تفسير التّحرير والتّنوير - ج ٢٤

الشيخ محمّد الطاهر ابن عاشور

تفسير التّحرير والتّنوير - ج ٢٤

المؤلف:

الشيخ محمّد الطاهر ابن عاشور


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة التاريخ العربي للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٢٦٨

الخطاب بأن يقال : لكم في الدنيا حسنة ، إلى الإتيان باسم الموصول الظاهر وهو (الَّذِينَ أَحْسَنُوا) ليشمل المخاطبين وغيرهم ممن ثبتت له هذه الصلة. وذلك في معنى : اتقوا ربكم لتكونوا محسنين فإن للذين أحسنوا حسنة عظيمة فكونوا منهم. وتقديم المسند في (لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هذِهِ الدُّنْيا حَسَنَةٌ) للاهتمام بالمحسن إليهم وأنهم أحرياء بالإحسان.

والمراد بالحسنة الحالة الحسنة ، واستغني بالوصف عن الموصوف على حد قوله : (رَبَّنا آتِنا فِي الدُّنْيا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً) [البقرة : ٢٠١]. وقوله في عكسه (وَجَزاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُها) [الشورى : ٤٠]. وتوسيط قوله : (فِي هذِهِ الدُّنْيا) بين (لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا) وبين (حَسَنَةٌ) نظم مما اختص به القرآن في مواقع الكلم لإكثار المعاني التي يسمح بها النظم ، وهذا من طرق إعجاز القرآن. فيجوز أن يكون قوله : (فِي هذِهِ الدُّنْيا) حالا من (حَسَنَةٌ) قدم على صاحب الحال للتنبيه من أول الكلام على أنها جزاؤهم في الدنيا ، لقلة خطور ذلك في بالهم ضمن الله لهم تعجيل الجزاء الحسن في الدنيا قبل ثواب الآخرة على نحو ما أثنى على من يقول : (رَبَّنا آتِنا فِي الدُّنْيا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً). وقد جاء في نظير هذه الجملة في سورة النحل [٣٠] قوله : (وَلَدارُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ) ، أي خير من أمور الدنيا ، ويكون الاقتصار على حسنة الدنيا في هذه الآية لأنها مسوقة لتثبيت المسلمين على ما يلاقونه من الأذى ، ولأمرهم بالهجرة عن دار الشرك والفتنة في الدين ، فأما ثواب الآخرة فأمر مقرر عندهم من قبل ومومى إليه بقوله بعده : (إِنَّما يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسابٍ) أي يوفون أجرهم في الآخرة. قال السدّي : الحسنة في الدنيا الصحة والعافية. ويجوز أن يكون قوله : «في الدنيا» متعلقا بفعل (أَحْسَنُوا) على أنه ظرف لغوي ، أي فعلوا الحسنات في الدنيا فيكون المقصود التنبيه على المبادرة بالحسنات في الحياة الدنيا قبل الفوات والتنبيه على عدم التقصير في ذلك.

وتنوين (حَسَنَةٌ) للتعظيم وهو بالنسبة لحسنة الآخرة للتعظيم الذاتي ، وبالنسبة لحسنة الدنيا تعظيم وصفي ، أي حسنة أعظم من المتعارف ، وأيّا ما كان فاسم الإشارة في قوله : (فِي هذِهِ الدُّنْيا) لتمييز المشار إليه وإحضاره في الأذهان. وعليه فالمراد ب (حَسَنَةٌ) يحتمل حسنة الآخرة ويحتمل حسنة الدنيا ، كما في قوله تعالى : الذين يقولون (رَبَّنا آتِنا فِي الدُّنْيا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً) في سورة البقرة [٢٠١]. وقد تقدم نظير هذه الآية في سورة النحل [٣٠] قوله تعالى : (وَقِيلَ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا ما ذا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ قالُوا خَيْراً لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هذِهِ الدُّنْيا حَسَنَةٌ وَلَدارُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ) ، فألحق بها ما قرر هنا.

٤١

وعطف عليه (وَأَرْضُ اللهِ واسِعَةٌ) عطف المقصود على التوطئة. وهو خبر مستعمل في التعريض بالحث على الهجرة في الأرض فرارا بدينهم من الفتن بقرينة أن كون الأرض واسعة أمر معلوم لا يتعلق الغرض بإفادته وإنما كني به عن لازم معناه ، كما قال إياس بن قبيصة الطائي :

ألم تر أن الأرض رحب فسيحة

فهل تعجزني بقعة من بقاعها

والوجه أن تكون جملة (وَأَرْضُ اللهِ واسِعَةٌ) معترضة والواو اعتراضية لأن تلك الجملة جرت مجرى المثل.

والمعنى : إن الله وعدهم أن يلاقوا حسنة إذا هم هاجروا من ديار الشرك. وليس حسن العيش ولا ضده مقصورا على مكان معين وقد وقع التصريح بما كني عنه هنا في قوله تعالى : (قالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللهِ واسِعَةً فَتُهاجِرُوا فِيها) [النساء : ٩٧].

والمراد : الإيماء إلى الهجرة إلى الحبشة. قال ابن عباس في قوله تعالى : (قُلْ يا عِبادِ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا رَبَّكُمْ) يريد جعفر بن أبي طالب والذين خرجوا معه إلى الحبشة. ونكتة الكناية هنا إلقاء الإشارة إليهم بلطف وتأنيس دون صريح الأمر لما في مفارقة الأوطان من الغمّ على النفس ، وأما الآية التي في سورة النساء فإنها حكاية توبيخ الملائكة لمن لم يهاجروا.

وموقع جملة (إِنَّما يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسابٍ) موقع التذييل لجملة (لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا) وما عطف عليها لأن مفارقة الوطن والتغرب والسفر مشاق لا يستطيعها إلا صابر ، فذيّل الأمر به بتعظيم أجر الصابرين ليكون إعلاما للمخاطبين بأن أجرهم على ذلك عظيم لأنهم حينئذ من الصابرين الذين أجرهم بغير حساب.

والصبر : سكون النفس عند حلول الآلام والمصائب بأن لا تضجر ولا تضطرب لذلك ، وتقدم عند قوله تعالى : (وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ) في سورة البقرة [١٥٥]. وصيغة العموم في قوله : (الصَّابِرِينَ) تشمل كل من صبر على مشقة في القيام بواجبات الدين وامتثال المأمورات واجتناب المنهيات ، ومراتب هذا الصبر متفاوتة وبقدرها يتفاوت الأجر.

والتوفية : إعطاء الشيء وافيا ، أي تاما. والأجر : الثواب في الآخرة كما هو مصطلح القرآن.

وقوله : (بِغَيْرِ حِسابٍ) كناية عن الوفرة والتعظيم لأن الشيء الكثير لا يتصدى لعدّه ، والشيء العظيم لا يحاط بمقداره فإن الإحاطة بالمقدار ضرب من الحساب وذلك

٤٢

شأن ثواب الآخرة الذي لا يخطر على قلب بشر.

وفي ذكر التوفية وإضافة الأجر إلى ضميرهم تأنيس لهم بأنهم استحقوا ذلك لا منة عليهم فيه وإن كانت المنة لله على كل حال على نحو قوله تعالى : (لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ) [الانشقاق : ٢٥].

والحصر المستفاد من (إِنَّما) منصبّ على القيد وهو (بِغَيْرِ حِسابٍ) والمعنى : ما يوفي الصابرون أجرهم إلا بغير حساب ، وهو قصر قلب مبنيّ على قلب ظن الصابرين أن أجر صبرهم بمقدار صبرهم ، أي أن أجرهم لا يزيد على مقدار مشقة صبرهم.

والهجرة إلى الحبشة كانت سنة خمس قبل الهجرة إلى المدينة. وكان سببها أن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم لما رأى ما يصيب أصحابه من البلاء وأن عمه أبا طالب كان يمنع ابن أخيه من أضرار المشركين ولا يقدر أن يمنع أصحابه قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «لو خرجتم إلى أرض الحبشة فإن بها ملكا لا يظلم عنده أحد حتى يجعل الله لكم فرجا مما أنتم فيه» ، فخرج معظم المسلمين مخافة الفتنة فخرج ثلاثة وثمانون رجلا وتسع عشرة امرأة سوى أبنائهم الذين خرجوا بهم صغارا. وقد كان أبو بكر الصديق استأذن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في الهجرة فأذن له فخرج قاصدا بلاد الحبشة فلقيه ابن الدّغنة فصدّه وجعله في جواره.

ولما تعلقت إرادة الله تعالى بنشر الإسلام في مكة بين العرب لحكمة اقتضت ذلك وعذر بعض المؤمنين فيما لقوه من الأذى في دينهم أذن لهم بالهجرة وكانت حكمته مقتضية بقاء رسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بين ظهراني المشركين لبثّ دعوة الإسلام لم يأذن له بالهجرة إلى موطن آخر حتى إذا تم مراد الله من توشج نواة الدين في تلك الأرض التي نشأ فيها رسولهصلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وأصبح انتقال الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى بلد آخر أسعد بانتشار الإسلام في الأرض أذن الله لرسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالهجرة إلى المدينة بعد أن هيّأ له بلطفه دخول أهلها في الإسلام وكل ذلك جرى بقدر وحكمة ولطف برسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

[١١ ، ١٢] (قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللهَ مُخْلِصاً لَهُ الدِّينَ (١١) وَأُمِرْتُ لِأَنْ أَكُونَ أَوَّلَ الْمُسْلِمِينَ (١٢))

بعد أن أمر الله رسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بخطاب المسلمين بقوله : (قُلْ يا عِبادِ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا) [الزمر : ١٠] أمر رسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بعد ذلك أن يقول قولا يتعين أنه مقول لغير المسلمين.

نقل الفخر عن مقاتل : أن كفار قريش قالوا للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : ما يحملك على هذا الدين

٤٣

الذي أتيتنا به ، ألا تنظر إلى ملة أبيك وجدك وسادات قومك يعبدون اللّات والعزّى ، فأنزل الله : (قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللهَ مُخْلِصاً لَهُ الدِّينَ).

وحقا فإن إخبار النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بذلك إذا حمل على صريحه إنما يناسب توجيهه إلى المشركين الذي يبتغون صرفه عن ذلك. ويجوز أن يكون موجها إلى المسلمين الذين أذن الله لهم بالهجرة إلى الحبشة على أنه توجيه لبقائه بمكة لا يهاجر معهم لأن الإذن لهم بالهجرة للأمن على دينهم من الفتن ، فلعلهم ترقبوا أن يهاجر الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم معهم إلى الحبشة فآذنهم الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم بأن الله أمره أن يعبد الله مخلصا له الدين ، أي أن يوحده في مكة فتكون الآية ناظرة إلى قوله تعالى : (فَاصْدَعْ بِما تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ إِنَّا كَفَيْناكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ) [الحجر : ٩٤ ـ ٩٥] ، أي أن الله أمره بأن يقيم على التبليغ بمكة فإنه لو هاجر إلى الحبشة لانقطعت الدعوة وإنما كانت هجرتهم إلى الحبشة رخصة لهم إذ ضعفوا عن دفاع المشركين عن دينهم ولم يرخّص ذلك للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

وقد جاء قريب من هذه الآية بعد ذكر أن حياة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم ومماته لله ، أي فلا يفرق من الموت في سبيل الدين وذلك قوله تعالى في سورة الأنعام [١٦٢ ، ١٦٣] : (قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيايَ وَمَماتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ لا شَرِيكَ لَهُ وَبِذلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ).

فكان قوله : (لِأَنْ أَكُونَ أَوَّلَ الْمُسْلِمِينَ) علة ل (أَعْبُدَ اللهَ مُخْلِصاً لَهُ الدِّينَ) ، فالتقدير : وأمرت بذلك لأن أكون أول المسلمين ، فمتعلّق (أُمِرْتُ) محذوف لدلالة قوله: (أَنْ أَعْبُدَ اللهَ مُخْلِصاً لَهُ الدِّينَ) عليه. ف (أَوَّلَ) هنا مستعمل في مجازه فقط إذ ليس المقصود من الأولية مجرد السبق في الزمان فإن ذلك حصل فلا جدوى في الإخبار به ، وإنما المقصود أنه مأمور بأن يكون أقوى المسلمين إسلاما بحيث أن ما يقوم به الرسولصلى‌الله‌عليه‌وسلم من أمور الإسلام أعظم مما يقوم به كل مسلم كما قال : «إني لأتقاكم لله وأعلمكم به».

وعطف (وَأُمِرْتُ) الثاني على (أُمِرْتُ) الأول للتنويه بهذا الأمر الثاني ولأنه غاير الأمر الأول بضميمة قيد التعليل فصار ذكر الأمر الأول لبيان المأمور ، وذكر الأمر الثاني لبيان المأمور لأجله ، ليشير إلى أنه أمر بأمرين عظيمين : أحدهما يشاركه فيه غيره وهو أن يعبد الله مخلصا له الدين ، والثاني يختص به وهو أن يعبده كذلك ليكون بعبادته أول المسلمين ، أي أمره الله بأن يبلغ الغاية القصوى في عبادة الله مخلصا له الدين ، فجعل وجوده متمحضا للإخلاص على أي حال كان كما قال في الآية الأخرى : (قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيايَ وَمَماتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ لا شَرِيكَ لَهُ وَبِذلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ)

٤٤

[الأنعام : ١٦٢ ، ١٦٣].

واعلم أنه لما كان الإسلام هو دين الأنبياء في خاصتهم كما تقدم عند قوله تعالى (فَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ) في سورة البقرة [١٣٢] ونظائرها كثيرة ، كانت في هذه الآية دلالة على أن محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم أفضل الرسل لشمول لفظ المسلمين للرسل السابقين.

(قُلْ إِنِّي أَخافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (١٣))

هذا القول متعين لأن يكون الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم مأمورا بأن يواجه به المشركين الذين كانوا يحاولون النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن يترك الدعوة وأن يتابع دينهم. وهما أحد الشقين اللذين وجّه الخطاب السابق إليهما ، وتعيين كلّ لما وجّه إليه منطو بقرينة السياق وقرينة ما بعده من قوله : (فَاعْبُدُوا ما شِئْتُمْ مِنْ دُونِهِ) [الزمر : ١٥].

وإعادة الأمر بالقول على هذا للتأكيد اهتماما بهذا المقول ، وأمّا على الوجه الثاني من الوجهين المتقدمين في المراد من توجيه المطلب في قوله : (إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللهَ مُخْلِصاً لَهُ الدِّينَ) [الزمر : ١١] الآية فتكون إعادة فعل (قُلْ) لأجل اختلاف المقصودين بتوجيه القول إليهم ، وقد تقدم قول مقاتل : قال كفار قريش للنبي : ما يحملك على هذا الدين الذي أتيتنا به ألا تنظر إلى ملة أبيك وجدك وسادات قومك يعبدون اللّات والعزّى.

[١٤ ـ ١٥] (قُلِ اللهَ أَعْبُدُ مُخْلِصاً لَهُ دِينِي (١٤) فَاعْبُدُوا ما شِئْتُمْ مِنْ دُونِهِ قُلْ إِنَّ الْخاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ أَلا ذلِكَ هُوَ الْخُسْرانُ الْمُبِينُ (١٥))

(قُلِ اللهَ أَعْبُدُ مُخْلِصاً لَهُ دِينِي فَاعْبُدُوا ما شِئْتُمْ مِنْ دُونِهِ) (١٤).

أمر بأن يعيد التصريح بأنه يعبد الله وحده تأكيدا لقوله : (قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللهَ مُخْلِصاً لَهُ الدِّينَ) [الزمر : ١١] ، لأهميته ، وإن كان مفاد الجملتين واحدا لأنهما معا تفيدان أنه لا يعبد إلا الله تعالى باعتبار تقييد (أَعْبُدَ اللهَ) الأول بقيد (مُخْلِصاً لَهُ الدِّينَ) وباعتبار تقديم المفعول على (أَعْبُدَ) الثاني فتأكد معنى التوحيد مرتين ليتقرر ثلاث مرات ، وتمهيدا لقوله : (فَاعْبُدُوا ما شِئْتُمْ مِنْ دُونِهِ) وهو المقصود.

والفاء في قوله : (فَاعْبُدُوا) إلخ لتفريع الكلام الذي بعدها على الكلام قبلها فهو تفريع ذكري. والأمر في قوله : (فَاعْبُدُوا ما شِئْتُمْ مِنْ دُونِهِ) مستعمل في معنى التخلية ، ويعبر عنه بالتسوية. والمقصود التسوية في ذلك عند المتكلم فتكون التسوية كناية عن قلة

٤٥

الاكتراث بفعل المخاطب ، أي أن ذلك لا يضرني كقوله في سورة الكهف [٢٩] : (فَمَنْ شاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شاءَ فَلْيَكْفُرْ) ، أي اعبدوا أيّ شيء شئتم عبادته من دون الله. وجعلت الصلة هنا فعل المشيئة إيماء إلى أن رائدهم في تعيين معبوداتهم هو مجرد المشيئة والهوى بلا دليل.

(قُلْ إِنَّ الْخاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ أَلا ذلِكَ هُوَ الْخُسْرانُ الْمُبِينُ)

أعقب أمر التسوية في شأنهم بشيء من الموعظة حرصا على إصلاحهم على عادة القرآن ، ولوحظ في إبلاغهم هذه الموعظة مقام ما سبق من التخلية بينهم وبين شأنهم جمعا بين الإرشاد وبين التوبيخ ، فجيء بالموعظة على طريق التعريض والحديث عن الغائب والمراد المخاطبون.

وافتتح المقول بحرف التوكيد تنبيها على أنه واقع وتعريف (الْخاسِرِينَ) تعريف الجنس ، أي أن الجنس الذين عرفوا بالخسران هم الذين خسروا أنفسهم وأهليهم.

وتعريف المسند والمسند إليه من طريق القصر ، فيفيد هذا التركيب قصر جنس الخاسرين على الذين خسروا أنفسهم وأهليهم ، وهو قصر مبالغة لكمال جنس الخسران في الذين خسروا أنفسهم وأهليهم فخسران غيرهم كلا خسران ، ولهذا يقال في لام التعريف في مثل هذا التركيب إنها دالة على معنى الكمال فليسوا يريدون أن معنى الكمال من معاني لام التعريف.

ولما كان الكلام مسوقا بطريق التعريض بالذين دار الجدال معهم من قوله : (إِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ اللهَ غَنِيٌّ عَنْكُمْ) إلى قوله : (فَاعْبُدُوا ما شِئْتُمْ مِنْ دُونِهِ) [الزمر : ٧ ـ ١٥] ، علم أن المراد بالذين خسروا أنفسهم وأهليهم هم الذين جرى الجدال معهم ، فأفاد معنى : أن الخاسرين أنتم ، إلا أن وجه العدول عن الضمير إلى الموصولية في قوله : (الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ) لإدماج وعيدهم بأنهم يخسرون أنفسهم وأهليهم يوم القيامة.

ومعنى خسرانهم أنفسهم : أنهم تسببوا لأنفسهم في العذاب في حين حسبوا أنهم سعوا لها في النعيم والنجاح ، وهو تمثيل لحالهم في إيقاع أنفسهم في العذاب وهم يحسبون أنهم يلقونها في النعيم ، بحال التاجر الذي عرض ماله للنماء والربح فأصيب بالتلف ، فأطلق على هذه الهيئة تركيب (خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ) ، وقد تقدم في قوله تعالى : (وَمَنْ خَفَّتْ مَوازِينُهُ فَأُولئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ بِما كانُوا بِآياتِنا يَظْلِمُونَ) في أوّل سورة الأعراف [٩].

٤٦

وأما خسرانهم أهليهم فهو مثل خسرانهم أنفسهم وذلك أنهم أغروا أهليهم من أزواجهم وأولادهم بالكفر كما أوقعوا أنفسهم فيه فلم ينتفعوا بأهليهم في الآخرة ولم ينفعوهم : (لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ) [عبس : ٣٧] ، وهذا قريب من قوله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ ناراً) [التحريم : ٦] ، فكان خسرانهم خسرانا عظيما.

فقوله : (أَلا ذلِكَ هُوَ الْخُسْرانُ الْمُبِينُ) استئناف هو بمنزلة الفذلكة والنتيجة من الكلام السابق لأن وصف (الَّذِينَ خَسِرُوا) بأنهم خسروا أحب ما عندهم وبأنهم الذين انحصر فيهم جنس الخاسرين ، يستخلص منه أن خسارتهم أعظم خسارة وأوضحها للعيان ، ولذلك أوثرت خسارتهم باسم الخسران الذي هو اسم مصدر الخسارة دالّ على قوة المصدر والمبالغة فيه.

وأشير إلى العناية والاهتمام بوصف خسارتهم ، بأن افتتح الكلام بحرف التنبيه داخلا على اسم الإشارة المفيد تمييز المشار إليه أكمل تمييز ، وبتوسط ضمير الفصل المفيد للقصر وهو قصر ادعائي ، والقول فيه كالقول في الحصر في قوله : (إِنَّ الْخاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ).

(لَهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ ظُلَلٌ مِنَ النَّارِ وَمِنْ تَحْتِهِمْ ظُلَلٌ ذلِكَ يُخَوِّفُ اللهُ بِهِ عِبادَهُ يا عِبادِ فَاتَّقُونِ (١٦))

(لَهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ ظُلَلٌ مِنَ النَّارِ وَمِنْ تَحْتِهِمْ ظُلَلٌ).

بدل اشتمال من جملة (أَلا ذلِكَ هُوَ الْخُسْرانُ الْمُبِينُ) [الزمر : ١٥] ، وخص بالإبدال لأنه أشد خسرانهم عليهم لتسلطه على إهلاك أجسامهم. والخسران يشتمل على غير ذلك من الخزي وغضب الله واليأس من النجاة. فضمير (لَهُمْ) عائد إلى مجموع (أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ) [الزمر : ١٥].

والظلل : اسم جمع ظلة ، وهي شيء مرتفع من بناء أو أعواد مثل الصّفّة يستظل به الجالس تحته ، مشتقة من الظلّ لأنها يكون لها ظلّ في الشمس ، وتقدم ذلك عند قوله تعالى: (إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمامِ) في سورة البقرة [٢١٠] ، وقوله : (وَإِذا غَشِيَهُمْ مَوْجٌ كَالظُّلَلِ) في سورة لقمان [٣٢]. وهي هنا استعارة للطبقة التي تعلو أهل النار في نار جهنم بقرينة قوله : (مِنَ النَّارِ) ، شبهت بالظلة في العلوّ والغشيان مع التهكم لأنهم

٤٧

يتمنون ما يحجب عنهم حرّ النار فعبر عن طبقات النار بالظّلل إشارة إلى أنهم لا واقي لهم من حر النار على نحو تأكيد الشيء بما يشبه ضده ، وقوله (لَهُمْ) ترشيح للاستعارة.

وأما إطلاق الظلل على الطبقات التي تحتهم فهو من باب المشاكلة ولأن الطبقات التي تحتهم من النار تكون ظللا لكفار آخرين لأن جهنم دركات كثيرة.

(ذلِكَ يُخَوِّفُ اللهُ بِهِ عِبادَهُ).

تذييل للتهديد بالوعيد من قوله تعالى : (قُلْ إِنَّ الْخاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ) [الزمر : ١٥] الآية ، أو استئناف بياني بتقدير سؤال يخطر في نفس السامع لوصف عذابهم بأنه ظلل من النار من فوقهم وظلل من تحتهم أن يقول سائل : ما يقع إعداد العذاب لهم في الآخرة بعد فوات تدارك كفرهم؟ فأجيب بأن الله جعل ذلك العذاب في الآخرة لتخويف الله عباده حين يأمرهم بالاستقامة ويشرع لهم الشرائع ليعلموا أنهم إذا لم يستجيبوا لله ورسله تكون ذلك عاقبتهم. ولما كان وعيد الله خبرا منه ولا يكون إلا صدقا حقق لهم في الآخرة ما توعدهم به في الحياة وتخويف الله به معناه أنه يخوفهم بالإخبار به وبوصفه ، أما إذاقتهم إياه فهي تحقيق للوعيد.

ويعلم من هذا بطريق المقابلة جعل الجنة لترغيب عباده في التقوى ، إلا أنه طوى ذكره لأن السياق موعظة لأهل الشرك فالله جعل الجنة وجهنم إتماما لحكمته ومراده من نظام الحياة الدنيا ليكون الناس فيها على أكمل ما ترتقي إليه النفس الزكية. والظاهر أن الجنة جعلها الله مسكنا لأهل النفوس المقدسة من الملائكة والناس مثل الرسل فلذلك هي مخلوقة من قبل ظهور التكليف ، وأما جهنم فيحتمل أنها مقدمة وهو ظاهر حديث : «اشتكت النار إلى ربها فقالت : أكل بعضي بعضا فأذن لها بنفسين نفس في الشتاء ونفس في الصيف». ويحتمل أنها تخلق يوم الجزاء ويتأول الحديث.

وقوله تعالى : (ذلِكَ) إشارة إلى ما وصف من الخسران والعذاب بتأويل المذكور. والتخويف : مصدر خوفه ، إذا جعله خائفا إذا أراه ووصف له شيئا يثير في نفسه الخوف ، وهو الشعور بما يؤلم النفس بواسطة إحدى الحواس الخمس.

والعباد المضاف إلى ضمير الجلالة في الموضعين هنا يعمّ كل عبد من الناس من مؤمن وكافر إذ الجميع يخافون العذاب على العصيان ، والعذاب متفاوت وأقصاه الخلود لأهل الشرك ، وليس العباد هنا مرادا به أهل القرب لأنه لا يناسب مقام التخويف ولأن

٤٨

قرينة قوله : (عِبادَهُ) تدل على أن المنادين جميع العباد ، ففرق بينه وبين نحو (يا عِبادِ لا خَوْفٌ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ) [الزخرف : ٦٨].

(يا عِبادِ فَاتَّقُونِ) تفريع وتعقيب لجملة (ذلِكَ يُخَوِّفُ اللهُ بِهِ عِبادَهُ) لأن التخويف مؤذن بأن العذاب أعد لأهل العصيان فناسب أن يعقب بأمر الناس بالتقوى للتفادي من العذاب.

وقدم النداء على التفريع مع أن مقتضى الظاهر تأخيره عنه كقوله تعالى : (وَاتَّقُونِ يا أُولِي الْأَلْبابِ) في سورة البقرة [١٩٧] لأن المقام هنا مقام تحذير وترهيب ، فهو جدير باسترعاء ألباب المخاطبين إلى ما سيرد من بعد من التفريع على التخويف بخلاف آية البقرة فإنها في سياق الترغيب في إكمال أعمال الحج والتزود للآخرة فلذلك جاء الأمر بالتقوى فيها معطوفا بالواو.

وحذفت ياء المتكلم من قوله : (يا عِبادِ) على أحد وجوه خمسة في المنادى المضاف إلى ياء المتكلم.

[١٧ ـ ١٨] (وَالَّذِينَ اجْتَنَبُوا الطَّاغُوتَ أَنْ يَعْبُدُوها وَأَنابُوا إِلَى اللهِ لَهُمُ الْبُشْرى فَبَشِّرْ عِبادِ (١٧) الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُولئِكَ الَّذِينَ هَداهُمُ اللهُ وَأُولئِكَ هُمْ أُولُوا الْأَلْبابِ (١٨))

لما انتهى تهديد المشركين وموعظة الخلائق أجمعين ثني عنان الخطاب إلى جانب المؤمنين فيما يختص بهم من البشارة مقابلة لنذارة المشركين. والجملة معطوفة على جملة (قُلْ إِنَّ الْخاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ) [غافر : ١٥] الآية.

والتعبير عن المؤمنين ب ـ (الَّذِينَ اجْتَنَبُوا الطَّاغُوتَ) لما في الصلة من الإيماء إلى وجه بناء الخبر وهو (لَهُمُ الْبُشْرى) ، وهذا مقابل قوله : (ذلِكَ يُخَوِّفُ اللهُ بِهِ عِبادَهُ) [الزمر : ١٦].

والطاغوت : مصدر أو اسم مصدر طغا على وزن فعلوت بتحريك العين بوزن رحموت وملوكت. وفي أصله لغتان الواو والياء لقولهم : طغا طغوا مثل علوّ ، وقولهم : طغوان وطغيان. وظاهر «القاموس» أنه واوي ، وإذ كانت لامه حرف علة ووقعت بعدها واو زنة فعلوت استثقلت الضمة عليها فقدموها على العين ليتأتّى قلبها ألفا حيث تحركت وانفتح ما

٤٩

قبلها فصار طاغوت بوزن فلعوت بتحريك اللام وتاؤه زائدة للمبالغة في المصدر.

ومن العلماء من جعل الطاغوت اسما أعجميا على وزن فاعول مثل جالوت وطالوت وهارون ، وذكره في «الإتقان» فيما وقع في القرآن من المعرّب وقال : إنه الكاهن بالحبشية. واستدركه ابن حجر فيما زاده على أبيات ابن السبكي في الألفاظ المعرّبة الواقعة في القرآن ، وقد تقدم ذكره بأخصر مما هنا عند قوله تعالى : (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ) في سورة النساء [٥١].

وأطلق الطاغوت في القرآن والسنة على القوي في الكفر أو الظلم ، فأطلق على الصّنم ، وعلى جماعة الأصنام ، وعلى رئيس أهل الكفر مثل كعب بن الأشرف. وأما جمعه على طواغيت فذلك على تغليب الاسمية علما بالغلبة إذ جعل الطاغوت لواحد الأصنام وهو قليل ، وهو هنا مراد به جماعة الأصنام وقد أجرى عليه ضمير المؤنث في قوله : (أَنْ يَعْبُدُوها) باعتبار أنه جمع لغير العاقل ، وأجري عليه ضمير جماعة الذكور في قوله تعالى : (وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِياؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُماتِ) في سورة البقرة [٢٥٧] باعتبار أنه وقع خبرا عن الأولياء وهو جمع مذكر ، وباعتبار تنزيلها منزلة العقلاء في زعم عبادها. و (أَنْ يَعْبُدُوها) بدل من (الطَّاغُوتَ) بدل اشتمال.

والإنابة : التوبة وتقدمت في قوله : (إِنَّ إِبْراهِيمَ لَحَلِيمٌ أَوَّاهٌ مُنِيبٌ) في سورة هود [٧٥]. والمراد بها هنا التوبة من كل ذنب ومعصية وأعلاها التوبة من الشرك الذي كانوا عليه في الجاهلية.

والبشرى : البشارة ، وهي الإخبار بحصول نفع ، وتقدمت في قوله تعالى : (لَهُمُ الْبُشْرى فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَفِي الْآخِرَةِ) في سورة يونس [٦٤]. والمراد بها هنا : البشرى بالجنة.

وفي تقديم المسند من قوله : (لَهُمُ الْبُشْرى) إفادة القصر وهو مثل القصر في (أُولئِكَ الَّذِينَ هَداهُمُ اللهُ وَأُولئِكَ هُمْ أُولُوا الْأَلْبابِ).

وفرع على قوله : (لَهُمُ الْبُشْرى) قوله : (فَبَشِّرْ عِبادِ الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ) وهم الذين اجتنبوا الطاغوت ، فعدل عن الإتيان بضميرهم بأن يقال : فبشرهم ، إلى الإظهار باسم العباد مضاف إلى ضمير الله تعالى ، وبالصلة لزيادة مدحهم بصفتين أخريين وهما : صفة العبودية لله ، أي عبودية التقرب ، وصفة استماع القول واتباع أحسنه.

وقرأ العشرة ما عدا السوسي راوي أبي عمرو كلمة (عِبادِ) بكسر الدال دون ياء

٥٠

وهو تخفيف واجتزاء بوجود الكسرة على الدال. وقرأها السوسي بياء بعد الدال مفتوحة في الوصل وساكنة في الوقف ، ونقل عنه حذف الياء في حالة الوقف وهما وجهان صحيحان في العربية كما في «التسهيل» ، لكن اتفقت المصاحف على كتابة (عِبادِ) هنا بدون ياء بعد الدال وذلك يوهن قراءة السوسي إلّا أن يتأول لها بأنها من قبيل الأداء.

والتعريف في (الْقَوْلَ) تعريف الجنس ، أي يستمعون الأقوال مما يدعو إلى الهدى مثل القرآن وإرشاد الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ويستمعون الأقوال التي يريد أهلها صرفهم عن الإيمان من ترهات أئمة الكفر فإذا استمعوا ذلك اتبعوا أحسنه وهو ما يدعو إلى الحق.

والمراد : يتبعون القول الحسن من تلك الأقوال ، فاسم التفضيل هنا ليس مستعملا في تفاوت الموصوف به في الفضل على غيره فهو للدلالة على قوة الوصف ، مثل قوله تعالى : (قالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ) [يوسف : ٣٣]. أثنى الله عليهم بأنهم أهل نقد يميزون بين الهدى والضلال والحكمة والأوهام نظّار في الأدلة الحقيقية نقّاد للأدلة السفسطائية. وفي الموصول إيماء إلى أن اتباع أحسن القول سبب في حصول هداية الله إياهم.

وجملة (أُولئِكَ الَّذِينَ هَداهُمُ اللهُ) مستأنفة لاسترعاء الذهن لتلقي هذا الخبر. وأكد هذا الاسترعاء بجعل المسند إليه اسم إشارة ليتميز المشار إليهم. أكمل تميزه مع التنبيه على أنهم كانوا أحرياء بهذه العناية الربانية لأجل ما اتصفوا به من الصفات المذكورة قبل اسم الإشارة وهي صفات اجتنابهم عبادة الأصنام مع الإنابة إلى الله واستماعهم كلام الله واتباعهم إياه نابذين ما يلقي به المشركون من أقوال التضليل.

والإتيان باسم الإشارة عقب ذكر أوصاف أو أخبار طريقة عربية في الاهتمام بالحكم والمحكوم عليه فتارة يشار إلى المحكوم عليه كما هنا وتارة يشار إلى الخبر كما في قوله : (هذا وَإِنَّ لِلطَّاغِينَ لَشَرَّ مَآبٍ) في سورة [ص : ٥٥].

وقد أفاد تعريف الجزأين في قوله : (أُولئِكَ الَّذِينَ هَداهُمُ اللهُ) قصر الهداية عليهم وهو قصر صفة على موصوف وهو قصر إضافي قصر تعيين ، أي دون الخاسرين الذين خسروا أنفسهم وأهليهم.

ومعنى (هَداهُمُ اللهُ) أنهم نالوا هذه الفضيلة بأن خلق الله نفوسهم قابلة للهدى الذي يخاطبهم به الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم فتهيأت نفوسهم لذلك وأقبلوا على سماع الهدى بشراشرهم وسعوا إلى ما يبلغهم إلى رضاه وطلبوا النجاة من غضبه. وليس المراد بهدي الله إياهم أنه وجه

٥١

إليهم أوامر إرشاده لأن ذلك حاصل للذين خوطبوا بالقرآن فأعرضوا عنه ولم يتطلبوا البحث عما يرضي الله تعالى فأصروا على الكفر.

وأشارت جملة (وَأُولئِكَ هُمْ أُولُوا الْأَلْبابِ) إلى معنى تهيئهم للاهتداء بما فطرهم الله عليه من عقول كاملة ، وأصل الخلقة ميّالة لفهم الحقائق غير مكترثة بالمألوف ولا مراعاة الباطل ، على تفاوت تلك العقول في مدى سرعة البلوغ للاهتداء ، فمنهم من آمن عند أول دعاء النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم مثل خديجة وأبي بكر الصديق وعلي بن أبي طالب ، ومنهم من آمن بعيد ذلك أو بعده ، فأشير إلى رسوخ هذه الأحوال في عقولهم بذكر ضمير الفصل مع كلمة (أُولُوا) الدالة على أن الموصوف بها ممسك بما أضيفت إليه كملة (أُولُوا) ، وبما دل عليه تعريف (الْأَلْبابِ) من معنى الكمال ، فليس التعريف فيه تعريف الجنس لأن جنس الألباب ثابت لجميع العقلاء. وأشار إعادة اسم الإشارة إلى تميزهم بهذه الخصلة من بين نظرائهم وأهل عصرهم.

وفيه تنبيه على أن حصول الهداية لا بدّ له من فاعل وقابل ، فأشير إلى الفاعل بقوله تعالى : (هَداهُمُ اللهُ) ، وإلى القابل بقوله : (هُمْ أُولُوا الْأَلْبابِ). وفي هذه الجملة من القصر ما في قوله : (أُولئِكَ الَّذِينَ هَداهُمُ اللهُ).

وقد دل ثناء الله على عباده المؤمنين الكمّل بأنهم أحرزوا صفة اتباع أحسن القول الذي يسمعونه ، على شرف النظر والاستدلال للتفرقة بين الحق والباطل وللتفرقة بين الصواب والخطأ ولغلق المجال في وجه الشبهة ونفي تلبس السفسطة. وهذا منه ما هو واجب على الأعيان وهو ما يكتسب به الاعتقاد الصحيح على قدر قريحة الناظر ، ومنه واجب على الكفاية وهو فضيلة وكمال في الأعيان وهو النظر والاستدلال في شرائع الإسلام وإدراك دلائل ذلك والفقه في ذلك والفهم فيه والتهمم برعاية مقاصده في شرائع العبادات والمعاملات ، وآداب المعاشرة لإقامة نظام الجامعة الإسلامية على أصدق وجه وأكمله ، وإلجام الخائضين في ذلك بعماية وغرور ، وإلقام المتنطعين والملحدين.

ومما يتبع ذلك انتفاء أحسن الأدلة وأبلغ الأقوال الموصلة إلى هذا المقصود بدون اختلال ولا اعتلال بتهذيب العلوم ومؤلفاتها ، فقد قيل : خذوا من كل علم أحسنه أخذا من قوله تعالى هنا : (الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ). وعن ابن زيد نزلت في زيد بن عمرو بن نفيل وأبي ذر الغفاري وسلمان الفارسي اجتنبوا الطاغوت أن يعبدوها في جاهليتهم واتّبعوا أحسن ما بلغهم من القول.

٥٢

وعن ابن عباس نزل قوله : (فَبَشِّرْ عِبادِ الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ) الآية في عثمان وعبد الرحمن بن عوف وطلحة والزبير وسعيد بن زيد ، وسعد بن أبي وقاص جاءوا إلى أبي بكر الصديق حين أسلم فسألوه فأخبرهم بإيمانه فآمنوا.

(أَفَمَنْ حَقَّ عَلَيْهِ كَلِمَةُ الْعَذابِ أَفَأَنْتَ تُنْقِذُ مَنْ فِي النَّارِ (١٩))

لما أفاد الحصر في قوله : (لَهُمُ الْبُشْرى) [الزمر : ١٧] والحصران اللذان في قوله: (أُولئِكَ الَّذِينَ هَداهُمُ اللهُ وَأُولئِكَ هُمْ أُولُوا الْأَلْبابِ) [الزمر : ١٨] أنّ من سواهم وهم المشركون لا بشرى لهم ولم يهدهم الله ولا ألباب لهم لعدم انتفاعهم بعقولهم ، وكان حاصل ذلك أن المشركين محرومون من حسن العاقبة بالنعيم الخالد لحرمانهم من الطاعة التي هي سببه فرع على ذلك استفهام إنكاري مفيد التنبيه على انتفاء الطماعية في هداية الفريق الذي حقت عليه كلمة العذاب ، وهم الذين قصد إقصاؤهم عن البشرى ، والهداية والانتفاع بعقولهم ، بالقصر المصوغة عليه صيغ القصر الثلاث المتقدمة كما أشرنا إليه.

وقد جاء نظم الكلام على طريقة مبتكرة في الخبر المهتم به بأن يؤكد مضمونه الثابت للخبر عنه ، بإثبات نقيض أو ضدّ ذلك المضمون لضد المخبر عنه ليتقرر مضمون الخبر مرتين مرة بأصله ومرة بنقيضه أو ضده ، لضد المخبر عنه كقوله تعالى : (هذا وَإِنَّ لِلطَّاغِينَ لَشَرَّ مَآبٍ) [ص : ٥٥] عقب قوله : (هذا ذِكْرٌ وَإِنَّ لِلْمُتَّقِينَ لَحُسْنَ مَآبٍ) [ص : ٤٩]. ويكثر أن يقع ذلك بعد الإتيان باسم إشارة للخبر المتقدم كما في الآية المذكورة أو للمخبر عنه كما في هذه السورة في قوله آنفا : (أُولئِكَ الَّذِينَ هَداهُمُ اللهُ) [الزمر : ١٨] فإنه بعد أن أشير إلى الموصوفين مرتين فرع عليه بعده إثبات ضد حكمهم لمن هم متصفون بضد حالهم.

وبهذا يظهر حسن موقع الفاء لتفريع هذه الجملة على جملة (أُولئِكَ الَّذِينَ هَداهُمُ اللهُ وَأُولئِكَ هُمْ أُولُوا الْأَلْبابِ) [الزمر : ١٨] لأن التفريع يقتضي اتصالا وارتباطا بين المفرّع والمفرّع عليه وذلك ، كالتفريع في قول لبيد :

أفتلك أم وحشية مسبوعة

خذلت وهادية الصوار قوامها

إذ فرّع تشبيها على تشبيه لاختلاف المشبه بهما.

وكلمة (الْعَذابِ) كلام وعيد الله إياهم بالعذاب في الآخرة. ومعنى (حَقَ) تحققت في الواقع ، أي كانت كلمة العذاب المتوعّد بها حقّا غير كذب ، فمعنى (حَقَ) هنا تحقق ، وحقّ كلمة العذاب عليهم ضد هدي الله الآخرين ، وكونهم في النار ضد كون

٥٣

الآخرين لهم البشرى ، وترتيب المتضادين جرى على طريقة شبه اللف والنشر المعكوس ، نظير قوله تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ* خَتَمَ اللهُ عَلى قُلُوبِهِمْ) إلى قوله : (وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ) [البقرة : ٦ ، ٧] بعد قوله : (وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ) إلى قوله : (أُولئِكَ عَلى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) [البقرة : ٤ ، ٥] ، فإن قوله : (خَتَمَ اللهُ عَلى قُلُوبِهِمْ) ضد لقوله : (أُولئِكَ عَلى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ) وقوله : (وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ) ضد قوله : (أُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ).

و (من) من قوله تعالى : (أَفَمَنْ حَقَّ عَلَيْهِ كَلِمَةُ الْعَذابِ) روي عن ابن عباس أن المراد بها أبو لهب وولده ومن تخلف عن الإيمان من عشيرة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فيكون (من) مبتدأ حذف خبره. والتقدير : تنقذه من النار ، كما دل عليه ما بعده وتكون جملة (أفَأَنْتَ تُنْقِذُ مَنْ فِي النَّارِ) تذييلا ، أي أنت لا تنقذ الذين في النار. والهمزة للاستفهام الإنكاري ، والهمزة الثانية كذلك. وإحداهما تأكيد للأخرى التي قبلها للاهتمام بشأن هذا الاستفهام الإنكاري على نحو تكرير (أنّ) في قول قس بن ساعدة :

لقد علم الحي اليمانون أنني

إذ قلت : أمّا بعد ، أني خطيبها

والذي درج عليه صاحب «الكشاف» وتبعه شارحوه أن (من) في قوله : (أَفَمَنْ حَقَّ عَلَيْهِ كَلِمَةُ الْعَذابِ) شرطية ، بناء على أن الفاء في قوله : (أَفَأَنْتَ تُنْقِذُ مَنْ فِي النَّارِ) يحسن أن تكون لمعنى غير معنى التفريع المستفاد من التي قبلها وإلا كانت مؤكدة للأولى وذلك ينقص معنى من الآية. ويجوز أن تكون (من) الأولى موصولة مبتدأ وخبره (أَفَأَنْتَ تُنْقِذُ مَنْ فِي النَّارِ) ، وتكون الفاء في قوله : (أَفَأَنْتَ تُنْقِذُ مَنْ فِي النَّارِ) مؤكدة للفاء الأولى في قوله : (أَفَمَنْ حَقَ) إلخ فتكون الهمزة والفاء معا مؤكدتين للهمزة الأولى والفاء التي معها لاتصالهما ، ولأن جملة (أَفَأَنْتَ تُنْقِذُ) صادقة على ما صدقت عليه جملة (أَفَمَنْ حَقَّ عَلَيْهِ كَلِمَةُ الْعَذابِ) ، ويكون الاستفهام الإنكاري جاريا على غالب استعماله من توجهه إلى كلام لا شرط فيه. وأصل الكلام على اعتبار (من) شرطية : أمن تحقق عليه كلمة العذاب في المستقبل ، فأنت لا تنقذه منه فتكون همزة (أَفَأَنْتَ تُنْقِذُ مَنْ فِي النَّارِ) للاستفهام الإنكاري وتكون همزة (أَفَمَنْ حَقَّ عَلَيْهِ كَلِمَةُ الْعَذابِ) افتتح بها الكلام المتضمن الإنكار للتنبيه من أول الأمر على أن الكلام يتضمن إنكارا ، كما أن الكلام الذي يشتمل على نفي قد يفتتحونه بحرف نفي قبل أن ينطقوا بالنفي كما في قول مسلم بن معبد الوالبي من بني أسد :

فلا والله لا يلفى لما بي

ولا لما بهم أبدا دواء

٥٤

ويفيد ذكرها توكيد مفاد همزة الإنكار إفادة تبعية.

وأصل الكلام على اعتبار (من) الأولى موصولة : الذين تحقّ عليهم كلمة العذاب أنت لا تنقذهم من النار ، فتكون الهمزة في قوله : (أَفَمَنْ حَقَّ عَلَيْهِ كَلِمَةُ الْعَذابِ) للاستفهام الإنكاري وتكون همزة (أَفَأَنْتَ تُنْقِذُ مَنْ فِي النَّارِ) تأكيدا للهمزة الأولى.

و (مَنْ) من قوله : (مَنْ فِي النَّارِ) موصولة. و (مَنْ فِي النَّارِ) هم من حقّ عليهم كلمة العذاب لأن كلمة العذاب هي أن يكونوا من أهل النار فوقع إظهار في مقام الإضمار ، والأصل : «أفأنت تنقذه من النّار».

وفائدة هذا الإظهار تهويل حالتهم لما في الصلة من حرف الظرفية المصوّر لحالة إحاطة النار بهم ، أي أفأنت تريد إنقاذهم من الوقوع في النار وهم الآن في النار لأنه محقق مصيرهم إلى النار ، فشبه تحقق الوقوع في المستقبل بتحققه في الحال. وقد صرح بمثل هذا الخبر المحذوف في قوله تعالى : (أَفَمَنْ يُلْقى فِي النَّارِ خَيْرٌ أَمْ مَنْ يَأْتِي آمِناً يَوْمَ الْقِيامَةِ) في سورة فصلت [٤٠] وقوله : (أَفَمَنْ يَمْشِي مُكِبًّا عَلى وَجْهِهِ أَهْدى أَمَّنْ يَمْشِي سَوِيًّا عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ) في سورة الملك [٢٢].

والاستفهام تقريري كناية عن عدم التساوي بين هذا وبين المؤمن.

وكلمة (الْعَذابِ) هي كلام الله المقتضي أن الكافر في العذاب ، أي تقدير الله ذلك للكافر في وعيده المتكرر في القرآن. وتجريد فعل (حَقَ) من تاء التأنيث مع أن فاعله مؤنث اللفظ وهو (كَلِمَةُ) ، لأن الفاعل اكتسب التذكير مما أضيف هو إليه نظرا لإمكان الاستغناء عن المضاف بالمضاف إليه ، فكأنه قيل : أفمن حق عليه العذاب. وفائدة إقحام (كَلِمَةُ) الإشارة إلى أن ذلك أمر الله ووعيده.

وتقديم المسند إليه على الخبر الفعلي في (أَفَأَنْتَ تُنْقِذُ) مفيد لتقوّي الحكم وهو إنكار أن يكون النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بتكرير دعوته يخلصهم من تحقق الوعيد أو يحصل لهم الهداية إذا لم يقدرها الله لهم.

والخطاب للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم تهوينا عليه بعض حرصه على تكرير دعوتهم إلى الإسلام ، وحزنه على إعراضهم وضلالهم ، وإلا فلم يكن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالذي يظن أنه ينقذهم من وعيد الله ، ولذلك اجتلب فعل الإنقاذ هنا تشبيها لحال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم في حرصه على هديهم وبلوغ جهده في إقناعهم بتصديق دعوته ، وحالهم في انغماسهم في موجبات وعيدهم بحال من

٥٥

يحاول إنقاذ ساقط في النار قد أحاطت النار بجوانبه استحقاقا قضى به من لا يردّ مراده ، فحالهم تشبه حال وقوعهم في النار من الآن لتحقق وقوعه ، وحذف المركب الدال على الحالة المشبه بها ، ورمز إلى معناه بذكر شيء من ملائمات ذلك المركب المحذوف وهو فعل (تُنْقِذُ مَنْ فِي النَّارِ) الذي هو من ملائمات وقوعهم في النار على طريقة التمثيل بالمكنية ، أي إجراء الاستعارة المكنية في المركب ، ويكون قوله : (تُنْقِذُ مَنْ فِي النَّارِ) قرينة هذه المكنية وهو في ذاته استعارة تحقيقية كما في قوله تعالى : (يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللهِ) [البقرة : ٢٧].

وهذا مما أشار إليه «الكشاف» وبينه التفتازانيّ فيعدّ من مبتكرات دقائق أنظارهما ، وبه يتم تقسيم الاستعارة التمثيلية إلى قسمين مصرحة ومكنية. وذلك كان مغفولا عنه في علم البيان وبهذا تعلم أن الإنقاذ أطلق على الإلحاح في الإنذار من إطلاق اسم المسبب على السبب ، وأن من في النار من هو صائر إلى النار ، فلا متمسك للمعتزلة في الاستدلال بالآية على نفي الشفاعة المحمدية لأهل الكبائر ؛ على أننا لو سلمنا أن الآية مسوقة في غرض الشفاعة فإنما نفت الشفاعة لأهل الشرك لأن من في النار يحتمل العهد وهم المتحدث عنهم في هذه الآية. ولا خلاف في أن المشركين لا شفاعة فيهم قال تعالى : (فَما تَنْفَعُهُمْ شَفاعَةُ الشَّافِعِينَ) [المدثر : ٤٨] ، على أن المنفي هو أن يكون النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم منقذا لمن أراد الله عدم إنقاذه ، فأما الشفاعة فهو سؤال الله أن ينقذه.

وقد اشتملت هذه الآية على نكت بديعة من الإعجاز إذ أفادت أن هذا الفريق من أهل الشرك الذين يكمن الكفر في قلوبهم حقت عليهم كلمة الله بتعذيبهم فهم لا يؤمنون ، وأن حالهم الآن كحال من وقع في النار فهو هالك لا محالة ، وحال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم في حرصه على هديهم كحال من رأى ساقطا في النار فاندفع بدافع الشفقة إلى محاولة إنقاذه ولكنه لا يستطيع ذلك فلذلك أنكرت شدة حرصه على تخليصهم فكان إيداع هذا المعنى في جملتين نهاية في الإيجاز مع قرنه بما دل عليه تأكيد الهمزة والفاء في الجملة الثانية من الإطناب في مقام الصراحة. ثم بما أودع في هاتين الجملتين من الاستعارة التمثيلية العجيبة بطريق المكنية ومن الاستعارة المصرحة في قرينة المكنية.

وحاصل نظم هذا التركيب : أفمن حقّ عليه كلمة العذاب فهو في النار أفأنت تنقذه وتنقذ من في النار.

وقد أشار إلى هذه الحالة الممثلة في هذه الآية حديث أبي هريرة أنه سمع النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول : «إنما مثلي ومثل الناس كمثل رجل استوقد نارا فلما أضاءت ما حوله جعل الفراش

٥٦

وهذه الدواب التي تقع في النار يقعن فيها فجعل ينزعهن ويغلبنه فيقتحمن فيها ، فأنا آخذ بحجزكم عن النار وأنتم تقتحمون فيها».

(لكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ لَهُمْ غُرَفٌ مِنْ فَوْقِها غُرَفٌ مَبْنِيَّةٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ وَعْدَ اللهِ لا يُخْلِفُ اللهُ الْمِيعادَ (٢٠))

أعيدت بشارة الذين اجتنبوا الطاغوت تفصيلا للإجمال الواقع من قبل. وافتتح الإخبار عنهم بحرف الاستدراك لزيادة تقرير الفارق بين حال المؤمنين وحال المشركين والمضادة بينهما ، فحرف الاستدراك هنا لمجرد الإشعار بتضادّ الحالين ليعلم السامع أنه سيتلقى حكما مخالفا لما سبق كما تقدم في قوله تعالى : (وَلكِنِ انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ) في سورة الأعراف [١٤٣] ، وقوله : (وَلكِنْ كَرِهَ اللهُ انْبِعاثَهُمْ) في سورة براءة [٤٦] ، فحصل في قضية الذين اجتنبوا عبادة الطاغوت تقرير على تقرير ابتدئ بالإشارتين في قوله : (أُولئِكَ الَّذِينَ هَداهُمُ اللهُ وَأُولئِكَ هُمْ أُولُوا الْأَلْبابِ) [الزمر : ١٨] ثم بما أعقب من تفريع حال أضدادهم على ذكر أحوالهم ثم بالاستدراك الفارق بين حالهم وحال أضدادهم.

والمراد بالذين اتقوا ربهم : هم الذين اجتنبوا عبادة الطاغوت وأنابوا إلى الله واتبعوا أحسن القول واهتدوا بهدي الله وكانوا أولي الألباب ، فعدل عن الإتيان بضميرهم هنا إلى الموصول لقصد مدحهم بمدلول الصلة وللإيماء إلى أن الصلة سبب للحكم المحكوم به على الموصول وهو نوالهم الغرف. وعدل عن اسم الجلالة إلى وصف الرب المضاف إلى ضمير المتقين لما في تلك الإضافة من تشريفهم برضى ربهم عنهم.

واللام في (لَهُمْ) للاختصاص. والمعنى : أنها لهم في الجنة ، أي أعدت لهم في الجنة.

والغرف : جمع غرفة بضم الغين وسكون الراء ، وهي البيت المرتكز على بيت آخر ، ويقال لها العلّيّة (بضم العين وكسرها وبكسر اللام مشدّدة والتحتية كذلك) وتقدمت الغرفة في آخر سورة الفرقان [٧٥].

ومعنى (مِنْ فَوْقِها غُرَفٌ) أنها موصوفة باعتلاء غرف عليها وكل ذلك داخل في حيّز لام الاختصاص ، فالغرف التي فوق الغرف هي لهم أيضا لأن ما فوق البناء تابع له وهو المسمّى بالهواء في اصطلاح الفقهاء. فالمعنى : لهم أطباق من الغرف ، وذلك مقابل ما جعل لأهل النار في قوله : (لَهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ ظُلَلٌ مِنَ النَّارِ وَمِنْ تَحْتِهِمْ ظُلَلٌ) [الزمر : ١٦].

٥٧

وخولف بين الحالتين : فجعل للمتقين غرف موصوفة بأنها فوقها غرف ، وجعلت للمشركين ظلل من النار ، وعطف عليها أنّ من تحتهم ظللا للإشارة إلى أن المتقين متنعمون بالتنقل في تلك الغرف ، وإلى أن المشركين محبوسون في مكانهم ، وأن الظلل من النار من فوقهم ومن تحتهم لتتظاهر الظلل بتوجيه لفح النار إليه من جميع جهاتهم.

والمبنيّة : المسموكة الجدران بحجر وجصّ ، أو حجر وتراب ، أو بطوب مشمس ثم توضع عليها السقف ، وهذا نعت لغرف التي فوقها غرف. ويعلم منه أن الغرف المعتلى عليها مبنية بدلالة الفحوى. وقد تردد المفسرون في وجه وصف الغرف مع أن الغرفة لا تكون إلا من بناء ، ولم يذهبوا إلى أنه وصف كاشف ولهم العذر في ذلك لقلة جدواه فقيل ذكر المبنية للدلالة على أنها غرف حقيقة لا أشياء مشابهة الغرف فرقا بينهما وبين الظلل التي جعلت للذين خسروا يوم القيامة فإن ظللهم كانت من نار فلا يظن السامع أن غرف المتقين مجاز عن سحابات من الظلّ أو نحو ذلك لعدم الداعي إلى المجاز هنا بخلافه هنالك لأنه اقتضاه مقام التهكم.

وقال في «الكشاف» : (مَبْنِيَّةٌ) مثل المنازل اللاصقة للأرض ، أي فذكر الوصف تمهيد لقوله : (تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ) لأن المعروف أن الأنهار لا تجري إلا تحت المنازل السفلية أي لم يفت الغرف شيء من محاسن المنازل السفلية.

وقيل : أريد أنها مهيّأة لهم من الآن. فهي موجودة لأن اسم المفعول كاسم الفاعل في اقتضائه الاتصاف بالوصف في زمن الحال فيكون إيماء إلى أن الجنة مخلوقة من الآن.

ويجوز عندي أن يكون الوصف احترازا عن نوع من الغرف تكون نحتا في الحجر في الجبال مثل غرف ثمود ، ومثل ما يسمّيه أهل الجنوب التونسي غرفا ، وهي بيوت منقورة في جبال (مدنين) و (مطماطة) و (تطاوين) وانظر هل تسمى تلك البيوت غرفا في العربية فإن كتب اللغة لم تصف مسمّى الغرفة وصفا شافيا. ويجوز أن يكون (مَبْنِيَّةٌ) وصفا للغرف باعتبار ما دل عليه لفظها من معنى المبنيّ المعتلي فيكون الوصف دالا على تمكن المعنى الموصوف ، أي مبنية بناء بالغا الغاية في نوعه كقولهم : ليل أليل ، وظلّ ظليل.

وجري الأنهار من تحتها من كمال حسن منظرها للمطلّ منها. ومعنى (مِنْ تَحْتِهَا) أن الأنهار تمرّ على ما يجاور تحتها ، كما تقدم في قوله تعالى : (جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ) في آل عمران [١٥] ، فأطلق اسم «تحت» على مجاورة.

ويجوز أن يكون المعنى : تجري من تحت أسسها الأنهار ، أي تخترق أسسها وتمر

٥٨

فيها وفي ساحاتها ، وذلك من أحسن ما يرى في الديار كديار دمشق وقصر الحمراء بالأندلس وديار أهل الترف في مدينة فاس فيكون إطلاق «تحت» حقيقة.

والمعنى : أن كل غرفة منها يجري تحتها نهر فهو من مقابلة الجمع ليقسّم على الآحاد ، وذلك بأن يصعد الماء إلى كل غرفة فيجري تحتها.

و (وَعْدَ اللهِ) مصدر منصوب على أنه مفعول مطلق مؤكد لنفسه لأن قوله : (لَهُمْ غُرَفٌ) في معنى : وعدهم الله غرفا وعدا منه. ويجوز انتصابه على الحال من (غُرَفٌ) على حدّ قوله : (وَعْداً عَلَيْنا) ، وإضافة (وَعْدَ) إلى اسم الجلالة مؤذنة بأنه وعد موفى به فوقعت جملة (لا يُخْلِفُ اللهُ الْمِيعادَ) بيانا لمعنى (وَعْدَ اللهِ).

والميعاد : مصدر ميمي بمعنى الوعد.

(أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَسَلَكَهُ يَنابِيعَ فِي الْأَرْضِ ثُمَّ يُخْرِجُ بِهِ زَرْعاً مُخْتَلِفاً أَلْوانُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَراهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَجْعَلُهُ حُطاماً إِنَّ فِي ذلِكَ لَذِكْرى لِأُولِي الْأَلْبابِ (٢١))

استئناف ابتدائي انتقل به إلى غرض التنويه بالقرآن وما احتوى عليه من هدى الإسلام ، وهو الغرض الذي ابتدئت به السورة وانثنى الكلام منه إلى الاستطراد بقوله تعالى : (فَاعْبُدِ اللهَ مُخْلِصاً لَهُ الدِّينَ) [الزمر : ٢] إلى هنا ، فهذا تمهيد لقوله : (أَفَمَنْ شَرَحَ اللهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ) إلى قوله : (ذلِكَ هُدَى اللهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشاءُ) [الزمر : ٢٢ ، ٢٣] فمثلت حالة إنزال القرآن واهتداء المؤمنين به والوعد بنماء ذلك الاهتداء ، بحالة إنزال المطر ونبات الزرع به واكتماله. وهذا التمثيل قابل لتجزئة أجزائه على أجزاء الحالة المشبه بها : فإنزال الماء من السماء تشبيه لإنزال القرآن لإحياء القلوب ، وإسلاك الماء ينابيع في الأرض تشبيه لتبليغ القرآن للناس ، وإخراج الزرع المختلف الألوان تشبيه لحال اختلاف الناس من طيّب وغيره ، ونافع وضار ، وهياج الزرع تشبيه لتكاثر المؤمنين بين المشركين. وأما قوله تعالى : (ثُمَّ يَجْعَلُهُ حُطاماً) فهو إدماج للتذكير بحالة الممات واستواء الناس فيها من نافع وضار. وفي تعقيب هذا بقوله : (أَفَمَنْ شَرَحَ اللهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ) إلى قوله : (وَمَنْ يُضْلِلِ اللهُ فَما لَهُ مِنْ هادٍ) [الزمر : ٢٢ ، ٢٣] إشارة إلى العبرة من هذا التمثيل.

وقريب من تمثيل هذه الآية ما في «الصحيحين» عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال : «مثل ما بعثني الله به من الهدى والعلم كمثل الغيث الكثير أصاب أرضا فكان منها نقيّة قبلت الماء

٥٩

فأنبتت الكلأ والعشب الكثير ، وكان منها أجادب أمسكت الماء فنفع الله بها الناس فشربوا وسقوا وزرعوا ، وأصاب منها طائفة أخرى إنما هي قيعان لا تمسك ماء ولا تنبت كلأ فذلك مثل من فقه في دين الله ونفعه ما بعثني الله به فعلم وعلّم ، ومثل من لم يرفع بذلك رأسا ولم يقبل هدى الله الذي أرسلت به». ويجوز أن يكون المعنى أصالة وإدماجا على عكس ما بيّنا ، فيكون عودا إلى الاستدلال على تفرد الله تعالى بالالهية بدليل من مخلوقاته التي يشاهدها الناس مشاهدة متكررة ، فيكون قوله تعالى : (أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً) إلى قوله : (إِنَّ فِي ذلِكَ لَذِكْرى لِأُولِي الْأَلْبابِ)(١) متصلا بقوله تعالى : (خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْها زَوْجَها) [الزمر : ٦] المتصل بقوله تعالى : (خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ يُكَوِّرُ اللَّيْلَ عَلَى النَّهارِ) [الزمر : ٥] ، ويكون ما بيناه من تمثيل حال نزول القرآن وانتفاع المؤمنين إدماجا في هذا الاستدلال. وعلى كلا الوجهين أدمج في أثناء الكلام إيماء إلى إمكان إحياء الناس حياة ثانية.

والكلام استفهام تقريري ، والخطاب لكل من يصلح للخطاب فليس المراد به مخاطبا معيّنا. والرؤية بصرية.

وقوله : (أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً) تقدم نظيره في قوله : (وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً) في سورة الأنعام [٩٩].

و (فَسَلَكَهُ) أدخله ، أي جعله سالكا ، أي داخلا ، ففعل سلك هنا متعد وقد تقدم عند قوله تعالى : (وَسَلَكَ لَكُمْ فِيها سُبُلاً) في سورة طه [٥٣] ، وذكرنا هنالك أن فعل سلك يكون قاصرا ومتعدّيا ، وهذا الإدخال دليل ثان.

و (يَنابِيعَ) جمع ينبوع وهو العين من الماء ، تقدم في قوله تعالى : (حَتَّى تَفْجُرَ لَنا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعاً) في سورة الإسراء [٩٠]. وانتصب (يَنابِيعَ) على الحال من ضمير (ماءً). وتصيير الماء الداخل في الأرض ينابيع دليل ثالث على عظيم قدرة الله.

وعطف ب (ثُمَ) قوله : (ثُمَّ يُخْرِجُ بِهِ زَرْعاً) لإفادة التراخي الرتبي بحرف (ثُمَ) كشأنها في عطف الجمل لأن إخراج الزرع من الأرض بعد إقحالها أوقع في نفوس الناس لأنه أقرب لأبصارهم وأنفع لعيشهم وإذ هو المقصود من المطر. وهذا الإخراج دليل رابع.

والألوان : جمع لون ، واللون : كيفية لائحة على ظاهر الجسم في الضوء ، وتقدم في

__________________

(١) في المطبوعة إِنَّما يَتَذَكَّرُ أُولُوا الْأَلْبابِ*.

٦٠