تفسير التّحرير والتّنوير - ج ٢٤

الشيخ محمّد الطاهر ابن عاشور

تفسير التّحرير والتّنوير - ج ٢٤

المؤلف:

الشيخ محمّد الطاهر ابن عاشور


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة التاريخ العربي للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٢٦٨

هذا هو الوجه في تفسير الآية الخليّ عن التكلفات وعن ارتكاب شبه الاستخدام في قوله : (الَّتِي قَضى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الْأُخْرى) وعن التقدير.

وجملة (إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ) مستأنفة كما تذكر النتيجة عقب الدليل ، أي أن في حالة الإماتة والإنامة دلائل على انفراد الله تعالى بالتصرف وأنه المستحق للعبادة دون غيره وأن ليس المقصود من هذا الخبر الإخبار باختلاف حالتي الموت والنوم بل المقصود التفكر والنظر في مضرب المثل ، وفي دقائق صنع الله والتذكير بما تنطوي عليه من دقائق الحكمة التي تمر على كل انسان كلّ يوم في نفسه ، وتمرّ على كثير من الناس في آلهم وفي عشائرهم وهم معرضون عما في ذلك من الحكم وبديع الصنع.

وجعل ما تدل عليه آيات كثيرة لأنهما حالتان عجيبتان ثم في كل حالة تصرف يغاير التصرف الذي في الأخرى ، ففي حالة الموت سلب الحياة عن الجسم وبقاء الجسم كالجماد ومنع من أن تعود إليه الحياة وفي حالة النوم سلب بعض الحياة عن الجسم حتى يكون كالميت وما هو بميت ثم منح الحياة أن تعود إليه دواليك إلى أن يأتي إبّان سلبها عنه سلبا مستمرا.

و (الآيات لقوم يتفكرون) حاصلة على كل من إرادة التمثيل وإرادة استدلال على الانفراد بالتصرف. وتأكيد الخبر ب (إِنَ) لتنزيل معظم الناس منزلة المنكر لتلك الآيات لعدم جريهم في أحوالهم على مقتضى ما تدل عليه.

والتفكر : تكلف الفكرة ، وهو معالجة الفكر ومعاودة التدبر في دلالة الأدلة على الحقائق.

وقرأ الجمهور (قَضى عَلَيْهَا الْمَوْتَ) ببناء الفعل للفاعل ونصب الموت. وقرأه حمزة والكسائي وخلف (قَضى عَلَيْهَا الْمَوْتَ) ببناء الفعل للنائب وبرفع الموت وهو على مراعاة نزع الخافض. والتقدير : قضي عليها بالموت ، فلما حذف الخافض صار الاسم الذي كان مجرورا بمنزلة المفعول به فجعل نائبا عن الفاعل ، أو على تضمين (قَضى) معنى كتب وقدر.

[٤٣ ـ ٤٤] (أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللهِ شُفَعاءَ قُلْ أَوَلَوْ كانُوا لا يَمْلِكُونَ شَيْئاً وَلا يَعْقِلُونَ (٤٣) قُلْ لِلَّهِ الشَّفاعَةُ جَمِيعاً لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (٤٤))

١٠١

(أَمِ) منقطعة وهي للاضراب الانتقالي انتقالا من تشنيع إشراكهم إلى إبطال معاذيرهم في شركهم ، ذلك أنهم لما دمغتهم حجج القرآن باستحالة أن يكون لله شركاء تمحّلوا تأويلا لشركهم فقالوا : (ما نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونا إِلَى اللهِ زُلْفى) [الزمر : ٣] كما حكي عنهم في أول هذه السورة ، فلما استوفيت الحجج على إبطال الشرك أقبل هنا على إبطال تأويلهم منه ومعذرتهم. والاستفهام الذي تشعر به (أَمِ) في جميع مواقعها هو هنا للإنكار بمعنى أن تأويلهم وعذرهم منكر كما كان المعتذر عنه منكرا فلم يقضوا بهذه المعذرة وطرا. وقد تقدم في أول السورة بيان مرادهم بكونهم شفعاء.

وأمر الله رسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بأن يقول لهم مقالة تقطع بهتانهم وهي (أَوَلَوْ كانُوا لا يَمْلِكُونَ شَيْئاً وَلا يَعْقِلُونَ).

فالواو في (أَوَلَوْ كانُوا) عاطفة كلام المجيب على كلامهم وهو من قبيل ما سمّي بعطف التلقين في قوله تعالى : (قالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي) في سورة البقرة [١٢٤] ، ولك أن تجعل الواو للحال كما هو المختار في نظيره. وتقدم في قوله : (وَلَوِ افْتَدى بِهِ) في سورة آل عمران [٩١]. وصاحب الحال مقدر دل عليه ما قبله من قوله : (اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللهِ شُفَعاءَ). والتقدير : أيشفعون لو كانوا لا يملكون شيئا. والظاهر أن حكم تصدير الاستفهام قبل واو الحال كحكم تصديره قبل واو العطف.

وأفاد تنكير (شَيْئاً) في سياق النفي عموم كل ما يملك فيدخل في عمومه جميع أنواع الشفاعة. ولما كانت الشفاعة أمرا معنويا كان معنى ملكها تحصيل إجابتها ، والكلام تهكم إذ كيف يشفع من لا يعقل فإنه لعدم عقله لا يتصور خطور معنى الشفاعة عنده فضلا عن أن تتوجه إرادته إلى الاستشفاع فاتخاذهم شفعاء من الحماقة.

ولما نفى أن يكون لأصنامهم شيء من الشفاعة في عموم نفي ملك شيء من الموجودات عن الأصنام ، قوبل بقوله : (لِلَّهِ الشَّفاعَةُ) أي الشفاعة كلها لله. وأمر الرسولصلى‌الله‌عليه‌وسلم بأن يقول ذلك لهم ليعلموا أن لا يملك الشفاعة إلا الله ، أي هو مالك إجابة شفاعة الشفعاء الحقّ. وتقديم الخبر المجرور وهو (لِلَّهِ) على المبتدأ لإفادة الحصر. واللام للملك ، أي قصر ملك الشفاعة على الله تعالى لا يملك أحد الشفاعة عنده.

و (جَمِيعاً) حال من الشفاعة مفيدة للاستغراق ، أي لا يشذ جزئي من جزئيات حقيقة الشفاعة عن كونه ملكا لله وقد تأكد بلازم هذه لحال ما دل عليه الحصر من انتفاء أن يكون شيء من الشفاعة لغير الله.

١٠٢

وجملة (لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) لتعميم انفراد الله بالتصرف في السماوات والأرض الشامل للتصرف في مؤاخذة المخلوقات وتسيير أمورهم فموقعها موقع التذييل المفيد لتقرير الجملة التي قبله وزيادة. والمراد الملك بالتصرف بالخلق وتصريف أحوال العالمين ومن فيهما ، فإذا كان ذلك الملك له فلا يستطيع أحد صرفه عن أمر أراد وقوعه إلى ضد ذلك الأمر في مدة وجود السماوات والأرض ، وهذا إبطال لأن تكون لآلهتهم شفاعة لهم في أحوالهم في الدنيا. وعطف عليه (ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ) للإشارة إلى إثبات البعث وإلى أنه لا يشفع أحد عند الله بعد الحشر إلا من أذنه الله بذلك.

و (ثُمَ) للترتيب الرتبي كشأنها في عطف الجمل ، ذلك لأن مضمون (إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ) أن لله ملك الآخرة كما كان له ملك الدنيا وملك الآخرة أعظم لسعة مملوكاته وبقائها. وتقديم (إِلَيْهِ) على (تُرْجَعُونَ) للاهتمام والتقوّي وللرعاية على الفاصلة.

(وَإِذا ذُكِرَ اللهُ وَحْدَهُ اشْمَأَزَّتْ قُلُوبُ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَإِذا ذُكِرَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ إِذا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ (٤٥))

عطف على جملة (اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللهِ شُفَعاءَ) [الزمر : ٤٣] لإظهار تناقضهم في أقوالهم المشعر بأن ما يقولونه أقضية سفسطائية يقولونها للتنصل من دمغات الحجج التي جبههم بها القرآن ، فإنهم يعتذرون تارة على إشراكهم بأن شركاءهم شفعاء لهم عند الله. وهذا يقتضي أنهم معترفون بأن الله هو إلههم وإله شركائهم ، ثم إذا ذكر النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم أن الله واحد أو ذكر المسلمون كلمة لا إله إلا الله اشمأزّت قلوب المشركين من ذلك. وكذلك إذا ذكر الله بأنه إله الناس ولم يذكر مع ذكره أن أصنامهم شركاء لله اشمأزت قلوبهم من الاقتصار على ذكر الله فلا يرضون بالسكوت عن وصف أصنامهم بالإلهية وذلك مؤذن بأنهم يسوّونها بالله تعالى.

فقوله : (وَحْدَهُ) لك أن تجعله حالا من اسم الجلالة ومعناه منفردا. ويقدر في قوله : (ذُكِرَ اللهُ) معنى : ذكر بوصف الإلهية ويكون معنى (ذُكِرَ اللهُ وَحْدَهُ) ذكر تفرده بالإلهية. وهذا جار على قول يونس بن حبيب في (وَحْدَهُ). ولك أن تجعله مصدرا وهو قول الخليل بن أحمد ، أي هو مفعول مطلق لفعل (ذُكِرَ) لبيان نوعه ، أي ذكرا واحدا ، أي لم يذكر مع اسم الله أسماء أصنامهم. وإضافة المصدر إلى ضمير الجلالة لاشتهار المضاف إليه بهذا الوحد. وهذا الذكر هو الذي يجري في دعوة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وفي الصلوات وتلاوة القرآن وفي مجامع المسلمين.

١٠٣

ومعنى (إِذا ذُكِرَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ) إذا ذكرت أصنامهم بوصف الإلهية وذلك حين يسمعون أقوال جماعة المشركين في أحاديثهم وأيمانهم باللات والعزى ، أي ولم يذكر اسم الله معها فاستبشارهم بالاقتصار على ذكر أصنامهم مؤذن بأنهم يرجحون جانب الأصنام على جانب الله تعالى. والذكر : هو النطق بالاسم. والمراد إذا ذكر المسلمون اسم الله اشمأز المشركون لأنهم لم يسمعوا ذكر آلهتهم وإذا ذكر المشركون أسماء أصنامهم استبشر الذين يسمعونهم من قومهم. والتعبير عن آلهتهم ب (الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ) دون لفظ : شركائهم أو شفعائهم ، للإيماء إلى أن علة استبشارهم بذلك الذكر هو أنه ذكر من هم دون الله ، أي ذكر مناسب لهذه الصلة ، أي هو ذكر خال عن اسم الله ، فالمعنى : وإذا ذكر شركاؤهم دون ذكر الله إذا هم يستبشرون.

والاقتصار على التعرض لهذين الذكرين لأنهما أظهر في سوء نوايا المشركين نحو الله تعالى ، وفي بطلان اعتذارهم بأنهم ما يعبدون الأصنام إلا ليقرّبوهم إلى الله ويشفعوا لهم عنده ، فأما الذكر الذي يذكر فيه اسم الله وأسماء آلهتهم كقولهم في التلبية : لبيك لا شريك لك إلا شريكا هو لك تملكه وما ملك ، فذلك ذكر لا مناسبة له بالمقام.

وذكر جمع من المفسرين لقوله : (إِذا ذُكِرَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ) أنه إشارة إلى ما يروى من قصة الغرانيق ، ونسب تفسير ذلك بذلك إلى مجاهد ، وهو بعيد عن سياق الآية. ومن البناء على الأخبار الموضوعة فلله در من أعرضوا عن ذكر ذلك.

والاشمئزاز : شدة الكراهية والنفور ، أي كرهت ذلك قلوبهم ومداركهم.

والاستبشار : شدة الفرح حتى يظهر أثر ذلك على بشرة الوجه ، وتقدم في قوله : (وَجاءَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ يَسْتَبْشِرُونَ) في سورة الحجر [٦٧].

ومقابلة الاشمئزاز بالاستبشار مطابقة كاملة لأن الاشمئزاز غاية الكراهية والاستبشار غاية الفرح.

والتعبير عن المشركين ب (الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ) لأنهم عرفوا بهذه الصلة بين الناس مع قصد إعادة تذكيرهم بوقوع القيامة.

و (إِذا) الأولى و (إِذا) الثانية ظرفان مضمنان معنى الشرط كما هو الغالب. و (إِذا) الثالثة للمفاجأة للدلالة على أنهم يعاجلهم الاستبشار حينئذ من فرط حبهم آلهتهم. ولذلك جيء بالمضارع في (يَسْتَبْشِرُونَ) دون أن يقال : مستبشرون ، لإفادة تجدّد استبشارهم.

١٠٤

(قُلِ اللهُمَّ فاطِرَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ عالِمَ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ أَنْتَ تَحْكُمُ بَيْنَ عِبادِكَ فِي ما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (٤٦))

لما كان أكثر ما تقدم من السورة مشعرا بالاختلاف بين المشركين والمؤمنين ، وبأن المشركين مصممون على باطلهم على ما غمرهم من حجج الحق دون إغناء الآيات والتدبر عنهم أمر الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم عقب ذلك بأن يقول هذا القول تنفيسا عنه من كدر الأسى على قومه ، وإعذارا لهم بالنذارة ، وإشعارا لهم بأن الحق في جانبهم مضاع ، وأن الأجدر بالرسولصلى‌الله‌عليه‌وسلم متاركتهم وأن يفوّض الحكم في خلافهم إلى الله. وفي هذا التفويض إشارة إلى أن الذي فوّض أمره إلى الله هو الواثق بحقّيه دينه المطمئن بأن التحكيم يظهر حقه وباطل خصمه.

وابتدئ خطاب الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم ربّه بالنداء لأن المقام مقام توجيه وتحاكم. وإجراء الوصفين على اسم الجلالة لما فيهما من المناسبة بخضوع الخلق كلهم لحكمه وشمول علمه لدخائلهم من محقّ ومبطل.

والفاطر : الخالق ، وفاطر السماوات والأرض فاطر لما تحتوي عليه. ووصف (فاطِرَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) مشعر بصفة القدرة ، وتقديمه قبل وصف العلم لأن شعور الناس بقدرته سابق على شعورهم بعلمه ، ولأن القدرة أشدّ مناسبة لطلب الحكم لأن الحكم إلزام وقهر فهو من آثار القدرة مباشرة.

والغيب : ما خفي وغاب عن علم الناس ، والشهادة : ما يعلمه الناس مما يدخل تحت الإحساس الذي هو أصل العلوم.

والعدول عن الإضمار إلى الاسم الظاهر في قوله : (بَيْنَ عِبادِكَ) دون أن يقول : بيننا ، لما في (عِبادِكَ) من العموم لأنه جمع مضاف فيشمل الحكم بينهم في قضيتهم هذه والحكم بين كل مختلفين لأن التعميم أنسب بالدعاء والمباهلة.

وجملة (أَنْتَ تَحْكُمُ بَيْنَ عِبادِكَ) خبر مستعمل في الدعاء. والمعنى : احكم بيننا. وفي تلقين هذا الدعاء للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم إيماء إلى أنه الفاعل الحق. وتقديم المسند إليه على الخبر الفعلي في قوله : (أَنْتَ تَحْكُمُ) لإفادة الاختصاص ، أي أنت لا غيرك. وإذ لم يكن في الفريقين من يعتقد أن غير الله يحكم بين الناس في مثل هذا الاختلاف فيكون الرد عليه بمفاد القصر ، تعين أن القصر مستعمل كناية تلويحية عن شدة شكيمتهم في العناد وعدم

١٠٥

الإنصاف والانصياع إلى قواطع الحجج ، بحيث إن من يتطلب حاكما فيهم لا يجد حاكما فيهم إلا الله تعالى. وهذا أيضا يومئ إلى العذر للرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم في قيامه بأقصى ما كلّف به لأن هذا القول إنما يصدر عمن بذل وسعه فيما وجب عليه ، فلما لقّنه ربه أن يقوله كان ذلك في معنى : أنك أبلغت وأديت الرسالة فلم يبق إلا ما يدخل تحت قدرة الله تعالى التي لا يعجزها الألدّاء أمثال قومك ، وفيه تسلية للرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم وفيه وعيد للمعاندين.

والحكم يصدق بحكم الآخرة وهو المحقق الذي لا يخلف ، ويشمل حكم الدنيا بنصر المحق على المبطل إذا شاء الله أن يعجل بعض حكمه بأن يعجل لهم العذاب في الدنيا.

والإتيان بفعل الكون صلة ل (ما) الموصولة ليدل على تحقق الاختلاف ، وكون خبر (كان) مضارعا تعريض بأنه اختلاف متجدد إذ لا طماعية في ارعواء المشركين عن باطلهم.

وتقديم (فِيهِ) على (يَخْتَلِفُونَ) للرعاية على الفاصلة مع الاهتمام بالأمر المختلف فيه.

[٤٧ ـ ٤٨] (وَلَوْ أَنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً وَمِثْلَهُ مَعَهُ لافْتَدَوْا بِهِ مِنْ سُوءِ الْعَذابِ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَبَدا لَهُمْ مِنَ اللهِ ما لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ (٤٧) وَبَدا لَهُمْ سَيِّئاتُ ما كَسَبُوا وَحاقَ بِهِمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (٤٨))

عطف على جملة (قُلِ اللهُمَّ فاطِرَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) [الزمر : ٤٦] إلخ لأنها تشير إلى أن الحق في جانب النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وهو الذي دعا ربه للمحاكمة ، وأن الحكم سيكون على المشركين ، فأعقب ذلك بتهويل ما سيكون به الحكم بأنه لو وجد المشركون فدية منه بالغة ما بلغت لافتدوا بها.

و (ما فِي الْأَرْضِ) يشمل كل عزيز عليهم من أهليهم وأموالهم بل وأنفسهم فهو أهون من سوء العذاب يوم القيامة. والمعنى : لو أن ذلك ملك لهم يوم القيامة لافتدوا به يومئذ. ووجه التهويل في ذلك هو ما يستلزمه ملك هذه الأشياء من الشح بها في متعارف النفوس ، فالكلام تمثيل لحالهم في شدة الدرك والشقاء بحال من لو كان له ما ذكر لبذله فدية من ذلك العذاب ، وتقدم نظير هذا في سورة العقود. وتضمن حرف الشرط أن كون ما في الأرض لهم منتف ، فأفاد أن لا فداء لهم من سوء العذاب وهو تأييس لهم.

و (مِنْ) في قوله : (مِنْ سُوءِ الْعَذابِ) بمعنى لام التعليل ، أي لافتدوا به لأجل العذاب السيّئ الذي شاهدوه. ويجوز أن تكون للبدل ، أي بدلا عن (سُوءِ الْعَذابِ).

١٠٦

وعطف على هذا التأييس تهويل آخر في عظم ما ينالهم من العذاب وهو ما في الموصول من قوله : (ما لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ) من الإيهام الذي تذهب فيه نفس السامع إلى كل تصوير من الشدة. ويجوز جعل الواو للحال ، أي لافتدوا به في حال ظهور ما لم يكونوا يحتسبون.

و (مِنَ اللهِ) متعلق ب (بَدا). و (مِنْ) ابتدائية ، أي ظهر لهم مما أعد الله لهم الذي لم يكونوا يظنونه.

والاحتساب : مبالغة في الحساب بمعنى الظن مثل : اقترب بمعنى قرب. والمعنى : ما لم يكونوا يظنونه وذلك كناية عن كونه متجاوزا أقصى ما يتخيله المتخيل حين يسمع أوصافه ، فلا التفات في هذه الكناية إلى كونهم كانوا مكذبين بالبعث فلم يكن يخطر ببالهم ، ونظير هذا في الوعد بالخبر قوله تعالى : (فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ ما أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ) [السجدة : ١٧].

و (سَيِّئاتُ) جمع سيئة ، وهو وصف أضيف إلى موصوفه وهو الموصول (ما كَسَبُوا) أي مكسوباتهم السيئات. وتأنيثها باعتبار شهرة إطلاق السيئة على الفعلة وإن كان فيما كسبوه ما هو من فاسد الاعتقاد كاعتقاد الشركاء لله وإضمار البغض للرسول والصالحين والأحقاد والتحاسد فجرى تأنيث الوصف على تغليب السيئات العملية مثل الغصب والقتل والفواحش تغليبا لفظيا لكثرة الاستعمال.

وأوثر فعل (كَسَبُوا) على فعل : عملوا ، لقطع تبرمهم من العذاب بتسجيل أنهم اكتسبوا أسبابه بأنفسهم ، كما تقدم آنفا في قوله : (وَقِيلَ لِلظَّالِمِينَ ذُوقُوا ما كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ) [الزمر : ٢٤] دون : تعملون.

والحوق : الإحاطة ، أي أحاط بهم فلم ينفلتوا منه ، وتقدم الخلاف في اشتقاقه في قوله تعالى : (وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ فَحاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُمْ) في سورة الأنعام [١٠].

و (ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ) هو عذاب الآخرة ، أي يستهزءون بذكره تنزيلا للعقاب منزلة مستهزئ به فيكون الضمير المجرور استعارة مكنية. ولك أن تجعل الباء للسببية وتجعل متعلق (يَسْتَهْزِؤُنَ) محذوفا ، أي يستهزءون بالنبيء صلى‌الله‌عليه‌وسلم بسبب ذكره العذاب. وتقديم (بِهِ) على (يَسْتَهْزِؤُنَ) للاهتمام به وللرعاية على الفاصلة.

١٠٧

(فَإِذا مَسَّ الْإِنْسانَ ضُرٌّ دَعانا ثُمَّ إِذا خَوَّلْناهُ نِعْمَةً مِنَّا قالَ إِنَّما أُوتِيتُهُ عَلى عِلْمٍ بَلْ هِيَ فِتْنَةٌ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ (٤٩))

الفاء لتفريع هذا الكلام على قوله : (وَإِذا ذُكِرَ اللهُ وَحْدَهُ اشْمَأَزَّتْ قُلُوبُ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ) [الزمر : ٤٥] الآية وما بينهما اعتراض مسلسل بعضه مع بعض للمناسبات.

وتفريع ما بعد الفاء على ما ذكرناه تفريع وصف بعض من غرائب أحوالهم على بعض ، وهل أغرب من فزعهم إلى الله وحده بالدعاء إذا مسهم الضر وقد كانوا يشمئزّون من ذكر اسمه وحده فهذا تناقض من أفعالهم وتعكيس ، فإنه تسبب حديث على حديث وليس تسببا على الوجود. وهذه النكتة هي الفارقة بين العطف بالفاء هنا وعطف نظيرها بالواو في قوله أول السورة (وَإِذا مَسَّ الْإِنْسانَ ضُرٌّ دَعا رَبَّهُ مُنِيباً إِلَيْهِ) [الزمر : ٨]. والمقصود بالتفريع هو قوله : (فَإِذا مَسَّ الْإِنْسانَ ضُرٌّ دَعانا) ، وأما ما بعده فتتميم واستطراد.

وقد تقدم القول في نظير صدر هذه الآية في قوله : (وَإِذا مَسَّ الْإِنْسانَ ضُرٌّ دَعا رَبَّهُ مُنِيباً إِلَيْهِ ثُمَّ إِذا خَوَّلَهُ نِعْمَةً مِنْهُ نَسِيَ) [الزمر : ٨] الآية. وأن المراد بالإنسان كل مشرك فالتعريف تعريف الجنس ، والمراد جماعة من الناس وهم أهل الشرك فهو للاستغراق العرفي. والمخالفة بين الآيتين تفنن ولئلا تخلو إعادة الآية من فائدة زائدة كما هو عادة القرآن في القصص المكررة.

وقوله : (إِنَّما أُوتِيتُهُ عَلى عِلْمٍ إِنَّما) فيه هي الكلمة المركبة من (إنّ) الكافة التي تصير كلمة تدل على الحصر بمنزلة (ما) النافية التي بعدها (إلّا) الاستثنائية. والمعنى : ما أوتيت الذي أوتيته من نعمة إلا لعلم منيّ بطرق اكتسابه. وتركيز ضمير الغائب في قوله : (أُوتِيتُهُ) عائد إلى (نِعْمَةً) على تأويل حكاية مقالتهم بأنها صادرة منهم في حال حضور ما بين أيديهم من أنواع النعم فهو من عود الضمير إلى ذات مشاهدة ، فالضمير بمنزلة اسم الإشارة كقوله تعالى : (بَلْ هُوَ مَا اسْتَعْجَلْتُمْ بِهِ رِيحٌ فِيها عَذابٌ أَلِيمٌ) [الأحقاف : ٢٤].

ومعنى (قالَ إِنَّما أُوتِيتُهُ عَلى عِلْمٍ) اعتقد ذلك فجرى في أقواله إذ القول على وفق الاعتقاد. و (عَلى) للتعليل ، أي لأجل علم ، أي بسبب علم. وخولف بين هذه الآية وبين آية سورة القصص [٧٨] في قوله : (عَلى عِلْمٍ عِنْدِي) فلم يذكر هنا (عِنْدِي) لأن المراد بالعلم هنا مجرد الفطنة والتدبير ، وأريد هنالك علم صوغ الذهب والفضة والكيمياء

١٠٨

التي اكتسب بها قارون من معرفة تدابيرها مالا عظيما ، وهو علم خاص به ، وأما ما هنا فهو العلم الذي يوجد في جميع أهل الرأي والتدبير.

والمراد : العلم بطرق الكسب ودفع الضرّ كمثل حيل النوتيّ في هول البحر. والمعنى : أنه يقول ذلك إذا ذكّره بنعمة الله عليه الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم أو أحد المؤمنين ، وبذلك يظهر موقع صيغة الحصر لأنه قصد قلب كلام من يقول له إن ذلك من رحمة الله به.

و (بَلْ) للإضراب الإبطالي وهو إبطال لزعمهم أنهم أوتوا ذلك بسبب علمهم وتدبيرهم ، أي بل إن الرحمة التي أوتوها إنما آتاهم الله إياها ليظهر للأمم مقدار شكرهم ، أي هي دالّة على حالة فيهم تشبه حالة الاختبار لمقدار علمهم بالله وشكرهم إياه لأن الرحمة والنعمة بها أثر في المنع عليه إمّا شاكرا وإمّا كفورا والله عالم بهم وغنيّ عن اختبارهم.

وضمير (هِيَ) عائد إلى القول المستفاد من (قالَ) على طريقة إعادة الضمير على المصدر المأخوذ من فعل نحو (اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوى) [المائدة : ٨] ، وإنما أنّث ضميره باعتبار الإخبار عنه بلفظ (فِتْنَةٌ) ، أو على تأويل القول بالكلمة كقوله تعالى : (كَلَّا إِنَّها كَلِمَةٌ هُوَ قائِلُها) [المؤمنون : ١٠٠] بعد قوله : (قالَ رَبِّ ارْجِعُونِ لَعَلِّي أَعْمَلُ صالِحاً فِيما تَرَكْتُ) [المؤمنون : ٩٩ ، ١٠٠] والمراد : أن ذلك القول سبب فتنة أو مسبب عن فتنة في نفوسهم. ويجوز أن يكون الضمير عائدا إلى (نِعْمَةً).

والاستدراك بقوله تعالى : (وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ) ناشئ عن مضمون جملة (إِذا خَوَّلْناهُ نِعْمَةً مِنَّا قالَ إِنَّما أُوتِيتُهُ عَلى عِلْمٍ) ، أي لكن لا يعلم أكثر الناس ومنهم القائلون ، أنهم في فتنة بما أوتوا من نعمة إذا كانوا مثل هؤلاء القائلين الزاعمين أن ما هم فيه من خير نتيجة مساعيهم وحيلهم.

وضمير (أَكْثَرَهُمْ) عائد إلى معلوم من المقام غير مذكور في الكلام إذ لم يتقدم ما يناسب أن يكون له معادا ، والمراد به الناس ، أي لكن أكثر الناس لا يعلمون أن بعض ما أوتوه من النعمة في الدنيا يكون لهم فتنة بحسب ما يتلقونها به من قلة الشكر وما يفضي إلى الكفر ، فدخل في هذا الأكثر جميع المشركين الذين يقول كل واحد منهم : إنما أوتيته على علم.

[٥٠ ـ ٥١] (قَدْ قالَهَا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَما أَغْنى عَنْهُمْ ما كانُوا يَكْسِبُونَ (٥٠)

١٠٩

فَأَصابَهُمْ سَيِّئاتُ ما كَسَبُوا وَالَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْ هؤُلاءِ سَيُصِيبُهُمْ سَيِّئاتُ ما كَسَبُوا وَما هُمْ بِمُعْجِزِينَ (٥١))

جملة (قَدْ قالَهَا) مبيّنة لمضمون (هِيَ فِتْنَةٌ) [الزمر : ٤٩] لأن بيان مغبة الذين قالوا هذا القول في شأن النعمة التي تنالهم يبين أن نعمة هؤلاء كانت فتنة لهم. وضمير (قالَهَا) عائد إلى قول القائل (إِنَّما أُوتِيتُهُ عَلى عِلْمٍ) [الزمر : ٤٩] ، على تأويل القول بالكلمة التي هي الجملة كقوله تعالى : (قالَ رَبِّ ارْجِعُونِ لَعَلِّي أَعْمَلُ صالِحاً فِيما تَرَكْتُ كَلَّا إِنَّها كَلِمَةٌ هُوَ قائِلُها) [المؤمنون : ٩٩ ، ١٠٠].

و (الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ) هم غير المتدينين ممن سلفوا ممن علمهم الله ، ومنهم قارون وقد حكى عنه في سورة القصص أنه قال ذلك.

والمراد ب (ما كانُوا يَكْسِبُونَ) ما كسبوه من أموال. وعدم إغنائه عنهم أنهم لم يستطيعوا دفع العذاب بأموالهم. والفاء في (فَما أَغْنى عَنْهُمْ ما كانُوا يَكْسِبُونَ) لتفريع عدم إغناء ما كسبوه على مقالتهم تلك فإن عدم الإغناء مشعر بأنهم حل بهم من السوء ما شأن مثله أن يتطلب صاحبه الافتداء منه ، فإذا كان ذلك السوء عظيما لم يكن له فداء ، ففي الكلام إيجاز حذف يبينه قوله بعده : (فَأَصابَهُمْ سَيِّئاتُ ما كَسَبُوا). ففاء (فَأَصابَهُمْ سَيِّئاتُ ما كَسَبُوا) مفرّعة على جملة (فَما أَغْنى عَنْهُمْ) ، أي تسبب على انتفاء إغناء الكسب عنهم حلول العقاب بهم. وكان مقتضى الظاهر في ترتيب الجمل أن تكون جملة (فَأَصابَهُمْ سَيِّئاتُ ما كَسَبُوا) مقدّمة على جملة (فَما أَغْنى عَنْهُمْ ما كانُوا يَكْسِبُونَ) ، لأن الإغناء إنما يترقب عند حلول الضير بهم فإذا تقرر عدم الإغناء يذكر بعده حلول المصيبة ، فعكس الترتيب على خلاف مقتضى الظاهر لقصد التعجيل بإبطال مقالة قائلهم (إِنَّما أُوتِيتُهُ عَلى عِلْمٍ) [الزمر : ٤٩] ، أي لو كان لعلمهم أثر في جلب النعمة لهم لكان له أثر في دفع الضر عنهم.

والإشارة ب (هؤُلاءِ) إلى المشركين من أهل مكة وقد بيّنا غير مرة أننا اهتدينا إلى كشف عادة من عادات القرآن إذا ذكرت فيه هذه الإشارة أن يكون المراد بها المشركون من قريش. وإصابة السيئات مراد بها في الموضعين إصابة جزاء السيئات وهو عقاب الدنيا وعقاب الآخرة لأن جزاء السيئة سيئة مثلها.

والمعجز : الغالب ، وتقدم عند قوله تعالى : (إِنَّ ما تُوعَدُونَ لَآتٍ وَما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ) في سورة الأنعام [١٣٤] ، أي ما هم بمعجزينا ، فحذف مفعول اسم الفاعل

١١٠

لدلالة القرينة عليه.

(أَوَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (٥٢))

عطف على جملة (وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ) [الزمر : ٤٩] فبعد أن وصف أكثرهم بانتفاء العلم بأن الرحمة لهم فتنة وابتلاء ، عطف عليه إنكار علمهم انتفاء علمهم بذلك وإهمالهم النظر في الأدلّة المفيدة للعلم وصمهم آذانهم عن الآيات التي تذكّرهم بذلك

حتى بقوا في جهالة مركّبة وكان الشأن أن يعلموا أن الله يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر ، أي يعطي الخير من يشاء ، ويمنع من يشاء.

فالاستفهام إنكار عليهم في انتفاء علمهم بذلك لأنهم تسببوا في انتفاء العلم ، فالإنكار عليهم يتضمن توبيخا. واقتصر في الإنكار على إنكار انتفاء العلم بأن بسط الرزق وقدره من فعل الله تعالى لأنه أدنى لمشاهدتهم أحوال قومهم فكم من كادّ غير مرزوق وكم من آخر يجيئه الرزق من حيث لا يحتسب.

وجعل في ذلك آيات كثيرة لأن اختلاف أحوال الرزق الدالة على أن التصرف بيد الله تعالى ينبئ عن بقية الأحوال فتحصل في ذلك آيات كثيرة دالة على انفراد الله تعالى بالتصرف في نفس الأمر. وجعلت الآيات لقوم يؤمنون لأن المؤمنين قد علموا ذلك وتخلقوا به ولم تكن فيه آيات للمشركين الغافلين عنه.

(قُلْ يا عِبادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللهِ إِنَّ اللهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (٥٣))

أطنبت آيات الوعيد بأفنانها السابقة إطنابا يبلغ من نفوس سامعيها أيّ مبلغ من الرعب والخوف ، على رغم تظاهرهم بقلة الاهتمام بها. وقد يبلغ بهم وقعها مبلغ اليأس من سعي ينجيهم من وعيدها ، فأعقبها الله ببعث الرجاء في نفوسهم للخروج إلى ساحل النجاة إذا أرادوها على عادة هذا الكتاب المجيد من مداواة النفوس بمزيج الترغيب والترهيب.

والكلام استئناف بياني لأن الزواجر السابقة تثير في نفوس المواجهين بها خاطر التساؤل عن مسالك النجاة فتتلاحم فيها الخواطر الملكية والخواطر الشيطانية إلى أن يرسي

١١١

التلاحم على انتصار إحدى الطائفتين ، فكان في إنارة السبيل لها ما يسهل خطو الحائرين في ظلمات الشك ويرتفق بها ويواسيها بعد أن أثخنتها جروح التوبيخ والزجر والوعيد ويضمد تلك الجراحة والحليم يزجر ويلين وتثير في نفس النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم خشية أن يحيط غضب الله بالذين دعاهم إليه فأعرضوا أو حببهم في الحق فأبغضوا فلعله لا يفتح لهم باب التوبة ولا تقبل منهم بعد إعراضهم أوبة ولا سيما بعد أن أمره بتفويض الأمر إلى حكمه المشتمّ منه ترقب قطع الجدال وفصمه فكان أمره لرسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بأن يناديهم بهذه الدعوة تنفيسا عليه وتفتيحا لباب الأوبة إليه فهذا كلام ينحل إلى استئنافين فجملة (قُلْ) استئناف لبيان ما ترقّبه أفضل النبيئين صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، أي بلغ عني هذا القول.

وجملة (يا عِبادِيَ) استئناف ابتدائي من خطاب الله لهم. وابتداء الخطاب بالنداء وعنوان العباد مؤذن بأن ما بعده إعداد للقبول وإطماع في النجاة.

والخطاب بعنوان (يا عِبادِيَ) مراد به المشركون ابتداء بدليل قوله : (وَأَسْلِمُوا لَهُ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذابُ) [الزمر : ٥٤] وقوله : (وَإِنْ كُنْتُ لَمِنَ السَّاخِرِينَ) [الزمر: ٥٦] وقوله : (بَلى قَدْ جاءَتْكَ آياتِي فَكَذَّبْتَ بِها وَاسْتَكْبَرْتَ وَكُنْتَ مِنَ الْكافِرِينَ) [الزمر : ٥٩]. فهذا الخطاب جرى على غير الغالب في مثله في عادة القرآن عند ذكر (عِبادِي) بالإضافة إلى ضمير المتكلم تعالى.

وفي «صحيح البخاري» عن ابن عباس «أن ناسا من أهل الشرك كانوا قد قتلوا وأكثروا ، وزنوا وأكثروا ، فأتوا محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقالوا : إن الذي تقول وتدعو إليه لحسن لو تخبرنا أن لما عملنا كفارة ـ يعني وقد سمعوا آيات الوعيد لمن يعمل تلك الأعمال وإلا فمن أين علموا أن تلك الأعمال جرائم وهم في جاهلية ـ فنزل : (وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللهِ إِلهاً آخَرَ وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلا يَزْنُونَ) [الفرقان : ٦٨] يعني إلى قوله : (إِلَّا مَنْ تابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلاً صالِحاً) [الفرقان : ٧٠] ونزل : (قُلْ يا عِبادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللهِ).

وقد رويت أحاديث عدة في سبب نزول هذه الآية غير حديث البخاري وهي بين ضعيف ومجهول ويستخلص من مجموعها أنها جزئيات لعموم الآية وأن الآية عامة لخطاب جميع المشركين وقد أشرنا إليها في ديباجة تفسير السورة. ومن أجمل الأخبار المروية فيها ما رواه ابن إسحاق عن نافع عن ابن عمر عن عمر قال : «لما اجتمعنا على الهجرة اتّعدت أنا وهشام بن العاص السهمي ، وعيّاش بن أبي ربيعة بن عتبة. فقلنا :

١١٢

الموعد أضاة بني غفار ، وقلنا : من تأخّر منّا فقد حبس فليمض صاحباه. فأصبحت أنا وعياش بن عتبة وحبس عنا هشام وإذا هو قد فتن فافتتن فكنا نقول بالمدينة : هؤلاء قد عرفوا الله ثم افتتنوا لبلاء لحقهم لا نرى لهم توبة. وكانوا هم يقولون هذا في أنفسهم ، فأنزل الله : (قُلْ يا عِبادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا) إلى قوله : (مَثْوىً لِلْمُتَكَبِّرِينَ) [الزمر : ٦٠] قال عمر فكتبتها بيدي ثم بعثتها إلى هشام. قال هشام : فلما قدمت عليّ خرجت بها إلى ذي طوى فقلت : اللهم فهّمنيها فعرفت أنها نزلت فينا فرجعت فجلست على بعيري فلحقت برسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم» ا ه. فقول عمر : «فأنزل الله» يريد أنه سمعه بعد أن هاجر وأنه مما نزل بمكة فلم يسمعه عمر إذ كان في شاغل تهيئة الهجرة فما سمعها إلا وهو بالمدينة فإن عمر هاجر إلى المدينة قبل النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

فالخطاب بقوله : (يا عِبادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ) تمهيد بإجمال يأتي بيانه في الآيات بعده من قوله : (وَأَنِيبُوا إِلى رَبِّكُمْ) [الزمر : ٥٤]. وبعد هذا فعموم «عبادي» وعموم صلة (الَّذِينَ أَسْرَفُوا) يشمل أهل المعاصي من المسلمين وإن كان المقصود الأصلي من الخطاب المشركين على عادة الكلام البليغ من كثرة المقاصد والمعاني التي تفرغ في قوالب تسعها.

وقرأ الجمهور (يا عِبادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا) بفتح ياء المتكلم ، وقرأه أبو عمرو وحمزة والكسائي ويعقوب بإسكان الياء. ولعل وجه ثبوت الياء في هذه الآية دون نظيرها وهو قوله تعالى : (قُلْ يا عِبادِ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا رَبَّكُمْ) [الزمر : ١٠] ، أن الخطاب هنا للذين أسرفوا وفي مقدمتهم المشركون وكلهم مظنة تطرق اليأس من رحمة الله إلى نفوسهم ، فكان إثبات (يا) المتكلم في خطابهم زيادة تصريح بعلامة التكلّم تقوية لنسبة عبوديتهم إلى الله تعالى إيماء إلى أن شأن الرب الرحمة بعباده.

والإسراف : الإكثار. والمراد به هنا الإسراف في الذنوب والمعاصي ، وتقدم ذكر الإسراف في قوله تعالى : (وَلا تَأْكُلُوها إِسْرافاً) في سورة النساء [٦] وقوله : (فَلا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ) في سورة الإسراء [٣٣]. والأكثر أن يعدّى إلى متعلّقه بحرف من ، وتعديته هنا ب ـ (على) لأن الإكثار هنا من أعمال تتحملها النفس وتثقل بها وذلك متعارف في التبعات والعدوان تقول : أكثرت على فلان ، فمعنى (أَسْرَفُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ): أنهم جلبوا لأنفسهم ما تثقلهم تبعته ليشمل ما اقترفوه من شرك وسيئات.

والقنوط : اليأس ، وتقدم في قوله : (فَلا تَكُنْ مِنَ الْقانِطِينَ) في سورة الحجر [٥٥].

١١٣

وجملة (إِنَّ اللهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً) تعليل للنهي عن اليأس من رحمة الله.

ومادة الغفر ترجع إلى الستر ، وهو يقتضي وجود المستور واحتياجه للستر فدل (يَغْفِرُ الذُّنُوبَ) على أن الذنوب ثابتة ، أي المؤاخذة بها ثابتة والله يغفرها ، أي يزيل المؤاخذة بها ، وهذه المغفرة تقتضي أسبابا أجملت هنا وفصلت في دلائل أخرى من الكتاب والسنة منها قوله تعالى : (وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً ثُمَّ اهْتَدى) [طه : ٨٢] ، وتلك الدلائل يجمعها أن للغفران أسبابا تطرأ على المذنب ولو لا ذلك لكانت المؤاخذة بالذنوب عبثا ينزه عنه الحكيم تعالى ، كيف وقد سماها ذنوبا وتوعد عليها فكان قوله : (إِنَّ اللهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ) دعوة إلى تطلب أسباب هذه المغفرة فإذا طلبها المذنب عرف تفصيلها. و (جَمِيعاً) حال من (الذُّنُوبَ) ، أي حال جميعها ، أي عمومها ، فيغفر كل ذنب منها إن حصلت من المذنب أسباب ذلك. وسيأتي الكلام على كلمة (جميع) عند قوله تعالى : (وَالْأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ) في هذه السورة [٦٧].

وجملة (إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ) تعليل لجملة (يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً) أي لا يعجزه أن يغفر جميع الذنوب ما بلغ جميعها من الكثرة لأنه شديد الغفران شديد الرحمة. فبطل بهذه الآية قول المرجئة إنه لا يضر مع الإيمان شيء.

(وَأَنِيبُوا إِلى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذابُ ثُمَّ لا تُنْصَرُونَ (٥٤))

لما فتح لهم باب الرجاء أعقبه بالإرشاد إلى وسيلة المغفرة معطوفا بالواو وللدلالة على الجمع بين النهي عن القنوط من الرحمة وبين الإنابة جمعا يقتضي المبادرة ، وهي أيضا مقتضى صيغة الأمر.

والإنابة : التوبة ولما فيها وفي التوبة من معنى الرجوع عدّي الفعلان بحرف إلى. والمعنى: توبوا إلى الله مما كنتم فيه من الشرك بأن توحدوه.

وعطف عليه الأمر بالإسلام ، أي التصديق بالنبيء صلى‌الله‌عليه‌وسلم والقرآن واتباع شرائع الإسلام.

وفي قوله : (مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذابُ) إيذان بوعيد قريب إن لم ينيبوا ويسلموا كما يلمح إليه فعل (يَأْتِيَكُمُ). والتعريف في العذاب تعريف الجنس ، وهو يقتضي أنهم إن لم ينيبوا ويسلموا يأتهم العذاب. والعذاب منه ما يحصل في الدنيا إن شاءه الله وهذا

١١٤

خاص بالمشركين ، وأما المسلمون فقد استعاذ لهم منه الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم حين نزل : (قُلْ هُوَ الْقادِرُ عَلى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذاباً مِنْ فَوْقِكُمْ أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ) كما تقدم في سورة الأنعام [٦٥] ، ومن العذاب عذاب الآخرة وهو جزاء الكفر والكبائر.

وهذا الخطاب يأخذ كل فريق منه بنصيب ، فنصيب المشركين الإنابة إلى التوحيد واتّباع دين الإسلام ، ونصيب المؤمنين منه التوبة إذا أسرفوا على أنفسهم والإكثار من الحسنات وأما الإسلام فحاصل لهم.

والنصر : الإعانة على الغلبة بحيث ينفلت المغلوب من غلبة قاهرة كرها على القاهر ولا نصير لأحد على الله. وأما الشفاعة لأهل الكبائر فليست من حقيقة النصر المنفي وهذه الفقرة أكثر حظ فيها هو حظ المشركين.

(وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ ما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذابُ بَغْتَةً وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ (٥٥))

(أَحْسَنَ ما أُنْزِلَ) هو القرآن وهو معنى قوله : (الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ) [الزمر : ١٨]. والحظ للمشركين في هذه الآية لأن المسلمين قد اتّبعوا القرآن كما قال تعالى : (فَبَشِّرْ عِبادِ الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُولئِكَ الَّذِينَ هَداهُمُ اللهُ) [الزمر : ١٧ ، ١٨].

و (أَحْسَنَ) اسم تفضيل مستعمل في معنى كامل الحسن ، وليس في معنى تفضيل بعضه على بعض لأن جميع ما في القرآن حسن فهو من باب قوله تعالى : (قالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ) [يوسف : ٣٣].

وإضافة (أَحْسَنَ) إلى (ما أُنْزِلَ) من إضافة الصفة إلى الموصوف.

والعذاب المذكور في هذه هو العذاب المذكور قبل بنوعيه وكله بغتة إذ لا يتقدمه إشعار ، فعذاب الدنيا يحلّ بغتة وعذاب الآخرة كذلك لأنه تظهر بوارقه عند البعث وقد أتاهم عذاب السيف يوم بدر ويأتيهم عذاب الآخرة يوم البعث.

[٥٦ ـ ٥٨] (أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ يا حَسْرَتى عَلى ما فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللهِ وَإِنْ كُنْتُ لَمِنَ السَّاخِرِينَ (٥٦) أَوْ تَقُولَ لَوْ أَنَّ اللهَ هَدانِي لَكُنْتُ مِنَ الْمُتَّقِينَ (٥٧) أَوْ تَقُولَ حِينَ تَرَى الْعَذابَ لَوْ أَنَّ لِي كَرَّةً فَأَكُونَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ (٥٨))

١١٥

(أَنْ تَقُولَ) تعليل للأوامر في قوله : (وَأَنِيبُوا إِلى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ) [الزمر : ٥٤] و (اتَّبِعُوا أَحْسَنَ ما أُنْزِلَ) [الزمر : ٥٥] على حذف لام التعليل مع (أن) وهو كثير.

وفيه حذف لا النافية بعد (أَنْ) ، وهو شائع أيضا كقوله تعالى : (وَهذا كِتابٌ أَنْزَلْناهُ مُبارَكٌ فَاتَّبِعُوهُ وَاتَّقُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ أَنْ تَقُولُوا إِنَّما أُنْزِلَ الْكِتابُ عَلى طائِفَتَيْنِ مِنْ قَبْلِنا وَإِنْ كُنَّا عَنْ دِراسَتِهِمْ لَغافِلِينَ أَوْ تَقُولُوا لَوْ أَنَّا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْكِتابُ لَكُنَّا أَهْدى مِنْهُمْ) [الأنعام : ١٥٥ ـ ١٥٧] ، وكقوله : (فَلا تَتَّبِعُوا الْهَوى أَنْ تَعْدِلُوا) [النساء : ١٣٥]. وعادة صاحب «الكشاف» تقدير : كراهية أن تفعلوا كذا. وتقدير (لا) النافية أظهر لكثرة التصرف فيها في كلام العرب بالحذف والزيادة.

والمعنى : لئلا تقول نفس يا حسرتا على ما فرطت في جنب الله. وظاهر القول إنه القول جهرة وهو شأن الذي ضاق صبره عن إخفاء ندامته في نفسه فيصرح بما حدّث به نفسه فتكون هذه الندامة المصرح بها زائدة على التي أسرّها ، ويجوز أن يكون قولا باطنا في النفس. وتنكير (نَفْسٌ) للنوعية ، أي أن يقول صنف من النفوس وهي نفوس المشركين فهو كقوله تعالى : (عَلِمَتْ نَفْسٌ ما أَحْضَرَتْ) [التكوير : ١٤]. وقول لبيد :

أو يعتلق بعض النفوس حمامها

يريد نفسه.

وحرف (يا) في قوله : (يا حَسْرَتى) استعارة مكنية بتشبيه الحسرة بالعاقل الذي ينادي ليقبل ، أي هذا وقتك فاحضري ، والنداء من روادف المشبه به المحذوف ، أي يا حسرتي احضري فأنا محتاج إليك ، أي إلى التحسر ، وشاع ذلك في كلامهم حتى صارت هذه الكلمة كالمثل لشدة التحسر.

والحسرة : الندامة الشديدة. والألف عوض عن ياء المتكلم.

وقرأ أبو جعفر وحده يا حسرتاي بالجمع بين ياء المتكلم والألف التي جعلت عوضا عن الياء في قولهم : (يا حَسْرَتى). والأشهر عن أبي جعفر أن الياء التي بعد الألف مفتوحة. وتعدية الحسرة بحرف الاستعلاء كما هو غالبها للدلالة على تمكن التحسر من مدخول (عَلى).

و (ما) في (ما فَرَّطْتُ) صدرية ، أي على تفريطي في جنب الله.

والتفريط : التضييع والتقصير ، يقال : فرّطه. والأكثر أن يقال : فرّط فيه. والجنب

١١٦

والجانب مترادفان ، وهو ناحية الشيء ومكانه ومنه (وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ) [النساء : ٣٦] أي الصاحب المجاور.

وحرف (فِي) هنا يجوز أن يكون لتعدية فعل (فَرَّطْتُ) فلا يكون للفعل مفعول ويكون المفرط فيه هو جنب الله ، أي جهته ويكون الجنب مستعارا للشأن والحقّ ، أي شأن الله وصفاته ووصاياه تشبيها لها بمكان السيد وحماه إذا أهمل حتى اعتدي عليه أو أقفر ، كما قال سابق البربري :

أما تتقين الله في جنب وامق

له كبد حرّى عليك تقطّع

أو تكون جملة (فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللهِ) تمثيلا لحال النفس التي أوقفت للحساب والعقاب بحال العبد الذي عهد إليه سيّده حراسة حماه ورعاية ماشيته فأهملها حتى رعي الحمى وهلكت المواشي وأحضر للثقاف فيقول : يا حسرتا على ما فرطت في جنب سيدي. وعلى هذا الوجه يجوز إبقاء الجنب على حقيقته لأن التمثيل يعتمد تشبيه الهيئة بالهيئة. ويجوز أن تكون (ما) موصولة وفعل (فَرَّطْتُ) متعديا بنفسه على أحد الاستعمالين ، ويكون المفعول محذوفا وهو الضمير المحذوف العائد إلى الموصول ، وحذفه في مثله كثير ، ويكون المجرور ب (فِي) حالا من ذلك الضمير ، أي كائنا ما فرطته في جانب الله.

وجملة (وَإِنْ كُنْتُ لَمِنَ السَّاخِرِينَ) خبر مستعمل في إنشاء الندامة على ما فاتها من قبول ما جاءها به الرسول من الهدى فكانت تسخر منه ، والجملة حال من فاعل فرطت ، أي فرطت في جنب الله تفريط الساخر لا تفريط الغافل ، وهذا إقرار بصورة التفريط. و (أَنْ) مخففة من (أَنْ) المشددة ، واللام في (لَمِنَ السَّاخِرِينَ) فارقة بين (أَنْ) المخففة و (إن) النافية.

و (لَمِنَ السَّاخِرِينَ) أشد مبالغة في الدلالة على اتصافهم بالسخرية من أن يقال : وإن كنت لساخرة ، كما تقدم غير مرة منها عند قوله تعالى : (قالَ أَعُوذُ بِاللهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجاهِلِينَ) في سورة البقرة [٦٧].

ومعنى (أَوْ تَقُولَ لَوْ أَنَّ اللهَ هَدانِي لَكُنْتُ مِنَ الْمُتَّقِينَ) إنهم يقولونه لقصد الاعتذار والتنصل ، تعيد أذهانهم ما اعتادوا الاعتذار به للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم كما حكى الله عنهم : (وَقالُوا لَوْ شاءَ الرَّحْمنُ ما عَبَدْناهُمْ) [الزخرف : ٢٠] وهم كانوا يقولونه لقصد إفحام النبي حين يدعوهم فبقي ذلك التفكير عالقا بعقولهم حين يحضرون للحساب. والكلام في (مِنَ

١١٧

الْمُتَّقِينَ) مثله في (لَمِنَ السَّاخِرِينَ).

وأما قولها : (حِينَ تَرَى الْعَذابَ لَوْ أَنَّ لِي كَرَّةً) فهو تمنّ محض. و (لَوْ) فيه للتمني ، وانتصب (فَأَكُونَ) على جواب التمنّي.

والكرة : الرّجعة. وتقدم في قوله : (فَلَوْ أَنَّ لَنا كَرَّةً فَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ) في سورة الشعراء [١٠٢] ، أي كرة إلى الدنيا فأحسن ، وهذا اعتراف بأنها علمت أنها كانت من المسيئين. وقد حكي كلام النفس في ذلك الموقف على ترتيبه الطبيعي في جولانه في الخاطر بالابتداء بالتحسر على ما أوقعت فيه نفسها ، ثم بالاعتذار والتنصل طمعا أن ينجيها ذلك ، ثم بتمنّي أن تعود إلى الدنيا لتعمل الإحسان كقوله تعالى : (قالَ رَبِّ ارْجِعُونِ لَعَلِّي أَعْمَلُ صالِحاً فِيما تَرَكْتُ) [المؤمنون : ٩٩ ، ١٠٠]. فهذا الترتيب في النظم هو أحكم ترتيب ولو رتب الكلام على خلافه لفاتت الإشارة إلى تولد هذه المعاني في الخاطر حينما يأتيهم العذاب ، وهذا هو الأصل في الإنشاء ما لم يوجد ما يقتضي العدول عنه كما بينته في كتاب «أصول الإنشاء والخطابة».

(بَلى قَدْ جاءَتْكَ آياتِي فَكَذَّبْتَ بِها وَاسْتَكْبَرْتَ وَكُنْتَ مِنَ الْكافِرِينَ (٥٩))

(بَلى) حرف لإبطال منفي أو فيه رائحة النفي ، لقصد إثبات ما نفي قبله ، فتعين أن تكون هنا جوابا لقول النفس (لَوْ أَنَّ اللهَ هَدانِي لَكُنْتُ مِنَ الْمُتَّقِينَ) [الزمر : ٥٧] ، لما تقتضيه (لَوْ) التي استعملت للتمنّي من انتفاء ما تمناه وهو أن يكون الله هداه ليكون من المتقين ، أي لم يهدني الله فلم أتق. وجملة (قَدْ جاءَتْكَ آياتِي) تفصيل للإبطال وبيان له ، وهو مثل الجواب بالتسليم بعد المنع ، أي هداك الله.

وقد قوبل كلام النفس بجواب يقابله على عدد قرائنه الثلاث (١) ، وذلك بقوله : (قَدْ جاءَتْكَ آياتِي فَكَذَّبْتَ بِها) وهذا مقابل (لَوْ أَنَّ اللهَ هَدانِي) [الزمر : ٥٧] ثم بقوله : (وَاسْتَكْبَرْتَ) وهو مقابل قولها : (عَلى ما فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللهِ) [الزمر : ٥٦] أي ليست نهاية أمرك التفريط بل أعظم منه وهو الاستكبار ، ثم بقوله : (وَكُنْتَ مِنَ الْكافِرِينَ) وهذا مقابل قول النفس (لَكُنْتُ مِنَ الْمُتَّقِينَ) [الزمر : ٥٧] فهذه قرائن ثلاث. والمعنى : أن الله هداك في الدنيا بالإرشاد بآيات القرآن فقابلت الإرشاد بالتكذيب والاستكبار والكفر بها فلا عذر لك.

__________________

(١) القرائن القرآنية : جمع قرينة وهي الفقرة ذات الفاصلة.

١١٨

وكان الجواب على طريقة النشر المشوش بعد اللّف رعيا لمقتضى ذلك التشويش وهو أن يقع ابتداء النشر بإبطال الأهم مما اشتمل عليه اللّف وهو ما ساقوه على معنى التنصل والاعتذار من قولهم : (لَوْ أَنَّ اللهَ هَدانِي) [الزمر : ٥٧] لقصد المبادرة بإعلامهم بما يدحض معذرتهم ، ثم عاد إلى إبطال قولهم : (عَلى ما فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللهِ) [الزمر : ٥٦] فأبطل بقوله : (فَكَذَّبْتَ بِها) ، ثم أكمل بإبطال قولهم : (لَوْ أَنَّ لِي كَرَّةً فَأَكُونَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ) [الزمر : ٥٨] بقوله : (وَكُنْتَ مِنَ الْكافِرِينَ). ولم يورد جواب عن قول النفس (وَإِنْ كُنْتُ لَمِنَ السَّاخِرِينَ) [الزمر : ٥٦] لأنه إقرار.

ولو لم يسلك هذا الأسلوب في النشر لهذا اللف لفات التعجيل بدحض المعذرة ، ولفاتت مقابلة القرائن الثلاث المجاب عنها بقرائن أمثالها لما علمت من أن الإبطال روعي فيه قرائن ثلاث على وزان أقوال النفس ، وأن ترتيب أقوال النفس كان جاريا على الترتيب الطبيعي ، فلو لم يشوش النشر لوجب أن يقتصر فيه على أقلّ من عدد قرائن اللف فتفوت نكتة المقابلة التي هي شأن الجدال ؛ مع ما فيه من التورك.

وتركيب قوله : (وَكُنْتَ مِنَ الْكافِرِينَ) مثل ما تقدم آنفا في نظائره من قوله : (وَإِنْ كُنْتُ لَمِنَ السَّاخِرِينَ) [الزمر : ٥٦] وما بعده مما أقحم فيه فعل (كُنْتَ).

واتفق القراء على فتح التاءات الثلاث في قوله : (فَكَذَّبْتَ بِها وَاسْتَكْبَرْتَ وَكُنْتَ مِنَ الْكافِرِينَ) وكذلك فتح الكاف من قوله : (جاءَتْكَ) راجعة إلى النفس بمعنى الذات المغلبة في أن يراد بها الذكور ويعلم أن النساء مثلهم ، مثل تغليب صيغة جمع المذكر في قوله : (لَمِنَ السَّاخِرِينَ) [الزمر : ٥٦].

(وَيَوْمَ الْقِيامَةِ تَرَى الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى اللهِ وُجُوهُهُمْ مُسْوَدَّةٌ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوىً لِلْمُتَكَبِّرِينَ (٦٠))

عطف على إحدى الجمل المتقدمة المتعلقة بعذاب المشركين في الدنيا والآخرة ، والأحسن أن يكون عطفا على جملة (وَالَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْ هؤُلاءِ سَيُصِيبُهُمْ سَيِّئاتُ ما كَسَبُوا) [الزمر : ٥١] ، أي في الدنيا كما أصاب الذين من قبلهم ويوم القيامة تسوّد وجوههم. فيجوز أن يكون اسوداد الوجوه حقيقة جعله الله علامة لهم وجعل بقية الناس بخلافهم. وقد جعل الله اسوداد الوجوه يوم القيامة علامة على سوء المصير كما جعل بياضها علامة على حسن المصير قال تعالى : (يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ فَأَمَّا الَّذِينَ

١١٩

اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ أَكَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمانِكُمْ فَذُوقُوا الْعَذابَ بِما كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ وَأَمَّا الَّذِينَ ابْيَضَّتْ وُجُوهُهُمْ فَفِي رَحْمَتِ اللهِ هُمْ فِيها خالِدُونَ) في سورة آل عمران [١٠٦ ، ١٠٧]. ويجوز أن يكون ابيضاض الوجوه مستعملا في النضرة والبهجة قال تعالى : (وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ناضِرَةٌ) [القيامة : ٢٢] ، وقال حسان بن ثابت :

بيض الوجوه كريمة أحسابهم

ويقولون في الذي يخصل خصلة يفتخر بها قومه : بيّضت وجوهنا. والخطاب في قوله: (تَرَى) لغير معين.

وجملة (وُجُوهُهُمْ مُسْوَدَّةٌ) مبتدأ وخبر ، وموقع الجملة موقع الحال من (الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى اللهِ) ، لأن الرؤية هنا بصرية لا ينصب فعلها مفعولين. ولا يلزم اقتران جملة الحال الاسمية بالواو.

و (الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى اللهِ) : هم الذين نسبوا إليه ما هو منزه عنه من الشريك وغير ذلك من تكاذيب الشرك ، فالذين كذبوا على الله هم الذين ظلموا الذين ذكروا في قوله : (وَالَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْ هؤُلاءِ سَيُصِيبُهُمْ سَيِّئاتُ ما كَسَبُوا) [الزمر : ٥١] ، وصفوا أولا بالظلم ثم وصفوا بالكذب على الله في حكاية أخرى فليس قوله : (الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى اللهِ) إظهارا في مقام الإضمار.

ويدخل في (الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى اللهِ) كل من نسب إلى الله صفة لا دليل له فيها ، ومن شرع شيئا فزعم أن الله شرعه متعمدا قاصدا ترويجه للقبول بدون دليل ، فيدخل أهل الضلال الذين اختلقوا صفات لله أو نسبوا إليه تشريعا ، ولا يدخل أهل الاجتهاد المخطئون في الأدلة سواء في الفروع بالاتفاق وفي الأصول على ما نختاره إذا استفرغوا الجهود. ونسبة شيء إلى الله أمرها خطير ، ولذلك قال أئمتنا : إن الحكم المقيس غير المنصوص يجوز أن يقال هو دين الله ولا يجوز أن يقال : قاله الله.

ولذلك فجملة (أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوىً لِلْمُتَكَبِّرِينَ) واقعة موقع الاستئناف البياني لجملة (تَرَى الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى اللهِ وُجُوهُهُمْ مُسْوَدَّةٌ) على كلا المعنيين لأن السامع يسأل عن سبب اسوداد الوجوه فيجاب بأن في جهنم مثواهم يعني لأن السواد يناسب ما سيلفح وجوههم من مسّ النار فأجيب بطريقة الاستفهام التقريري بتنزيل السائل المقدّر منزلة من يعلم أن مثواهم جهنم فلا يليق به أن يغفل عن مناسبة سواد وجوههم ، لمصيرهم إلى النار ، فإن للدخائل عناوينها ، وهذا الاستفهام كما في قوله تعالى : (لِيَقُولُوا أَهؤُلاءِ مَنَ

١٢٠