تفسير التّحرير والتّنوير - ج ٢٢

الشيخ محمّد الطاهر ابن عاشور

تفسير التّحرير والتّنوير - ج ٢٢

المؤلف:

الشيخ محمّد الطاهر ابن عاشور


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة التاريخ العربي للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٢٨٨

والمثل بكسر الميم وسكون المثلثة : المساوي ؛ إما في قدر فيكون بمعنى ضعف ، وإما المساوي في صفة فيكون بمعنى شبيه وهو بوزن فعل بمعنى فاعل وهو قليل. ومنه قولهم : شبه ، وندّ ، وخدن.

(يا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَراءُ إِلَى اللهِ وَاللهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ (١٥))

لما أشبع المقام أدلّة ، ومواعظ ، وتذكيرات ، مما فيه مقنع لمن نصب نفسه منصب الانتفاع والاقتناع ، ولم يظهر مع ذلك كله من أحوال القوم ما يتوسم منه نزعهم عن ضلالهم وربما أحدث ذلك في نفوس أهل العزّة منهم إعجابا بأنفسهم واغترارا بأنهم مرغوب في انضمامهم إلى جماعة المسلمين فيزيدهم ذلك الغرور قبولا لتسويل مكائد الشيطان لهم أن يعتصموا بشركهم ، ناسب أن ينبئهم الله بأنه غني عنهم وأن دينه لا يعتزّ بأمثالهم وأنه مصيّرهم إلى الفناء وآت بناس يعتز بهم الإسلام.

فالمراد ب (يا أَيُّهَا النَّاسُ) هم المشركون كما هو غالب اصطلاح القرآن ، وهم المخاطبون بقوله آنفا (ذلِكُمُ اللهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ) [فاطر : ١٣] الآيات.

وقبل أن يوجه إليهم الإعلام بأن الله غنيّ عنهم وجه إليهم إعلام بأنهم الفقراء إلى الله لأن ذلك أدخل للذلة على عظمتهم من الشعور بأن الله غنيّ عنهم فإنهم يوقنون بأنهم فقراء إلى الله ولكنهم لا يوقنون بالمقصد الذي يفضي إليه علمهم بذلك ، فأريد إبلاغ ذلك إليهم لا على وجه الاستدلال ولكن على وجه قرع أسماعهم بما لم تكن تقرع به من قبل عسى أن يستفيقوا من غفلتهم ويتكعكعوا عن غرور أنفسهم ، على أنهم لا يخلو جمعهم من أصحاب عقول صالحة للوصول إلى حقائق الحق فأولئك إذا قرعت أسماعهم بما لم يكونوا يسمعونه من قبل ازدادوا يقينا بمشاهدة ما كان محجوبا عن بصائرهم بأستار الاشتغال بفتنة ضلالهم عسى أن يؤمن من هيّأه الله بفطرته للإيمان ، فمن بقي على كفره كان بقاؤه مشوبا بحيرة ومرّ طعم الحياة عنده ، فأين ما كانت تتلقاه مسامعهم من قبل تمجيدهم وتمجيد آبائهم وتمجيد آلهتهم ، ألا ترى أنهم لما عاتبوا النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم في بعض مراجعتهم عدّوا عليه شتم آبائهم ، فحصل بهذه الآية فائدتان.

وجملة (أَنْتُمُ الْفُقَراءُ) تفيد القصر لتعريف جزأيها ، أي قصر صفة الفقر على الناس المخاطبين قصرا إضافيا بالنسبة إلى الله ، أي أنتم المفتقرون إليه وليس هو بمفتقر إليكم وهذا في معنى قوله تعالى : (إِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ اللهَ غَنِيٌّ عَنْكُمْ) [الزمر : ٧] المشعر بأنهم

١٤١

يحسبون أنهم يغيظون النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بعدم قبول دعوته. فالوجه حمل القصر المستفاد من جملة (أَنْتُمُ الْفُقَراءُ) على القصر الإضافي ، وهو قصر قلب ، وأما حمل القصر الحقيقي ثم تكلف أنه ادعائي فلا داعي إليه.

واتباع صفة (الْغَنِيُ) ب (الْحَمِيدُ) تكميل ، فهو احتراس لدفع توهمهم أنه لما كان غنيا عن استجابتهم وعبادتهم فهم معذورون في أن لا يعبدوه ، فنبه على أنه موصوف بالحمد لمن عبده واستجاب لدعوته كما أتبع الآية الأخرى (إِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ اللهَ غَنِيٌّ عَنْكُمْ) [الزمر : ٧] بقوله : (إِلَى اللهِ) كما وقع (الْغَنِيُ) في مقابلة قوله : (الْفُقَراءُ) لأنه لما قيد فقرهم بالكون إلى الله قيد غنى الله تعالى بوصف (الْحَمِيدُ) لإفادة أن غناه تعالى مقترن بجوده فهو يحمد من يتوجه إليه.

[١٦ ، ١٧] (إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ (١٦) وَما ذلِكَ عَلَى اللهِ بِعَزِيزٍ (١٧))

واقع موقع البيان لما تضمنته جملة (هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ) [فاطر : ١٥] من معنى قلة الاكتراث بإعراضهم عن الإسلام ، ومن معنى رضاه على من يعبده فهو تعالى لغناه عنهم وغضبه عليهم لو شاء لأبادهم وأتى بخلق آخرين يعبدونه فخلص العالم من عصاة أمر الله وذلك في قدرته ولكنه أمهلهم إعمالا لصفة الحلم.

فالمشيئة هنا المشيئة الناشئة عن الاستحقاق ، أي أنهم استحقوا أن يشاء الله إهلاكهم ولكنه أمهلهم ، لا أصل المشيئة التي هي كونه مختارا في فعله لا مكره له لأنها لا يحتاج إلى الإعلام بها.

والإذهاب مستعمل في الإهلاك ، أي الإعدام من هذا العالم ، أي إن يشأ يسلط عليهم موتا يعمهم فكأنه أذهبهم من مكان إلى مكان لأنه يأتي بهم إلى الدار الآخرة.

والإتيان بخلق جديد مستعمل في إحداث ناس لم يكونوا موجودين ولا مترقبا وجودهم ، أي يوجد خلقا من الناس يؤمنون بالله.

فالخلق هنا بمعنى المخلوق مثل قوله تعالى : (هذا خَلْقُ اللهِ فَأَرُونِي ما ذا خَلَقَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ) [لقمان : ١١]. وهذا في معنى قوله : (وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ ثُمَّ لا

١٤٢

يَكُونُوا أَمْثالَكُمْ) [محمد : ٣٨].

وليس المعنى : أنه إن يشأ يعجل بموتهم فيأتي جيل أبنائهم مؤمنين لأن قوله : (وَما ذلِكَ عَلَى اللهِ بِعَزِيزٍ) ينبو عنه.

وعطف عليه الإعلام بأن ذلك لو شاء لكان هيّنا عليه وما هو عليه بعزيز.

والعزيز : الممتنع الغالب ، وهذا زيادة في الإرهاب والتهديد ليكونوا متوقعين حلول هذا بهم.

ومفعول فعل المشيئة محذوف استغناء بما دل عليه جواب الشرط وهو (يُذْهِبْكُمْ) أي إن يشأ إذهابكم ، ومثل هذا الحذف لمفعول المشيئة كثير في الكلام.

والإشارة في قوله : (وَما ذلِكَ) عائدة إلى الإذهاب المدلول عليه ب (يُذْهِبْكُمْ) أو إلى ما تقدم بتأويل المذكور.

(وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى وَإِنْ تَدْعُ مُثْقَلَةٌ إِلى حِمْلِها لا يُحْمَلْ مِنْهُ شَيْءٌ وَلَوْ كانَ ذا قُرْبى إِنَّما تُنْذِرُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَمَنْ تَزَكَّى فَإِنَّما يَتَزَكَّى لِنَفْسِهِ وَإِلَى اللهِ الْمَصِيرُ (١٨))

(وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى وَإِنْ تَدْعُ مُثْقَلَةٌ إِلى حِمْلِها لا يُحْمَلْ مِنْهُ شَيْءٌ وَلَوْ كانَ ذا قُرْبى).

لما كان ما قبل هذه الآية مسوقا في غرض التهديد وكان الخطاب للناس أريدت طمأنة المسلمين من عواقب التهديد ، فعقب بأن من لم يأت وزرا لا يناله جزاء الوازر في الآخرة قال تعالى : (ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيها جِثِيًّا) [مريم : ٧٢]. وقد يكون وعدا بالإنجاء من عذاب الدنيا إذا نزل بالمهددين الإذهاب والإهلاك مثلما أهلك فريق الكفار يوم بدر وأنجى فريق المؤمنين ، فيكون هذا وعدا خاصا لا يعارضه قوله تعالى : (وَاتَّقُوا فِتْنَةً لا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً) [الأنفال : ٢٥] وما ورد في حديث أمّ سلمة قالت : «يا رسول الله أنهلك وفينا الصالحون؟ قال : نعم إذا كثر الخبث».

فموقع قوله : (وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى) كموقع قوله تعالى : (حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جاءَهُمْ نَصْرُنا فَنُجِّيَ مَنْ نَشاءُ وَلا يُرَدُّ بَأْسُنا عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ) [يوسف : ١١٠]. ولهذا فالظاهر أن هذا تأمين للمسلمين من الاستئصال كقوله

١٤٣

تعالى : (وَما كانَ اللهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ) [الأنفال : ٣٣] بقرينة قوله عقبه (إِنَّما تُنْذِرُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ) وهو تأمين من تعميم العقاب في الآخرة بطريق الأولى ويجوز أن يكون المراد : ولا تزر وازرة وزر أخرى يوم القيامة ، أي إن يشأ يذهبكم جميعا ولا يعذب المؤمنين في الآخرة ، وهذا كقول النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم «ثم يحشرون على نياتهم».

والوجه الأول أعم وأحسن. وأيّاما كان فإن قضية (وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى) كلية عامة فكيف وقد قال الله تعالى : (وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقالَهُمْ وَأَثْقالاً مَعَ أَثْقالِهِمْ) في سورة العنكبوت [١٣] ، فالجمع بين الآيتين أن هذه الآية نفت أن يحمل أحد وزر آخر لا مشاركة له للحامل على اقتراف الوزر ، وأما آية سورة العنكبوت فموردها في زعماء المشركين الذين موّهوا الضلالة وثبتوا عليها ، فإن أول تلك الآية (وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا اتَّبِعُوا سَبِيلَنا وَلْنَحْمِلْ خَطاياكُمْ) [العنكبوت : ١٢] ، وكانوا يقولون ذلك لكل من يستروحون منه الإقبال على الإيمان بالأحرى.

وأصل الوزر بكسر الواو : هو الوقر بوزنه ومعناه. وهو الحمل بكسر الحاء ، أي ما يحمل ، ويقال : وزر إذا حمل. فالمعنى : ولا تحمل حاملة حمل أخرى ، أي لا يحمل الله نفسا حملا جعله لنفس أخرى عدلا منه تعالى لأن الله يحب العدل وقد نفى عن شأنه الظلم وإن كان تصرفه إنما هو في مخلوقاته.

وجرى وصف الوازرة على التأنيث لأنه أريد به النفس.

ووجه اختيار الإسناد إلى المؤنث بتأويل النفس دون أن يجري الإضمار على التذكير بتأويل الشخص ، لأن معنى النفس هو المتبادر للأذهان عند ذكر الاكتساب كما في قوله تعالى : (وَلا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلَّا عَلَيْها) في سورة الأنعام [١٦٤] ، وقوله : (كُلُّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ رَهِينَةٌ) في سورة المدثر [٣٨] ، وغير ذلك من الآيات.

ثم نبّه على أن هذا الحكم العادل مطرد مستمر حتى لو استغاثت نفس مثقلة بالأوزار من ينتدب لحمل أوزارها أو بعضها لم تجد من يحمل عنها شيئا ، لئلا يقيس الناس الذين في الدنيا أحوال الآخرة على ما تعارفوه ، فإن العرب تعارفوا النجدة إذا استنجدوا ولو كان لأمر يضر بالمنجد. ومن أمثالهم «لو دعي الكريم إلى حتفه لأجاب» ، وقال ودّاك بن ثميل المازني :

إذا استنجدوا لم يسألوا من دعاهم

لأيّة حرب أم بأي مكان

١٤٤

ولذلك سمي طلب الحمل هنا دعاء لأن في الدعاء معنى الاستغاثة.

وحذف مفعول (تَدْعُ) لقصد العموم. والتقدير : وإن تدع مثقلة أيّ مدعوّ.

وقوله : (إِلى حِمْلِها) متعلق ب (تَدْعُ) ، وجعل الدعاء إلى الحمل لأن الحمل سبب الدعاء وعلته. فالتقدير : وإن تدع مثقلة أحدا إليها لأجل أن يحمل عنها حملها ، فحذف أحد متعلقي الفعل المجرور باللام لدلالة الفعل ومتعلقه المذكور على المحذوف.

وهذا إشارة إلى ما سيكون في الآخرة ، أي لو استصرخت نفس من يحمل عنها شيئا من أوزارها ، كما كانوا يزعمون أن أصنامهم تشفع لهم أو غيرهم ، لا تجد من يجيبها لذلك.

وقوله : (وَلَوْ كانَ ذا قُرْبى) في موضع الحال من (مُثْقَلَةٌ). و (لَوْ) وصلية كالتي في قوله تعالى : (فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْ أَحَدِهِمْ مِلْءُ الْأَرْضِ ذَهَباً وَلَوِ افْتَدى بِهِ) في سورة آل عمران [٩١].

والضمير المستتر في (كانَ) عائد إلى مفعول (تَدْعُ) المحذوف ، إذ تقديره : وإن تدع مثقلة أحدا إلى حملها كما ذكرنا. فيصير التقدير : ولو كان المدعوّ ذا قربى ، فإن العموم الشمولي الذي اقتضته النكرة في سياق الشرط يصير في سياق الإثبات عموما بدليّا.

ووجه ما اقتضته المبالغة من (لَوْ) الوصلية أن ذا القربى أرق وأشفق على قريبه ، فقد يظن أنه يغني عنه في الآخرة بأن يقاسمه الثقل الذي يؤدي به إلى العذاب فيخف عنه العذاب بالاقتسام.

والإطلاق في القربى يشمل قريب القرابة كالأبوين والزوجين كما قال تعالى : (يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ) [عبس : ٣٤ ، ٣٥].

وهذا إبطال لاعتقاد الغناء الذاتي بالتضامن والتحامل فقد كان المشركون يقيسون أمور الآخرة على أمور الدنيا فيعلّلون أنفسهم إذا هدّدوا بالبعث بأنه إن صح فإن لهم يومئذ شفعاء وأنصارا ، فهذا سياق توجيه هذا إلى المشركين ثم هو بعمومه ينسحب حكمه على جميع أهل المحشر ، فلا يحمل أحد عن أحد إثمه. وهذا لا ينافي الشفاعة الواردة في الحديث ، كما تقدم في سورة سبأ ، فإنها إنما تكون بإذن الله تعالى إظهارا لكرامة نبيئه محمدصلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ولا ينافي ما جعله الله للمؤمنين من مكفّرات للذنوب كما ورد أن أفراط المؤمنين يشفعون لأمهاتهم ، فتلك شفاعة جعلية جعلها الله كرامة للأمهات المصابة من

١٤٥

المؤمنات.

(إِنَّما تُنْذِرُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَمَنْ تَزَكَّى فَإِنَّما يَتَزَكَّى لِنَفْسِهِ وَإِلَى اللهِ الْمَصِيرُ).

استئناف بياني لأن الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم يخطر في نفسه التعجب من عدم تأثر أكثر المشركين بإنذاره فأجيب بإن إنذاره ينتفع به المؤمنون ومن تهيّئوا للإيمان.

وإيراد هذه الآية عقب التي قبلها يؤكد أن المقصد الأول من التي قبلها موعظة المشركين وتخويفهم ، وإبلاغ الحقيقة إليهم لاقتلاع مزاعمهم وأوهامهم في أمر البعث والحساب والجزاء. فأقبل الله على رسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالخطاب ليشعر بأن تلك المواعظ لم تجد فيهم وأنها إنما ينتفع بها المسلمون ، وهو أيضا يؤكد ما في الآية الأولى من التعريض بتأمين المسلمين بما اقتضاه عموم الإنذار والوعيد.

وأطلق الإنذار هنا على حصول أثره ، وهو الانكفاف أو التصديق به ، وليس المراد حقيقة الإنذار ، وهو الإخبار عن توقع مكروه لأن القرينة صادقة عن المعنى الحقيقي وهي قرينة تكرر الإنذار للمشركين الفينة بعد الفينة وما هو ببعيد عن هذه الآية ، فإن النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم أنذر المشركين طول مدة دعوته ، فتعين أن تعلق الفعل المقصور عليه ب (الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ) تعلّق على معنى حصول أثر الفعل.

فالمقصود من القصر أنه قصر قلب لأن المقصود التنبيه على أن لا يظنّ النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم انتفاع الذين لا يؤمنون بنذارته ، وإن كانت صيغة القصر صالحة لمعنى القصر الحقيقي لكن اعتبار المقام يعين اعتبار القصر الإضافي. ونظير هذه الآية قوله في سورة يس [١١](إِنَّما تُنْذِرُ مَنِ اتَّبَعَ الذِّكْرَ وَخَشِيَ الرَّحْمنَ بِالْغَيْبِ) وقوله : (فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَنْ يَخافُ وَعِيدِ) في سورة ق [٤٥] ، مع أن التذكير بالقرآن يعم الناس كلهم.

والغيب : ما غاب عنك ، أي الذين يخشون ربهم في خلواتهم وعند غيبتهم عن العيان ، أي الذين آمنوا حقا غير مراءين أحدا.

و (أَقامُوا الصَّلاةَ) أي لم يفرطوا في صلاة كما يؤذن به فعل الإقامة كما تقدم في أول سورة البقرة.

ولما كانت هاتان الصفتان من خصائص المسلمين صار المعنى : إنما تنذر المؤمنين ، فعدل عن استحضارهم بأشهر ألقابهم مع ما فيه من الإيجاز إلى استحضارهم بصلتين مع

١٤٦

ما فيهما من الإطناب ، تذرعا بذكر هاتين الصّلتين إلى الثناء عليهم بإخلاص الإيمان في الاعتقاد والعمل.

وجملة (وَمَنْ تَزَكَّى فَإِنَّما يَتَزَكَّى لِنَفْسِهِ) تذييل جار مجرى المثل. وذكر التذييل عقب المذيل يؤذن بأن ما تضمنه المذيّل داخل في التذييل بادئ ذي بدء مثل دخول سبب العام في عمومه من أول وهلة دون أن يخص العام به ، فالمعنى : أن الذين خشوا ربهم بالغيب وأقاموا الصلاة هم ممّن تزكى فانتفعوا بتزكيتهم ، فالمعنى : إنما ينتفع بالنذارة الذين يخشون ربهم بالغيب فأولئك تزكوا بها ومن تزكى فإنما يتزكى لنفسه.

والمقصود من القصر في قوله : (فَإِنَّما يَتَزَكَّى لِنَفْسِهِ) أن قبولهم النذارة كان لفائدة أنفسهم ، ففيه تعريض بأن الذين لم يعبئوا بنذارته تركوا تزكية أنفسهم بها فكان تركهم ضرا على أنفسهم.

وجملة (وَإِلَى اللهِ الْمَصِيرُ) تكميل للتذييل ، والتعريف في (الْمَصِيرُ) للجنس ، أي المصير كله إلى الله سواء فيه مصير المتزكّي ومصير غير المتزكي ، أي وكل يجازى بما يناسبه.

وتقديم المجرور في قوله : (وَإِلَى اللهِ الْمَصِيرُ) للاهتمام للتنبيه على أنه مصير إلى من اقتضى اسمه الجليل الصفات المناسبة لإقامة العدل وإفاضة الفضل مع الرعاية على الفاصلة.

[١٩ ـ ٢٣] (وَما يَسْتَوِي الْأَعْمى وَالْبَصِيرُ (١٩) وَلا الظُّلُماتُ وَلا النُّورُ (٢٠) وَلا الظِّلُّ وَلا الْحَرُورُ (٢١) وَما يَسْتَوِي الْأَحْياءُ وَلا الْأَمْواتُ إِنَّ اللهَ يُسْمِعُ مَنْ يَشاءُ وَما أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ (٢٢) إِنْ أَنْتَ إِلاَّ نَذِيرٌ (٢٣))

أربعة أمثال للمؤمنين والكافرين ، وللإيمان والكفر ، شبه الكافر بالأعمى ، والكفر بالظلمات ، والحرور والكافر بالميّت ، وشبه المؤمن بالبصير وشبه الإيمان بالنور والظل ، وشبه المؤمن بالحي تشبيه المعقول بالمحسوس. فبعد أن بيّن قلة نفع النذارة للكافرين وأنها لا ينتفع بها غير المؤمنين ضرب للفريقين أمثالا كاشفة عن اختلاف حاليهما ، وروعي في هذه الأشباه توزيعها على صفة الكافر والمؤمن ، وعلى حالة الكفر والإيمان ، وعلى أثر الإيمان وأثر الكفر.

١٤٧

وقدم تشبيه حال الكافر وكفره على تشبيه حال المؤمن وإيمانه ابتداء لأن الغرض الأهم من هذا التشبيه هو تفظيع حال الكافر ثم الانتقال إلى حسن حال ضده لأن هذا التشبيه جاء لإيضاح ما أفاده القصر في قوله : (إِنَّما تُنْذِرُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ) [فاطر : ١٨] كما تقدم آنفا من أنه قصر إضافي قصر قلب ، فالكافر شبيه بالأعمى في اختلاط أمره بين عقل وجهالة ، كاختلاط أمر الأعمى بين إدراك وعدمه.

والمقصود : أن الكافر وإن كان ذا عقل يدرك به الأمور فإن عقله تمحض لإدراك أحوال الحياة الدنيا وكان كالعدم في أحوال الآخرة كقوله تعالى : (يَعْلَمُونَ ظاهِراً مِنَ الْحَياةِ الدُّنْيا وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غافِلُونَ) [الروم : ٧] ، فحاله المقسم بين انتفاع بالعقل وعدمه يشبه حال الأعمى في إدراكه أشياء وعدم إدراكه.

والعمى يعبر به عن الضلال ، قال ابن رواحة :

أرانا الهدى بعد العمى فقلوبنا

به موقنات أن ما قال واقع

ثم شبه الكفر بالظلمات في أنه يجعل الذي أحاط هو به غير متبيّن للأشياء ، فإن من خصائص الظلمة إخفاء الأشياء ، والكافر خفيت عنه الحقائق الاعتقادية ، وكلما بينها له القرآن لم ينتقل إلى أجلى ، كما لو وصفت الطريق للسائر في الظلام.

وجئ في (الظُّلُماتُ) بلفظ الجمع لأنه الغالب في الاستعمال فهم لا يذكرون الظلمة إلّا بصيغة الجمع. وقد تقدم في قوله : (وَجَعَلَ الظُّلُماتِ وَالنُّورَ) في الأنعام [١].

وضرب الظلّ مثلا لأثر الإيمان ، وضدّه وهو الحرور مثلا لأثر الكفر ؛ فالظل مكان نعيم في عرف السامعين الأولين ، وهم العرب أهل البلاد الحارة التي تتطلب الظل للنعيم غالبا إلّا في بعض فصل الشتاء ، وقوبل بالحرور لأنه مؤلم ومعذّب في عرفهم كما علمت ، وفي مقابلته بالحرور إيذان بأن المراد تشبيهه بالظل في حالة استطابته.

و (الْحَرُورُ) حر الشمس ، ويطلق أيضا على الريح الحارة وهي السموم ، أو الحرور : الريح الحارة التي تهب بليل والسموم تهب بالنهار.

وقدم في هذه الفقرة ما هو من حال المؤمنين على عكس الفقرات الثلاث التي قبلها لأجل الرعاية على الفاصلة بكلمة (الْحَرُورُ). وفواصل القرآن من متممات فصاحته ، فلها حظ من الإعجاز.

فحال المؤمن يشبه حال الظل تطمئن فيه المشاعر ، وتصدر فيه الأعمال عن تبصر وتريّث وإتقان. وحال الكافر يشبه الحرور تضطرب فيه النفوس ولا تتمكن معه العقول من

١٤٨

التأمل والتبصر وتصدر فيها الآراء والمساعي معجّلة متفككة.

وأعلم أن تركيب الآية عجيب فقد احتوت على واوات عطف وأدوات نفي ؛ فكلّ من الواوين اللذين في قوله : (وَلَا الظُّلُماتُ) إلخ ، وقوله : (الظِّلُ) إلخ عاطف جملة على جملة وعاطف تشبيهات ثلاثة بل تشبيه منها يجمع الفريقين. والتقدير : ولا تستوي الظلمات والنور ولا يستوي الظّل والحرور ، وقد صرح بالمقدر أخيرا في قوله : (وَما يَسْتَوِي الْأَحْياءُ وَلَا الْأَمْواتُ).

وأما الواوات الثلاثة في قوله : (وَالْبَصِيرُ وَلَا النُّورُ وَلَا الْحَرُورُ) فكل واو عاطف مفردا على مفرد ، فهي ستة تشبيهات موزعة على كل فريق ؛ ف (الْبَصِيرُ) عطف على (الْأَعْمى) ، و (النُّورُ) عطف على (الظُّلُماتُ) ، و (الْحَرُورُ) عطف على (الظِّلُ) ، ولذلك أعيد حرف النفي.

وأما أدوات النفي فاثنان منها مؤكدان للتغلب الموجه إلى الجملتين المعطوفتين المحذوف فعلاهما (وَلَا الظُّلُماتُ وَلَا الظِّلُ) ، واثنان مؤكدان لتوجه النفي إلى المفردين المعطوفين على مفردين في سياق نفي التسوية بينهما وبين ما عطفا عليهما وهما واو (وَلَا النُّورُ) ، وواو (وَلَا الْحَرُورُ) ، والتوكيد بعضه بالمثل وهو حرف (لَا) وبعضه بالمرادف وهو حرف (ما) ولم يؤت بأداة نفي في نفي الاستواء الأول لأنه الذي ابتدئ به نفي الاستواء المؤكد من بعد فهو كله تأييس. وهو استعمال قرآني بديع في عطف المنفيات من المفردات والجمل ، ومنه قوله تعالى : (لا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ) في سورة فصّلت [٣٤].

وجملة (وَما يَسْتَوِي الْأَحْياءُ وَلَا الْأَمْواتُ) أظهر في هذه الجملة الفعل الذي قدّر في الجملتين اللتين قبلها وهو فعل (يَسْتَوِي) لأن التمثيل هنا عاد إلى تشبيه حال المسلمين والكافرين إذ شبه حال المسلم بحال الأحياء وحال الكافرين بحال الأموات ، فهذا ارتقاء في تشبيه الحالين من تشبيه المؤمن بالبصير والكافر بالأعمى إلى تشبيه المؤمن بالحي والكافر بالميّت ، ونظيره في إعادة فعل الاستواء قوله تعالى في سورة الرعد [١٦] : (قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمى وَالْبَصِيرُ أَمْ هَلْ تَسْتَوِي الظُّلُماتُ وَالنُّورُ).

فلما كانت الحياة هي مبعث المدارك والمساعي كلها وكان الموت قاطعا للمدارك والمساعي شبه الإيمان بالحياة في انبعاث خير الدنيا والآخرة منه وفي تلقي ذلك وفهمه ،

١٤٩

وشبه الكفر بالموت في الانقطاع عن الأعمال والمدركات النافعة كلها وفي عدم تلقي ما يلقى إلى صاحبه فصار المؤمن شبيها بالحي مشابهة كاملة لمّا خرج من الكفر إلى الإيمان ، فكأنه بالإيمان نفخت فيه الحياة بعد الموت كما أشار إليه قوله تعالى في سورة الأنعام [١٢٢](أَوَمَنْ كانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْناهُ) ، وكان الكافر شبيها بالميت ما دام على كفره. واكتفي بتشبيه الكافر والمؤمن في موضعين عن تشبيه الكفر والإيمان وبالعكس لتلازمهما ، وأوتي تشبيه الكافر والمؤمن في موضعين لكون وجه الشبه في الكافر والمؤمن أوضح ، وعكس ذلك في موضعين لأن وجه الشبه أوضح في الموضعين الآخرين.

(إِنَّ اللهَ يُسْمِعُ مَنْ يَشاءُ وَما أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ إِنْ أَنْتَ [٢٢] إِلَّا نَذِيرٌ [٢٣]).

لما كان أعظم حرمان نشأ عن الكفر هو حرمان الانتفاع بأبلغ كلام وأصدقه وهو القرآن كان حال الكافر الشبيه بالموت أوضح شبها به في عدم انتفاعه بالقرآن وإعراضه عن سماعه (وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَسْمَعُوا لِهذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ) [فصلت : ٢٦] ، وكان حال المؤمنين بعكس ذلك إذ تلقّوا القرآن ودرسوه وتفقهوا فيه (الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُولئِكَ الَّذِينَ هَداهُمُ اللهُ) [الزمر : ١٨] ، وأعقب تمثيل حال المؤمنين والكافرين بحال الأحياء والأموات بتوجيه الخطاب إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم معذرة له في التبليغ للفريقين ، وفي عدم قبول تبليغه لدى أحد الفريقين ، وتسلية له عن ضياع وابل نصحه في سباخ قلوب الكافرين فقيل له : إن قبول الذين قبلوا الهدى واستمعوا إليه كان بتهيئة الله تعالى نفوسهم لقبول الذكر والعلم ، وإن عدم انتفاع المعرضين بذلك هو بسبب موت قلوبهم فكأنهم الأموات في القبور وأنت لا تستطيع أن تسمع الأموات ، فجاء قوله : (إِنَّ اللهَ يُسْمِعُ مَنْ يَشاءُ وَما أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ) على مقابلة قوله : (وَما يَسْتَوِي الْأَحْياءُ وَلَا الْأَمْواتُ) مقابلة اللفّ بالنشر المرتب.

فجملة (إِنَّ اللهَ يُسْمِعُ مَنْ يَشاءُ) تعليل لجملة (إِنَّما تُنْذِرُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ) [فاطر : ١٨] ، لأن معنى القصر ينحلّ إلى إثبات ونفي فكان مفيدا فريقين : فريقا انتفع بالإنذار ، وفريقا لم ينتفع ، فعلل ذلك ب (إِنَّ اللهَ يُسْمِعُ مَنْ يَشاءُ).

وقوله : (وَما أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ) إشارة إلى الذين لم يشإ الله أن يسمعهم إنذارك.

واستعير (مَنْ فِي الْقُبُورِ) للذين لم تنفع فيهم النذر ، وعبر عن الأموات ب (مَنْ فِي

١٥٠

الْقُبُورِ) لأن من في القبور أعرق في الابتعاد عن بلوغ الأصوات لأن بينهم وبين المنادي حاجز الأرض. فهذا إطناب أفاد معنى لا يفيده الإيجاز بأن يقال : وما أنت بمسمع الموتى.

وجيء بصيغة الجمع (الْأَحْياءُ) و (الْأَمْواتُ) تفننا في الكلام بعد أن أورد الأعمى والبصير بالإفراد لأن المفرد والجمع في المعرف بلام الجنس سواء إذا كان اسما له أفراد بخلاف النور والظل والحرور ، وأما جمع (الظُّلُماتُ) فقد علمت وجهه آنفا.

وجملة (إِنْ أَنْتَ إِلَّا نَذِيرٌ) أفادت قصرا إضافيا بالنسبة إلى معالجة تسميعهم الحق ، أي أنت نذير للمشابهين من في القبور ولست بمدخل الإيمان في قلوبهم ، وهذا مسوق مساق المعذرة للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وتسليته إذ كان مهتمّا من عدم إيمانهم.

والنذير : المنبئ عن توقع حدوث مكروه أو مؤلم.

والاقتصار على وصفه بالنذير لأن مساق الكلام على المصمّمين على الكفر.

(إِنَّا أَرْسَلْناكَ بِالْحَقِّ بَشِيراً وَنَذِيراً وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلاَّ خَلا فِيها نَذِيرٌ (٢٤))

استئناف ثناء على النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وتنويه به وبالإسلام. وفيه دفع توهم أن يكون قصره على النذارة قصرا حقيقا لتبيّن أن قصره على النذارة بالنسبة للمشركين الذين شابه حالهم حال أصحاب القبور ، أي أن رسالتك تجمع بشارة ونذارة ؛ فالبشارة لمن قبل الهدى ، والنذارة لمن أعرض عنه ، وكل ذلك حقّ لأن الجزاء على حسب القبول ، فهي رسالة ملابسة للحق ووضع الأشياء مواضعها.

فقوله : (بِالْحَقِ) إما حال من ضمير المتكلم في (أَرْسَلْناكَ) أي محقّين غير لاعبين ، أو من كاف الخطاب ، أي محقّا أنت غير كاذب ، أو صفة لمصدر محذوف ، أي إرسالا ملابسا بالحق لا يشوبه شيء من الباطل. وتقدم نظير هذه الجملة في سورة البقرة.

وقوله : (وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلَّا خَلا فِيها نَذِيرٌ) إبطال لاستبعاد المشركين أن يرسل الله إلى الناس بشرا منهم ، فإن تلك الشبهة كانت من أعظم ما صدّهم عن التصديق به ، فلذلك أتبعت دلائل الرسالة بإبطال الشبهة الحاجبة على حدّ قوله تعالى : (قُلْ ما كُنْتُ بِدْعاً مِنَ الرُّسُلِ) [الأحقاف : ٩].

وأيضا في ذلك تسفيه لأحلامهم إذ رضوا أن يكونوا دون غيرهم من الأمم التي شرّفت بالرسالة.

١٥١

ووجه الاقتصار على وصف النذير هنا دون الجمع بينه وبين وصف البشير هو مراعاة العموم الذي في قوله : (وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلَّا خَلا فِيها نَذِيرٌ) ، فإن من الأمم من لم تحصل لها بشارة لأنها لم يؤمن منها أحد ، ففي الحديث : «عرضت عليّ الأمم فجعل النبي يمرّ معه الرهط ، والنبي يمرّ معه الرجل الواحد ، والنبي يمرّ وحده» الحديث ، فإن الأنبياء الذين مرّوا وحدهم هم الأنبياء الذين لم يستجب لهم أحد من قومهم ، وقد يكون عدم ذكر وصف البشارة للاكتفاء بذكر قرينة اكتفاء بدلالة ما قبله عليه ، وأوثر وصف النذير بالذكر لأنه أشد مناسبة لمقام خطاب المكذبين.

ومعنى الأمة هنا : الجذم العظيم من أهل نسب ينتهي إلى جدّ واحد جامع لقبائل كثيرة لها مواطن متجاورة مثل أمة الفرس وأمة الروم وأمة الصين وأمة الهند وأمة اليونان وأمة إسرائيل وأمة العرب وأمة البربر ؛ فما من أمة من هؤلاء إلّا وقد سبق فيها نذير ، أي رسول أو نبيء ينذرهم بالمهلكات وعذاب الآخرة. فمن المنذرين من علمناهم ، ومنهم من أنذروا وانقرضوا ولم يبق خبرهم قال تعالى : (وَلَقَدْ أَرْسَلْنا رُسُلاً مِنْ قَبْلِكَ مِنْهُمْ مَنْ قَصَصْنا عَلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ نَقْصُصْ عَلَيْكَ) [غافر : ٧٨].

والحكمة في الإنذار أن لا يبقى الضلال رائجا وأن يتخول الله عباده بالدعوة إلى الحق سواء عملوا بها أو لم يعلموا فإنها لا تخلو من أثر صالح فيهم. وإنما لم يسم القرآن إلّا الأنبياء والرسل الذين كانوا في الأمم السّامية القاطنة في بلاد العرب وما جاورها لأن القرآن حين نزوله ابتدأ بخطاب العرب ولهم علم بهؤلاء الأقوام فقد علموا أخبارهم وشهدوا آثارهم فكان الاعتبار بهم أوقع ، ولو ذكرت لهم رسل أمم لا يعرفونهم لكان إخبارهم عنهم مجرد حكاية ولم يكن فيه استدلال واعتبار.

[٢٥ ، ٢٦] (وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ جاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ وَبِالزُّبُرِ وَبِالْكِتابِ الْمُنِيرِ (٢٥) ثُمَّ أَخَذْتُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَكَيْفَ كانَ نَكِيرِ (٢٦))

أعقب الثناء على النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بتسليته على تكذيب قومه وتأنيسه بأن تلك سنة الرسل مع أممهم.

وإذ قد كان سياق الحديث في شأن الأمم جعلت التسلية في هذه الآية بحال الأمم مع رسلهم عكس ما في آية آل عمران [١٨٤] : (فَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ جاؤُ بِالْبَيِّناتِ وَالزُّبُرِ وَالْكِتابِ الْمُنِيرِ) لأن سياق آية آل عمران كان في ردّ محاولة أهل

١٥٢

الكتاب إفحام الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم لأن قبلها (الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللهَ عَهِدَ إِلَيْنا أَلَّا نُؤْمِنَ لِرَسُولٍ حَتَّى يَأْتِيَنا بِقُرْبانٍ تَأْكُلُهُ النَّارُ) [آل عمران : ١٨٣].

وقد خولف أيضا في هذه الآية أسلوب آية آل عمران إذ قرن كل من «الزبر والكتاب المنير» هنا بالباء ، وجرّدا منها في آية آل عمران وذلك لأن آية آل عمران جرت في سياق زعم اليهود أن لا تقبل معجزة رسول إلّا معجزة قربان تأكله النار ، فقيل في التفرد ببهتانهم : قد كذّبت الرسل الذين جاء الواحد منهم بأصناف المعجزات مثل عيسى عليه‌السلام ومن معجزاتهم قرابين تأكلها النار فكذبتموهم ، فترك إعادة الباء هنالك إشارة إلى أن الرسل جاءوا بالأنواع الثلاثة.

ولما كان المقام هنا لتسلية الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم ناسب أن يذكر ابتلاء الرسل بتكذيب أممهم على اختلاف أحوال الرسل ؛ فمنهم الذين أتوا بآيات ، أي خوارق عادات فقط مثل صالح وهود ولوط ، ومنهم من أتوا بالزبر وهي المواعظ التي يؤمر بكتابتها وزبرها ، أي تخطيطها لتكون محفوظة وتردد على الألسن كزبور داود وكتب أصحاب الكتب من أنبياء بني إسرائيل مثل أرمياء وإيلياء ، ومنهم من جاءوا بالكتاب المنير ، يعني كتاب الشرائع مثل إبراهيم وموسى وعيسى ، فذكر الباء مشير إلى توزيع أصناف المعجزات على أصناف الرسل.

فزبور إبراهيم صحفه المذكورة في قوله تعالى : (صُحُفِ إِبْراهِيمَ وَمُوسى) [الأعلى: ١٩].

وزبور موسى كلامه في المواعظ الذي ليس فيه تبليغ عن الله مثل دعائه الذي دعا به في قادش المذكور في الإصحاح التاسع من سفر التثنية ، ووصيته في عبر الأردن التي في الإصحاح السابع والعشرين من السفر المذكور ، ومثل نشيده الوعظي الذي نطق به وأمر بني إسرائيل بحفظه والترنّم به في الإصحاح الثاني والثلاثين منه ، ومثل الدعاء الذي بارك به أسباط إسرائيل في عربات مؤاب في آخر حياته في الإصحاح الثالث والثلاثين منه.

وزبور عيسى أقواله المأثورة في الأناجيل مما لم يكن منسوبا إلى الوحي.

فالضمير في «جاءوا» للرسل وهو على التوزيع ، أي جاء مجموعهم بهذه الأصناف من الآيات ، ولا يلزم أن يجيء كل فرد منهم بجميعها كما يقال بنو فلان قتلوا فلانا.

وجواب (إِنْ يُكَذِّبُوكَ) محذوف دلت عليه علته وهي قوله : (فَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ

١٥٣

قَبْلِكَ) [فاطر : ٤]. والتقدير : إن يكذبوك فلا تحزن ، ولا تحسبهم مفلتين من العقاب على ذلك إذ قد كذب الأقوام الذين جاءتهم رسل من قبل هؤلاء وقد عاقبناهم على تكذيبهم.

فالفاء في قوله : (فَقَدْ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ) فاء فصيحة أو تفريع على المحذوف.

وجملة (جاءَتْهُمْ) صلة (الَّذِينَ) ، و (مِنْ قَبْلِهِمْ) في موضع الحال من اسم الموصول مقدّم عليه أو متعلق ب (جاءَتْهُمْ).

و (ثُمَ) عاطفة جملة (أَخَذْتُ) على جملة (جاءَتْهُمْ) أي ثمّ أخذتهم ، وأظهر (الَّذِينَ كَفَرُوا) في موضع ضمير الغيبة للإيماء إلى أن أخذهم لأجل ما تضمنته صلة الموصول من أنهم كفروا.

والأخذ مستعار للاستئصال والإفناء ؛ شبه إهلاكهم جزاء على تكذيبهم بإتلاف المغيرين على عدوّهم يقتلونهم ويغنمون أموالهم فتبقى ديارهم بلقعا كأنهم أخذوا منها.

و (كيف) استفهام مستعمل في التعجيب من حالهم وهو مفرع بالفاء على (أَخَذْتُ الَّذِينَ كَفَرُوا) ، والمعنى : أخذتهم أخذا عجيبا كيف ترون أعجوبته. وأصل (كيف) أن يستفهم به عن الحال فلما استعمل في التعجيب من حال أخذهم لزم أن يكون حالهم معروفا ، أي يعرفه النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وكلّ من بلغته أخبارهم فعلى تلك المعرفة المشهورة بني التعجيب.

والنكير : اسم لشدة الإنكار ، وهو هنا كناية عن شدة العقاب لأن الإنكار يستلزم الجزاء على الفعل المنكر بالعقاب.

وحذفت ياء المتكلم تخفيفا ولرعاية الفواصل في الوقف لأن الفواصل يعتبر فيها الوقت ، وتقدم في سبأ.

(أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَخْرَجْنا بِهِ ثَمَراتٍ مُخْتَلِفاً أَلْوانُها وَمِنَ الْجِبالِ جُدَدٌ بِيضٌ وَحُمْرٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوانُها وَغَرابِيبُ سُودٌ (٢٧))

(أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَخْرَجْنا بِهِ ثَمَراتٍ مُخْتَلِفاً أَلْوانُها).

استئناف فيه إيضاح ما سبقه من اختلاف أحوال الناس في قبول الهدى ورفضه بسبب ما تهيأت خلقة النفوس إليه ليظهر به أن الاختلاف بين أفراد الأصناف والأنواع ناموس جبلّي فطر الله عليه مخلوقات هذا العالم الأرضي.

١٥٤

والخطاب للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ليدفع عنه اغتمامه من مشاهدة عدم انتفاع المشركين بالقرآن.

وضرب اختلاف الظواهر في أفراد الصنف الواحد مثلا لاختلاف البواطن تقريبا للأفهام ، فكان هذا الاستئناف من الاستئناف البياني لأن مثل هذا التقريب مما تشرئبّ إليه الأفهام عند سماع قوله : (إِنَّ اللهَ يُسْمِعُ مَنْ يَشاءُ) [فاطر : ٢٢].

والرؤية بصرية ، والاستفهام تقريري ، وجاء التقرير على النفي على ما هو المستعمل كما بيناه عند قوله تعالى : (أَلَمْ يَرَوْا أَنَّهُ لا يُكَلِّمُهُمْ) في سورة الأعراف [١٤٨] وفي آيات أخرى.

وضمير (فَأَخْرَجْنا) التفات من الغيبة إلى التكلم.

والألوان : جمع لون وهو عرض ، أي كيفية تعرض لسطوح الأجسام يكيّفه النور كيفيات مختلفة على اختلاف ما يحصل منها عند انعكاسها إلى عدسات الأعين من شبه الظلمة وهو لون السواد وشبه الصبح هو لون البياض ، فهما الأصلان للألوان ، وتنشق منها ألوان كثيرة وضعت لها أسماء اصطلاحية وتشبيهية. وتقدم عند قوله تعالى : (قالُوا ادْعُ لَنا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنا ما لَوْنُها) في سورة البقرة [٦٩] ، وتقدم في سورة النحل.

والمقصود من الاعتبار هو اختلاف ألوان الأصناف من النوع الواحد كاختلاف ألوان التفاح مع ألوان السفرجل ، وألوان العنب مع ألوان التين ، واختلاف ألوان الأفراد من الصنف الواحد تارات كاختلاف ألوان التمور والزيتون والأعناب والتفاح والرمان.

وذكر إنزال الماء من السماء إدماج في الغرض للاعتبار بقدرة الله مع ما فيه من اتحاد أصل نشأة الأصناف والأنواع كقوله تعالى : تسقى (بِماءٍ واحِدٍ وَنُفَضِّلُ بَعْضَها عَلى بَعْضٍ فِي الْأُكُلِ) [الرعد : ٤] وذلك أرعى للاعتبار.

وجيء بالجملتين الفعليتين في (أَنْزَلَ) و «أخرجنا» لأن إنزال الماء وإخراج الثمرات متجدد آنا فآنا.

والالتفات من الغيبة إلى التكلم في قوله : (أَنْزَلَ) وقوله : «أخرجنا» لأن الاسم الظاهر أنسب بمقام الاستدلال على القدرة لأنه الاسم الجامع لمعاني الصفات.

وضمير التكلم أنسب بما فيه امتنان.

وقدم الاعتبار باختلاف أحوال الثمرات لأن في اختلافها سعة تشبه سعة اختلاف

١٥٥

الناس في المنافع والمدارك والعقائد. وفي الحديث : «مثل المؤمن الذي يقرأ القرآن كمثل الأترجة ريحها طيب وطعمها طيب ، ومثل المؤمن الذي لا يقرأ القرآن كمثل التمرة طعمها طيّب ولا ريح لها ، ومثل المنافق الذي يقرأ القرآن كمثل الريحانة ريحها طيّب وطعمها مرّ ، ومثل المنافق الذي لا يقرأ القرآن كمثل الحنظلة طعمها مرّ ولا ريح لها».

وجرد (مُخْتَلِفاً) من علامة التأنيث مع أن فاعله جمع وشأن النعت السببي أن يوافق مرفوعه في التذكر وضده والإفراد وضده ، ولا يوافق في ذلك منعوته ، لأنه لما كان الفاعل جمعا لما لا يعقل وهو الألوان كان حذف التاء في مثله جائزا في الاستعمال ، وآثره القرآن إيثارا للإيجاز.

والمراد بالثمرات : ثمرات النخيل والأعناب وغيرها ، فثمرات النخيل أكثر الثمرات ألوانا ، فإن ألوانها تختلف باختلاف أطوارها ، فمنها الأخضر والأصفر والأحمر والأسود.

(وَمِنَ الْجِبالِ جُدَدٌ بِيضٌ وَحُمْرٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوانُها وَغَرابِيبُ سُودٌ).

عطف على جملة (أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ) فهي مثلها مستأنفة ، وعطفها عليها للمناسبة الظاهرة.

و (جُدَدٌ) مبتدأ (وَمِنَ الْجِبالِ) خبره. وتقديم الخبر للاهتمام وللتشويق لذكر المبتدأ حثّا على التأمل والنظر.

و (مِنَ) تبعيضية على معنى : وبعض تراب الجبال جدد ، ففي الجبل الواحد توجد جدد مختلفة ، وقد يكون بعض الجدد بعضها في بعض الجبال وبعض آخر في بعض آخر.

و (جُدَدٌ) : جمع جدّة بضم الجيم ، وهي الطريقة والخطة في الشيء تكون واضحة فيه. يقال للخطة السوداء التي على ظهر الحمار جدّة ، وللظبي جدّتان مسكيّتا اللون تفصلان بين لوني ظهره وبطنه ، والجدد البيض التي في الجبال هي ما كانت صخورا بيضاء مثل المروة ، أو كانت تقرب من البياض فإن من التراب ما يصير في لون الأصهب فيقال : تراب أبيض ، ولا يعنون أنه أبيض كالجير والجص بل يعنون أنه مخالف لغالب ألوان التراب ، والجدد الحمر هي ذات الحجارة الحمراء في الجبال.

و (غَرابِيبُ) جمع غربيب ، والغربيب : اسم للشيء الأسود الحالك سواده ، ولا تعرف له مادة مشتق هو منها ، وأحسب أنه مأخوذ من الجامد ، وهو الغراب لشهرة الغراب بالسواد.

١٥٦

و (سُودٌ) جمع أسود وهو الذي لونه السواد.

فالغربيب يدل على أشد من معنى أسود ، فكان مقتضى الظاهر أن يكون (غَرابِيبُ) متأخرا عن (سُودٌ) لأن الغالب أنهم يقولون : أسود غربيب ، كما يقولون : أبيض يقق وأصفر فاقع وأحمر قان ، ولا يقولون : غربيب أسود وإنما خولف ذلك للرعاية على الفواصل المبنية على الواو والياء الساكنتين ابتداء من قوله : (وَاللهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ) [فاطر : ١٥] ، على أن في دعوى أن يكون غربيبا تابعا لأسود نظرا والآية تؤيد هذا النظر ، ودعوى كون (غَرابِيبُ) صفة لمحذوف يدل عليه (سُودٌ) تكلف واضح ، وكذلك دعوى الفراء : أن الكلام على التقديم والتأخير ، وغرض التوكيد حاصل على كل حال.

(وَمِنَ النَّاسِ وَالدَّوَابِّ وَالْأَنْعامِ مُخْتَلِفٌ أَلْوانُهُ كَذلِكَ إِنَّما يَخْشَى اللهَ مِنْ عِبادِهِ الْعُلَماءُ إِنَّ اللهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ (٢٨))

(وَمِنَ النَّاسِ وَالدَّوَابِّ وَالْأَنْعامِ مُخْتَلِفٌ أَلْوانُهُ).

موقعه كموقع قوله : (وَمِنَ الْجِبالِ جُدَدٌ) [فاطر : ٢٧] ، ولا يلزم أن يكون مسوغ الابتداء بالنكرة غير مفيد معنى آخر فإن تقديم الخبر هنا سوغ الابتداء بالنكرة.

واختلاف ألوان الناس منه اختلاف عام وهو ألوان أصناف البشر وهي الأبيض والأسود والأصفر والأحمر حسب الاصطلاح الجغرافي. وللعرب في كلامهم تقسيم آخر لألوان أصناف البشر ، وقد تقدم عند قوله : (وَاخْتِلافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوانِكُمْ) في سورة الروم [٢٢].

و (مِنَ) تبعيضية. والمعنى : أن المختلف ألوانه بعض من الناس ، ومجموع المختلفات كله هو الناس كلهم وكذلك الدواب والأنعام ، وهو نظم دقيق دعا إليه الإيجاز.

وجيء في جملة (وَمِنَ الْجِبالِ جُدَدٌ) [فاطر : ٢٧] و (مِنَ النَّاسِ وَالدَّوَابِّ وَالْأَنْعامِ مُخْتَلِفٌ أَلْوانُهُ) بالاسمية دون الفعلية كما في الجملة السابقة لأن اختلاف ألوان الجبال والحيوان الدال على اختلاف أحوال الإيجاد اختلافا دائما لا يتغير وإنما يحصل مرة واحدة عند الخلق وعند تولد النسل.

(كَذلِكَ إِنَّما يَخْشَى اللهَ مِنْ عِبادِهِ الْعُلَماءُ إِنَّ اللهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ).

١٥٧

الأظهر عندي أن (كَذلِكَ) ابتداء كلام يتنزل منزلة الإخبار بالنتيجة عقب ذكر الدليل. والمعنى : كذلك أمر الاختلاف في ظواهر الأشياء المشاهد في اختلاف ألوانها وهو توطئة لما يرد بعده من تفصيل الاستنتاج بقوله : (إِنَّما يَخْشَى اللهَ مِنْ عِبادِهِ) أي إنما يخشى الله من البشر المختلفة ألوانهم العلماء منهم ، فجملة (إِنَّما يَخْشَى اللهَ مِنْ عِبادِهِ الْعُلَماءُ) مستأنفة عن جملة (كَذلِكَ). وإذا علم ذلك دل بالالتزام على أن غير العلماء لا تتأتّى منهم خشية الله فدلّ على أن البشر في أحوال قلوبهم ومداركهم مختلفون. وهذا مثل قوله : (إِنَّما تُنْذِرُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ) [فاطر : ١٨].

وأوثر هذا الأسلوب في الدلالة تخلصا للتنويه بأهل العلم والإيمان لينتقل إلى تفصيل ذلك بقوله : (إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتابَ اللهِ) [فاطر : ٢٩] الآية ...

فقوله : (كَذلِكَ) خبر لمبتدإ محذوف دل عليه المقام. والتقدير : كذلك الاختلاف ، أو كذلك الأمر على نحو قوله تعالى في سورة الكهف [٩١] : (كَذلِكَ وَقَدْ أَحَطْنا بِما لَدَيْهِ خُبْراً) وهو من فصل الخطاب كما علمت هنالك ولذلك يحسن الوقف على ما قبله ويستأنف ما بعده.

وأما جعل (كَذلِكَ) من توابع الكلام السابق فلا يناسب نظم القرآن لضعفه.

والقصر المستفاد من (إِنَّما) قصر إضافي ، أي لا يخشاه الجهال ، وهم أهل الشرك فإن من أخص أوصافهم أنهم أهل الجاهلية ، أي عدم العلم ؛ فالمؤمنون يومئذ هم العلماء ، والمشركون جاهلون نفيت عنهم خشية الله. ثم إن العلماء في مراتب الخشية متفاوتون في الدرجات تفاوتا كثيرا. وتقديم مفعول (يَخْشَى) على فاعله لأن المحصور فيهم خشية الله هم العلماء فوجب تأخيره على سنة تأخير المحصور فيه.

والمراد بالعلماء : العلماء بالله وبالشريعة ، وعلى حسب مقدار العلم في ذلك تقوى الخشية ؛ فأما العلماء بعلوم لا تتعلق بمعرفة الله وثوابه وعقابه معرفة على وجهها فليست علومهم بمقربة لهم من خشية الله ، ذلك لأن العالم بالشريعة لا تلتبس عليه حقائق الأسماء الشرعية فهو يفهم مواقعها حق الفهم ويرعاها في مواقعها ويعلم عواقبها من خير أو شر ، فهو يأتي ويدع من الأعمال ما فيه مراد الله ومقصد شرعه ، فإن هو خالف ما دعت إليه الشريعة في بعض الأحوال أو في بعض الأوقات لداعي شهوة أو هوى أو تعجل نفع دنيوي كان في حال المخالفة موقنا أنه مورّط فيما لا تحمد عقباه ، فذلك الإيقان لا يلبث أن ينصرف به عن الاسترسال في المخالفة بالإقلاع أو الإقلال.

١٥٨

وغير العالم إن اهتدى بالعلماء فسعيه مثل سعي العلماء وخشيته متولدة عن خشية العلماء. قال الشيخ أبو محمد بن أبي زيد «والعلم دليل على الخيرات وقائد إليها ، وأقرب العلماء إلى الله أولاهم به وأكثرهم له خشية وفيما عنده رغبة».

وجملة (إِنَّ اللهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ) تكميل للدلالة على استغناء الله تعالى عن إيمان المشركين ولكنه يريد لهم الخير. ولما كان في هذا الوصف ضرب من الإعراض عنهم مما قد يحدث يأسا في نفوس المقاربين منهم ، ألّفت قلوبهم بإتباع وصف (عَزِيزٌ) ، بوصف (غَفُورٌ) أي فهو يقبل التوبة منهم إن تابوا إلى ما دعاهم الله إليه على أن في صفة (غَفُورٌ) حظا عظيما لأحد طرفي القصر وهم العلماء ، أي غفور لهم.

[٢٩ ، ٣٠] (إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتابَ اللهِ وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْناهُمْ سِرًّا وَعَلانِيَةً يَرْجُونَ تِجارَةً لَنْ تَبُورَ (٢٩) لِيُوَفِّيَهُمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ غَفُورٌ شَكُورٌ (٣٠))

استئناف لبيان جملة (إِنَّما يَخْشَى اللهَ مِنْ عِبادِهِ الْعُلَماءُ) [فاطر : ٢٨] الآية ، فالذين يتلون كتاب الله هم المراد بالعلماء ، وقد تخلّص إلى بيان فوز المؤمنين الذين اتّبعوا الذكر وخشوا الرحمن بالغيب فإن حالهم مضادّ لحال الذين لم يسمعوا القرآن وكانوا عند تذكيرهم به كحال أهل القبور لا يسمعون شيئا. فبعد أن أثنى عليهم ثناء إجماليا بقوله تعالى: (إِنَّما يَخْشَى اللهَ مِنْ عِبادِهِ الْعُلَماءُ) ، وأجمل حسن جزائهم بذكر صفة (غَفُورٌ) [فاطر: ٢٨] ولذلك ختمت هذه الآية بقوله : (إِنَّهُ غَفُورٌ شَكُورٌ) فصّل ذلك الثناء وذكرت آثاره ومنافعه.

فالمراد ب (الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتابَ اللهِ) المؤمنون به لأنهم اشتهروا بذلك وعرفوا به وهم

المراد بالعلماء. قال تعالى : (بَلْ هُوَ آياتٌ بَيِّناتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ) [العنكبوت : ٤٩]. وهو أيضا كناية عن إيمانهم لأنه لا يتلو الكتاب إلّا من صدّق به وتلقاه باعتناء. وتضمن هذا أنهم يكتسبون من العلم الشرعي من العقائد والأخلاق والتكاليف ، فقد أشعر الفعل المضارع بتجدد تلاوتهم فإن نزول القرآن متجدد فكلما نزل منه مقدار تلقوه وتدارسوه.

وكتاب الله القرآن وعدل عن اسمه العلم إلى اسم الجنس المضاف لاسم الجلالة لما في إضافته إليه من تعظيم شأنه.

١٥٩

وأتبع ما هو علامة قبول الإيمان والعلم به بعلامة أخرى وهي إقامة الصلاة كما تقدم في سورة البقرة [٢](الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ) فإنها أعظم الأعمال البدنية ، ثم أتبعت بعمل عظيم من الأعمال في المال وهي الإنفاق ، والمراد بالإنفاق حيثما أطلق في القرآن هو الصدقات واجبها ومستحبها وما ورد الإنفاق في السور المكية إلّا والمراد به الصدقات المستحبة إذ لم تكن الزكاة قد فرضت أيامئذ ؛ على أنه قد تكون الصدقة مفروضة دون نصب ولا تحديد ثم حدّدت بالنصب والمقادير.

وجيء في جانب إقامة الصلاة والإنفاق بفعل المضي لأن فرض الصلاة والصدقة قد تقرر وعملوا به فلا تجدد فيه ، وامتثال الذي كلفوا به يقتضي أنهم مداومون عليه.

وقوله : (مِمَّا رَزَقْناهُمْ) إدماج للامتنان وإيماء إلى أنه إنفاق شكر على نعمة الله عليهم بالرزق فهم يعطون منه أهل الحاجة.

ووقع الالتفات من الغيبة من قوله : (كِتابَ اللهِ) إلى التكلم في قوله : (مِمَّا رَزَقْناهُمْ) لأنه المناسب للامتنان.

وانتصب (سِرًّا وَعَلانِيَةً) على الصفة لمصدر (أَنْفَقُوا) محذوف ، أي إنفاق سر وإنفاق علانية والمصدر مبين للنوع.

والمعنى : أنهم لا يريدون من الإنفاق إلّا مرضاة الله تعالى لا يراءون به ، فهم ينفقون حيث لا يراهم أحد وينفقون بمرأى من الناس فلا يصدهم مشاهدة الناس عن الإنفاق.

وفي تقديم السر إشارة إلى أنه أفضل لانقطاع شائبة الرياء منه ، وذكر العلانية للإشارة إلى أنهم لا يصدهم مرأى المشركين عن الإنفاق فهم قد أعلنوا بالإيمان وشرائعه حبّ من حبّ أو كره من كره.

و (يَرْجُونَ تِجارَةً) هو خبر (إِنَ).

والخبر مستعمل في إنشاء التبشير كأنه قيل : ليرجوا تجارة ، وزاده التعليل بقوله : (لِيُوَفِّيَهُمْ أُجُورَهُمْ) قرينة على إرادة التبشير.

والتجارة مستعارة لأعمالهم من تلاوة وصلاة وإنفاق.

ووجه الشبه مشابهة ترتب الثواب على أعمالهم بترتب الربح على التجارة.

١٦٠