تفسير التّحرير والتّنوير - ج ٢٤

الشيخ محمّد الطاهر ابن عاشور

تفسير التّحرير والتّنوير - ج ٢٤

المؤلف:

الشيخ محمّد الطاهر ابن عاشور


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة التاريخ العربي للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٢٦٨

خواطر تشعره بأنه أعظم من غيره فلا يرضى بمساواته بله متابعته ، وتقدم في تفسير قوله تعالى : (إِلَّا إِبْلِيسَ أَبى وَاسْتَكْبَرَ) في سورة البقرة [٣٤].

والمعنى : ما يحملهم على المجادلة في آيات الله إلا الكبر على الذي جاءهم بها وليست مجادلتهم لدليل لاح لهم. وقد أثبت لهم الكبر الباعث على المجادلة بطريق القصر لينفى أن يكون داعيهم إلى المجادلة شيء آخر غير الكبر على وجه مؤكد ، فإن القصر تأكيد على تأكيد لما يتضمنه من إثبات الشيء بوجه مخصوص مؤكّد ، ومن نفي ما عداه فتضمن جملتين.

وجملة (ما هُمْ بِبالِغِيهِ) يجوز أن تكون معترضة ، ويجوز أن تكون في موضع الصفة ل (كِبْرٌ). وحقيقة البلوغ : الوصول ، قال تعالى : (إِلى بَلَدٍ لَمْ تَكُونُوا بالِغِيهِ إِلَّا بِشِقِّ الْأَنْفُسِ) [النحل : ٧] ويطلق على نوال الشيء وتحصيله مجازا مرسلا كما في قوله تعالى: (ما بَلَغُوا مِعْشارَ ما آتَيْناهُمْ) [سبأ : ٤٥] وهو هنا محمول على المعنى المجازي لا محالة ، أي ما هم ببالغي الكبر.

وإذ قد كان الكبر مثبتا حصوله في نفوسهم إثباتا مؤكدا بقوله : (إِنْ فِي صُدُورِهِمْ إِلَّا كِبْرٌ) ، تعيّن أن نفي بلوغهم الكبر منصرف إلى حالات الكبر : فإما أن يراد نفي أهليتهم للكبر إذ هم أقل من أن يكون لهم الكبر كقوله تعالى : (لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ) [المنافقون : ٨] أي لا عزة حقا لهم ، فالمعنى هنا : كبر زيف ، وإما أن يراد نفي نوالهم شيئا من آثار كبرهم مثل تحقير الذين يتكبرون عليهم مثل احتقار المتكبر عليهم ومخالفتهم إياهم فيما يدعونهم إليه فضلا عن الانتظام في سلك اتباعهم ، وإذلالهم ، وإفحام حجتهم ، فالمعنى : ما هم ببالغين مرادهم الذي يأملونه منك في نفوسهم الدالة عليه أقوالهم مثل قولهم : (نَتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ) [الطور : ٣٠] وقولهم : (لا تَسْمَعُوا لِهذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ) [فصلت : ٢٦] ونحو ذلك من أقوالهم الكاشفة لآمالهم.

فتنكير : (كِبْرٌ) للتعظيم ، أي كبر شديد بتعدد أنواعه ، وتمكنه من نفوسهم ، فالضمير البارز في (بِبالِغِيهِ) عائد إلى الكبر على وجه المجاز بعلاقة السببية أو المسببية ، والداعي إلى هذا المجاز طلب الإيجاز لأن تعليق نفي البلوغ باسم ذات الكبر يشمل جميع الأحوال التي يثيرها الكبر ، وهذا من مقاصد إسناد الأحكام إلى الذوات إن لم تقم قرينة على إرادة حالة مخصوصة ، كما في قوله تعالى : (نَحْنُ قَسَمْنا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ) [الزخرف : ٣٢] أي

٢٢١

جميع أحوال معيشتهم. فشمل قوله : (ما هُمْ بِبالِغِيهِ) عدم بلوغهم شيئا مما ينطوي عليه كبرهم ، فما بلغوا الفضل على غيرهم حتى يتكبروا ، ولا مطمع لهم في حصول آثار كبرهم ، كما قال تعالى : (لَقَدِ اسْتَكْبَرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ وَعَتَوْا عُتُوًّا كَبِيراً) [الفرقان : ٢١].

وقد نفي أن يبلغوا مرادهم بصوغه في قالب الجملة الاسمية لإفادتها ثبات مدلولها ودوامه ، فالمعنى ، أنهم محرومون من بلوغه حرمانا مستمرا ، فاشتمل تشويه حالهم إثباتا ونفيا على خصوصيات بلاغية كثيرة. ومن المفسرين من جعل ما صدق : (الَّذِينَ يُجادِلُونَ فِي آياتِ اللهِ) هنا اليهود ، وجعله في معنى قوله تعالى : (أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلى ما آتاهُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ) [النساء : ٥٤] ، وارتقى بذلك إلى القول بأن هذه الآية مدنية ألحقت بالسورة المكية كما تقدم في مقدمة تفسير السورة ، وأيدوا تفسيرهم هذا بآثار لو صحت لم تكن فيها دلالة على أكثر من صلوحية الآية لأن تضرب مثلا لكل فريق يجادلون في آيات الله بغير سلطان جدالا يدفعهم إليهم الكبر.

(فَاسْتَعِذْ بِاللهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ)

لما ضمن الله لرسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن الذين يجادلونه فيما جاءهم به يحدوهم إلى الجدال كبرهم المنطوي على كيدهم وأنهم لا يبلغون من أضمروه وما يضمرونه ، فرّع على ذلك أن أمره بأن يجعل الله معاذه منهم ، أي لا يعبأ بما يبيتونه ، أي قدم على طلب العوذ بالله. وحذف متعلق (استعذ) لقصد تعميم الاستعاذة من كل ما يخاف منه.

وجملة (إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ) تعليل للأمر بالدوام على الاستعاذة ، أي لأنه المطلع على أقوالهم وأعمالهم وأنت لا تحيط علما بتصاريف مكرهم وكيدهم.

والتوكيد بحرف (إنّ) ، والحصر بضمير الفصل مراعى فيه التعريض بالمتحدث عنهم وهم الذين يجادلون في آيات الله بغير سلطان. والمعنى : أنه هو القادر على إبطال ما يصنعونه لا أنت فكيف يتم لهم ما أضمروه لك.

(لَخَلْقُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ (٥٧))

مناسبة اتصال هذا الكلام بما قبله أن أهم ما جادلوا فيه من آيات الله هي الآيات المثبتة للبعث وجدالهم في إثبات البعث هو أكبر شبهة لهم ضللت أنفسهم وروجوها في

٢٢٢

عامّتهم فقالوا : (أَإِذا كُنَّا تُراباً أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ) [الرعد : ٥]. فكانوا يسخرون من النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم لأجل ذلك (وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا هَلْ نَدُلُّكُمْ عَلى رَجُلٍ يُنَبِّئُكُمْ إِذا مُزِّقْتُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّكُمْ لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ أَفْتَرى عَلَى اللهِ كَذِباً أَمْ بِهِ جِنَّةٌ) [سبأ : ٧ ، ٨] ، ولما كانوا مقرّين بأن الله هو خالق السماوات والأرض أقيمت عليهم الحجة على إثبات البعث بأنّ بعث الأموات لا يبلغ أمره مقدار أمر خلق السماوات والأرض بالنسبة إلى قدرة الله تعالى. والكلام مؤذن بقسم مقدّر لأن اللام لام جواب القسم ، والمقصود : تأكيد الخبر.

ومعنى (أَكْبَرُ) أنه أعظم وأهم وأكثر متعلّقات قدرة بالقادر عليه لا يعجز عن خلق ناس يبعثهم للحساب.

فالمراد بالناس في قوله : (مِنْ خَلْقِ النَّاسِ) الذين يعيد الله خلقتهم كما بدأهم أول مرة ويودع فيهم أرواحهم كما أودعها فيهم أول مرة. والخبر مستعمل في غير معناه لأن كون خلقها أكبر هو أمر معلوم وإنما أريد التذكير والتنبيه عليه لعدم جريهم على موجب علمهم به.

وموقع الاستدراك في قوله : (وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ) ما اقتضاه التوكيد بالقسم من اتضاح أن خلق السماوات والأرض أكبر من خلق الناس. فالمعنى : أن حجة إمكان البعث واضحة ولكن الذين ينكرونها لا يعلمون ، أي لا يعلمون الدليل لأنهم متلاهون عن النظر في الأدلة مقتنعون ببادئ الخواطر التي تبدو لهم فيتخذونها عقيدة دون بحث عن معارضها ، فلما جروا على حالة انتقاء العلم نزلوا منزلة من لا علم لهم فلذلك نزل فعل (يَعْلَمُونَ) منزلة اللازم ولم يذكر له مفعول.

فالمراد ب (أَكْثَرَ النَّاسِ) هم الذين يجادلون في آيات البعث وهم المشركون ، وأما الذين علموا ذلك فهم المؤمنون وهم أقل منهم عددا. وإظهار لفظ (النَّاسِ) في قوله : (وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ) مع أن مقتضى الظاهر الإضمار ، لتكون الجملة مستقلة بالدلالة فتصلح لأن تسير مسير الأمثال ، فالمعنى أنهم أنكروا البعث لاستبعادهم خلق الأجسام مع أن في خلق السماوات والأرض ما لا يبقى معه استبعاد مثل ذلك.

(وَما يَسْتَوِي الْأَعْمى وَالْبَصِيرُ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَلا الْمُسِيءُ قَلِيلاً ما تَتَذَكَّرُونَ (٥٨))

٢٢٣

لما نزّلهم منزلة من لا يعلم ضرب مثلا لهم وللمؤمنين ، فمثل الذين يجادلون في أمر البعث مع وضوح إمكانه مثل الأعمى ، ومثل المؤمنين الذين آمنوا به حال البصير ، وقد علم حال المؤمنين من مفهوم صفة (أَكْثَرَ النَّاسِ) لأن الأكثرين من الذين لا يعلمون يقابلهم أقلون يعلمون. والمعنى : لا يستوي الذين اهتدوا والذين هم في ضلال ، فإطلاق الأعمى والبصير استعارة للفريقين الذين تضمنهما قوله : (وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ) [غافر : ٥٧].

ونفي الاستواء بينهما يقتضي تفضيل أحدهما على الآخر كما قدمنا في قوله تعالى : (لا يَسْتَوِي الْقاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ) الآية في سورة النساء [٩٥] ، ومن المتبادر أن الأفضل هو صاحب الحال الأفضل وهو البصير إذ لا يختلف الناس في أن البصر أشرف من العمى في شخص واحد ، ونفي الاستواء بدون متعلّق يقتضي العموم في متعلقاته ، لكنه يخص بالمتعلّقات التي يدل عليها سياق الكلام وهي آيات الله ودلائل صفاته ، ويسمى مثل هذا العموم العموم العرفي ، وتقدم نظيرها في سورة فاطر [١٩].

وقوله : (وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَلَا الْمُسِيءُ) زيادة بيان لفضيلة أهل الإيمان بذكر فضيلتهم في أعمالهم بعد ذكر فضلهم في إدراك أدلة إمكان البعث ونحوه من أدلة الإيمان. والمعنى : وما يستوي الذين آمنوا وعملوا الصالحات والمسيئون ، أي في أعمالهم كما يؤذن بذلك قوله : (وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَلَا الْمُسِيءُ) ، وفيه إيماء إلى اختلاف جزاء الفريقين وهذا الإيماء إدماج للتنبيه على الثواب والعقاب.

والواو في قوله : (وَالَّذِينَ آمَنُوا) عاطفة الجملة على الجملة بتقدير : وما يستوي الذين آمنوا.

والواو في قوله : (وَلَا الْمُسِيءُ) عاطفة (الْمُسِيءُ) على (الَّذِينَ آمَنُوا) عطف المفرد على المفرد ، فالعطف الأول عطف المجموع مثل قوله تعالى : (هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْباطِنُ) [الحديد : ٣].

وإنما قدم ذكر الأعمى على ذكر البصير مع أن البصر أشرف من العمى بالنسبة لذات واحدة ، والمشبه بالبصير أشرف من المشبه بالأعمى إذ المشبه بالبصير المؤمنون ، فقدم ذكر تشبيه الكافرين مراعاة لكون الأهمّ في المقام بيان حال الذين يجادلون في الآيات إذ هم المقصود بالموعظة.

وأما قوله : (وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَلَا الْمُسِيءُ) فإنما رتب فيه ذكر الفريقين على عكس ترتيبه في التشبيه بالأعمى والبصير اهتماما بشرف المؤمنين.

٢٢٤

وأعيدت (لا) النافية بعد واو العطف على النفي ، وكان العطف مغنيا عنها فإعادتها لإفادة تأكيد نفي المساواة ومقام التوبيخ يقتضي الإطناب ، ولذلك تعدّ (لا) في مثله زائدة كما في «مغني اللبيب» ، وكان الظاهر أن تقع (لا) قبل (الذين آمنوا) ، فعدل عن ذلك للتنبيه على أن المقصود عدم مساواة المسيء لمن عمل الصالحات ، وأن ذكر الذين آمنوا قبل المسيء للاهتمام بالذين آمنوا ولا مقتضي للعدول عنه بعد أن قضي حق الاهتمام بالذين سبق الكلام لأجل تمثيلهم ، فحصل في الكلام اهتمامان.

وقريب منه ما في سورة فاطر في أربع جمل : اثنتين قدّم فيهما جانب تشبيه الكافرين ، واثنتين قدّم فيهما تشبيه جانب المؤمنين ، وذلك قوله تعالى : (وَما يَسْتَوِي الْأَعْمى وَالْبَصِيرُ وَلَا الظُّلُماتُ وَلَا النُّورُ وَلَا الظِّلُّ وَلَا الْحَرُورُ وَما يَسْتَوِي الْأَحْياءُ وَلَا الْأَمْواتُ) [فاطر : ١٩ ـ ٢٢].

و (قَلِيلاً) حال من (أَكْثَرَ النَّاسِ) في قوله تعالى قبله : (وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ) ، و (ما) في قوله : (ما تَتَذَكَّرُونَ) مصدرية وهي في محل رفع على الفاعلية. وهذا مؤكد لمعنى قوله : (وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ) لأن قلة التذكر تؤول إلى عدم العلم ، والقلة هنا كناية عن العدم وهو استعمال كثير ، كقوله تعالى : (فَقَلِيلاً ما يُؤْمِنُونَ) [البقرة : ٨٨] ، ويجوز أن تكون على صريح معناها ويكون المراد بالقلة عدم التمام ، أي لا يعلمون فإذا تذكروا تذكرا لا يتممونه فينقطعون في أثنائه عن التعمّق إلى استنباط الدلالة منه فهو كالعدم في عدم ترتب أثره عليه.

وقرأ الجمهور يتذكرون بياء الغيبة جريا على مقتضى ظاهر الكلام ، وقرأ عاصم وحمزة والكسائي وخلف (تَتَذَكَّرُونَ) بتاء الخطاب على الالتفات ، والخطاب للذين يجادلون في آيات الله.

وكون الخطاب لجميع الأمة من مؤمنين ومشركين وأن التذكر القليل هو تذكر المؤمنين فهو قليل بالنسبة لعدم تذكر المشركين بعيد عن سياق الردّ ولا يلاقي الالتفات.

(إِنَّ السَّاعَةَ لَآتِيَةٌ لا رَيْبَ فِيها وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يُؤْمِنُونَ (٥٩))

لما أعطي إثبات البعث ما يحق من الحجاج والاستدلال ، تهيأ المقام لاستخلاص تحقيقه كما تستخلص النتيجة من القياس ، فأعلن بتحقيق مجيء (السَّاعَةَ) وهي ساعة البعث إذ (السَّاعَةَ) في اصطلاح الإسلام علم بالغلبة على ساعة البعث ، فالساعة والبعث

٢٢٥

مترادفان في المآل ، فكأنه قيل : إن الذي جادل فيه المجادلون سيقع لا محالة إذ انكشفت عنه شبه الضالّين وتمويهاتهم فصار بيّنا لا ريب فيه.

وتأكيد الخبر ب (إنّ) ولام الابتداء لزيادة التحقيق ، وللإشارة إلى أن الخبر تحقق بالأدلة السابقة. وذلك أن الكلام موجه للذين أنكروا البعث ، ولهذا لم يؤت بلام الابتداء في قوله في سورة طه [١٥] (إِنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ) لأن الخطاب لموسى عليه‌السلام.

وجيء باسم الفاعل في (آتِيَةٌ) الذي هو حقيقة في الحال ، للإيماء إلى أنها لما تحققت فقد صارت كالشيء الحاضر المشاهد. والمراد تحقيق وقوعها لا الإخبار عن وقوعها.

وجملة (لا رَيْبَ فِيها) مؤكدة لجملة (إِنَّ السَّاعَةَ لَآتِيَةٌ) ، ونفي الريب عن نفس الساعة ، والمراد نفيه عن إتيانها لدلالة قوله : آتية على ذلك.

ومعنى نفي الريب في وقوعها : أن دلائلها واضحة بحيث لا يعتد بريب المرتابين فيها لأنهم ارتابوا فيها لعدم الرويّة والتفكر ، وهذا قريب من قوله تعالى : (ذلِكَ الْكِتابُ لا رَيْبَ فِيهِ) [البقرة : ٢].

فموقع الاستدراك الذي في قوله : (وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يُؤْمِنُونَ) هو ما يثيره نفي الريب عن وقوعها من أن يتساءل متسائل كيف ينفي الريب عنها والريب حاصل لكثير من الناس ، فكان الاستدراك بقوله : (وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يُؤْمِنُونَ) جوابا لذلك السؤال. والمعنى : ولكن أكثر الناس يمرون بالأدلة والآيات وهم معرضون عن دلالتها فيبقون غير مؤمنين بمدلولاتها ولو تأملوا واستنبطوا بعقولهم لظهر لهم من الأدلة ما يؤمنون بعده ، فلذلك نفي عنهم هنا وصف الإيمان.

وهذا الاستدراك استئناف بياني ، ولو لا أن (لكنّ) يكثر أن تقع بعد واو العطف لكانت الجملة جديرة بالفصل دون عطف ، فهذا العطف تحلية لفظية.

و (أَكْثَرَ النَّاسِ) هم المشركون ، وهم يومئذ أكثر من المؤمنين جدا.

(وَقالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ داخِرِينَ (٦٠))

لما كانت المجادلة في آيات الله تشمل مجادلتهم في وحدانية الإلهية كما دل عليه قوله الآتي ، (ثُمَّ قِيلَ لَهُمْ أَيْنَ ما كُنْتُمْ تُشْرِكُونَ مِنْ دُونِ اللهِ قالُوا ضَلُّوا عَنَّا بَلْ لَمْ نَكُنْ

٢٢٦

نَدْعُوا مِنْ قَبْلُ شَيْئاً) [غافر : ٧٣ ، ٧٤] ، فجعل (لَمْ نَكُنْ نَدْعُوا) نقيض ما قيل لهم (أَيْنَ ما كُنْتُمْ تُشْرِكُونَ) ، وتشمل المجادلة في وقوع البعث كما دل عليه قوله بعد هذه (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُجادِلُونَ فِي آياتِ اللهِ أَنَّى يُصْرَفُونَ) إلى قوله : (إِذِ الْأَغْلالُ فِي أَعْناقِهِمْ وَالسَّلاسِلُ) [غافر : ٦٩ ـ ٧١] الآية ، أعقب ذكر المجادلة أولا بقوله : (لَخَلْقُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ) [غافر : ٥٧] وذلك استدلال على إمكان البعث ، ثم عطف عليه قوله : (وَقالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ) الآية تحذيرا من الإشراك به ، وأيضا لما ذكر أمر الله رسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بدعاء الله وحده أمرا مفرّعا على توبيخ المشركين بقوله : (ذلِكُمْ بِأَنَّهُ إِذا دُعِيَ اللهُ وَحْدَهُ كَفَرْتُمْ) [غافر : ١٢] وعلى قوله عقب ذلك : (وَما يَتَذَكَّرُ إِلَّا مَنْ يُنِيبُ) [غافر : ١٣] وانتقل الكلام أثر ذلك إلى الأهمّ وهو الأمر بإنذار المشركين بقوله : (وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْآزِفَةِ) [غافر : ١٨] إلخ ، وتتابعت الأغراض حتى استوفت مقتضاها ، عاد الكلام الآن إلى ما يشمل عبادة المؤمنين الخالصة لله تعالى وهو أيضا متصل بقوله : (وَما دُعاءُ الْكافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلالٍ) [غافر : ٥٠]. فلما تقدم ذكر الدعاء بمعنييه : معنى العبادة ، ومعنى سؤال المطلوب ، أردف بهذا الأمر الجامع لكلا المعنيين.

والقول المخبر عنه بفعل : (قالَ رَبُّكُمُ) يجوز أن يراد به كلام الله النفسي ، أي ما تعلقت إرادة الله تعلقا صلاحيا ، بأن يقوله عند إرادة تكوينه ، ويجوز أن يراد القول اللفظي ويكون التعبير ب (قال) الماضي إخبارا عن أقوال مضت في آيات قبل نزول هذه الآية مثل قوله : (فَادْعُوا اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ) [غافر : ١٤] بخلاف قوله : (أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذا دَعانِ) [البقرة : ١٨٦] فإنه نزل بعد هذه الآية ، ويجوز أن يكون الماضي مستعملا في الحال مجازا ، أي يقول ربكم : ادعوني.

والدعاء يطلق بمعنى النداء المستلزم للاعتراف بالمنادى ، ويطلق على الطلب وقد جاء من كلام النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ما فيه صلاحية معنى الدعاء الذي في هذه الآية لما يلائم المعنيين في حديث النعمان بن بشير قال : سمعت النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول : «الدعاء هو العبادة» ثم قرأ (وَقالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ داخِرِينَ) رواه الترمذي. وقال : هذا حديث حسن صحيح ، فإن قوله : «الدعاء هو العبادة» يقتضي اتحاد الحقيقتين فإذا كان الدعاء هو العبادة كانت العبادة هي الدعاء لا محالة. فالدعاء يطلق على سؤال العبد من الله حاجته وهو ظاهر معناه في اللغة ، ويطلق على عبادة الله على طريق الكناية لأن العبادة لا تخلو من دعاء المعبود بنداء تعظيمه والتضرع إليه ،

٢٢٧

وهذا إطلاق أقل شيوعا من الأول ، ويراد بالعبادة في اصطلاح القرآن إفراد الله بالعبادة ، أي الاعتراف بوحدانيته.

والاستجابة تطلق على إعطاء المسئول لمن سأله وهو أشهر إطلاقها وتطلق على أثر قبول العبادة بمغفرة الشرك السابق وبحصول الثواب على أعمال الإيمان فإفادة الآية على معنى طلب الحاجة من الله يناسب ترتب الاستجابة على ذلك الطلب معلقا على مشيئة الله أو على استيفاء شروط قبول الطلب ، وإعطاء خير منه في الدنيا ، أو إعطاء عوض منه في الآخرة. وإفادتها على معنى إفراد الله بالعبادة ، أي بأن يتوبوا عن الشرك ، فترتب الاستجابة هو قبول ذلك ، فإن قبول التوبة من الشرك مقطوع به.

فلما جمعت الآية بين الفعلين على تفاوت بين شيوع الإطلاق في كليهما علمنا أن في المعنى المراد ما يشبه الاحتباك بأن صرح بالمعنى المشهور ، في كلا الفعلين ثم أعقب بقوله : (إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِي) ، فعلمنا أن المراد الدعاء والعبادة ، وأن الاستجابة أريد بها قبول الدعاء وحصول أثر العبادة. ففعل (ادْعُونِي) مستعمل في معنييه بطريقة عموم المشترك.

وفعل (أَسْتَجِبْ) مستعمل في حقيقته ومجازه ، والقرينة ما علمت ، وذلك من الإيجاز والكلام الجامع.

وتعريف الله بوصف الرب مضافا إلى ضمير المخاطبين لما في هذا الوصف وإضافته من الإيماء إلى وجوب امتثال أمره لأن من حق الربوبية امتثال ما يأمر به موصوفها لأن المربوب محقوق بالطاعة لربه ، ولهذا لم يعرج مع هذا الوصف على تذكير بنعمته ولا إشارة إلى كمالات ذاته.

وجملة (إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ) تعليل للأمر بالدعاء تعليلا يفيد التحذير من إباية دعاء الله حين الإقبال على دعاء الأصنام ، كما قال تعالى : (ذلِكُمْ بِأَنَّهُ إِذا دُعِيَ اللهُ وَحْدَهُ كَفَرْتُمْ وَإِنْ يُشْرَكْ بِهِ تُؤْمِنُوا) [غافر : ١٢] وكان المشركون لا يضرعون إلى الله إلا إذا لم يتوسموا استجابة شركائهم ، كما قال تعالى : (فَلَمَّا نَجَّاكُمْ إِلَى الْبَرِّ أَعْرَضْتُمْ) [الإسراء : ٦٧]. ومعنى التعليل للأمر بالدعاء بهذا التحذير : أن الله لا يحب لعباده ما يفضي بهم إلى العذاب ، قال تعالى : (وَلا يَرْضى لِعِبادِهِ الْكُفْرَ) [الزمر : ٧] ففي الآية دليل على طلب الله من عباده أن يدعوه في حاجاتهم.

ومشروعية الدعاء لا خلاف فيها بين المسلمين وإنما الخلاف في أنه ينفع في رد

٢٢٨

القدر أو لا؟ وهو خلاف بيننا وبين المعتزلة. وليس في الآية حجة عليهم لأنهم تأولوا معنى (أَسْتَجِبْ لَكُمْ) ، وتقدم قوله تعالى : (وَإِذا سَأَلَكَ عِبادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ) الآية في سورة البقرة [١٨٦] ، وفي الإتيان بالموصول إيماء إلى التعليل.

و (داخِرِينَ) حال من ضمير (سَيَدْخُلُونَ) أي أذلة ، دخر كمنع وفرح : صغر وذلّ ، وتقدم قوله : (سُجَّداً لِلَّهِ وَهُمْ داخِرُونَ) في سورة النحل [٤٨].

وقرأ الجمهور (سَيَدْخُلُونَ) بفتح التحتية وضم الخاء. وقرأه أبو جعفر ورويس عن يعقوب بضم التحتية وفتح الخاء على البناء للنائب ، أي سيدخلهم ملائكة العذاب جهنم.

(اللهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهارَ مُبْصِراً إِنَّ اللهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَشْكُرُونَ (٦١))

يجوز أن يكون اسم الجلالة بدلا من (رَبُّكُمُ) في (وَقالَ رَبُّكُمُ) [غافر : ٦٠] اتبع (رَبُّكُمُ) بالاسم العلم ليقضى بذلك حقّان : حق استحقاقه أن يطاع بمقتضى الربوبية والعبودية ، وحقّ استحقاقه الطاعة لصفات كماله التي يجمعها اسم الذات. ولذلك لم يؤت مع وصف الرب المتقدم بشيء من ذكر نعمه ولا كمالاته اجتزاء بمقتضى حق الربوبية ، وذكر مع الاسم العلم بعض إنعامه وإفضاله ثم وصف الاسم بالموصول وصلته إشارة إلى بعض صفاته ، وإيماء إلى وجه الأمر بعبادته ، وتكون الجملة استئنافا بيانيا ناشئا عن تقوية الأمر بدعائه. ويجوز أن يكون اسم الجلالة مبتدأ والموصول صفة له ويكون الخبر قوله : (ذلِكُمُ اللهُ رَبُّكُمْ) [غافر : ٦٤] ويكون جملة (إِنَّ اللهَ لَذُو فَضْلٍ) معترضة ، أو أن يكون اسم الجلالة مبتدأ والموصول خبرا.

واعتبار الجملة مستأنفة أحسن من اعتبار اسم الجلالة بدلا لأنه أنسب بالتوقيف على سوء شكرهم ، وبمقام تعداد الدلائل وأسعد بقوله : (اللهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ قَراراً) [غافر : ٦٤] ، فتكون الجملة واقعة موقع التعليل لجملة (إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ داخِرِينَ) [غافر : ٦٠] ، أي تسببوا لأنفسهم بذلك العقاب لأنهم كفروا نعمة الله إذ جعل لهم الليل والنهار. وعلى هذه الاعتبارات كلها فقد سجلت هذه الآية على الناس تقسيمهم إلى : شاكر نعمة ، وكفورها ، كما سجلت عليهم الآية السابقة تقسيمهم إلى : مؤمن بوحدانية الله ، وكافر بها.

وهذه الآية للتذكير بنعمة الله تعالى على الخلق كما اقتضاه لام التعليل في قوله :

٢٢٩

(لَكُمُ) واقتضاه التذييل بقوله : (إِنَّ اللهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَشْكُرُونَ). وأدمج في التذكير بالنعمة استدلال على انفراده تعالى بالتصرف بالخلق ، والتدبير الذي هو ملازم حقيقة الإلهية.

وابتدئ الاستدلال بدلائل الأكوان العلوية وآثارها الواصلة إلى الأكوان السفلية ، وهي مظهر النعمة بالليل والنهار فهما تكوينان عظيمان دالّان على عظيم قدرة مكونهما ومنظّمهما وجاعلهما متعاقبين ، فنيطت بهما أكثر مصالح هذا العالم ومصالح أهله ، فمن مصالح العالم حصول التعادل بين الضياء والظلمة ، والحرارة والبرودة لتكون الأرض لائقة بمصالح من عليها فتنبت الكلأ وتنضج الثمار ، ومن مصالح سكان العالم سكون الإنسان والحيوان في الليل لاسترداد النشاط العصبي الذي يعييه عمل الحواس والجسد في النهار ، فيعود النشاط إلى المجموع العصبي في الجسد كله وإلى الحواس ، ولو لا ظلمة الليل لكان النوم غير كامل فكان عود النشاط بطيئا وواهنا ولعاد على القوة العصبية بالانحطاط والاضمحلال في أقرب وقت فلم يتمتع الإنسان بعمر طويل. ومنها انتشار الناس والحيوان في النهار وتبيّن الذوات بالضياء ، وبذلك تتم المساعي للناس في أعمالهم التي بها انتظام أمر المجتمع من المدن والبوادي ، والحضر والسفر ، فإن الإنسان مدني بالطبع ، وكادح للعمل والاكتساب ، فحاجته للضياء ضرورية ولو لا الضياء لكانت تصرفات الناس مضطربة مختبطة.

وللتنويه بشأن إبصار الناس في الضياء وكثرة الفوائد الحاصلة لهم من ذلك أسند الإبصار إلى النهار على طريقة المجاز العقلي لقوة الملابسة بين الأفعال وزمانها ، فأسند إبصار الناس إلى نفس النهار لأنه سبب بعضه وسبب كمال بعض آخر. فأما نعمة السكون في الليل فهي نعمة واحدة هي رجوع النشاط.

وفي ذكر الليل والنهار تذكير بآية عظيمة من المخلوقات وهي الشمس التي ينشأ الليل من احتجاب أشعتها عن نصف الكرة الأرضية وينشأ النهار من انتشار شعاعها على النصف المقابل من الكرة الأرضية ، ولكن لما كان المقصد الأول من هذه الآية الامتنان ذكر الليل والنهار دون الشمس ، وقد ذكرت الشمس في آيات أخرى كان الغرض الأهمّ منها الدلالة على عظيم القدرة والوحدانية كقوله : (وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ حُسْباناً ذلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ) [الأنعام : ٩٦].

ودلت مقابلة تعليل إيجاد الليل بعلة سكون الناس فيه ، بإسناد الإبصار إلى ذات

٢٣٠

النهار على طريقة المجاز العقلي وإنما المبصرون الناس في النهار ، على احتباك إذ يفهم من كليهما أن الليل ساكن أيضا ، وأن النهار خلق ليبصر الناس فيه إذ المنة بهما سواء ، فهذا من بديع الإيجاز مع ما فيه من تفنن أسلوبي الحقيقة والمجاز العقلي. ولم يعكس فيقل : جعل لكم الليل ساكنا والنهار لتبصروا فيه ، لئلا تفوت صراحة المراد من السكون كيلا يتوهم أن سكون الليل هو شدة الظلام فيه كما يقال : ليل ساج ، لقلة الأصوات فيه.

وتقدم الكلام على الليل والنهار في سورة البقرة [١٦٤] عند قوله تعالى : (إِنَّ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ) ، وفي مواضع أخرى.

وجملة (إِنَّ اللهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ) اعتراض هو كالتذييل لجملة (اللهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ) لأن الفضل يشمل جعل الليل والنهار وغير ذلك من النعم ، ولأن (النَّاسِ) يعمّ المخاطبين بقوله : (جَعَلَ لَكُمُ) وغيرهم من الناس.

وتنكير (فَضْلٍ) للتعظيم لأن نعم الله تعالى عظيمة جليلة ولذلك قال : (لَذُو فَضْلٍ) ولم يقل : لمتفضل ، ولا لمفضل ، فعدل إلى إضافة (ذو) إلى (فَضْلٍ) لتأتّي التنكير المشعر بالتعظيم. وعدل عن نحو : له فضل ، إلى (لَذُو فَضْلٍ) لما يدل عليه (ذو) من شرف ما يضاف هو إليه.

والاستدراك ب (لكِنَ) ناشئ عن لازم (لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ) لأن الشأن أن يشكر الناس ربّهم على فضله فكان أكثرهم كافرا بنعمه ، وأيّ كفر للنعمة أعظم من أن يتركوا عبادة خالقهم المتفضل عليهم ويعبدوا ما لا يملك لهم نفعا ولا ضرا.

وخرج ب (أَكْثَرَ النَّاسِ) الأقلّ وهم المؤمنون فإنهم أقل (وَلَوْ أَعْجَبَكَ كَثْرَةُ الْخَبِيثِ) [المائدة : ١٠٠]. والعدول عن ضمير (الناس) في قوله : (وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَشْكُرُونَ) إلى الاسم الظاهر ليتكرر لفظ الناس عند ذكر عدم الشكر كما ذكر عند التفضل عليهم فيسجل عليهم الكفران بوجه أصرح.

وقد علمت مما تقدم وجه اختلاف المنفيّات في قوله : (وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ) [غافر : ٥٧] وقوله : (وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يُؤْمِنُونَ) [غافر : ٥٩] وقوله : (وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَشْكُرُونَ) ، فقد أتبع كل غرض أريد إثباته بما يناسب حال منكريه.

(ذلِكُمُ اللهُ رَبُّكُمْ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ (٦٢))

اتصل الكلام على دلائل التفرد بالإلهية من قوله : (ذلِكُمُ اللهُ رَبُّكُمْ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ)

٢٣١

إلى قوله : (مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ) [غافر : ٦٢ ـ ٦٥] اتصال الأدلة بالمستدل عليه.

والإشارة ب (ذلِكُمُ) إلى اسم الجلالة في قوله : (اللهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ) [غافر : ٦١]. وعدل عن الضمير إلى اسم الإشارة لإفادة أنه تعالى معلوم متميز بأفعاله المنفرد بها بحيث إذا ذكرت أفعاله تميز عما سواه فصار كالمشاهد المشار إليه ، فكيف تلتبس إلهيته بإلهية مزعومة للأصنام فليست للذين أشركوا به شبهة تلبّس عليهم ما لا يفعل مثل فعله ، أي ذلكم ربكم لا غيره وفي اسم الإشارة هذا تعريض بغباوة المخاطبين الذين التبست عليهم حقيقة إلهيته.

وقوله : (اللهُ رَبُّكُمْ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ) أخبار أربعة عن اسم الإشارة ، ابتدئ فيها بالاسم الجامع لصفات الإلهية إجمالا ، وأردف ب (رَبُّكُمْ) أي الذي دبر خلق الناس وهيّأ لهم ما به قوام حياتهم. ولما كان في معنى الربوبية من معنى الخلق ما هو خلق خاص بالبشر بأنه خالق الأشياء كلها كما خلقهم ، وأردف بنفي الإلهية عن غيره فجاءت مضامين هذه الأخبار الأربعة مترتبة بطريقة الترقّي ، وكان رابعها نتيجة لها ، ثم فرع عليها استفهام تعجيبي من انصرافهم عن عبادته إلى جانب عبادة غيره مع وضوح فساد إعراضهم عن عبادته.

و (فَأَنَّى) اسم استفهام عن الكيفية ، وأصله استفهام عن المكان فإذا جعلوا الحالة في معنى الجانب ومثار الشيء استفهموا ب (أنّى) عن الحالة ويشعر بذلك قوله تعالى : (أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ وَلَمْ تَكُنْ لَهُ صاحِبَةٌ) في سورة الأنعام [١٠١].

و (تُؤْفَكُونَ) تصرفون ، وتقدم في قوله تعالى : (قاتَلَهُمُ اللهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ) في سورة براءة [٣٠] ، وبناؤه للمجهول لإجمال بسبب إعراضهم إذ سيبين بحاصل الجملة بعده.

(كَذلِكَ يُؤْفَكُ الَّذِينَ كانُوا بِآياتِ اللهِ يَجْحَدُونَ (٦٣))

هذه الجملة معترضة بمنزلة التعليل لمضمون الجملة التي قبلها وهو التعجيب من انصرافهم عن عبادة ربهم خالقهم وخالق كل شيء فإن في تعليل ذلك ما يبين سبب التعجيب ، فجيء في جانب المأفوكين بالموصول لأن الصلة تومئ إلى وجه بناء الخبر وعلته ، أي أن استمرارهم على الجحد بآيات الله دون تأمل ولا تدبّر في معانيها ودلائلها يطبع نفوسهم على الانصراف عن العلم بوجوب الوحدانية له تعالى. فالإشارة بذلك إلى الإفك المأخوذ من فعل (تُؤْفَكُونَ) [غافر : ٦٢] أي مثل افككم ذلك يؤفك الذين كانوا بآيات الله يجحدون.

٢٣٢

فيجوز أن يكون المراد ب (الَّذِينَ كانُوا بِآياتِ اللهِ يَجْحَدُونَ) المخاطبين بقوله : (ذلِكُمُ اللهُ رَبُّكُمْ) [غافر : ٦٢] ، ويكون الموصول وصلته إظهارا في مقام الإضمار ، والمعنى : كذلك تؤفكون ، أي مثل افككم تؤفكون ، ويكون التشبيه مبالغة في أن إفكهم بلغ في كنه الإفك النهاية بحيث لو أراد المقرّب أن يقربه للسامعين بشبيه له لم يجد شبيها له أوضح منه وأجلى في ماهيته فلا يسعه إلا أن يشبهه بنفسه على الطريقة المألوفة المبينة في قوله تعالى : (وَكَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً) [البقرة : ١٤٣] ، وبذلك تكون صلة الموصول من قوله : (الَّذِينَ كانُوا بِآياتِ اللهِ يَجْحَدُونَ) إيماء إلى علة إفكهم تعليلا صريحا.

ويجوز أن يكون المراد ب (الَّذِينَ كانُوا بِآياتِ اللهِ يَجْحَدُونَ) كلّ من جحد بآيات الله من مشركي العرب ومن غيرهم من المشركين والمكذبين فيصير التعليل المومى إليه بالصلة تعليلا تعريضيا لأنه إذا كان الإفك شأن الذين يجحدون بآيات الله كلهم فقد شمل ذلك هؤلاء بحكم المماثلة. وصيغة المضارع لاستحضار الحالة ، وذكر فعل الكون للدلالة على أن الجحد بآيات الله شأنهم وهجّيراهم.

وهذا أصل عظيم في الأخلاق العلمية ، فإن العقول التي تتخلق بالإنكار والمكابرة قبل التأمل في المعلومات تصرف عن انكشاف الحقائق العلمية فتختلط عليها المعلومات ولا تميّز بين الصحيح والفاسد.

(اللهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ قَراراً وَالسَّماءَ بِناءً وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ ذلِكُمُ اللهُ رَبُّكُمْ فَتَبارَكَ اللهُ رَبُّ الْعالَمِينَ (٦٤))

(اللهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ قَراراً وَالسَّماءَ بِناءً).

استئناف ثان بناء على أحسن الوجوه التي فسرنا بها موقع قوله : (اللهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ) [غافر : ٦١] كما تقدم فلذلك لم تعطف على التي قبلها لأن المقام مقام تعداد دلائل انفراده تعالى بالتصرف وبالإنعام عليهم حتى يفتضح خطلهم في الإشراك به وكفران نعمه ، فذكّرهم في الآية السابقة بآثار قدرته في إيجاد الأعراض القائمة بجواهر هذا العالم ، وهما عرضا الظلمة والنور ، وفي كليهما نعم عظيمة على الناس ، وذكّرهم في هذه الآية بآثار خلق الجواهر في هذا العالم على كيفيات هي نعمة لهم ، وفي خلق أنفسهم على صور صالحة بهم ، فأما إن جعلت اسم الجلالة في قوله : (اللهُ الَّذِي جَعَلَ) إلخ بدلا من (رَبُّكُمْ) في (وَقالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي) [غافر : ٦٠] ، فإن جملة (اللهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ قَراراً) تكون مستأنفة استئنافا ابتدائيا.

٢٣٣

والموصول وصلته يجوز أن يكون صفة لاسم الجلالة فيكون الخبر قوله : (ذلِكُمُ اللهُ رَبُّكُمْ) وهو أولى لأن المقصود إثبات إلهيته وحده بدليل ما هو مشاهد من إتقان صنعه الممزوج بنعمته. ويجوز أن يكون الموصول خبرا فيكون الخبر مستعملا في الامتنان والاعتبار ، ولمّا كان المقصود الأول من هذه الآية الامتنان كما دل عليه قوله : (لَكُمُ) قدمت الأرض على السماء لأن الانتفاع بها محسوس وذكرت السماء بعدها كما يستحضر الشيء بضده مع قصد إيداع دلائل علم الهيئة لمن فيهم استعداد للنظر فيها وتتبع أحوالها على تفاوت المدارك وتعاقب الأجيال واتساع العلوم.

والقرار أصله ، مصدر قرّ ، إذا سكن. وهو هنا من صفات الأرض لأنه في حكم الخبر عن الأرض ، فالمعنى يحتمل : أنه جعلها قارة غير مائدة ولا مضطربة فلم تكن مثل كرة الهواء مضطربة متحركة ، ولو لم تكن قارة لكان الناس في عناء من اضطرابها وتزلزلها ، وقد يفضي ذلك بأكثرهم إلى الهلاك وهذا في معنى قوله : (وَجَعَلْنا فِي الْأَرْضِ رَواسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِهِمْ) في سورة الأنبياء [٣١].

ويحتمل أن المعنى جعل الأرض ذات قرار ، أي قرار لكم ، أي جعلها مستقرا لكم كقوله تعالى : (وَآوَيْناهُما إِلى رَبْوَةٍ ذاتِ قَرارٍ وَمَعِينٍ) [المؤمنون : ٥٠] أي خلقها على كيفية تلائم الاستقرار عليها بأن جعلها يابسة غير سائلة ولو شاء لجعل سطح الأرض سيالا كالزئبق أو كالعجل فلا يزال الإنسان سائخا فيها يطفو تارة ويسيخ أخرى فلا يكاد يبقى على تلك الحالة ، وذلك كوسط سبخة (التّاكمرت) (١) المسماة : «شط الجريد» الفاصل بين «نفطة» و «نفزاوة» من الجنوب التونسي فإن فيها مسافات إذا مشت فيها القوافل ساخت في الأرض فلا يعثر عليها ، ولذلك لا تسير فيها القوافل إلا بهداة عارفين بمسالك السير في علامات منصوبة ، فكانت خلقة الأرض دالة على عظيم قدرة الله وعلى دقيق حكمته وعلى رحمته بالإنسان والحيوان المعمور بهما وجه الأرض.

والبناء : ما يرفع سمكه على الأرض للاتقاء من الحر والبرد والمطر والدواب. ووصف السماء بالبناء جار على طريقة التشبيه البليغ ، وتقدم الكلام مستوفى عند قوله تعالى : (الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِراشاً وَالسَّماءَ بِناءً) في سورة البقرة [٢٢].

(وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ).

__________________

(١) التاكمرت كلمة بلغة البربر بمعنى السبخة.

٢٣٤

لا جرم أن حكمة الله تعالى التي تعلقت بإيجاد ما يحفّ بالإنسان من العوالم على كيفيات ملائمة لحياة الإنسان وراحته قد تعلقت بإيجاد الإنسان في ذاته على كيفية ملائمة له مدة بقاء نوعه على الأرض وتحت أديم السماء ولذلك أعقب التذكير بما مهّد له من خلق الأرض والسماء ، بالتذكير بأنه خلقه خلقا مستوفيا مصلحته وراحته.

وعبّر عن هذا الخلق بفعل (صَوَّرَكُمْ) لأن التصوير خلق على صورة مرادة تشعر بالعناية ، ألا ترى إلى قوله تعالى : (وَلَقَدْ خَلَقْناكُمْ ثُمَّ صَوَّرْناكُمْ) [الأعراف : ١١] فاقتضى حسن الصور فلذلك عدل في جانب خلق الإنسان عن فعل الجعل إلى فعل التصوير بقوله : (وَصَوَّرَكُمْ) فهو كقوله تعالى : (الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ فِي أَيِّ صُورَةٍ) [الانفطار : ٧ ، ٨] ثم صرح بما اقتضاه فعل التصوير من الإتقان والتحسين بقوله : (فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ). والفاء في قوله : (فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ) عاطفة جملة على جملة ودالّة على التعقيب أي أوجد صورة الإنسان فجاءت حسنة.

وعطف على هذه العبرة والمنة منة أخرى فيها عبرة ، أي خلقكم في أحسن صورة ثم أمدكم بأحسن رزق ، فجمع لكم بين الإيجاد والإمداد ، ولما كان الرزق شهوة في ظاهره وكان مشتملا على حكمة إمداد الجسم بوسائل تجديد قواه الحيوية وكان في قوله : (وَرَزَقَكُمْ) إيماء إلى نعمة طول الوجود فلم يكن الإنسان من الموجودات التي تظهر على الأرض ثم تضمحلّ في زمن قريب وجمع له بين حسن الإيجاد وبين حسن الإمداد فجعل ما به مدد الحياة وهو الرزق من أحسن الطيبات على خلاف رزق بقية أنواع الحيوان.

(ذلِكُمُ اللهُ رَبُّكُمْ فَتَبارَكَ اللهُ رَبُّ الْعالَمِينَ)

موقع (ذلِكُمُ اللهُ رَبُّكُمْ) كموقع نظيره المتقدم آنفا. وإعادة هذا تكرير للتوقيف على خطل رأيهم في عبادة غيره على طريقة التعريض ، بقرينة ما تقدم في نظيره من قوله : (لا إِلهَ إِلَّا هُوَ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ) [غافر : ٦٢] ، وقرينة قوله هنا : (لا إِلهَ إِلَّا هُوَ فَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ) [غافر : ٦٥].

وفرّع على ما ذكر من بدائع صنعه وجزيل منّه. أن أنشئ الثناء عليه بما يفيد اتصافه بعظيم صفات الكمال فقال : (فَتَبارَكَ اللهُ) ، وفعل تبارك صيغة مفاعلة مستعملة مجازا في قوة ما اشتقّ منه الفعل. وهو مشتقّ من اسم جامد وهو البركة ، والبركة : اسم يدل على تزايد الخير. وإظهار اسم الجلالة مع فعل تبارك دون الإتيان بضمير مع تقدم اسمه ، فالإظهار لتكون الجملة كلمة ثناء مستقلة.

٢٣٥

و (رَبِّ الْعالَمِينَ) خالق أجناس العقلاء من الناس والملائكة والجنّ. وهذا الوصف من تمام الإنشاء لأن في ذكر ربوبيته للعالمين وهم أشرف أجناس الموجودات استحضارا لما أفاضه عليهم من خيرات الإيجاد والإمداد.

(هُوَ الْحَيُّ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ فَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ (٦٥))

(هُوَ الْحَيُّ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ فَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ).

استئناف ثالث للارتقاء في إثبات إلهيته الحقّ بإثبات ما يناسبها وهو الحياة الكاملة ، فهذه الجملة مقدمة لجملة (لا إِلهَ إِلَّا هُوَ) فإثبات الحياة الواجبة لذاته فإن الذي ربّ العالمين وأوجدهم على أكمل الأحوال وأمدهم بما به قوامهم على ممر الأزمان لا جرم أنه موصوف بالحياة الحق لأن مدبّر المخلوقات على طول العصور يجب أن يكون موصوفا بالحياة ، إذ الحياة (مع ما عرض من عسر في تعريفها عند الحكماء والمتكلمين) هي صفة وجودية تصحح لمن قامت به الإدراك والإرادة والفعل ، وتقدم الكلام عليها عند قوله تعالى : (وَكُنْتُمْ أَمْواتاً فَأَحْياكُمْ) في سورة البقرة [٢٨].

فإن كان اتصاف موصوفها بها مسبوقا بعدم فهي حياة ممكنة عارضة مثل حياة الملائكة وحياة الأرواح وحياة الإنسان وحياة الحيوان وحياة الأساريع ، فتكون متفاوتة في موصوفاتها بتفاوت قوتها فيها ومتفاوتة في موصوفها الواحد بتفاوت أزمانها مثل تفاوت حياة الشخص الواحد في وقت شبابه ، وحياته في وقت هرمه ومثل حياة الشخص وقت نشاطه وحياته وقت نومه ، وبذلك التفاوت تصير إلى الخفوت ثم إلى الزوال ، ويظهر أثر تفاوتها في تفاوت آثارها من الإدراك والإرادة والفعل.

وإن كان اتصاف موصوفها بها أزليّا غير مسبوق بعدم فهي حياة واجب الوجود سبحانه وهي حياة واجبة ذاتية. وهي الحياة الحقيقية لأنها غير معرّضة للنقص ولا للزوال ، فلذلك كان الحيّ حقيقة هو الله تعالى كما أنبأت عنه صيغة الحصر في قوله : (هُوَ الْحَيُ) وهو قصر ادعائي لعدم الاعتداد بحياة ما سواه من الأحياء لأنها عارضة ومعرّضة للفناء والزوال.

فموقع قوله : (لا إِلهَ إِلَّا هُوَ) موقع النتيجة من الدليل لأن كل من سواه لا حياة له واجبة ، فهو معرض للزوال فكيف يكون إلها مدبرا للعالم. وجميع ما عبد من دون الله هو بين ما لم يتصف بالحياة تماما كالأصنام من الحجارة أو الخشب أو المعادن. ومثل

٢٣٦

الكواكب الشمس والقمر والشجر ، وبين ما اتّصف بحياة عارضة غير زائلة كالملائكة ، وبين ما اتصف بحياة عارضة زائلة من معبودات البشر مثل (بوذة) و (برهما) بله المعبودات من البقر والثعابين. قال تعالى : والذين تدعون (مِنْ دُونِ اللهِ لا يَخْلُقُونَ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ) [النحل : ٢٠] أي لا يستطيع أحدهم التصرف بالإيجاد والإحياء وهو مخلوق ، أي معرض للحياة (أَمْواتٌ غَيْرُ أَحْياءٍ وَما يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ) [النحل : ٢١] فجعل نفي الحياة عنهم في الحال أو في المآل دلالة على انتفاء إلهيتهم وجعل نفي إدراك بعض المدركات عنهم دلالة على انتفاء إلهيتهم.

وبعد اتضاح الدلالة على انفراده تعالى بالإلهية فرع عليه الأمر بعبادته وحده غير مشركين غيره في العبادة لنهوض انفراده باستحقاق أن يعبد.

والدعاء : العبادة لأنها يلازمها السؤال والنداء في أولها وفي أثنائها غالبا ، لأن الدعاء عنوان انكسار النفس وخضوعها كما تقدم آنفا عند قوله تعالى : (وَقالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ) [غافر : ٦٠] وكما في قوله الآتي : (بَلْ لَمْ نَكُنْ نَدْعُوا مِنْ قَبْلُ شَيْئاً) [غافر : ٧٤].

والإخلاص : الإفراد وتصفية الشيء مما ينافيه أو يفسده.

والدين : المعاملة. وأطلق على الطاعة وهو المراد هنا لأنها أشد أنواع المعاملة بين المطيع والمطاع. والمعنى : فإذ كان هو الحي دون الأصنام وكان لا إله غيره فاعبدوه غير مشركين معه غيره في عبادته.

ويدخل في ماهية الإخلاص دخولا أوليا ترك الرّياء في العبادة لأن الرياء وهو أن يقصد المتعبد من عبادته أن يراه الناس سواء كان قصدا مجردا أو مخلوطا مع قصد التقرب إلى الله. كل ذلك لا يخلو من حصول حظ في تلك العبادة لغير الله وإن لم يكن ذلك الحظ في جوهرها. وهذا معنى ما جاء في الحديث «إن الرياء الشرك الأصغر» (١).

وتقديم (لَهُ) المتعلق بمخلصين على مفعول (مُخْلِصِينَ) لأنه الأهم في هذا المقام به لأنه أشد تعلقا بمتعلقه من تعلق المفعول بعامله.

__________________

(١) رواه الطبري عن شداد بن أوس قال : «كنا نعدّ الرياء على عهد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم الشرك الأصغر. وعن محمد بن رافع بن خديج رفعه : «إن أخوف ما أخاف عليكم الشرك الأصغر قالوا : وما الشرك الأصغر يا رسول الله؟ قال : الرياء ..». الحديث.

٢٣٧

(الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ)

يجوز أن تكون إنشاء للثناء على الله كما هو شأن أمثالها في غالب مواقع استعمالها كما تقدم في سورة الفاتحة ، فيجوز أن تكون متصلة بفعل (فَادْعُوهُ) على تقدير قول محذوف ، أي قائلين ، الحمد لله رب العالمين ، أو قولوا : الحمد لله رب العالمين ، وقرينة المحذوف هو أن مثل هذه الجملة مما يجري على ألسنة الناس كثيرا فصارت كالمثل في إنشاء الثناء على الله. والمعنى : فاعبدوه بالعمل وبالثناء عليه وشكره. ويجوز أن تكون كلاما مستأنفا أريد به إنشاء الثناء على الله من نفسه تعليما للناس كيف يحمدونه ، كما تقدم في وجوه نظيرها في سورة الفاتحة. أو جاريا على لسان الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم على نحو قوله تعالى : (فَقُطِعَ دابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ) [الأنعام : ٤٥] عقب قوله : (قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتاكُمْ عَذابُ اللهِ أَوْ أَتَتْكُمُ السَّاعَةُ أَغَيْرَ اللهِ تَدْعُونَ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) الآيات من سورة الأنعام [٤٠].

وعندي : أنه يجوز أن يكون (الْحَمْدُ) مصدرا جيء به بدلا من فعله على معنى الأمر ، أي أحمدوا الله ربّ العالمين. وعدل به عن النصب إلى الرفع لقصد الدلالة على الدوام والثبات كما تقدم في أول الفاتحة. وفصل الجملة عن الكلام الذي قبلها أسعد بالاحتمالين الأول والرابع.

(قُلْ إِنِّي نُهِيتُ أَنْ أَعْبُدَ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ لَمَّا جاءَنِي الْبَيِّناتُ مِنْ رَبِّي وَأُمِرْتُ أَنْ أُسْلِمَ لِرَبِّ الْعالَمِينَ (٦٦))

جملة معترضة بين أدلة الوحدانية بدلالة الآيات الكونية والنفسية ليجروا على مقتضاها في أنفسهم بأن يعبدوا الله وحده ، فانتقل إلى تقرير دليل الوحدانية بخبر الوحي الإلهي بإبطال عبادة غير الله على لسان رسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ليعمل بذلك في نفسه ويبلغ ذلك إليهم فيعلموا أنه حكم الله فيهم ، وأنهم لا عذر لهم في الغفلة عنها أو عدم إتقان النظر فيها أو قصور الاستنتاج منها بعد أن جاءهم رسول من الله يبيّن لهم أنواعا بمختلف البيان من أدلّة برهانية وتقريبية إقناعية.

وأن هذا الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم إنما يدعوهم إلى ما يريده لنفسه فهو ممحض لهم النصيحة ، وهاديهم إلى الحجة لتتظاهر الأدلة النظرية بأدلة الأمر الإلهي بحيث يقوى إبطال مذهبهم في الشرك ، فإن ما نزل من الوحي تضمن أدلة عقلية وإقناعية وأوامر إلهية وزواجر

٢٣٨

وترغيبات ، وكل ذلك يحوم حول إثبات تفرد الله تعالى بالإلهية والربوبية تفردا مطلقا لا تشوبه شائبة مشاركة ولو في ظاهر الحال كما تشوب المشاركة في كثير من الصفات الأخرى في مثل الملك والملك والحمد ، والنفع والضر ، والكرم والإعانة وذلك كثير. فكان قوله تعالى : (قُلْ إِنِّي نُهِيتُ أَنْ أَعْبُدَ الَّذِينَ) تدعون (مِنْ دُونِ اللهِ لَمَّا جاءَنِي الْبَيِّناتُ مِنْ رَبِّي) إبطالا لعبادة غير الله بالقول الدال على التحذير والتخويف بعد أن أبطل ذلك بدلالة الحجة على المقصود. وهذه دلالة كنائية لأن النهي يستلزم التحذير.

وذكر مجيء البينات في أثناء هذا الخبر إشارة إلى طرق أخرى من الأدلة على تفرد الله بالإلهية تكررت قبل نزول هذه الآية. وكان تقديم المسند إليه وهو ضمير (إِنِّي) على الخبر الفعلي لتقوية الحكم نحو : هو يعطي الجزيل ، وكان تخصيص ذاته بهذا النهي دون تشريكهم في ذلك الغرض الذي تقدم مع العلم بأنهم منهيّون عن ذلك وإلا فلا فائدة لهم في إبلاغ هذا القول فكان الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم من حين نشأته لم يسجد لصنم قط وكان ذلك مصرفة من الله تعالى إياه عن ذلك إلهاما إلهيا إرهاصا لنبوءته.

و (لَمَّا) حرف أو ظرف على خلاف بينهم ، وأيّا ما كان فهي كلمة تفيد اقتران مضمون جملتين تليانها تشبهان جملتي الشرط والجزاء ، ولذلك يدعونها (لمّا) التوقيتية ، وحصول ذلك في الزمن الماضي ، فقوله : (لَمَّا جاءَنِي الْبَيِّناتُ مِنْ رَبِّي) توقيت لنهيه عن عبادة غير الله بوقت مجيء البينات ، أي بينات الوحي فيما مضى وهو يقتضي أن النهي لم يكن قبل وقت مجيء البينات.

والمقصود من إسناد المنهية إلى الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم التعريض بنهي المشركين ، فإن الأمر بأن يقول ذلك لا قصد منه إلا التبليغ لهم وإلا فلا فائدة لهم في الإخبار بأن الرسول عليه الصلاة والسلام منهي عن أن يعبد الذين يدعون من دون الله ، يعني : فإذا كنت أنا منهيا عن ذلك فتأملوا في شأنكم واستعملوا أنظاركم فيه ، ليسوقهم إلى النظر في الأدلة سوقا ليّنا خفيا لاتّباعه فيما نهى عنه ، كما جاء ذلك صريحا لا تعريضا في قول إبراهيم عليه‌السلام لأبيه (يا أَبَتِ إِنِّي قَدْ جاءَنِي مِنَ الْعِلْمِ ما لَمْ يَأْتِكَ فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِراطاً سَوِيًّا يا أَبَتِ لا تَعْبُدِ الشَّيْطانَ إِنَّ الشَّيْطانَ كانَ لِلرَّحْمنِ عَصِيًّا) [مريم : ٤٣ ، ٤٤] وبني الفعل للنائب لظهور أن الناهي هو الله تعالى بقرينة مقام التبليغ والرسالة.

ومعنى الدعاء في قوله : (الَّذِينَ تَدْعُونَ) يجوز أن يكون على ظاهر الدعاء ، وهو القول الذي تسأل به حاجة ، ويجوز أن يكون بمعنى تعبدون كما تقدم في قوله تعالى :

٢٣٩

(وَقالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ) [غافر : ٦٠] فيكون العدول عن أن يقول : أن أعبد الذين تعبدون ، تفننا. و (من) في قوله : (مِنْ رَبِّي) ابتدائية ، وجعل المجرور ب (من) وصف (رب) مضافا إلى ضمير المتكلم دون أن يجعل مجرورها ضميرا يعود على اسم الجلالة إظهارا في مقام الإضمار على خلاف مقتضى الظاهر لتربية المهابة في نفوس المعرّض بهم ليعلموا أن هذا النهي ومجيء البينات هو من جانب سيّده وسيدهم فما يسعهم إلا أن يطيعوه ولذلك عززه بإضافة الرب إلى الجميع في قوله : (وَأُمِرْتُ أَنْ أُسْلِمَ لِرَبِّ الْعالَمِينَ) أي ربكم ورب غيركم فلا منصرف لكم عن طاعته.

والإسلام : الانقياد بالقول والعمل ، وفعله متعدّ ، وكثر حذف مفعوله فنزّل منزلة اللازم ، فأصله : أسلم نفسه أو ذاته أو وجهه كما صرح به في نحو قوله تعالى : (فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لِلَّهِ) ، ومن استعماله كاللازم قوله تعالى : (فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لِلَّهِ) في سورة آل عمران [٢٠] وقوله تعالى : (إِذْ قالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعالَمِينَ) في سورة البقرة [١٣١] ، وكذلك هو هنا.

(هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ يُخْرِجُكُمْ طِفْلاً ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ ثُمَّ لِتَكُونُوا شُيُوخاً وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى مِنْ قَبْلُ وَلِتَبْلُغُوا أَجَلاً مُسَمًّى وَلَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (٦٧))

استئناف رابع بعد استئناف جملة (هُوَ الْحَيُ) [غافر : ٦٥] وما تفرع عليها ، وكلها ناشئ بعضه عن بعض. وهذا الامتنان بنعمة الإيجاد وهو نعمة لأن الموجود شرف والمعدوم لا عناية به. وأدمج فيه الاستدلال على الإبداع. وتقدم الكلام على أطوار خلق الإنسان في سورة الحج ، وتقدم الكلام على بعضه في سورة فاطر.

والطفل : اسم يصدق على الواحد والاثنين والجمع ، للمذكر والمؤنث قال تعالى : (أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلى عَوْراتِ النِّساءِ) [النور : ٣١] وقد يطابق فيقال : طفل وطفلان وأطفال.

واللامات في قوله : (ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ) وما عطف عليه ب (ثم) متعلقات بمحذوف تقديره : ثم يبقيكم ، أو ثم ينشئكم لتبلغوا أشدكم ، وهي لامات التعليل مستعملة في معنى (إلى) لأن الغاية المقدرة من الله تشبه العلة فيما يفضي إليها ، وتقدم نظيره في سورة الحج.

وقوله : (وَلِتَبْلُغُوا أَجَلاً مُسَمًّى) عطف على (لِتَكُونُوا شُيُوخاً) أي للشيخوخة غاية

٢٤٠