تفسير التّحرير والتّنوير - ج ٢٢

الشيخ محمّد الطاهر ابن عاشور

تفسير التّحرير والتّنوير - ج ٢٢

المؤلف:

الشيخ محمّد الطاهر ابن عاشور


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة التاريخ العربي للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٢٨٨

وقرأ الجمهور (فِي الْغُرُفاتِ) بصيغة الجمع ، وقرأ حمزة «في الغرفة» بالإفراد.

(وَالَّذِينَ يَسْعَوْنَ فِي آياتِنا مُعاجِزِينَ أُولئِكَ فِي الْعَذابِ مُحْضَرُونَ (٣٨))

جرى الكلام على عادة القرآن في تعقيب الترغيب بالترهيب وعكسه ، فكان هذا بمنزلة الاعتراض بين الثناء على المؤمنين الصالحين وبين إرشادهم إلى الانتفاع بأموالهم للقرب عند الله تعالى بجملة (وَما أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ) [سبأ : ٣٩] إلخ. والذين يسعون في الآيات هم المشركون بصدهم عن سماع القرآن وبالطعن فيه بالباطل واللغو عند سماعه.

والسعي مستعار للاجتهاد في العمل كقوله تعالى : (ثُمَّ أَدْبَرَ يَسْعى) [النازعات : ٢٢] وإذا عدي ب (فِي) كان في الغالب مرادا منه الاجتهاد في المضرة فمعنى (يَسْعَوْنَ فِي آياتِنا) يجتهدون في إبطالها ، و (مُعاجِزِينَ) مغالبين طالبين العجز. وقد تقدم نظيره في قوله تعالى : (وَالَّذِينَ سَعَوْا فِي آياتِنا مُعاجِزِينَ أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَحِيمِ) في سورة الحج [٥١].

واسم الإشارة للتنبيه على أنهم استحقوا الجحيم لأجل ما ذكر قبل اسم الإشارة مثل (أُولئِكَ عَلى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ) [البقرة : ٥] و (فِي الْعَذابِ) خبر عن اسم الإشارة. و (مُحْضَرُونَ) هنا كناية عن الملازمة فهو ارتقاء في المعنى الذي دلت عليه أداة الظرفية من إحاطة العذاب بهم وهو خبر ثان عن اسم الإشارة ومتعلقه محذوف دل عليه الظرف وقد تقدم نظيره في قوله تعالى : (فَأُولئِكَ فِي الْعَذابِ مُحْضَرُونَ) في سورة الروم [١٦].

(قُلْ إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَيَقْدِرُ لَهُ وَما أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ (٣٩))

أتبع إبطال أن تكون الأموال والأولاد بذاتهما وسيلة قرب لدى الله تعالى ردّا على مزاعم المشركين بما يشبه معنى الاستدراك على ذلك الإبطال من إثبات انتفاع بالمال للتقرب إلى رضى الله إن استعمل في طلب مرضاة الله تفضيلا لما أشير إليه إجمالا من أن ذلك قد يكون فيه قربة إلى الله بقوله : (إِلَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً) [سبأ : ٣٧] كما تقدم.

وقوله : (قُلْ إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَيَقْدِرُ لَهُ) تقدم نظيره قريبا تأكيدا لذلك وليبنى عليه قوله : (وَما أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ) الآية. فالذي تقدم ردّ على المشركين ، والمذكور هنا ترغيب للمؤمنين ، والعبارات واحدة والمقاصد مختلفة. وهذا من

٨١

وجوه الإعجاز أن يكون الكلام الواحد صالحا لغرضين وأن يتوجه إلى طائفتين.

ولما كان هذا الثاني موجها إلى المؤمنين أشير إلى تشريفهم بزيادة قوله : (مِنْ عِبادِهِ) أي المؤمنين ، وضمير (لَهُ) عائد إلى (مِنْ) ، أي ويقدر لمن يشاء من عباده. ومفعول (يَقْدِرُ) محذوف دلّ عليه مفعول (يَبْسُطُ).

وكان ما تقدم حديثا عن بسط الرزق لغير المؤمنين فلم ينعموا بوصف (مِنْ عِبادِهِ) لأن في الإضافة تشريفا للمؤمنين ، وفي هذا امتنان على الذين يبسط عليهم الرزق بأن جمع الله لهم فضل الإيمان وفضل سعة الرزق ، وتسلية للذين قدر عليهم رزقهم بأنهم نالوا فضل الإيمان وفضل الصبر على ضيق الحياة.

وفي تعليق (لَهُ) ب (يَقْدِرُ) إيماء إلى أن ذلك القدر لا يخلو من فائدة للمقدور عليه رزقه ، وهي فائدة الثواب على الرضى من قسم له والسلامة من الحساب عليه يوم القيامة. وفي الحديث «ما من مصيبة تصيب المؤمن إلّا كفّر بها عنه حتى الشوكة يشاكها».

ولو لا هذا الإيماء لقيل : ويقدر عليه ، كما قال : (وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آتاهُ اللهُ) [الطلاق : ٧]. وأما حال الكافرين فإنهم ينعم على بعضهم برزق يحاسبون عليه أشد الحساب يوم القيامة إذ لم يشكروا رازقهم ، ويقدر على بعضهم فلا يناله إلّا الشقاء. وهذا توطئة لقوله : (وَما أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ) حثا على الإنفاق. والمراد الإنفاق فيما أذن فيه الشرع.

وهذا تعليم للمسلمين بأن نعيم الآخرة لا ينافي نعيم الدنيا ، قال تعالى : (وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ رَبَّنا آتِنا فِي الدُّنْيا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنا عَذابَ النَّارِ أُولئِكَ لَهُمْ نَصِيبٌ مِمَّا كَسَبُوا) [البقرة : ٢٠١ ، ٢٠٢]. فأما نعيم الدنيا فهو مسبب عن أحوال دنيوية رتبها الله تعالى ويسّرها لمن يسّرها في علمه بغيبه ، وأما نعيم الآخرة فهو مسبب عن أعمال مبينة في الشريعة وكثير من الصالحين يحصل لهم النعيم في الدنيا مع العلم بأنهم منعّمون في الآخرة كما أنعم على داود وسليمان وعلى كثير من أصحاب محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم وكثير من أئمة الدين مثل مالك بن أنس والشافعي والشيخ عبد الله بن أبي زيد وسحنون.

فأما اختيار الله لنبيه محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم حالة الزهادة في الدنيا فلتحصل له غايات الكمال من التمحّض لتلقي الوحي وجميل الخصال ومن مساواة جمهور أصحابه في أحوالهم ، وقد بسطناه بيانا في رسالة طعام رسول الله عليه‌السلام. وأعقب ذلك بترغيب الأغنياء في

٨٢

الإنفاق في سبيل الله فجعل الوعد بإخلاف ما ينفقه المرء كناية عن الترغيب في الإنفاق لأن وعد الله بإخلافه مع تأكيد الوعد يقتضي أنه يحب ذلك من المنفقين.

وأكد ذلك الوعد بصيغة الشرط وبجعل جملة الجواب اسمية وبتقديم المسند إليه على الخبر الفعلي بقوله : (فَهُوَ يُخْلِفُهُ) ، ففي هذا الوعد ثلاثة مؤكدات دالة على مزيد العناية بتحقيقه لينتقل من ذلك إلى الكناية عن كونه مرغوبه تعالى.

و (مِنْ شَيْءٍ) بيان لما في (ما) من العموم ، وجملة (وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ) تذييل للترغيب والوعد بزيادة ، لبيان أن ما يخلفه أفضل مما أنفقه المنفق. (خَيْرُ) بمعنى أخير لأن الرزق الواصل من غيره تعالى إنما هو من فضله أجراه على يد بعض مخلوقاته فإذا كان تيسيره برضى من الله على المرزوق ووعد به كان ذلك أخلق بالبركة والدوام ، وظاهر الآية أن إخلاف الرزق يقع في الدنيا وفي الآخرة.

والمراد بالإنفاق : الإنفاق المرغب فيه في الدين كالإنفاق على الفقراء والإنفاق في سبيل الله بنصر الدين. روى مالك عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال : «يقول الله تعالى : يا ابن آدم أنفق أنفق عليك». قال ابن العربي : قد يعوّض مثله أو أزيد ، وقد يعوض ثوابا ، وقد يدخر له وهو كالدعاء في وعد الإجابة» ا ه. قلت : وقد يعوّض صحة وقد يعوّض تعميرا. ولله في خلقه أسرار.

[٤٠ ، ٤١] (وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً ثُمَّ يَقُولُ لِلْمَلائِكَةِ أَهؤُلاءِ إِيَّاكُمْ كانُوا يَعْبُدُونَ (٤٠) قالُوا سُبْحانَكَ أَنْتَ وَلِيُّنا مِنْ دُونِهِمْ بَلْ كانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ أَكْثَرُهُمْ بِهِمْ مُؤْمِنُونَ (٤١))

عطف على جملة (وَلَوْ تَرى إِذِ الظَّالِمُونَ مَوْقُوفُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ) [سبأ : ٣١] الآية استكمالا لتصوير فظاعة حالهم يوم الوعد الذي أنكروه تبعا لما وصف من حال مراجعة المستكبرين منهم والمستضعفين ؛ فوصف هنا افتضاحهم بتبرؤ الملائكة منهم وشهادتهم عليهم بأنهم يعبدون الجن.

وضمير الغيبة من نحشرهم عائد إلى ما عاد عليه ضمير (وَقالُوا نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوالاً وَأَوْلاداً) [سبأ : ٣٥] الذي هو عائد إلى (الَّذِينَ كَفَرُوا) من قوله : (وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ نُؤْمِنَ بِهذَا الْقُرْآنِ) [سبأ : ٣١]. والكلام كله منتظم في أحوال المشركين ، وجميع : فعيل بمعنى مفعول ، أي مجموع وكثر استعماله وصفا لإفادة شمول أفراد ما أجري هو عليه من ذوات وأحوال ، أي يجمعهم المتكلم ، قال لبيد :

٨٣

عريت وكان بها الجميع فأبكروا

منها وغودر نؤيها وثمامها

وتقدم عند قوله تعالى : (فَكِيدُونِي جَمِيعاً ثُمَّ لا تُنْظِرُونِ) في سورة هود [٥٥]. فلفظ (جَمِيعاً) يعم أصناف المشركين على اختلاف نحلهم واعتقادهم في شركهم فقد كان مشركو العرب نحلا شتّى يأخذ بعضهم من بعض وما كانوا يحققون مذهبا منتظم العقائد والأقوال غير مخلوط بما ينافي بعضه بعضا.

والمقصد من هذه الآية إبطال قولهم في الملائكة إنهم بنات الله ، وقولهم : (لَوْ شاءَ الرَّحْمنُ ما عَبَدْناهُمْ) كما في سورة الزخرف [٢٠]. وكانوا يخلطون بين الملائكة والجن ويجعلون بينهم نسبا ، فكانوا يقولون : الملائكة بنات الله من سروات الجن.

وقد كان حيّ من خزاعة يقال لهم : بنو مليح ، بضم الميم وفتح اللام وسكون التحتية ، يعبدون الجن والملائكة ، والاقتصار على تقرير الملائكة واستشهادهم على المشركين لأن إبطال إلهية الملائكة يفيد إبطال إلهية ما هو دونها ممن أعيد من دون الله بدلالة الفحوى ، أي بطريق الأولى فإن ذلك التقرير من أهم ما جعل الحشر لأجله.

وتوجيه الخطاب إلى الملائكة بهذا الاستفهام مستعمل في التعريض بالمشركين على طريقة المثل «إياك أعني واسمعي يا جارة».

والإشارة ب (هؤُلاءِ) إلى فريق كانوا عبدوا الملائكة والجن ومن شايعهم على أقوالهم من بقية المشركين.

وتقديم المفعول على (يَعْبُدُونَ) للاهتمام والرعاية على الفاصلة.

وحكي قول الملائكة بدون عاطف لوقوعه في المحاورة كما تقدم غير مرة ولذلك جيء فيه بصيغة الماضي لأن ذلك هو الغالب في الحكاية.

وجواب الملائكة يتضمن إقرارا مع التنزه عن لفظ كونهم معبودين كما يتنزه من يحكي كفر أحد فيقول قال : هو مشرك بالله ، وإنما القائل قال : أنا مشرك بالله.

فمورد التنزيه في قول الملائكة (سُبْحانَكَ) هو أن يكون غير الله مستحقا أن يعبد ، مع لازم الفائدة وهو أنهم يعلمون ذلك فلا يضرون بأن يكونوا معبودين.

والولي : الناصر والحليف والصديق ، مشتق من الولي مصدر ولي بوزن علم. وكلّ من فاعل الولي ومفعوله وليّ لأن الولاية نسبة تستدعي طرفين ولذلك كان الولي فعيلا

٨٤

صالحا لمعنى فاعل ولمعنى مفعول. فيقع اسم الوليّ على الموالي بكسر اللام وعلى الموالي بفتحها وقد ورد بالمعنيين في القرآن وكلام العرب كثيرا.

فمعنى (أَنْتَ وَلِيُّنا) لا نوالي غيرك ، أي لا نرضى به وليّا ، والعبادة ولاية بين العابد والمعبود ، ورضى المعبود بعبادة عابده إياه ولاية بين المعبود وعابده ، فقول الملائكة (سُبْحانَكَ) تبرؤ من الرضى بأن يعبدهم المشركون لأن الملائكة لما جعلوا أنفسهم موالين لله فقد كذبوا المشركين الذين زعموا لهم الإلهية ، لأن العابد لا يكون معبودا. وقد تقدم الكلام على لفظ (ولي) عند قوله تعالى : (قُلْ أَغَيْرَ اللهِ أَتَّخِذُ وَلِيًّا) في سورة الأنعام [١٤] وفي آخر سورة الرعد.

و (مِنْ) زائدة للتوكيد و (دون) اسم لمعنى غير ، أي أنت ولينا وهم ليسوا أولياء لنا ولا نرضى بهم لكفرهم ف (مِنْ دُونِهِمْ) تأكيد لما أفادته جملة (أَنْتَ وَلِيُّنا) من الحصر لتعريف الجزأين.

و (بَلْ) للإضراب الانتقالي انتقالا من التبرؤ منهم إلى الشهادة عليهم وعلى الذين سوّلوا لهم عبادة غير الله تعالى ، وليس إضراب إبطال لأن المشركين المتحدث عنهم كانوا يعبدون الملائكة ، والمعنى : بل كان أكثر هؤلاء يعبدون الجن وكان الجنّ راضين بعبادتهم إياهم. وحاصل المعنى : أنا منكرون عبادتهم إيانا ولم نأمرهم بها ولكن الجن سوّلت لهم عبادة غير الله فعبدوا الجن وعبدوا الملائكة.

وجملة (أَكْثَرُهُمْ) للمشركين وضمير (بِهِمْ) للجن ، والمقام يردّ كل ضمير إلى معاده ولو تماثلت الضمائر كما في قول عباس بن مرداس يوم حنين :

عدنا ولو لا نحن أحدق جمعهم

بالمسلمين وأحرزوا ما جمّعوا

أي أحرز جمع المشركين ما جمّعه المسلمون من مغانم.

وقرأ الجمهور نحشرهم ونقول بنون العظمة. وقرأ حفص عن عاصم بياء الغائب فيهما ، والضمير عائد إلى (رَبِّي) من قوله : (قُلْ إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَيَقْدِرُ لَهُ) [سبأ : ٣٩].

(فَالْيَوْمَ لا يَمْلِكُ بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ نَفْعاً وَلا ضَرًّا وَنَقُولُ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ذُوقُوا عَذابَ النَّارِ الَّتِي كُنْتُمْ بِها تُكَذِّبُونَ (٤٢))

٨٥

(فَالْيَوْمَ لا يَمْلِكُ بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ نَفْعاً وَلا ضَرًّا).

الأظهر أن هذا من خطاب الله تعالى المشركين والجنّ. والفاء فصيحة ناشئة عن المقاولة السابقة. وهي كلام موجه من جانب الله تعالى إلى الملائكة والمقصود به : التعريض بضلال الذين عبدوا الملائكة والجن لأن الملائكة يعلمون مضمون هذا الخبر فلا نقصد إفادتهم به. والمعنى : إذ علمتم أنكم عبدتم الجن فاليوم لا يملك بعضكم لبعض نفعا ولا ضرا.

ويجوز أن يكون من خطاب الملائكة للفريقين بعد أداء الشهادة عليهم توبيخا لهم وإظهارا للغضب عليهم تحقيقا للتبرؤ منهم ، والفاء أيضا فصيحة وهي ظاهرة.

وقدم الظرف على عامله لأن النفع والضر يومئذ قد اختص صغيرهما وكبيرهما بالله تعالى خلاف ما كان في الدنيا من نفع الجن عبّادهم ببعض المنافع الدنيوية ونفع المشركين الجن بخدمة وساوسهم وتنفيذ أغراضهم من الفتنة والإضلال ، وكذلك الضر في الدنيا أيضا.

والملك هنا بمعنى : القدرة ، أي لا يقدر بعضكم على نصر أو نفع بعض. وتقدم عند قوله تعالى : (قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ مِنَ اللهِ شَيْئاً إِنْ أَرادَ أَنْ يُهْلِكَ الْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ) في سورة العقود [١٧].

وقدم النفع في حيز النفي تأييسا لهم لأنهم كانوا يرجون أن يشفعوا لهم يومئذ و (يَقُولُونَ هؤُلاءِ شُفَعاؤُنا عِنْدَ اللهِ) [يونس : ١٨].

وعطف نفي الضر على نفع النفع للدلالة على سلب مقدرتهم على أي شيء فإن بعض الكائنات يستطيع أن يضر ولا يستطيع أن ينفع كالعقرب.

(وَنَقُولُ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ذُوقُوا عَذابَ النَّارِ الَّتِي كُنْتُمْ بِها تُكَذِّبُونَ).

عطف على قوله : ثم نقول (لِلْمَلائِكَةِ) [سبأ : ٤٠]. وقد وقع الإخبار عن هذا القول بعد الإخبار عن الحوار الذي يجري بين الملائكة وبين المشركين يومئذ إظهارا لاستحقاقهم هذا الحكم الشديد ، ولكونه كالمعلول لقوله : (لا يَمْلِكُ بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ نَفْعاً وَلا ضَرًّا).

والذوق : مجاز لمطلق الإحساس ، واختياره دون الحقيقة لشهرة استعماله.

ووصف النار بالتي كانوا يكذبون بها لما في صلة الموصول من إيذان بغلطهم

٨٦

وتنديمهم.

وقد علق التكذيب هنا بنفس النار فجيء باسم الموصول المناسب لها ولم يعلق بالعذاب كما في آية سورة السجدة [٢٠](وَقِيلَ لَهُمْ ذُوقُوا عَذابَ النَّارِ الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ) لأن القول المخبر عنه هنا هو قول الله تعالى وحكمه وقد أذن بهم إلى جهنم وشاهدوها كما قال تعالى آنفا : (وَأَسَرُّوا النَّدامَةَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذابَ) [سبأ : ٣٣] فإن الذي يرى هو ما به العذاب ، وأما القول المحكي في سورة السجدة [٢٠] فهو قول ملائكة العذاب بدليل قوله : (كُلَّما أَرادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْها أُعِيدُوا فِيها وَقِيلَ لَهُمْ ذُوقُوا عَذابَ النَّارِ الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ).

وتقديم المجرور للاهتمام والرعاية على الفاصلة.

(وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا بَيِّناتٍ قالُوا ما هذا إِلاَّ رَجُلٌ يُرِيدُ أَنْ يَصُدَّكُمْ عَمَّا كانَ يَعْبُدُ آباؤُكُمْ وَقالُوا ما هذا إِلاَّ إِفْكٌ مُفْتَرىً وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلْحَقِّ لَمَّا جاءَهُمْ إِنْ هذا إِلاَّ سِحْرٌ مُبِينٌ (٤٣))

انتقال من حكاية كفرهم وغرورهم وازدهائهم بأنفسهم وتكذيبهم بأصول الديانة إلى حكاية تكذيبهم الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وأتبع ذلك بحكاية تكذيبهم الكتاب والدين الذي جاء به فكان كالفذلكة لما تقدم من كفرهم.

وجملة (إِذا تُتْلى) معطوفة على جملة ويوم نحشرهم (جَمِيعاً) [سبأ : ٤٠] عطف القصة على القصة. وضمير (عَلَيْهِمْ) عائد إلى (الَّذِينَ كَفَرُوا) [سبأ : ٣١] وهم المشركون من أهل مكة.

وإيراد حكاية تكذيبهم الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم مقيدة بالزمن الذي تتلى عليهم فيه آيات الله البينات تعجيب من وقاحتهم حيث كذبوه في أجدر الأوقات بأن يصدقوه عندها لأنه وقت ظهور حجة صدقه لكل عاقل متبصر.

وللاهتمام بهذا الظرف والتعجيب من متعلقه قدّم الظرف على عامله والتشوق إلى الخبر الآتي بعده وأنه من قبل البهتان والكفر البواح.

والمراد بالآيات البينات آيات القرآن ، ووصفها بالبيّنات لأجل ظهور أنها من عند الله لإعجازها إياهم عن معارضتها ، ولما اشتملت عليه معانيها من الدلائل الواضحة على

٨٧

صدق ما تدعو إليه ، فهي محفوفة بالبيان بألفاظها ومعانيها.

وحذف فاعل التلاوة لظهور أنه الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم إذ هو تالي آيات الله ، فالإشارة في قولهم : (ما هذا إِلَّا رَجُلٌ يُرِيدُ أَنْ يَصُدَّكُمْ) إلى الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم. واستحضروه بطريق الإشارة دون الاسم إفادة لحضوره مجلس التلاوة وذلك من تمام وقاحتهم فقد كان النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقرأ عليهم القرآن في مجالسهم كما ورد في حديث قراءته على عتبة بن ربيعة سورة فصلت وقراءته على عبد الله بن أبيّ ابن سلول للقرآن بالمدينة في القصة التي تشاجر فيها المسلمون والمشركون.

وابتدءوا بالطعن في التالي لأنه الغرض الذي يرمون إليه ، وأثبتوا له إرادة صدّهم عن دين آبائهم قصد أن يثير بعضهم حمية بعض لأنهم يجعلون آباءهم أهل الرأي فيما ارتأوا والتسديد فيما فعلوا فلا يرون إلّا حقّا ولا يفعلون إلّا صوابا وحكمة ، فلا جرم أن يكون مريد الصدّ عنها محاولا الباطل وكاذبا في قوله لأن الحق مطابق الواقع فإبطال ما هو حق في زعمهم قول غير مطابق للواقع فهو الكذب.

وفعل (كانَ) في قولهم : (عَمَّا كانَ يَعْبُدُ آباؤُكُمْ) إشارة إلى أنهم عنوا أن تلك عبادة قديمة ثابتة. وفي ذلك إلهاب لقلوب قومهم وإيغار لصدورهم ليتألبوا على الرسولصلى‌الله‌عليه‌وسلم ويزدادوا تمسكا بدينهم وقد قصروا الرسول عليه الصلاة والسلام على صفة إرادة صدهم قصرا إضافيا ، أي إلّا رجل صادق فما هو برسول.

وأتبعوا وصف التالي بوصف المتلوّ بأنه كذب مفترى وإعادة فعل القول للاهتمام بحكاية قولهم لفظاعته وكذلك إعادة فعل القول إعادة ثابتة للاهتمام بكل قول من القولين الغريبين تشنيعا لهما في نفس السامعين فجملة (وَقالُوا ما هذا إِلَّا إِفْكٌ) عطف على جملة (قالُوا ما هذا إِلَّا رَجُلٌ يُرِيدُ أَنْ يَصُدَّكُمْ) ، فالفعلان مشتركان في الظرف.

والإشارة الثانية إلى القرآن الذي تضمنه (تُتْلى) لتعيّنه لذلك.

والإفك : الكذب ، ووصفه بالمفترى إما أن يتوجّه إلى نسبته إلى الله تعالى أو أريد أنه في ذاته إفك وزادوا فجعلوه مخترعا من النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ليس مسبوقا به.

فكونه إفكا يرجع إلى جميع ما في القرآن ، وكونه مفترى يرجعونه إلى ما فيه من قصص الأولين. وهذا القول من بهتانهم لأنهم كثيرا ما يقولون : (أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ) [الأنعام : ٢٥] فليس (مُفْتَرىً) تأكيدا ل (إِفْكٌ).

٨٨

ثم حكي تكذيبهم الذي يعم جميع ما جاء به الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم من وحي يتلى أو دعوة إلى التوحيد وغيره أو استدلال عليه أو معجزة بقولهم : (إِنْ هذا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ) ، فهذا المقال الثالث يشمل ما تقدم وغيره ، فحكاية مقالهم هذا تقوم مقام التذييل. وأظهر للقائلين دون إضمار ما تقدم ما يصح أن يكون معادا للضمير فقيل : (وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلْحَقِّ لَمَّا جاءَهُمْ) ولم يقل : وقالوا للحق لما جاءهم ، للدلالة على أن الكفر هو باعث قولهم هذا.

وأظهر المشار إليه قبل اسم الإشارة في قوله : (لِلْحَقِّ لَمَّا جاءَهُمْ إِنْ هذا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ) لأنه لا دليل عليه في الكلام السابق ، أي إذ ظهر لهم ما هو حق من إثبات للتوحيد أو إخبار عن الغيب أو البعث قالوا : ما هذا إلّا سحر مبين. فالمراد من الحق : ما هو أعم من آيات القرآن لأن السحر له أسلوبان : أحدهما شعوذة الأقوال التي لا تفهم مدلولاتها يختلقها السحرة ليوهموا الناس أن فيها مناجاة مع الجن ليمكنوهم من عمل ما يريدون فيسترهبوهم بذلك ، وثانيهما أفعال لها أسباب خفية مستورة بحيل وخفة أيد تحركها فيوهمون بها الناس أنها من تمكين الجن إياهم التصرف في الخفيات ، فإذا سمعوا القرآن ألحقوه بالأسلوب الأول ، وإذا رأوا المعجزات ألحقوها بالأسلوب الثاني كما قالت المرأة التي شاهدت معجزة تكثير الماء في بعض غزوات النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقالت لقومها «أتيت أسحر الناس ، أو هو نبيء كما زعموه».

ومعنى (مُبِينٌ) أنه يظهر منه أنه سحر فتبيينه كنهه من نفسه ، يعنون أن من سمعه يعلم أنه سحر.

وجملة (وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا) معطوفة على جملة (وَإِذا تُتْلى).

(وَما آتَيْناهُمْ مِنْ كُتُبٍ يَدْرُسُونَها وَما أَرْسَلْنا إِلَيْهِمْ قَبْلَكَ مِنْ نَذِيرٍ (٤٤))

الواو للحال ، والجملة في موضع الحال من الضمير في قوله : (قالُوا ما هذا إِلَّا رَجُلٌ يُرِيدُ أَنْ يَصُدَّكُمْ عَمَّا كانَ يَعْبُدُ آباؤُكُمْ) [سبأ : ٤٣] الآية ، تحميقا لجهالتهم وتعجيبا من حالهم في أمرين :

«أحدهما» : أنهم لم يدركوا ما ينالهم من المزية بمجيء الحق إليهم إذ هيأهم الله به لأن يكونوا في عداد الأمم ذوي الكتاب ، وفي بدء حال يبلغ بهم مبلغ العلم ، إذ هم لم يسبق لهم أن أتاهم كتاب من عند الله أو رسول منه ، فيكون معنى الآية : فكيف رفضوا اتّباع الرسول وتلقي القرآن وكان الأجدر بهم الاغتباط بذلك. وهذا المعنى هو المناسب

٨٩

لقوله : (يَدْرُسُونَها) أي لم يكونوا أهل دراسة فكان الشأن أن يسرهم ما جاءهم من الحق.

«وثانيهما» : أنهم لم يكونوا على هدى ولا دين منسوب إلى الله تعالى حتى يكون تمسكهم به وخشية الوقوع في الضلالة إن فرّطوا فيه يحملهم على التردد في الحق الذي جاءهم وصدق الرسول الذي أتاهم به فيكون لهم في الصد عنهما بعض العذر : فيكون المعنى : التعجيب من رفضهم الحق حين لا مانع يصدهم ، فليس معنى جملة (وَما آتَيْناهُمْ مِنْ كُتُبٍ) إلخ على العطف ولا على الإخبار لأن مضمون ذلك معلوم لا يتعلق الغرض بالإخبار به ، ولكن على الحال لإفادة التعجيب والتحميق ، وعلى هذا المعنى جرى المفسرون.

والدراسة : القراءة بتمهّل وتفهّم ، وتقدم عند قوله تعالى : (وَبِما كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ) في آل عمران [٧٩].

وإنما لم يقيد إيتاء الكتب بقيد كما قيّد الإرسال بقوله : (قَبْلَكَ) لأن الإيتاء هو التمكين من الشيء وهم لم يتمكنوا من القرآن بخلاف إرسال النذير فهو حاصل سواء تقبلوه أم أعرضوا عنه.

ومن نحا نحو أن يكون معنى الآية التفرقة بين حالهم وحال أهل الكتاب فذلك منحى واهن لأنه يجرّ إلى معذرة أهل الكتاب في عضّهم بالنواجذ على دينهم ، على أنه لم يكن في مدة نزول الوحي بمكة علاقة للدعوة الإسلامية بأهل الكتاب وإنما دعاهم النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالمدينة ، وأيضا لا يكون للتقييد ب (قَبْلَكَ) فائدة خاصة كما علمت. وهنالك تفسيرات أخرى أشد بعدا وأبعد عن القصد جدا.

(وَكَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَما بَلَغُوا مِعْشارَ ما آتَيْناهُمْ فَكَذَّبُوا رُسُلِي فَكَيْفَ كانَ نَكِيرِ (٤٥))

هذا تسلية للرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم وتهديد للذين كذّبوه ، فموقع التسلية منه قوله : (وَكَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ) ، وموقع التهديد بقية الآية ، فالتسلية في أن له أسوة بالرسل السابقين ، والتهديد. بتذكيرهم بالأمم السالفة التي كذّبت رسلها وكيف عاقبهم الله على ذلك وكانوا أشد قوة من قريش وأعظم سطوة منهم وهذا كقوله تعالى : (فَأَهْلَكْنا أَشَدَّ مِنْهُمْ بَطْشاً) [الزخرف : ٨].

٩٠

ومفعول (كَذَّبَ) محذوف دل عليه ما بعده ، أي كذبوا الرسل ، دل عليه قوله : (فَكَذَّبُوا رُسُلِي).

وضمير (بَلَغُوا) عائد إلى (الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ) ، والضمير المنصوب في (آتَيْناهُمْ) عائد إلى (الَّذِينَ كَفَرُوا) في قوله : (وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلْحَقِّ لَمَّا جاءَهُمْ إِنْ هذا) سحر مبين [سبأ : ٤٣]. والمقام يردّ على كل ضمير إلى معاده ، كما تقدم قريبا عند قوله تعالى : (أَكْثَرُهُمْ بِهِمْ مُؤْمِنُونَ) [سبأ : ٤١].

والمعشار : العشر ، وهو الجزء العاشر مثل المرباع الذي كان يجعل لقائد الكتبية من غنائم الجيش في الجاهلية.

وذكر احتمالان آخران في معاد الضميرين من قوله : (وَما بَلَغُوا مِعْشارَ ما آتَيْناهُمْ) لا يستقيم معهما سياق الآية.

وجملة (وَما بَلَغُوا مِعْشارَ ما آتَيْناهُمْ) معترضة ، والاعتراض بها تمهيد للتهديد وتقريب له بأن عقاب هؤلاء أيسر من عقاب الذين من قبلهم في متعارف الناس مثل قوله تعالى : (وَهُوَ الَّذِي يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ) [الروم : ٢٧].

والفاء في قوله : (فَكَذَّبُوا رُسُلِي) للتفريع على قوله : (وَكَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ) باعتبار أن المفرع عطف عليه قوله : (فَكَيْفَ كانَ نَكِيرِ) ، وبذلك كانت جملة (فَكَذَّبُوا رُسُلِي) تأكيدا لجملة (وَكَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ) ونظيره قوله تعالى : (كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ فَكَذَّبُوا عَبْدَنا) في سورة القمر [٩] ، ولكون الفاء الثانية في قوله : (فَكَيْفَ كانَ نَكِيرِ) تأكيدا لفظيا للفاء في قوله : (فَكَذَّبُوا رُسُلِي).

وقوله : (فَكَيْفَ كانَ نَكِيرِ) مفرع على قوله : (وَكَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ).

و (كيف) استفهام عن الحالة وهو مستعمل في التقرير والتفريع كقول الحجاج للعديل ابن الفرخ «فكيف رأيت الله أمكن منك» ، أي أمكنني منك ، في قصة هروبه.

فجملتا (فَكَذَّبُوا رُسُلِي فَكَيْفَ كانَ نَكِيرِ) في قوة جملة واحدة مفرعة على جملة (وَكَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ). والتقدير : وكذب الذين من قبلهم فكيف كان نكيري على تكذيبهم الرسل ، ولكن لما كانت جملة (وَكَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ) مقصودا منها تسلية الرسول ابتداء جعلت مقصورة على ذلك اهتماما بذلك الغرض وانتصارا من الله لرسولهصلى‌الله‌عليه‌وسلم ثم خصّت عبرة تسبب التكذيب في العقاب بجملة تخصها تهويلا للتكذيب وهو من مقامات

٩١

الإطناب ، فصادف أن كان مضمون الجملتين متحدا اتحاد السبب لمسببين أو العلة لمعلولين كعلة السرقة للقطع والغرم. وبني النظم على هذا الأسلوب الشيق تجنبا لثقل إعادة الجملة إعادة ساذجة ففرعت الثانية على الأولى وأظهر فيها مفعول (كَذَّبَ) وبني عليه الاستفهام التقريري التفظيعي ، أو فرع للتكذيب الخاص على التكذيب الذي هو سجيتهم العامة على الوجه الثاني في معنى : (وَكَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ) كما تقدم ، ونظيره قوله تعالى : (كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ فَكَذَّبُوا عَبْدَنا وَقالُوا مَجْنُونٌ وَازْدُجِرَ) [القمر : ٩].

والنكير : اسم للإنكار وهو عدّ الشيء منكرا ، أي مكروها ، واستعمل هنا كناية عن الغضب وتسليط العقاب على الآتي بذلك المنكر فهي كناية رمزية.

والمعنى : فكيف كان عقابي لهم على ما جاءوا به مما أنكره ، أي كان عقابا عظيما على وفق إنكارنا تكذيبهم.

و (نَكِيرِ) بكسر الراء وهو مضاف إلى ياء المتكلم ، وحذفت الياء للتخفيف مع التنبيه عليها ببقاء الكسرة على آخر الكلمة وليناسب الفاصلة وأختها. وكتب في المصحف بدون ياء وبوقف عليه بالسكون.

(قُلْ إِنَّما أَعِظُكُمْ بِواحِدَةٍ أَنْ تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنى وَفُرادى ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا ما بِصاحِبِكُمْ مِنْ جِنَّةٍ إِنْ هُوَ إِلاَّ نَذِيرٌ لَكُمْ بَيْنَ يَدَيْ عَذابٍ شَدِيدٍ (٤٦))

افتتح بالأمر بالقول هنا وفي الجمل الأربع بعده للاهتمام بما احتوت عليه. وهذا استئناف للانتقال من حكاية أحوال كفر المشركين وما تخلل ذلك من النقض والاستدلال والتسلية والتهديد ووصف صدودهم ومكابرتهم إلى دعوتهم للإنصاف في النظر والتأمل في الحقائق ليتضح لهم خطؤهم فيما ارتكبوه من العسف في تلقي دعوة الإسلام وما ألصقوا به وبالداعي إليه ، وأرشدوا إلى كيفية النظر في شأنهم والاختلاء بأنفسهم لمحاسبتها على سلوكها ، استقصاء لهم في الحجة وإعذارا لهم في المجادلة (لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيى مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ) [الأنفال : ٤٢].

ولذلك اجتلبت صيغة الحصر ب (إِنَّما) ، أي ما أعظكم إلّا بواحدة ، طيّا لبساط المناظرة وإرساء على الخلاصة من المجادلات الماضية ، وتقريبا لشقة الخلاف بيننا وبينكم.

٩٢

وهو قصر إضافي ، أي لا بغيرها من المواعظ المفصلة ، أي إن استكثرتم الحجج وضجرتم من الردود والمطاعن فأنا أختصر المجادلة في كلمة واحدة فقد كانوا يتذمرون من القرآن لأبي طالب : أما ينتهي ابن أخيك عن شتم آلهتنا وآبائنا. وهذا كما يقول المناظر والجدلي بعد بسط الأدلة فيقول : والخلاصة أو والفذلكة كذا.

وقد ارتكب في هذه الدعوة تقريب مسالك النظر إليهم باختصاره ، فوصف بأنه خصلة واحدة لئلا يتجهّموا الإقبال على هذا النظر الذي عقدوا نياتهم على رفضه ، فأعلموا بأن ذلك لا يكلفهم جهدا ولا يضيع عليهم زمنا فليتأملوا فيه قليلا ثم يقضوا قضاءهم ، والكلام على لسان النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أمره الله أن يخاطبهم به.

والوعظ : كلام فيه تحذير من مكروه وترغيب في ضده. وتقدم عند قوله تعالى : (وَكَتَبْنا لَهُ فِي الْأَلْواحِ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْعِظَةً وَتَفْصِيلاً لِكُلِّ شَيْءٍ) في سورة الأعراف [١٤٥] ، وقوله : (يَعِظُكُمُ اللهُ) في سورة النور [١٧].

و «واحدة» صفة لمحذوف يدل عليه المقام ويفرضه السامع نحو : بخصلة ، أو بقضية ، أو بكلمة.

والمقصود من هذا الوصف تقليلها تقريبا للأفهام واختصارا في الاستدلال وإيجازا في نظم الكلام واستنزالا لطائر نفورهم وإعراضهم.

وبنيت هذه الواحدة بقوله : (أَنْ تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنى وَفُرادى) إلى آخره ، فالمصدر المنسبك من (أَنْ) والفعل في موضع البدل من «واحدة» ، أو قل عطف بيان فإن عطف البيان هو البدل المطابق. وإنما اختلف التعبير عنه عند المتقدمين فلا تخض في محاولة الفرق بينهما كالذي خاضوا.

والقيام في قوله : (أَنْ تَقُومُوا) مراد به المعنى المجازي وهو التأهب للعمل والاجتهاد فيه كقوله تعالى : (وَأَنْ تَقُومُوا لِلْيَتامى بِالْقِسْطِ) [النساء : ١٢٧].

واللام للتعليل ، أي لأجل الله ولذاته ، أي جاعلين عملكم لله لا لمرضاة صاحب ولا عشيرة ، وهذا عكس قوله تعالى : (وَقالَ إِنَّمَا اتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِ اللهِ أَوْثاناً مَوَدَّةَ بَيْنِكُمْ) [العنكبوت : ٢٥] ، أو لأجل معرفة الله والتدبر في صفاته.

وكلمة (مَثْنى) معدول بها عن قولهم : اثنين اثنين ، بتكرير كلمة اثنين تكريرا يفيد معنى ترصيف الأشياء المتعددة بجعل كل ما يعدّ بعدد اثنين منه مرصفا على نحو عدده.

٩٣

وكلمة (فُرادى) معدول بها عن قولهم : فردا فردا تكريرا يفيد معنى الترصيف كذلك. وكذلك سائر أسماء العدد إلى تسع أو عشر ومنه قوله تعالى : (فَانْكِحُوا ما طابَ لَكُمْ مِنَ النِّساءِ مَثْنى وَثُلاثَ وَرُباعَ) ، وتقدم في سورة النساء [٣].

وانتصب (مَثْنى وَفُرادى) على الحال من ضمير (تَقُومُوا) ، أي أن تكونوا في القيام على هذين الحالين فيجوز أن يكون المعنى : أن تقوموا لحق الله وإظهاره على أي حال من اجتماع وانفراد ، فيكون (مَثْنى) كناية عن التعدد وهو من استعمال معنى التثنية في التكرر لأن التثنية أول التكرير فجعل التكرر لازما للتثنية ادعاء كما في قوله تعالى : (ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ يَنْقَلِبْ إِلَيْكَ الْبَصَرُ خاسِئاً وَهُوَ حَسِيرٌ) [الملك : ٤] فإن البصر لا يرجع خاسئا من إعادة نظرة واحدة بل المراد منه تكرير النظر ، ومنه قولهم : لبّيك وسعديك ، وقولهم : دواليك.

ويجوز أن يكون المعنى أن تقوموا لحق الله مستعينا أحدكم بصاحب له أو منفردا بنفسه فإن من أهل النظر من ينشط إليه بالمدارسة ما لا ينشطه بالخلوة. ومنهم من حاله بعكس هذا ، فلهذا اقتصر على (مَثْنى وَفُرادى) لأن ما زاد على ذلك لا اضطرار إليه. وقدم (مَثْنى) لأن الاستعانة أعون على الفهم فيكون المراد دفع عوائق الوصول إلى الحق بالنظر الصحيح الذي لا يغالط فيه صاحب هوى ولا شبهة ولا يخشى فيه الناظر تشنيعا ولا سمعة ، فإن الجماهير إذا اجتمعت لم يخل مجتمعهم من ذي هوى وذي شبهة وذي مكر وذي انتفاع ، وهؤلاء ـ بما يلازم نواياهم من الخبث ـ تصحبهم جرأة لا تترك فيهم وازعا عن الباطل ولا صدّا عن الاختلاق والتحريف للأقوال بعمد أو خطأ ، ولا حياء يهذب من حدّتهم في الخصام والأذى ، ثم يطيرون بالقالة وأعمال أهل السفالة.

فللسلامة من هذه العوائق والتخلص من تلك البوائق الصادة عن طريق الحق قيل هنا (مَثْنى وَفُرادى) فإن المرء إذا خلا بنفسه عند التأمل لم يرض لها بغير النصح ، وإذا خلا ثاني اثنين فهو إنما يختار ثانية أعلق أصحابه به وأقربهم منه رأيا فسلم كلاهما من غش صاحبه.

وحرف (ثُمَ) للتراخي في الرتبة لأن التفكر في أحوال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أهم في إصلاح حال المخاطبين المعرضين عن دعوته ، بخلاف القيام لله فإنهم لا يأبونه.

والتفكر : تكلف الفكر وهو العلم ، وتقدم عند قوله تعالى : (أَفَلا تَتَفَكَّرُونَ) في الأنعام [٥٠].

٩٤

وقوله : (ما بِصاحِبِكُمْ مِنْ جِنَّةٍ) نفي يعلّق فعل (تَتَفَكَّرُوا) عن العمل لأجل حرف النفي.

والمعنى : ثم تعلموا نفي الجنون عن صاحبكم ، أي تعلموا مضمون هذا. فجملة (ما بِصاحِبِكُمْ مِنْ جِنَّةٍ) معمولة ل (تَتَفَكَّرُوا). ومن وقف على (تَتَفَكَّرُوا) لم يتقن التفكر.

والمراد بالصاحب : المخالط مطلقا بالموافقة وبالمخاصمة ، وهو كناية عن التبصر في خلقه كقول الحجّاج في خطبته للخوارج «ألستم أصحابي بالأهواز حين رمتم الغدر واستبطنتم الكفر» يعني فلا تخفى عليّ مقاصدكم. وتقدم في قوله تعالى : (أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا ما بِصاحِبِهِمْ مِنْ جِنَّةٍ) في سورة الأعراف [١٨٤].

والتعبير (بِصاحِبِكُمْ) إظهار في مقام الإضمار لأن مقتضى الظاهر أن يقال : ما بي من جنّة إذ الكلام جار على لسان الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم كما تقدم آنفا. وفائدته التنبيه على أن حاله معلوم لديهم لا يلتبس عليهم لشدة مخالطته بهم مخالطة لا تذر للجهالة مجالا فهم عرفوه ونشأ بينهم حتى جاءهم بالحق فهذا كقوله : (فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُراً مِنْ قَبْلِهِ أَفَلا تَعْقِلُونَ) [يونس : ١٦].

والاقتصار في التفكر المطلوب على انتفاء الجنة عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم هو أن أصل الكفر هو الطعن في نبوءته وهم لما طعنوا فيه قالوا : مجنون ، وقالوا : ساحر ، وقالوا : كاذب. فابتدئ في إرجاعهم إلى الحق بنفي الجنّة عنه حتى إذا أذعنوا إلى أنه من العقلاء انصرف النظر إلى أن مثل ما جاء به لا يأتي به إلّا عاقل وهم إنما ابتدءوا اختلاقهم بأنه مجنون كما جاء في القرآن ، قال تعالى : (ما أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ) [القلم : ٢] في السورة الثانية نزولا. وقال: (وَما صاحِبُكُمْ بِمَجْنُونٍ) في السورة السابعة [التكوير : ٢٢] وذلك هو الذي استمرّوا عليه قال تعالى : (ثُمَّ تَوَلَّوْا عَنْهُ وَقالُوا مُعَلَّمٌ مَجْنُونٌ) [الدخان : ١٤] إذ دعوى الجنون أروج بين أهل مكة لأن الجنون يطرأ على الإنسان دفعة فلم يجدوا تعلة أقرب للقبول من دعوى أنه اعتراه جنون كما قالت عاد لهود (إِنْ نَقُولُ إِلَّا اعْتَراكَ بَعْضُ آلِهَتِنا بِسُوءٍ) [هود : ٥٤] ، وقالت ثمود لصالح (قَدْ كُنْتَ فِينا مَرْجُوًّا قَبْلَ هذا) [هود : ٦٢].

فبقيت دعواهم أنه ساحر وأنه كاهن وأنه شاعر وأنه كاذب (حاشاه). فأما السحر والكهانة فسهل نفيهما بنفي خصائصهما ؛ فأما انتفاء السحر فبيّن لأنه يحتاج إلى معالجة تعلّم ومزاولة طويلة والنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بين ظهرانيهم لا يخفى عليهم أمره ، وأما الشعر فمسحته

٩٥

منفية عن القرآن كما قال الوليد بن المغيرة ، فلم يبق في كنانة مطاعنهم إلّا زعمهم أنه كاذب على الله ، وهذا يزيفه قوله : (بِصاحِبِكُمْ) فإنهم عرفوه برجاحة العقل والصدق والأمانة في شبيبته وكهولته فكيف يصبح بعد ذلك كاذبا كما قال النضر بن الحارث : فلما رأيتم الشيب في صدغيه قلتم شاعر وقلتم كاهن وقلتم مجنون ، وو الله ما هو بأولئكم. وإذا كان لا يكذب على الناس فكيف يكذب على الله ، كما قال هرقل لأبي سفيان وقد سأله : هل جربتم عليه كذبا قبل أن يقول ما قال؟ قال أبو سفيان : لا. قال : فقد علمت أنه لم يكن ليترك الكذب على الناس ويكذب على الله.

ومن أجل هذا التدرج الذي طوي تحت جملة (ما بِصاحِبِكُمْ مِنْ جِنَّةٍ) أعقب ذلك بحصر أمره في النذرات بقرب عذاب واقع ، أي في النذارة والرسالة الصادقة.

قال في «الكشاف» : أي مثل هذه الدعوى لا يتصدى لها إلّا رجلان : إما مجنون لا يبالي بافتضاحه إذا طولب بالبرهان ، وإما عاقل راجح العقل لا يدعي مثله إلّا بعد صحته بالحجة ، وإلّا فما يجدي العاقل دعوى شيء لا بينة عليه وقد علمتم أن محمداصلى‌الله‌عليه‌وسلم ما به من جنّة بل علمتموه أرجح قريش عقلا وأرزنهم حلما وأثقبهم ذهنا وآصلهم رأيا وأصدقهم قولا وأجمعهم لما يحمد عليه الرجال فكان مظنة لأن تظنّوا به الخير وترجحوا فيه جانب الصدق على الكذب» ا ه.

فالقصر المستفاد من (إِنْ هُوَ إِلَّا نَذِيرٌ لَكُمْ) قصر موصوف على صفة قصرا إضافيا ، أي هو مقصور على صفة النذارة لا تحوم حوله الأوصاف التي لمزتموه بها.

ومعنى (بَيْنَ يَدَيْ عَذابٍ) القرب ، أي قرب الحصول فيقتضي القبلية ، أي قبل عذاب ، وقد تقدم آنفا في هذه السورة ، والمراد عذاب الآخرة.

(قُلْ ما سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ فَهُوَ لَكُمْ إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلَى اللهِ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (٤٧))

هذا استقصاء لبقايا شبه التكذيب لدحضها سواء منها ما تعلقوا به من نحو قولهم : كاهن وشاعر ومجنون وما لم يدعوه ولكنه قد يخطر ببال واحد منهم أن يزعموا أنه يريد بهذه الدعوة نفعا لنفسه يكون أجرا له على التعليم والإرشاد.

وهم لما ادّعوا أنه ساحر أو أنه شاعر أو أنه كاهن لزم من دعواهم أنه يتعرض

٩٦

لجائزة الشاعر ، وحلوان الكاهن ؛ فلما نفيت عنه تلك الخلال لم يبق لهم في الكنانة سهم طعن ، إلا أن يزعموا أنه يطلب أجرا على الإرشاد فقيل لهم : (ما سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ فَهُوَ لَكُمْ) إن كان بكم ظنّ انتفاعي منكم بما دعوتكم إليه ، فما كان لي من أجر عليه فخذوه. وهذه طريقة بديعة في الكناية التهكمية عن عدم انتفاعه بما يدعوهم إليه بأن يفرض كالواقع ثم يرتب عليه الانكفاف عنه ورد ما فات منه ليفضي بذلك إلى البراءة منه ومن التعرض له ، فهي كناية رمزية وأنهم يعلمون أنه لم يسألهم أجرا (قُلْ ما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ وَما أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعالَمِينَ) [ص : ٨٦ ، ٨٧] أو إن كنت سألتكم أجرا فلا تعطونيه ، وإن كنتم أعطيتم شيئا فاستردّوه ، فكنّي بهذا الشرط المحقّق انتفاؤه عند انتفاء أن يكون طالبا أجرا منهم على حدّ قوله تعالى : (إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ) [المائدة : ١١٦]. وهذا ما صرح به عقبه من قوله (إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللهِ) ، فجيء بالشرط بصيغة الماضي ليدلّ على انتفاء ذلك في الماضي فيكون انتفاؤه في المستقبل أجدر ؛ على أن وقوعه في سياق الشرط يقضي بانتفائه في المستقبل أيضا. وهذا جار مجرى التحدّي لأنه لو كان لجماعتهم أو آحادهم علم بأنه طلب أجرا منهم لجاروا حين هذا التحدّي بمكافحته وطالبوه بردّه عليهم.

وينتقل من هذا إلى تعين أن ما دعاهم إليه لا ينتفع به غيرهم بالنجاة من العذاب ، وقد تكرر في القرآن التبرؤ من أن يكون النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم يريد منهم أجرا أو يتطلب نفعا لأن انتفاء ذلك ما يلاقيه من العناء في الدعوة دليل أنه مأمور بذلك من الله لا يريد جزاء منهم.

و (ما) يجوز أن تكون شرطية ، و (مِنْ أَجْرٍ) بيانا لإبهام (ما) وجملة (فَهُوَ لَكُمْ) جواب الشرط. ويجوز أن تكون (ما) نافية. وتكون (مِنْ) لتوكيد عموم النكرة في النفي ، وتكون الفاء في قوله : (فَهُوَ لَكُمْ) تفريعا على نفي الأجر ، وضمير «هو» عائدا على القرآن المفهوم من المقام ومن تقدم قوله : (وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا بَيِّناتٍ) [سبأ : ٤٣] أي فهذا القرآن لفائدتكم لا لفائدتي لأن قوله : (ما سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ) يفيد أن لا فائدة له في هذه الدعوة. ويكون معنى الآية نظير معنى قوله تعالى : (قُلْ ما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ وَما أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعالَمِينَ) [ص : ٨٦ ، ٨٧].

والأجر تقدم عنه قوله تعالى : (لِيَجْزِيَكَ أَجْرَ ما سَقَيْتَ لَنا) في سورة القصص [٢٥].

وجملة (إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللهِ) مستأنفة استئنافا بيانيا جوابا لسؤال مقدر أن يسأل

٩٧

السامع : كيف لا يكون له على ما قام به أجر ، فأجيب بأن أجره مضمون وعده الله به لأنه إنما يقوم بعمل لمرضاته وامتثال أمره فعليه أجره.

وحرف (عَلَى) يقتضي أنه حق الله وذلك بالنظر إلى وعده الصادق ، ثم ذيّل ذلك باستشهاد الله تعالى على باطنه ونيته التي هي من جملة الكائنات التي الله شهيد عليها ، وعليم بخفاياها فهو من باب : (قُلْ كَفى بِاللهِ شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ) [الرعد : ٤٣] أي وهو شاهد على ذلك كله.

والأجر : عوض نافع على عمل سواء كان مالا أو غيره.

وقرأ نافع وأبو عمرو وابن عامر وحفص ياء (أَجْرِيَ) مفتوحة. وقرأها ابن كثير وأبو بكر وحمزة والكسائي ساكنة ، وهما وجهان من وجوه ياء المتكلم في الإضافة.

(قُلْ إِنَّ رَبِّي يَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلاَّمُ الْغُيُوبِ (٤٨))

لا جرم إذ انتهى الاستدلال والمجادلة أن ينتقل إلى النداء بين ظهرانيهم بظهور الحق فيستغنى عن مجادلتهم.

وأعيد فعل (قُلْ) للاهتمام بالمقول كما أشرنا إليه آنفا.

والتأكيد لتحقيق هذا الخبر.

والتعبير عن اسم الله بلفظ الرب وإضافته إلى ضمير المتكلم للإشارة أن الحق في جانبه وأنه تأييد من ربه فإن الرب ينصر مربوبه ويؤيده. فالمراد بالربوبية هنا ربوبية الولاء والاختصاص لا مطلق الربوبية لأنها تعمّ الناس كلهم.

وتقديم المسند إليه على المسند الفعلي للدلالة على الاختصاص دون التقوّي لأن تقوّي الجملة حصل بحرف التأكيد. وهذا الاختصاص باعتبار ما في (يَقْذِفُ بِالْحَقِ) من معنى : الناصر لي دونكم فما ذا ينفعكم اعتزازكم بأموالكم وأولادكم وقوتكم.

والقذف : إلقاء شيء من اليد ، وأطلق على إظهار الحق قذف على سبيل الاستعارة ، شبه إعلان الحق بإلقاء الحجر ونحوه. والمعنى : أن ربي يقذفكم بالحق.

أو هو إشارة إلى قوله : (بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْباطِلِ) [الأنبياء : ١٨] وعلى كل فهو تعريض بالتهديد والتخويف من نصر الله المؤمنين على المشركين.

٩٨

وتخصيص وصف (عَلَّامُ الْغُيُوبِ) من بين الأوصاف الإلهية للإشارة إلى أنه عالم بالنوايا ، وأن القائل يعلم ذلك فالذي يعلم هذا لا يجترئ على الله بادعائه باطلا أنه أرسله إليكم ، فالإعلام بهذه الصفة هنا يشبه استعمال الخبر في لازم فائدته وهو العلم بالحكم الخبري.

ويجوز أن يكون معنى : (يَقْذِفُ بِالْحَقِ) يرسل الوحي ، أي على من يشاء من عباده كقوله تعالى : (يُلْقِي الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ) [غافر : ١٥] ويكون قوله (عَلَّامُ الْغُيُوبِ) إشارة إلى أنه أعلم حيث يجعل رسالاته لأن المشركين كانوا يقولون : لو لا أنزلت علينا الملائكة دون محمد.

وارتفع (عَلَّامُ) على أنه خبر مبتدأ محذوف ، أي هو علّام الغيوب ، أو على أنه نعت لاسم (إِنَ) إما مقطوع ، وإما لمراعاة محل اسم (إِنَ) حيث إنها استوفت خبرها لأن حكم الصفة حكم عطف النسق عند أكثر النحاة وهو الحق. وقال الفراء : رفع الاسم في مثل هذا هو غالب كلام العرب. ومثّله بالبدل في قوله تعالى : (إِنَّ ذلِكَ لَحَقٌّ تَخاصُمُ أَهْلِ النَّارِ) [ص : ٦٤].

وقرأ الجمهور (الْغُيُوبِ) بضم الغين. وقرأه أبو بكر وحمزة والكسائي بكسر الغين كما جاء الوجهان في باء «بيوت».

(قُلْ جاءَ الْحَقُّ وَما يُبْدِئُ الْباطِلُ وَما يُعِيدُ (٤٩))

أعيد فعل (قُلْ) للاهتمام بالمقول كما تقدم آنفا.

وجملة (قُلْ جاءَ الْحَقُ) تأكيد لجملة (قُلْ إِنَّ رَبِّي يَقْذِفُ بِالْحَقِ) [سبأ : ٤٨] فإن الحق قد جاء بنزول القرآن ودعوة الإسلام. وعطف (وَما يُبْدِئُ الْباطِلُ وَما يُعِيدُ) على (جاءَ الْحَقُ) لأنه إذا جاء الحق انقشع الباطل من الموضع الذي حلّ فيه الحق.

و (يُبْدِئُ) مضارع أبدأ بهمزة في أوله وهمزة في آخره والهمزة التي في أوله للزيادة مثل همزة : أجاء ، وأسرى. وإسناد الإبداء والإعادة إلى الباطل مجاز عقلي أو استعارة.

ومعنى (ما يُبْدِئُ الْباطِلُ وَما يُعِيدُ) الكناية عن اضمحلاله وزواله وهو ما عبر عنه بالزهوق في قوله تعالى : (إِنَّ الْباطِلَ كانَ زَهُوقاً) في سورة الإسراء [٨١]. وذلك أن الموجود الذي تكون له آثار إمّا أن تكون آثاره مستأنفة أو معادة فإذا لم يكن له إبداء ولا

٩٩

إعادة فهو معدوم وأصله مأخوذ من تصرف الحي فيكون (ما يُبْدِئُ) و (ما يُعِيدُ) كناية عن الهلاك كما قال عبيد بن الأبرص :

أفقر من أهله عبيد

فاليوم لا يبدي ولا يعيد

(يعني نفسه).

ويقولون أيضا : فلان ما يبدئ وما يعيد ، أي ما يتكلم ببادئة ولا عائدة ، أي لا يرتجل كلاما ولا يجيب عن كلام غيره. وأكثر ما يستعمل فعل (أبدأ) المهموز أوله مع فعل (أعاد) مزدوجين في إثبات أو نفي ، وقد تقدم قوله تعالى : (أَوَلَمْ يَرَوْا كَيْفَ يُبْدِئُ اللهُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ) في سورة العنكبوت [١٩].

(قُلْ إِنْ ضَلَلْتُ فَإِنَّما أَضِلُّ عَلى نَفْسِي وَإِنِ اهْتَدَيْتُ فَبِما يُوحِي إِلَيَّ رَبِّي إِنَّهُ سَمِيعٌ قَرِيبٌ (٥٠))

لما جرى ذكر الحق والباطل وكانوا يزعمون من مجموع أقوالهم أن النبي عليه الصلاة والسلام غير صادق في دعوى الرسالة من الله كانت أقوالهم تقتضي زعمهم إياه على ضلال وكان الردّ عليهم قاطعا بأنه على هدى بقوله : (قُلْ جاءَ الْحَقُّ وَما يُبْدِئُ الْباطِلُ وَما يُعِيدُ) [سبأ : ٤٩] انتقل هنا إلى متاركة جدالهم وتركهم وشأنهم لقلة جدوى مراجعتهم.

وهذا محضر خاص وطيّ بساط مجلس واحد ، فلا يقتضي أنه يستمر على ترك مجادلتهم لأن الواقع ينافي ذلك فقد نزل القرآن بعد ذلك طويلا مشتملا على دعوتهم وتحذيرهم وإنذارهم.

وصيغة القصر التي في قوله : (فَإِنَّما أَضِلُّ عَلى نَفْسِي) لقصر الضلال المفروض ، أي على نفسي لا عليكم لأنهم كانوا يحاولون أن يقلع عمّا دعاهم إليه ولم يقتصروا على صدودهم.

وتعدية (أَضِلُ) بحرف (عَلى) تتضمن استعارة مكنية إذ شبه الضلال بجريرة عليه فعدّاه بالحرف الشائع استعماله في الأشياء المكره عليها غير الملائمة ، عكس اللام ، وذكر حرف الاستعلاء تخييل للمكنية ولا يقال : ضمّن (أَضِلُ) معنى أجني ، لأن (ضَلَلْتُ) الذي هو فعل الشرط المفروض غير مضمن معنى فعل آخر.

١٠٠