا كثيرا ليس من القرآن.

وتفرع على تكذيبهم وعيدهم بما سيلقونه يوم القيامة فقيل فسوف يعلمون ، أي سوف يجدون العذاب الذي كانوا يجادلون فيه فيعلمونه. وعبر عن وجدانهم العذاب بالعلم به بمناسبة استمرارهم على جهلهم بالبعث وتظاهرهم بعدم فهم ما يقوله الرسولصلى‌الله‌عليه‌وسلم فأنذروا

٢٤٣

بأن ما جهلوه سيتحققونه يومئذ كقول الناس : ستعرف منه ما تجهل ، قال أبو علي البصير:

فتذم رأيك في الذين خصصتهم

دوني وتعرف منهم ما تجهل

وحذف مفعول (يَعْلَمُونَ) لدلالة (كَذَّبُوا بِالْكِتابِ) عليه ، أي يتحققون ما كذبوا به. والظرف الذي في قوله : (إِذِ الْأَغْلالُ فِي أَعْناقِهِمْ) متعلق ب (يَعْلَمُونَ) أي يعلمون في ذلك الزمن. وشأن (إذ) أن تكون اسما للزمن الماضي واستعملت هنا للزمن المستقبل بقرينة (سوف) فهو إما استعمال المجاز بعلاقة الإطلاق ، وإما استعارة تبعية للزمن المستقبل المحقق الوقوع تشبيها بالزمن الماضي وقد تكرر ذلك. ومنه اقترانها ب (يوم) في نحو قوله : (يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبارَها) [الزلزلة : ٤] ، وقوله : (يَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ بِنَصْرِ اللهِ) [الروم : ٤ ، ٥]. وأول ما يعلمونه حين تكون الأغلال في أعناقهم أنهم يتحققون وقوع البعث.

والأغلال : جمع غل ، بضم العين ، وهو حلقة من قدّ أو حديد تحيط بالعنق تناط بها سلسلة من حديد ، أو سير من قدّ يمسك بها المجرم والأسير.

والسلاسل : جمع سلسلة بكسر السينين وهي مجموع حلق غليظة من حديد متصل بعضها ببعض.

ومن المسائل ما رأيته أن الشيخ ابن عرفة كان يوما في درسه في التفسير سئل : هل تكون هذه الآية سندا لما يفعله أمراء المغرب أصلحهم الله من وضع الجناة بالأغلال والسلاسل جريا على حكم القياس على فعل الله في العقوبات كما استنبطوا بعض صور عقاب من عمل قوم لوط من الرجم بالحجارة ، أو الإلقاء من شاهق. فأجاب بالمنع لأن وضع الغل في العنق ضرب من التمثيل وإنما يوثق الجاني من يده ، قال : لأنهم إنما قاسوا على فعل الله في الدنيا ولا يقاس على تصرفه في الآخرة لنهي النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن الإحراق بالنار ، وقوله : «إنما يعذب بها رب العزة».

وجملة (يُسْحَبُونَ فِي الْحَمِيمِ) حال من ضمير (أَعْناقِهِمْ) أو من ضمير (يَعْلَمُونَ). والسّحب : الجرّ ، وهو يجمع بين الإيلام والإهانة. والحميم : أشد الحرّ.

و (ثمّ) عاطفة جملة (فِي النَّارِ يُسْجَرُونَ) على جملة (يُسْحَبُونَ فِي الْحَمِيمِ). وشأن (ثمّ) إذا عطفت الجمل أن تكون للتراخي الرتبي وذلك أن احتراقهم بالنار أشد في تعذيبهم من سحبهم على النار ، فهو ارتقاء في وصف التعذيب الذي أجمل بقوله : (فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ) والسّجر بالنار حاصل عقب السحب سواء كان بتراخ أم بدونه.

٢٤٤

والسجر : ملء التنور بالوقود لتقوية النار فيه ، فإسناد فعل (يُسْجَرُونَ) إلى ضمير هم إسناد مجازي لأن الذي يسجر هو مكانهم من جهنم ، فأريد بإسناد المسجور إليهم المبالغة في تعلق السجر بهم ، أو هو استعارة تبعية بتشبيههم بالتنور في استقرار النار بباطنهم كما قال تعالى : (يُصْهَرُ بِهِ ما فِي بُطُونِهِمْ وَالْجُلُودُ) [الحج : ٢٠].

[٧٣ ـ ٧٦] (ثُمَّ قِيلَ لَهُمْ أَيْنَ ما كُنْتُمْ تُشْرِكُونَ (٧٣) مِنْ دُونِ اللهِ قالُوا ضَلُّوا عَنَّا بَلْ لَمْ نَكُنْ نَدْعُوا مِنْ قَبْلُ شَيْئاً كَذلِكَ يُضِلُّ اللهُ الْكافِرِينَ (٧٤) ذلِكُمْ بِما كُنْتُمْ تَفْرَحُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَبِما كُنْتُمْ تَمْرَحُونَ (٧٥) ادْخُلُوا أَبْوابَ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها فَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ (٧٦))

(ثمّ) هذه للتراخي الرتبي لا محالة لأن هذا القول يقال لهم قبل دخول النار ، بدليل أن مما وقع في آخر القول : (ادْخُلُوا أَبْوابَ جَهَنَّمَ) ، ودخول أبواب جهنم قبل السحب في حميمها والسّجر في نارها. وهذا القيل ارتقاء في تقريعهم وإعلان خطل آرائهم بين أهل المحشر وهو أشد على النفس من ألم الجسم ، ولأن هذا القول مقدمة لتسليط العذاب عليهم لاشتماله على بيان سبب العذاب من عبادة الأصنام وازدهائهم في الأرض بكفرهم ومرحهم ، وهو أيضا ارتقاء في وصف أحوالهم الدالة على نكالهم إذ ارتقى من صفة جزائهم على إشراكهم وهو شيء غير مستغرب ترتّبه على الشرك إلى وصف تحقيرهم آلهتهم التي كانوا يعبدونها وذلك غريب من أحوالهم وأشدّ دلالة على بطلان إلهية أصنامهم وهو المقصد المهم من القوارع التي سلطت عليهم في هذه السورة. فموقع المعطوف ب (ثمّ) هنا كموقع المعطوف بها في قول أبي نواس :

قل إن ساد ثم ساد أبوه

قبله ثم ساد من قبل جدّه

من حيث كانت سيادة جدّه أرسخت له سيادة أبيه وأعقبت سيادة نفسه ، وهذا استعمال موجود بكثرة. وصيغ (قيل) بصيغة المضيّ لأنه محقق الوقوع فكأنه وقع ومضى وكذلك فعل (قالُوا ضَلُّوا).

والقائل لهم : ناطق بإذن الله. و (أين) للاستفهام عن مكان الشيء المجهول المكان ، والاستفهام هنا مستعمل في التنبيه على الغلط والفضيحة في الموقف فإنهم كانوا يزعمون أنهم يعبدون الأصنام ليكونوا شفعاء لهم من غضب الله فلما حق عليهم العذاب فلم يجدوا شفعاء ذكروا بما كانوا يزعمونه فقيل لهم (أَيْنَ ما كُنْتُمْ تُشْرِكُونَ مِنْ دُونِ اللهِ) ، فابتدروا

٢٤٥

بالجواب قبل انتهاء المقالة طمعا في أن ينفعهم الاعتذار. فجملة (قالُوا ضَلُّوا عَنَّا) معترضة في أثناء القول الذي قيل لهم ، ومعنى (ضَلُّوا) غابوا كقوله : (أَإِذا ضَلَلْنا فِي الْأَرْضِ أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ) [السجدة : ١٠] أي غيبنا في التراب ، ثم عرض لهم فعلموا أن الأصنام لا تفيدهم. فأضربوا عن قولهم : (ضَلُّوا عَنَّا) وقالوا : (بَلْ لَمْ نَكُنْ نَدْعُوا مِنْ قَبْلُ شَيْئاً) أي لم نكن في الدنيا ندعو شيئا يغني عنا ، فنفي دعاء شيء هنا راجع إلى نفي دعاء شيء يعتدّ به ، كما تقول : حسبت أن فلانا شيء فإذا هو ليس بشيء ، إن كنت خبرته فلم تر عنده خيرا. وفي الحديث : «سئل النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن الكهان فقال : «ليسوا بشيء» أي ليسوا بشيء معتدّ به فيما يقصدهم الناس لأجله ، وقال عباس بن مرداس :

وقد كنت في الحرب ذا تدرإ

فلم أعط شيئا ولم أمنع

وتقدم عند قوله تعالى : (لَسْتُمْ عَلى شَيْءٍ حَتَّى تُقِيمُوا التَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ) في سورة العقود [٦٨] ، إذ ليس المعنى على إنكار أن يكونوا عبدوا شيئا لمنافاته لقولهم : (ضَلُّوا عَنَّا) المقتضي الاعتراف الضمني بعبادتهم.

وفسر كثير من المفسرين قولهم : (بَلْ لَمْ نَكُنْ نَدْعُوا مِنْ قَبْلُ شَيْئاً) أنه إنكار لعبادة الأصنام بعد الاعتراف بها لاضطرابهم من الرعب فيكون من نحو قوله تعالى : (ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ إِلَّا أَنْ قالُوا وَاللهِ رَبِّنا ما كُنَّا مُشْرِكِينَ) [الأنعام : ٢٣]. ويجوز أن يكون لهم في ذلك الموقف مقالان ، وهذا كله قبل أن يحشروا في النار هم وأصنامهم فإنهم يكونون متماثلين حينئذ كما قال تعالى : (إِنَّكُمْ وَما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ).

وجملة (كَذلِكَ يُضِلُّ اللهُ الْكافِرِينَ) تذييل معترض بين أجزاء القول الذي يقال لهم.

ومعنى الإشارة تعجيب من ضلالهم ، أي مثل ضلالهم ذلك يضل الله الكافرين. والمراد بالكافرين : عموم الكافرين ، فليس هذا من الإظهار في مقام الإضمار. والتشبيه في قوله : (كَذلِكَ يُضِلُّ اللهُ الْكافِرِينَ) يفيد تشبيه إضلال جميع الكافرين بإضلاله هؤلاء الذين يجادلون في آيات الله ، فتكون جملة (كَذلِكَ يُضِلُّ اللهُ الْكافِرِينَ) تذييلا ، أي مثل إضلال الذين يجادلون في آيات الله يضل الله جميع الكافرين ، فيكون إضلال هؤلاء الذين يجادلون مشبها به إضلال الكافرين كلهم ، والتشبيه كناية عن كون إضلال الذين يجادلون في آيات الله بلغ قوة نوعه بحيث ينظّر به كل ما خفي من أصناف الضلال ، وهو كناية عن كون مجادلة هؤلاء في آيات الله أشدّ الكفر.

والتشبيه جار على أصله وهو إلحاق ناقص بكامل في وصف ولا يكون من قبيل

٢٤٦

(وَكَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً) [البقرة : ١٤٣] ولا هو نظير قوله المتقدم (كَذلِكَ يُؤْفَكُ الَّذِينَ كانُوا بِآياتِ اللهِ يَجْحَدُونَ) [غافر : ٦٣].

وقوله : (ذلِكُمْ بِما كُنْتُمْ تَفْرَحُونَ) تكملة القيل الذي يقال لهم حين إذ الإغلال في أعناقهم. والإشارة إلى ما هم فيه من العذاب. و (ما) في الموضعين مصدرية ، أي ذلكم مسبب على فرحكم ومرحكم اللذين كانا لكم في الدنيا ، والأرض : مطلقة على الدنيا.

والفرح : المسرة ورضى الإنسان على أحواله ، فهو انفعال نفساني. والمرح ما يظهر على الفارح من الحركات في مشيه ونظره ومعاملته مع الناس وكلامه وتكبره فهو هيئة ظاهرية.

و (بِغَيْرِ الْحَقِ) يتنازعه كل من (تَفْرَحُونَ) و (تَمْرَحُونَ) أي تفرحون بما يسركم من الباطل وتزدهون بالباطل فمن آثار فرحهم بالباطل تطاولهم على الرسولصلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ومن المرح بالباطل استهزاؤهم بالرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم والمؤمنين ، قال تعالى : (وَإِذا مَرُّوا بِهِمْ يَتَغامَزُونَ وَإِذَا انْقَلَبُوا إِلى أَهْلِهِمُ انْقَلَبُوا) فاكهين [المطففين : ٣٠ ، ٣١]. فالفرح كلما جاء منهيا عنه في القرآن فالمراد به هذا الصنف منه ، كقوله تعالى : (إِذْ قالَ لَهُ قَوْمُهُ لا تَفْرَحْ إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ) [القصص : ٧٦] لا كلّ فرح ، فإن الله امتنّ على المؤمنين بالفرح في قوله: (وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ بِنَصْرِ اللهِ) [الروم : ٤ ، ٥]. وبين (تَفْرَحُونَ) و (تَمْرَحُونَ) الجناس المحرّف.

وجملة (ادْخُلُوا أَبْوابَ جَهَنَّمَ) يجوز أن تكون استئنافا بيانيا لأنهم لما سمعوا التقريع والتوبيخ وأيقنوا بانتفاء الشفيع ترقبوا ما ذا سيؤمر به في حقهم فقيل لهم (ادْخُلُوا أَبْوابَ جَهَنَّمَ) ، ويجوز أن تكون بدل اشتمال من جملة (ذلِكُمْ بِما كُنْتُمْ تَفْرَحُونَ) إلخ ، فإن مدلول اسم الإشارة العذاب المشاهد لهم وهو يشتمل على إدخالهم أبواب جهنم والخلود فيها.

ودخول الأبواب كناية عن الكون في جهنم لأن الأبواب إنما جعلت ليسلك منها إلى البيت ونحوه. و (خالِدِينَ) حال مقدرة ، أي مقدرا خلودكم.

وفرع عليه (فَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ) ، والمخصوص بالذم محذوف لأنه يدل عليه ذكر جهنم أي فبئس مثوى المتكبرين جهنم ، ولم يتصل فعل (بئس) بتاء التأنيث لأن فاعله في الظاهر هو (مَثْوَى) لأن العبرة بإسناد فعل الذم والمدح إلى الاسم المذكور بعدهما ،

٢٤٧

وأما اسم المخصوص فهو بمنزلة البيان بعد الإجمال فهو مبتدأ خبره محذوف أو خبر مبتدإمحذوف ، ولذلك عدّ باب نعم وبئس من طرق الإطناب.

والمثوى : محل الثواء ، والثواء : الإقامة الدائمة ، وأوثر لفظ (مَثْوَى) دون (مدخل) المناسب ل (ادْخُلُوا) لأن المثوى أدل على الخلود فهو أولى بمساءتهم.

والمراد بالمتكبرين : المخاطبون ابتداء لأنهم جادلوا في آيات الله عن كبر في صدورهم كما قال تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ يُجادِلُونَ فِي آياتِ اللهِ بِغَيْرِ سُلْطانٍ أَتاهُمْ إِنْ فِي صُدُورِهِمْ إِلَّا كِبْرٌ ما هُمْ بِبالِغِيهِ) [غافر : ٥٦] ولأن تكبرهم من فرحهم.

وإنما عدل عن ضميرهم إلى الاسم الظاهر وهو (الْمُتَكَبِّرِينَ) للإشارة إلى أن من أسباب وقوعهم في النار تكبرهم على الرسل. وليكون لكل موصوف بالكبر حظ من استحقاق العقاب إذا لم يتب ولم تغلب حسناته على سيئاته إن كان من أهل الإيمان.

(فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌّ فَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِلَيْنا يُرْجَعُونَ (٧٧))

قد كان فيما سبق من السورة ما فيه تسلية للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم على ما تلقّاه به المشركون من الإساءة والتصميم على الإعراض ابتداء من قوله في أول السورة (فَلا يَغْرُرْكَ تَقَلُّبُهُمْ فِي الْبِلادِ) [غافر : ٤] ثم قوله : (أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ كانُوا مِنْ قَبْلِهِمْ) [غافر : ٢١] ، ثم قوله : (إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنا) [غافر : ٥١] ثم قوله : (فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌّ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ) [غافر : ٥٥] الآية ، ففرع هنا على جميع ما سبق وما تخلله من تصريح وتعريض أن أمر الله النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالصبر على ما يلاقيه منهم ، وهذا كالتكرير لقوله فيما تقدم (فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌّ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ) [غافر : ٥٥]. وذلك أن نظيره المتقدم ورد بعد الوعد بالنصر في قوله : (إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهادُ) [غافر : ٥١] ثم قوله : (وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْهُدى وَأَوْرَثْنا بَنِي إِسْرائِيلَ الْكِتابَ) [غافر : ٥٣] الآية ، فلما تمّ الكلام على ما أخذ الله به المكذبين من عذاب الدنيا انتقل الكلام إلى ذكر ما يلقونه في الآخرة بقوله : (الَّذِينَ كَذَّبُوا بِالْكِتابِ وَبِما أَرْسَلْنا بِهِ رُسُلَنا فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ إِذِ الْأَغْلالُ فِي أَعْناقِهِمْ وَالسَّلاسِلُ) [غافر : ٧٠ ، ٧١] الآيات ، ثم أعقبه بقوله : (فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌ) عودا إلى بدء إذ الأمر بالصبر مفرّع على ما اقتضاه قوله : (فَلا يَغْرُرْكَ تَقَلُّبُهُمْ فِي الْبِلادِ كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ) [غافر : ٤ ، ٥] الآيات ، ثم

٢٤٨

قوله : (وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْآزِفَةِ إِذِ الْقُلُوبُ لَدَى الْحَناجِرِ) [غافر : ١٨] ثم قوله : (أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا) [غافر : ٢١] وما بعده ، فلما حصل الوعد بالانتصاف من مكذبي النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم في الدنيا والآخرة ، أعقب بقوله : (فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌّ فَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ) فإن مناسبة الأمر بالصبر عقب ذلك أن يكون تعريضا بالانتصار له ولذلك فرع على الأمر بالصبر الشرط المردّد بين أن يريه بعض ما توعدهم الله به وبين أن لا يراه ، فإن جواب الشرط حاصل على كلتا الحالتين وهو مضمون (فَإِلَيْنا يُرْجَعُونَ) أي أنهم غير مفلتين من العقاب ، فلا شك أن أحد الترديدين هو أن يرى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم عذابهم في الدنيا.

ولهذا كان للتأكيد ب (إنّ) في قوله : (إِنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌ) موقعه ، وذلك أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم والمؤمنين استبطئوا النصر كما قال تعالى : (وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتى نَصْرُ اللهِ) [البقرة : ٢١٤] فنزلوا منزلة المتردد فيه فأكد وعده بحرف التوكيد. والتعبير بالمضارع في قوله : (يُرْجَعُونَ) لإفادته التجدد فيشعر بأنه رجوع إلى الله في الدنيا.

وقوله : (فَإِمَّا نُرِيَنَّكَ) شرط ، اقترن حرف (إن) الشرطية بحرف (ما) الزائدة للتأكيد ولذلك لحقت نون التوكيد بفعل الشرط. وعطف عليه (أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ) وهو فعل شرط ثان. وجملة (فَإِلَيْنا يُرْجَعُونَ) جواب لفعل الشرط الثاني لأن المعنى على أنه جواب له. وأما فعل الشرط الأول فجوابه محذوف دل عليه أول الكلام وهو قوله : (إِنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌ) وتقدير جوابه : فإما نرينك بعض الذي نعدهم فذاك ، أو نتوفينك فإلينا يرجعون ، أي فهم غير مفلتين مما نعدهم.

وتقدم نظير هذين الشرطين في سورة يونس إلا أن في سورة يونس [٤٦] (فَإِلَيْنا مَرْجِعُهُمْ) وفي سورة غافر (فَإِلَيْنا يُرْجَعُونَ) ، والمخالفة بين الآيتين تفنن ، ولأن ما في يونس اقتضى تهديدهم بأن الله شهيد على ما يفعلون ، أي على ما يفعله الفريقان من قوله: (وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ) [يونس : ٤٢] وقوله : (وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْظُرُ إِلَيْكَ) [يونس : ٤٣] فكانت الفاصلة حاصلة بقوله : (عَلى ما يَفْعَلُونَ) [يونس : ٤٦] ، وأما هنا فالفاصلة معاقبة للشرط فاقتضت صوغ الرجوع بصيغة المضارع المختتم بواو ونون ، على أن (مَرْجِعُهُمْ) [يونس : ٤٦] معرف بالإضافة فهو مشعر بالمرجع المعهود وهو مرجعهم في الآخرة بخلاف قوله : (يُرْجَعُونَ) المشعر برجوع متجدد كما علمت.

والمعنى : أنهم واقعون في قبضة قدرتنا في الدنيا سواء كان ذلك في حياتك مثل

٢٤٩

عذاب يوم بدر أو بعد وفاتك مثل قتلهم يوم اليمامة ، وأما عذاب الآخرة فذلك مقرر لهم بطريق الأولى ، وهذا كقوله : (أَوْ نُرِيَنَّكَ الَّذِي وَعَدْناهُمْ فَإِنَّا عَلَيْهِمْ مُقْتَدِرُونَ) [الزخرف: ٤٢].

وتقديم المجرور في قوله : (فَإِلَيْنا يُرْجَعُونَ) للرعاية على الفاصلة وللاهتمام.

(وَلَقَدْ أَرْسَلْنا رُسُلاً مِنْ قَبْلِكَ مِنْهُمْ مَنْ قَصَصْنا عَلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ نَقْصُصْ عَلَيْكَ وَما كانَ لِرَسُولٍ أَنْ يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللهِ فَإِذا جاءَ أَمْرُ اللهِ قُضِيَ بِالْحَقِّ وَخَسِرَ هُنالِكَ الْمُبْطِلُونَ (٧٨))

ذكرنا عند قوله تعالى : (ما يُجادِلُ فِي آياتِ اللهِ إِلَّا الَّذِينَ كَفَرُوا) في أول هذه السورة [٤] أن من صور مجادلتهم في الآيات إظهارهم عدم الاقتناع بمعجزة القرآن فكانوا يقترحون آيات كما يريدون لقصدهم إفحام الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فلما انقضى تفصيل الإبطال لضلالهم بالأدلة البيّنة والتذكير بالنعمة والإنذار بالترهيب والترغيب وضرب الأمثال بأحوال الأمم المكذّبة ثم بوعد الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم والمؤمنين بالنصر وتحقيق الوعد ، أعقب ذلك بتثبيت الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم بأنه ما كان شأنه إلا شأن الرّسل من قبله أن لا يأتوا بالآيات من تلقاء أنفسهم ولا استجابة لرغائب معانديهم ولكنها الآيات عند الله يظهر ما شاء منها بمقتضى إرادته الجارية على وفق علمه وحكمته ، وفي ذلك تعريض بالرد على المجادلين في آيات الله ، وتنبيه لهم على خطإ ظنهم أن الرّسل تنتصب لمناقشة المعاندين.

فالمقصود الأهمّ من هذه الآية هو قوله : (وَما كانَ لِرَسُولٍ أَنْ يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللهِ) وأما قوله : (وَلَقَدْ أَرْسَلْنا رُسُلاً مِنْ قَبْلِكَ) إلخ فهو كمقدمة للمقصود لتأكيد العموم من قوله : (وَما كانَ لِرَسُولٍ أَنْ يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللهِ) ، وهو مع ذلك يفيد بتقديمه معنى مستقلا من رد مجادلتهم فإنهم كانوا يقولون : (ما أَنْزَلَ اللهُ عَلى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ) [الأنعام : ٩١] ويقولون : (لَوْ لا أُنْزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ) [الأنعام : ٨] فدمغت مزاعمهم بما هو معلوم بالتواتر من تكرر بعثة الرسل في العصور والأمم الكثيرة.

وقد بعث الله رسلا وأنبياء لا يعلم عددهم إلا الله تعالى لأن منهم من أعلم الله بهم نبيه صلى‌الله‌عليه‌وسلم ومنهم من لم يعلمه بهم إذ لا كمال في الإعلام بمن لم يعلمه بهم ، والذين أعلمه بهم منهم من قصّه في القرآن ، ومنهم من أعلمه بهم بوحي غير القرآن فورد ذكر بعضهم في الآثار الصحيحة بتعيين أو بدون تعيين ، ففي الحديث : «أن الله بعث نبيئا اسمه عبّود عبدا

٢٥٠

أسود» وفي الحديث ذكر : حنظلة بن صفوان نبي أهل الرس ، وذكر خالد بن سنان نبي (١) عبس ، وفي الحديث : «أن نبيئا لسعته نملة فأحرق قريتها فعوتب في ذلك». ولا يكاد الناس يحصون عددهم لتباعد أزمانهم وتكاثر أممهم وتقاصي أقطارهم مما لا تحيط به علوم الناس ولا تستطيع إحصاءه أقلام المؤرخين وأخبار القصاصين وقد حصل من العلم ببعضهم وبعض أممهم ما فيه كفاية لتحصيل العبرة في الخير والشر ، والترغيب والترهيب.

وقد جاء في القرآن تسمية خمسة عشر رسولا وهم : نوح وإبراهيم ولوط وإسماعيل وإسحاق ويعقوب ويوسف وهود وصالح وشعيب وموسى وهارون وعيسى ويونس ومحمدصلى‌الله‌عليه‌وسلم واثنا عشر نبيئا وهم : داود وسليمان وأيوب وزكرياء ويحيى وإلياس واليسع وإدريس وآدم وذو الكفل وذو القرنين ولقمان ونبيئة وهي مريم. وورد بالإجمال دون تسمية صاحب موسى المسمى في السنة خضراء ونبي بني إسرائيل وهو صمويل وتبّع.

وليس المسلمون مطالبين بأن يعلموا غير محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ولكن الأنبياء الذين ذكروا في القرآن بصريح وصف النبوءة يجب الإيمان بنبوتهم لمن قرأ الآيات التي ذكروا فيها وعدتهم خمسة وعشرون بين رسول ونبيء ، وقد اشتمل قوله تعالى : (وَتِلْكَ حُجَّتُنا آتَيْناها إِبْراهِيمَ عَلى قَوْمِهِ) إلى قوله : (وَلُوطاً) [الأنعام : ٨٣ ـ ٨٦] على أسماء ثمانية عشر منهم وذكر أسماء سبعة آخرين في آيات أخرى وقد جمعها من قال :

حتم على كل ذي التكليف معرفة

بأنبياء على التفصيل قد علموا

في تلك حجتنا منهم ثمانية

من بعد عشر ويبقى سبعة وهم

إدريس هود شعيب صالح وكذا

ذو الكفل آدم بالمختار قد ختموا

واعلم أن في كون يوسف رسولا ترددا بينته عند قوله تعالى : (وَلَقَدْ جاءَكُمْ يُوسُفُ مِنْ قَبْلُ بِالْبَيِّناتِ) في هذه السورة [٣٤] ، وأن في نبوءة الخضر ولقمان وذي القرنين ومريم ترددا. واخترت إثبات نبوءتهم لأن الله ذكر في بعضهم أنه خاطبهم ، وذكر في بعضهم أنه أوتى الحكمة وقد اشتهرت في النبوءة ، وفي بعضهم أنه كلمته الملائكة. ولا يجب الإيمان إلا بوقوع الرسالة والنبوءة على الإجمال.

ولا يجب على الأمة الإيمان بنبوة رسالة معين إلا محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، أو من بلغ العلم بنبوته بين المسلمين مبلغ اليقين لتواتره مثل موسى وعيسى وإبراهيم ونوح.

__________________

(١) في المطبوعة (بني).

٢٥١

ولكن من اطلع على ذكر نبوءة نبيء بوصفه ذلك في القرآن صريحا وجب (١) عليه الإيمان بما علمه. وما ثبت بأخبار الآحاد لا يجب الإيمان به لأن الاعتقادات لا تجب بالظن ولكن ذلك تعليم لا وجوب اعتقاد.

وتنكير (رُسُلاً) مفيد للتعظيم والتكثير ، أي أرسلنا رسلا عددهم كثير وشأنهم عظيم. وعطف (وَما كانَ لِرَسُولٍ) إلخ بالواو دون الفاء يفيد استقلال هذه الجملة بنفسها لما فيها من معنى عظيم حقيق بأن لا يكون تابعا لغيره ، ويكتفي في الدلالة على ارتباط الجملتين بموقع إحداهما من الأخرى.

والآية : المعجزة ، وإذن الله : هو أمر التكوين الذي يخلق الله به خارق العادة ليجعله علامة على صدق الرسول. ومعنى إتيان الرسول بآية : هو تحديه قومه بأن الله سيؤيده بآية يعيّنها مثل قول صالح عليه‌السلام : (هذِهِ ناقَةُ اللهِ لَكُمْ آيَةً) [الأعراف : ٧٣] وقول موسى عليه‌السلام لفرعون : (أَوَلَوْ جِئْتُكَ بِشَيْءٍ مُبِينٍ) [الشعراء : ٣٠] الآية.

وقول عيسى عليه‌السلام : (أَنِّي أَخْلُقُ لَكُمْ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنْفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ) طائرا (بِإِذْنِ اللهِ) [آل عمران : ٤٩] وقول محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم : (فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ) [البقرة : ٢٣].

فالباء في (بِآيَةٍ) باء التعدية لفعل (أَنْ يَأْتِيَ) وأما الباء في (بِإِذْنِ اللهِ) فهي باء السببية دخلت على مستثنى من أسباب محذوفة في الاستثناء المفرغ ، أي ما كان له أن يأتي بآية بسبب من الأسباب إلا بسبب إذن الله تعالى. وهذا إبطال لما يتوركون به من المقترحات والتعلات.

وفرع عليه قوله : (فَإِذا جاءَ أَمْرُ اللهِ قُضِيَ بِالْحَقِ) أي فإذا جاء أمر الله بإظهار الرسول آية ظهر صدق الرسول وكان ذلك قضاء من الله تعالى لرسوله بالحق على مكذبيه ، فإذن الله هو أمره التكويني بخلق آية وظهورها.

وقوله : (فَإِذا جاءَ أَمْرُ اللهِ) الأمر : القضاء والتقدير ، كقوله تعالى : (أَتى أَمْرُ اللهِ فَلا تَسْتَعْجِلُوهُ) [النحل : ١] وقوله : (أَوْ أَمْرٍ مِنْ عِنْدِهِ) [المائدة : ٥٢] وهو الحدث القاهر للناس كما في قول عمر لما قال له أبو قتادة يوم حنين «ما شأن الناس» حين انهزموا وفرّوا قال عمر : «أمر الله». وفي العدول عن : إذن الله ، إلى (أَمْرُ اللهِ) تعريض بأن ما سيظهره الله من الإذن لمحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم هي آيات عقاب لمعانديه ، فمنها : آية الجوع سبع

__________________

(١) في المطبوعة (وجيء).

٢٥٢

سنين حتى أكلوا الميتة ، وآية السيف يوم بدر إذ استأصل صناديد المكذبين من أهل مكة ، وآية السيف يوم حنين إذ استأصل صناديد أهل الطائف ، وآية الأحزاب التي قال الله عنها : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جاءَتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ رِيحاً وَجُنُوداً لَمْ تَرَوْها) [الأحزاب : ٩] ثم قال : (وَرَدَّ اللهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنالُوا خَيْراً وَكَفَى اللهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتالَ وَكانَ اللهُ قَوِيًّا عَزِيزاً* وَأَنْزَلَ الَّذِينَ ظاهَرُوهُمْ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ مِنْ صَياصِيهِمْ وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ فَرِيقاً تَقْتُلُونَ وَتَأْسِرُونَ فَرِيقاً* وَأَوْرَثَكُمْ أَرْضَهُمْ وَدِيارَهُمْ وَأَمْوالَهُمْ وَأَرْضاً لَمْ تَطَؤُها وَكانَ اللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيراً) [الأحزاب : ٢٥ ـ ٢٧].

وفي إيثار (قُضِيَ بِالْحَقِ) بالذكر دون غيره من نحو : ظهر الحق ، أو تبين الصدق ، ترشيح لما في قوله : (أَمْرُ اللهِ) من التعريض بأنه أمر انتصاف من المكذبين. ولذلك عطف عليه (وَخَسِرَ هُنالِكَ الْمُبْطِلُونَ) أي خسر الذين جادلوا بالباطل ليدحضوا به الحق.

والخسران : مستعار لحصول الضرّ لمن أراد النفع ، كخسارة التاجر الذي أراد الربح فذهب رأس ماله ، وقد تقدم معناه غير مرة ، منها قوله تعالى : (فَما رَبِحَتْ تِجارَتُهُمْ) في أوائل سورة البقرة [١٦].

و (هُنالِكَ) أصله اسم إشارة إلى المكان ، واستعير هنا للإشارة إلى الزمان المعبر عنه ب (إذا) في قوله : (فَإِذا جاءَ أَمْرُ اللهِ).

وفي هذه الاستعارة نكتة بديعية وهي الإيماء إلى أن المبطلين من قريش ستأتيهم الآية في مكان من الأرض وهو مكان بدر وغيره من مواقع إعمال السيف فيهم فكانت آيات محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم حجة على معانديه أقوى من الآيات السماوية نحو الصواعق أو الريح ، وعن الآيات الأرضية نحو الغرق والخسف لأنها كانت مع مشاركتهم ومداخلتهم حتى يكون انغلابهم أقطع لحجتهم وأخزى لهم نظير آية عصا موسى مع عصيّ السحرة.

[٧٩ ـ ٨٠] (اللهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَنْعامَ لِتَرْكَبُوا مِنْها وَمِنْها تَأْكُلُونَ (٧٩) وَلَكُمْ فِيها مَنافِعُ وَلِتَبْلُغُوا عَلَيْها حاجَةً فِي صُدُورِكُمْ وَعَلَيْها وَعَلَى الْفُلْكِ تُحْمَلُونَ (٨٠))

انتقال من الامتنان على الناس بما سخر لأجلهم من نظام العوالم العليا والسفلى ، وبما منحهم من الإيجاد وتطوره وما في ذلك من الألطاف بهم وما أدمج فيه من الاستدلال على انفراده تعالى بالتصرف فكيف ينصرف عن عبادته الذين أشركوا به آلهة أخرى ، إلى الامتنان بما سخر لهم من الإبل لمنافعهم الجمّة خاصّة وعامّة ، فالجملة استئناف سادس.

٢٥٣

والقول في افتتاحها كالقول في افتتاح نظائرها السابقة باسم الجلالة أو بضميره.

والأنعام : الإبل والغنم والمعز والبقر. والمراد هنا : الإبل خاصة لقوله : (وَلِتَبْلُغُوا عَلَيْها حاجَةً) وقوله : (وَعَلَيْها وَعَلَى الْفُلْكِ تُحْمَلُونَ) وكانت الإبل غالب مكاسبهم.

والجعل : الوضع والتمكين والتهيئة ، فيحمل في كل مقام على ما يناسبه وفائدة الامتنان تقريب نفوسهم من التوحيد لأن شأن أهل المروءة الاستحياء من المنعم.

وأدمج في الامتنان استدلال على دقيق الصنع وبليغ الحكمة كما دل عليه قوله : (وَيُرِيكُمْ آياتِهِ) [غافر : ٨١] أي في ذلك كله.

واللام في (لَكُمْ) لام التعليل ، أي لأجلكم وهو امتنان مجمل يشمل بالتأمل كل ما في الإبل لهم من منافع وهم يعلمونها إذا تذكّروها وعدّوها. ثم فصّل ذلك الإجمال بعض التفصيل بذكر المهمّ من النعم التي في الإبل بقوله : (لِتَرْكَبُوا مِنْها) إلى (تُحْمَلُونَ). فاللام في (لِتَرْكَبُوا مِنْها) لام كي وهي متعلقة ب (جَعَلَ) أي لركوبكم.

و (من) في الموضعين هنا للتبعيض وهي صفة لمحذوف يدل عليه (من) أي بعضا منها ، وهو ما أعد للأسفار من الرواحل. ويتعلق حرف (من) بتركبوا ، وتعلّق (من) التبعيضية بالفعل تعلق ضعيف وهو الذي دعا التفتازانيّ إلى القول بأن (من) في مثله اسم بمعنى بعض ، وتقدم ذلك عند قوله تعالى : (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللهِ) في سورة البقرة [٨].

وأريد بالركوب هنا الركوب للراحة من تعب الرّجلين في الحاجة القريبة بقرينة مقابلته بقوله : (وَلِتَبْلُغُوا عَلَيْها حاجَةً فِي صُدُورِكُمْ).

وجملة (وَمِنْها تَأْكُلُونَ) في موضع الحال من (الْأَنْعامَ) ، أو عطف على المعنى من جملة (لِتَرْكَبُوا مِنْها) لأنها في قوة أن يقال : تركبون منها ، على وجه الاستئناف لبيان الإجمال الذي في (جَعَلَ لَكُمُ الْأَنْعامَ) ، وعلى الاعتبارين فهي في حيّز ما دخلت عليه لام كي فمعناها : ولتأكلوا منها.

وجملة (وَلَكُمْ فِيها مَنافِعُ) عطف على جملة (وَمِنْها تَأْكُلُونَ) ، والمعنى أيضا على اعتبار التعليل كأنه قيل : ولتجتنوا منافعها المجعولة لكم وإنما غيّر أسلوب التعليل تفننا في الكلام وتنشيطا للسامع لئلا يتكرر حرف التعليل تكرارات كثيرة.

٢٥٤

والمنافع : جمع منفعة ، وهي مفعلة من النفع ، وهي : الشيء الذي ينتفع به ، أي يستصلح به. فالمنافع في هذه الآية أريد بها ما قابل منافع أكل لحومها في قوله : (وَمِنْها تَأْكُلُونَ) مثل الانتفاع بأوبارها وألبانها وأثمانها وأعواضها في الديات والمهور ، وكذلك الانتفاع بجلودها باتخاذها قبابا وغيرها وبالجلوس عليها ، وكذلك الانتفاع بجمال مرآها في العيون في المسرح والمراح ، والمنافع شاملة للركوب الذي في قوله : (لِتَرْكَبُوا مِنْها) ، فذكر المنافع بعد (لِتَرْكَبُوا مِنْها) تعميم بعد تخصيص كقوله تعالى : (وَلِيَ فِيها مَآرِبُ أُخْرى) [طه : ١٨] بعد قوله : (هِيَ عَصايَ أَتَوَكَّؤُا عَلَيْها) [طه : ١٨] ، فذكر هنا الشائع المطروق عندهم ثم ذكر مثيله في الشيوع وهو الأكل منها ، ثم عاد إلى عموم المنافع ، ثم خص من المنافع الأسفار ، فإن اشتداد الحاجة إلى الأنعام فيها تجعل الانتفاع بركوبها للسفر في محل الاهتمام. ولما كانت المنافع ليست منحصرة في أجزاء الأنعام جيء في متعلقها بحرف (في) دون (من) لأن (في) للظرفية المجازية بقرينة السياق فتشمل كل ما يعدّ كالشيء المحوي في الأنعام ، كقول سبرة بن عمرو الفقعسي من شعراء الحماسة يذكر ما أخذه من الإبل في دية قريب :

نحابي بها أكفاءنا ونهينها

ونشرب في أثمانها ونقامر

وأنبأ فعل (لِتَبْلُغُوا) أن الحاجة التي في الصدور حاجة في مكان بعيد يطلبها صاحبها. والحاجة : النية والعزيمة.

والصدور أطلق على العقول اتباعا للمتعارف الشائع كما يطلق القلوب على العقول.

وأعقب الامتنان بالأنعام بالامتنان بالفلك لمناسبة قوله : (وَلِتَبْلُغُوا عَلَيْها حاجَةً فِي صُدُورِكُمْ) فقال : (وَعَلَيْها وَعَلَى الْفُلْكِ تُحْمَلُونَ) ، وهو انتقال من الامتنان بجعل الأنعام ، إلى الامتنان بنعمة الركوب في الفلك في البحار والأنهار فالمقصود هو قوله : (وَعَلَى الْفُلْكِ تُحْمَلُونَ). وأما قوله : (وَعَلَيْها) فهو تمهيد له وهو اعتراض بالواو الاعتراضية تكريرا للمنّة ، على أنه قد يشمل حمل الأثقال على الإبل كقوله تعالى : (وَتَحْمِلُ أَثْقالَكُمْ) [النحل : ٧] فيكون إسناد الحمل إلى ضمير الناس تغليبا.

ووجه الامتنان بالفلك أنه امتنان بما ركّب الله في الإنسان من التدبير والذكاء الذي توصل به إلى المخترعات النافعة بحسب مختلف العصور والأجيال ، كما تقدم في سورة البقرة [١٦٤] عند قوله تعالى : (وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِما يَنْفَعُ النَّاسَ) الآيات ، وبيّنا هنالك أن العرب كانوا يركبون البحر الأحمر في التجارة ويركبون الأنهار أيضا قال

٢٥٥

النابغة يصف الفرات :

يظل من خوفه الملاح معتصما

بالخيزرانة بعد الأين والنجد

والجمع بين السفر بالإبل والسفر بالفلك جمع لطيف ، فإن الإبل سفائن البر ، وقديما سموها بذلك ، قاله الزمخشري في تفسير سورة المؤمنين.

وإنما قال : (وَعَلَى الْفُلْكِ) ولم يقل : وفي الفلك ، كما قال : (فَإِذا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ) [العنكبوت : ٦٥] لمزاوجة والمشاكلة مع (وَعَلَيْها) ، وإنما أعيد حرف (على) في الفلك لأنها هي المقصودة بالذكر وكان ذكر (وَعَلَيْها) كالتوطئة لها فجاءت على مثالها.

وتقديم المجرورات في قوله : (وَمِنْها تَأْكُلُونَ) وقوله : (وَعَلَيْها وَعَلَى الْفُلْكِ) لرعاية على الفاصلة مع الاهتمام بما هو المقصود في السياق. وتقديم (لَكُمْ) على (الْأَنْعامَ) مع أن المفعول أشد اتصالا بفعله من المجرور لقصد الاهتمام بالمنعم عليهم.

وأما تقديم المجرورين في قوله : (وَلَكُمْ فِيها مَنافِعُ) فللاهتمام بالمنعم عليهم. والمنعم بها لأنه الغرض الأول من قوله : (اللهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَنْعامَ).

(وَيُرِيكُمْ آياتِهِ فَأَيَّ آياتِ اللهِ تُنْكِرُونَ (٨١))

عطف على جملة (لَكُمُ الْأَنْعامَ) [غافر : ٧٩] أي الله الذي يريكم آياته. وهذا انتقال من متعدد الامتنان بما تقدم من قوله : (اللهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ) [غافر : ٦١] ، (اللهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ قَراراً) [غافر : ٦٤] ، (هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ تُرابٍ) [غافر : ٦٧] ، (اللهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَنْعامَ) [غافر : ٧٩] ، فإن تلك ذكرت في معرض الامتنان تذكيرا بالشكر ، فنبّه هنا على أن في تلك المنن آيات دالة على ما يجب لله من الوحدانية والقدرة والحكمة.

ولذلك كان قوله : (وَيُرِيكُمْ آياتِهِ) مفيدا مفاد التذييل لما في قوله : (آياتِهِ) من العموم لأن الجمع المعرف بالإضافة من صيغ العموم ، أي يريكم آياته في النعم المذكورات وغيرها من كل ما يدلّ على وجوب توحيده وتصديق رسله ونبذ المكابرة فيما يأتونهم به من آيات صدقهم.

وقد جيء في جانب إراءة الآيات بالفعل المضارع لدلالته على التجدد لأن الإنسان كلما انتفع بشيء من النعم علم ما في ذلك من دلالة على وحدانية خالقها وقدرته

٢٥٦

وحكمته. والإراءة هنا بصرية ، عبر بها عن العلم بصفات الله إذ كان طريق ذلك العلم هو مشاهدة تلك الأحوال المختلفة فمن تلك المشاهدة ينتقل العقل إلى الاستدلال ، وفيه إشارة إلى أن دلالة وجود الخالق ووحدانيته وقدرته برهانية تنتهي إلى اليقين والضرورة.

وإضافة الآيات إلى ضمير الجلالة لزيادة التنويه بها ، والإرشاد إلى إجادة النظر العقلي في دلائلها ، وأما كونها جائية من لدن الله وكون إضافتها من الإضافة إلى ما هو في معنى الفاعل ، فذلك أمر مستفاد من إسناد فعل (يُرِيكُمْ) إلى ضميره تعالى. وفرع على إراءة الآيات استفهام إنكاري عليهم من أجل إنكارهم ما دلت عليه تلك الآيات.

و (أيّ) اسم استفهام يطلب به تمييز شيء عن مشاركه فيما يضاف إليه (أيّ) ، وهو هنا مستعمل في إنكار أن يكون شيء من آيات الله يمكن أن ينكر دون غيره من الآيات فيفيد أن جميع الآيات صالح للدلالة على وحدانية الله وقدرته لا مساغ لادّعاء خفائه وأنهم لا عذر لهم في عدم الاستفادة من إحدى الآيات. والأكثر في استعمال (أي) إذا أضيفت إلى اسم مؤنث اللفظ أن لا تلحقها هاء التأنيث اكتفاء بتأنيث ما تضاف إليه لأن الغالب في الأسماء التي ليست بصفات أن لا يفرق بين مذكرها ومؤنثها بالهاء نحو حمار فلا يقال للمؤنث حمارة. و (أيّ) اسم ويزيد بما فيه من الإبهام فلا يفسره إلا المضاف إليه فلذلك قال هنا (فَأَيَّ آياتِ اللهِ) دون : فأيّة آيات الله ، لأن إلحاق علامة التأنيث ب (أي) في مثل هذا قليل ، ومن غير الغالب تأنيث (أي) في قول الكميت :

بأي كتاب أم بأيّة سنة

ترى حبهم عارا عليّ وتحسب

[٨٢ ـ ٨٣] (أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كانُوا أَكْثَرَ مِنْهُمْ وَأَشَدَّ قُوَّةً وَآثاراً فِي الْأَرْضِ فَما أَغْنى عَنْهُمْ ما كانُوا يَكْسِبُونَ (٨٢) فَلَمَّا جاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَرِحُوا بِما عِنْدَهُمْ مِنَ الْعِلْمِ وَحاقَ بِهِمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (٨٣))

تفريع هذا الاستفهام عقب قوله : (وَيُرِيكُمْ آياتِهِ) [غافر : ٨١] ، يقتضي أنه مساوق للتفريع الذي قبله وهو (فَأَيَّ آياتِ اللهِ تُنْكِرُونَ) [غافر : ٨١] فيقتضي أن السير المستفهم عنه بالإنكار على تركه هو سير تحصل فيه آيات ودلائل على وجود الله ووحدانيته وكلا التفريعين متصل بقوله : (وَلِتَبْلُغُوا عَلَيْها حاجَةً فِي صُدُورِكُمْ وَعَلَيْها وَعَلَى الْفُلْكِ تُحْمَلُونَ) [غافر : ٨٠] ، فذلك هو مناسبة الانتقال إلى التذكير بعبرة آثار الأمم التي استأصلها الله

٢٥٧

تعالى لما كذبت رسله وجحدت آياته ونعمه.

وحصل بذلك تكرير الإنكار الذي في قوله قبل هذا : (أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ كانُوا مِنْ قَبْلِهِمْ كانُوا هُمْ أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً) [غافر : ٢١] الآية ، فكان ما تقدم انتقالا عقب آيات الإنذار والتهديد ، وكان هذا انتقالا عقب آيات الامتنان والاستدلال ، وفي كلا الانتقالين تذكير وتهديد ووعيد. وهو يشير إلى أنهم إن لم يكونوا ممن تزعهم النعم عن كفران مسديها كشأن أهل النفوس الكريمة فليكونوا ممن يردعهم الخوف من البطش كشأن أهل النفوس اللئيمة فليضعوا أنفسهم حيث يختارون من إحدى الخطتين.

والقول في قوله : (أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ) إلى قوله : (وَآثاراً فِي الْأَرْضِ) مثل القول في نظيره السابق في هذه السورة ، وخولف في عطف جملة (أَفَلَمْ يَسِيرُوا) بين هذه الآية فعطفت بالفاء للتفريع لوقوعها بعد ما يصلح لأن يفرع عنه إنكار عدم النظر في عاقبة الذين من قبلهم بخلاف نظيرها الذي قبلها فقد وقع بعد إنذارهم بيوم الآزفة.

وجملة (فَما أَغْنى عَنْهُمْ ما كانُوا يَكْسِبُونَ) معترضة والفاء للتفريع على قوله : (كانُوا أَكْثَرَ مِنْهُمْ) وهو كقوله تعالى : (هذا فَلْيَذُوقُوهُ حَمِيمٌ وَغَسَّاقٌ) [ص ٥٧] وقول عنترة :

ولقد نزلت فلا تظنّي غيره

مني بمنزلة المحبّ المكرم

وفائدة هذا الاعتراض التعجيل بإفادة إن كثرتهم وقوتهم وحصونهم وجناتهم لم تغن عنهم من بأس الله شيئا.

وجملة (فَلَمَّا جاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ) الآية مفرعة على جملة (كانُوا أَكْثَرَ مِنْهُمْ) أي كانوا كذلك إلى أن جاءتهم رسل الله إليهم بالبينات فلم يصدقوهم فرأوا بأسنا. وجعلها في «الكشاف» جارية مجرى البيان والتفسير لقوله : (فَما أَغْنى عَنْهُمْ) ، وما سلكته أنا أحسن وموقع الفاء يؤيده.

ولما في (لمّا) من معنى التوقيت أفادت معنى أن الله لم يغير ما بهم من النعم العظمى حتى كذبوا رسله. وجواب (لمّا) جملة (فَرِحُوا بِما عِنْدَهُمْ مِنَ الْعِلْمِ) وما عطف عليها.

واعلم أن المفسرين ذهبوا في تفسير هذه الآية طرائق قددا ذكر بعضها الطبري عن بعض سلف المفسرين. وأنهاها صاحب «الكشاف» إلى ستّ ، ومال صاحب «الكشف» إلى

٢٥٨

إحداها ، وأبو حيان إلى أخرى ولا حاجة إلى جلب ذلك.

والطريقة التي يرجح سلوكها هي أن هنا ضمائر عشرة هي ضمائر جمع الغائبين وأن بعضها عائد لا محالة على (الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ) وأن وجه النظم أن تكون الضمائر متناسقة غير مفككة فلذا يتعين أن تكون عائدة إلى معاد واحد ، فالذين (فرحوا بما عندهم من العلم) هم (الذين جاءتهم رسلهم بالبينات) ، وهم الذين (حاق بهم ما كانوا به يستهزءون) ، والذين رأوا بأس الله ، فما بنا إلا أن نبين معنى (فَرِحُوا بِما عِنْدَهُمْ مِنَ الْعِلْمِ).

فالفرح هنا مكنّى به عن آثاره وهي الازدهاء كما في قوله تعالى : (إِذْ قالَ لَهُ قَوْمُهُ لا تَفْرَحْ) [القصص : ٧٦] أي بما أنت فيه مكنىّ به هنا عن تمسكهم بما هم عليه ، فالمعنى : أنهم جادلوا الرسل وكابروا الأدلة وأعرضوا عن النظر. وما عندهم من العلم هو معتقداتهم الموروثة عن أهل الضلالة من أسلافهم.

قال مجاهد : قالوا لرسلهم : نحن أعلم منكم لن نبعث ولن نعذب ا ه. وإطلاق العلم على اعتقادهم تهكم وجري على حسب معتقدهم وإلا فهو جهل. وقال السدّي : فرحوا بما عندهم من العلم بجهلهم يعني فهو من قبيل قوله تعالى : (قُلْ هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنا إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَخْرُصُونَ) [الأنعام : ١٤٨].

وحاق بهم : أحاط ، يقال : حاق يحيق حيقا ، إذا أحاط ، وهو هنا مستعار للشدة التي لا تنفيس بها لأن المحيط بشيء لا يدع له مفرجا.

و (ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ) هو الاستئصال والعذاب. والمعنى : أن رسلهم أوعدوهم بالعذاب فاستهزءوا بالعذاب ، أي بوقوعه وفي ذكر فعل الكون تنبيه على أن الاستهزاء بوعيد الرسل كان شنشنة لهم ، وفي الإتيان ب (يَسْتَهْزِؤُنَ) مضارعا إفادة لتكرر استهزائهم.

[٨٤ ـ ٨٥] (فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنا قالُوا آمَنَّا بِاللهِ وَحْدَهُ وَكَفَرْنا بِما كُنَّا بِهِ مُشْرِكِينَ (٨٤) فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنا سُنَّتَ اللهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ فِي عِبادِهِ وَخَسِرَ هُنالِكَ الْكافِرُونَ (٨٥))

(فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنا قالُوا آمَنَّا بِاللهِ وَحْدَهُ وَكَفَرْنا بِما كُنَّا بِهِ مُشْرِكِينَ (٨٤) فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنا)

٢٥٩

موقع جملة (فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنا) من قوله : (فَلَمَّا جاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ) [غافر : ٨٣] كموقع جملة (فَلَمَّا جاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ) من قوله : (كانُوا أَكْثَرَ مِنْهُمْ) [غافر : ٨٢] لأن إفادة (لمّا) معنى التوقيت يثير معنى توقيت انتهاء ما قبلها ، أي دام دعاء الرسل إياهم ودام تكذيبهم واستهزاؤهم إلى أن رأوا بأسنا فلما رأوا بأسنا قالوا آمنا بالله وحده.

والبأس : الشدة في المكروه ، وهو جامع لأصناف العذاب كقوله تعالى : (فَأَخَذْناهُمْ بِالْبَأْساءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ فَلَوْ لا إِذْ جاءَهُمْ بَأْسُنا تَضَرَّعُوا) [الأنعام : ٤٢ ، ٤٣] فذلك البأس بمعنى البأساء ، ألا ترى إلى قوله : (تَضَرَّعُوا) وهو هنا يقول : (فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنا) فالبأس هنا العذاب الخارق للعادة المنذر بالفناء فإنهم لما رأوه علموا أنه العذاب الذي أنذروه. وفرّع عليه قوله : (فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنا) ، أي حين شاهدوا العذاب لم ينفعهم الإيمان لأن الله لا يقبل الإيمان عند نزول عذابه.

وعدل عن أن يقال : فلم ينفعهم ، إلى قوله : (فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ) لدلالة فعل الكون على أن خبره مقرر الثبوت لاسمه ، فلما أريد نفي ثبوت النفع إياهم بعد فوات وقته اجتلب لذلك نفي فعل الكون الذي خبره (يَنْفَعُهُمْ). والمعنى أن الإيمان بعد رؤية بوارق العذاب لا يفيد صاحبه مثل الإيمان عند الغرغرة ومثل الإيمان عند طلوع الشمس من مغربها كما جاء في الحديث الصحيح وسيأتي بيان هذا عقبه.

(سُنَّتَ اللهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ فِي عِبادِهِ وَخَسِرَ هُنالِكَ الْكافِرُونَ)

انتصب (سُنَّتَ اللهِ) على النيابة عن المفعول المطلق لأن (سُنَّتَ) اسم مصدر السّنّ ، وهو آت بدلا من فعله ، والتقدير : سنّ الله ذلك سنّة ، فالجملة مستأنفة استئنافا بيانيا جوابا لسؤال من يسأل لما ذا لم ينفعهم الإيمان وقد آمنوا ، فالجواب أن ذلك تقدير قدّره الله للأمم السالفة أعلمهم به وشرطه عليهم فهي قديمة في عباده لا ينفع الكافر الإيمان إلا قبل ظهور البأس ولم يستثن من ذلك إلا قوم يونس قال تعالى : (فَلَوْ لا كانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَها إِيمانُها إِلَّا قَوْمَ يُونُسَ لَمَّا آمَنُوا كَشَفْنا عَنْهُمْ عَذابَ الْخِزْيِ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا) [يونس : ٩٨].

وهذا حكم الله في البأس بمعنى العقاب الخارق للعادة والذي هو آية بينة ، فأما البأس الذي هو معتاد والذي هو آية خفية مثل عذاب بأس السيف الذي نصر الله به رسوله يوم بدر ويوم فتح مكة ، فإنّ من يؤمن عند رؤيته مثل أبي سفيان بن حرب حين رأى جيش

٢٦٠