تفسير التّحرير والتّنوير - ج ٢٢

الشيخ محمّد الطاهر ابن عاشور

تفسير التّحرير والتّنوير - ج ٢٢

المؤلف:

الشيخ محمّد الطاهر ابن عاشور


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة التاريخ العربي للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٢٨٨

كثر ذلك وشاع حتى تنوسي ما فيه من الاستعارة والكناية وصار لمجرد التنبيه على ما يجيء بعده ، والاهتمام حاصل في الحالين.

وتقدم ذلك عند قوله تعالى : (يا لَيْتَنِي كُنْتُ مَعَهُمْ) في سورة النساء [٧٣] ، وقوله : (يا وَيْلَتى لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلاناً خَلِيلاً) في سورة الفرقان [٢٨].

وموقع مثله في كلام الله تعالى تمثيل لحال عباد الله تعالى في تكذيبهم رسل الله بحال من يرثي له أهله وقوعه في هلاك أرادوا منه تجنبه.

وجملة (ما يَأْتِيهِمْ مِنْ رَسُولٍ) بيان لوجه التحسّر عليهم لأن قوله : (يا حَسْرَةً عَلَى الْعِبادِ) وإن كان قد وقع بعد ذكر أهل القرية فإنه لما عمّم على جميع العباد حدث إيهام في وجه العموم. فوقع بيانه بأن جميع العباد مساوون لمن ضرب بهم المثل ومن ضرب لهم في تلك الحالة الممثل بها ولم تنفعهم المواعظ والنذر البالغة إليهم من الرسول المرسل إلى كل أمة منهم ومن مشاهدة القرون الذين كذبوا الرسل فهلكوا ، فعلم وجه الحسرة عليهم إجمالا من هذه الآية ثم تفصيلا من قوله بعد : (أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنا) [يس : ٣١] إلخ.

والاستثناء في قوله : (إِلَّا كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ) مفرغ من أحوال عامة من الضمير في (يَأْتِيهِمْ) أي لا يأتيهم رسول في حال من أحوالهم إلّا في حال استهزائهم به.

وتقديم المجرور على (يَسْتَهْزِؤُنَ) للاهتمام بالرسول المشعر باستفظاع الاستهزاء به مع تأتّي الفاصلة بهذا التقديم فحصل منه غرضان من المعاني ومن البديع.

(أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنا قَبْلَهُمْ مِنَ الْقُرُونِ أَنَّهُمْ إِلَيْهِمْ لا يَرْجِعُونَ (٣١))

هذه الجملة بيان لجملة (ما يَأْتِيهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ)[يس : ٣٠] لما فيها من تفصيل الإجمال المستفاد من قوله : (ما يَأْتِيهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ) فإن عاقبة ذلك الاستهزاء بالرسول كانت هلاك المستهزئين ، فعدم اعتبار كل أمة كذبت رسولها بعاقبة المكذبين قبلها يثير الحسرة عليها وعلى نظرائها كما أثارها استهزاؤهم بالرسول وقلة التبصر في دعوته ونذارته ودلائل صدقه.

وضمير (يَرَوْا) عائد إلى العباد كما يقتضيه تناسق الضمائر. والمعاد فيه عموم ادعائي كما تقدم آنفا ، فيتعين أن تخص منه أول أمة كذبت رسولها وهم قوم نوح فإنهم لم

٢٢١

يسبق قبلهم هلاك أمة كذبت رسولها ، فهذا من التخصيص بدليل العقل لأن قوله : (قَبْلَهُمْ) يرشد بالتأمل إلى عدم شموله أول أمة أرسل إليها.

وقيل : يجوز أن يكون ضمير (أَلَمْ يَرَوْا) عائدا إلى ما عاد إليه ضمير (وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلاً) [يس : ١٣] ويكون المثل قد انتهى بجملة (يا حَسْرَةً عَلَى الْعِبادِ) ... [يس : ٣٠] الآية. وهذا بعيد لأنه كان يقتضي أن تعطف الجملة على جملة (وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلاً) كما عطفت جملة (وَآيَةٌ لَهُمُ الْأَرْضُ الْمَيْتَةُ أَحْيَيْناها) [يس : ٣٣] الآية ، وجملة (وَآيَةٌ لَهُمُ اللَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهارَ) [يس : ٣٧] ، وجملة (وَآيَةٌ لَهُمْ أَنَّا حَمَلْنا ذُرِّيَّتَهُمْ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ) [يس : ٤١] ، ولا ملجئ إلى هذا الاعتبار في المعاد ، وقد علمت توجيه الاعتبار الأول لتصحيح العموم.

والاستفهام يجوز أن يكون إنكاريا ؛ نزلت غفلتهم عن إهلاك القرون منزلة عدم العلم فأنكر عليهم عدم العلم بذلك وهو أمر معلوم مشهور ، ويجوز كون الاستفهام تقريريا بني التقرير على نفي العلم بإهلاك القرآن استقصاء لمعذرتهم حتى لا يسعهم إلّا الإقرار بأنهم عالمون فيكون إقرارهم أشد لزوما لهم لأنهم استفهموا على النفي فكان يسعهم أن ينفوا ذلك.

والرؤية على التقديرين علمية وليست بصرية لأن إهلاك القرون لم يكن مشهودا لأمة جاءت بعد الأمة التي أهلكت قبلها. وفعل الرؤية معلق عن العمل بورود (كَمْ) لأن (مْ) لها صدر الكلام سواء كانت استفهاما أم خبرا ، فإن (كَمْ) الخبرية منقولة من الاستفهامية وما له صدر الكلام لا يعمل ما قبله فيما بعده.

و (كَمْ) في موضع نصب ب (أَهْلَكْنا) : ومفادها كثرة مبهمة فسّرت بقوله : (مِنَ الْقُرُونِ) ووقعت (كَمْ) في موضع المفعول لقوله : (أَهْلَكْنا).

و (قَبْلَهُمْ) ظرف ل (أَهْلَكْنا) ومعنى (قَبْلَهُمْ) : قبل وجودهم.

وقوله : (أَنَّهُمْ إِلَيْهِمْ لا يَرْجِعُونَ) بدل اشتمال من جملة (أَهْلَكْنا) لأن الإهلاك يشتمل على عدم الرجوع ؛ أبدل المصدر المنسبك من «أنّ» وما بعدها من معنى جملة (كَمْ أَهْلَكْنا قَبْلَهُمْ مِنَ الْقُرُونِ) لأن معنى تلك الجملة كثرة الإهلاك أو كثرة المهلكين. وفعل الرؤية عامل في (أَنَّهُمْ إِلَيْهِمْ لا يَرْجِعُونَ) بالتبعية لتسلط معنى الفعل على جملة (كَمْ أَهْلَكْنا) لأن التعليق يبطل العمل في اللفظ لا في المحل.

٢٢٢

وفائدة هذا البدل تقرير تصوير الإهلاك لزيادة التخويف ، ولاستحضار تلك الصورة في الإهلاك أي إهلاكا لا طماعية معه لرجوع إلى الدنيا ، فإن ما يشتمل عليه الإهلاك من عدم الرجوع إلى الأهل والأحباب مما يزيد الحسرة اتضاحا.

و (إِلَيْهِمْ) متعلق ب (يَرْجِعُونَ) وتقديمه على متعلقه للرعاية على الفاصلة.

وضمير (إِلَيْهِمْ) عائد إلى (الْعِبادِ) [يس : ٣٠] ، وضمير (أَنَّهُمْ) عائد إلى (الْقُرُونِ).

(وَإِنْ كُلٌّ لَمَّا جَمِيعٌ لَدَيْنا مُحْضَرُونَ (٣٢))

أرى أن عطفه على جملة (أَنَّهُمْ إِلَيْهِمْ لا يَرْجِعُونَ) [يس : ٣١] واقع موقع الاحتراس من توهم المخاطبين بالقرآن أن قوله : (أَنَّهُمْ إِلَيْهِمْ لا يَرْجِعُونَ) مؤيد اعتقادهم انتفاء البعث.

و (إِنْ) يجوز أن تكون مخففة من الثقيلة والأفصح إهمالها عن العمل فيما بعدها ، والأكثر أن يقترن خبر الاسم بعدها بلام تسمّى اللام الفارقة لأنها تفرق بين (إِنْ) المخففة من الثقيلة وبين (إِنْ) النافية لئلا يلتبس الخبر المؤكد بالخبر المنفي فيناقض مقصد المتكلم ، وعلى هذا الوجه يكون قوله : (لَمَّا) مخفف الميم كما قرأ الجمهور (لَمَّا جَمِيعٌ) بتخفيف ميم (لَمَّا) ، فهي مركبة من اللام الفارقة و (ما) الزائدة للتأكيد ، ويجوز أن تكون (إِنْ) نافية بمعنى (لا) ويكون (لَمَّا) بتشديد الميم على أنها حرف استثناء بمعنى (إلا) تقع بعد النفي ونحوه كالقسم. وكذلك قرأ ابن عامر وعاصم وحمزة وأبو جعفر. والتقدير : وما كلهم إلّا محضرون لدينا.

و (كُلٌ) مبتدأ وتنوينه تنوين العوض عما أضيف إليه (كل) ، أي كل القرون ، أو كل المذكورين من القرون والمخاطبين.

و (جَمِيعٌ) اسم على وزن فعيل ، أي مجموع ، وهو ضد المتفرق. يقال : جمع أشياء كذا ، إذا جعلها متقاربة متصلة بعد أن كانت مشتتة ومتباعدة.

والمعنى : أن كل القرون محضرون لدينا مجتمعين ، أي ليس إحضارهم في أوقات مختلفة ولا في أمكنة متعددة ؛ فكلمة (كُلٌ) أفادت أن الإحضار محيط بهم بحيث لا ينفلت فريق منهم ، وكلمة (جَمِيعٌ) أفادت أنهم محضرون مجتمعين فليست إحدى الكلمتين بمغنية عن ذكر الأخرى ، ألا ترى أنه لو قيل : وإن أكثرهم لما جميع لدينا

٢٢٣

محضرون ، لما كان تناف بين «أكثرهم» وبين «جميعهم» أي أكثرهم يحضر مجتمعين ؛ فارتفع (جَمِيعٌ) على الخبرية في قراءات تخفيف (لَمَّا) وعلى الاستثناء على قراءات تشديد (لَمَّا). و (مُحْضَرُونَ) نعت ل (جَمِيعٌ) على القراءتين. وروعي في النعت معنى المنعوت فألحقت به علامة الجماعة ، كقول لبيد :

عريت وكان بها الجميع فأبكروا

منها وغودر نؤيها وثمامها

والإحضار : الإحضار للحساب والجزاء والعقاب.

(وَآيَةٌ لَهُمُ الْأَرْضُ الْمَيْتَةُ أَحْيَيْناها وَأَخْرَجْنا مِنْها حَبًّا فَمِنْهُ يَأْكُلُونَ (٣٣))

عطف على قصة (وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلاً أَصْحابَ الْقَرْيَةِ) [يس : ١٣] فإنه ضرب لهم مثلا لحال إعراضهم وتكذيبهم الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم وما تشتمل عليه تلك الحال من إشراك وإنكار للبعث وأذى للرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم وعاقبة ذلك كله. ثم أعقب ذلك بالتفصيل لإبطال ما اشتملت عليه تلك الاعتقادات من إنكار البعث ومن الإشراك بالله.

وابتدئ بدلالة تقريب البعث لمناسبة الانتقال من قوله : (وَإِنْ كُلٌّ لَمَّا جَمِيعٌ لَدَيْنا مُحْضَرُونَ) [يس : ٣٢] على أن هذه لا تخلو من دلالتها على الانفراد بالتصرف ، وفي ذلك إثبات الوحدانية.

و (وَآيَةٌ) مبتدأ و (لَهُمُ) صفة (آيَةٌ) ، و (الْأَرْضُ) خبر (آيَةٌ) ، و (الْمَيْتَةُ) صفة (الْأَرْضُ). وجملة (أَحْيَيْناها) في موضع الحال من (الْأَرْضُ) وهي حال مقيدة لأن إحياء الأرض هو مناط الدلالة على إمكان البعث بعد الموت ، أو يكون جملة (أَحْيَيْناها) بيانا لجملة (آيَةٌ لَهُمُ الْأَرْضُ) لبيان موقع الآية فيها ، أو بدل اشتمال من جملة (آيَةٌ لَهُمُ الْأَرْضُ) ، أو استئنافا بيانيا كأنّ سائلا سأل : كيف كانت الأرض الميتة؟

وموت الأرض : جفافها وجرازتها لخلوّها من حياة النبات فيها ، وإحياؤها : خروج النبات منها من العشب والكلأ والزرع.

وقرأ نافع وأبو جعفر الميتة بتشديد الياء. وقرأ الباقون بتخفيف الياء ، والمعنى واحد وهما سواء في الاستعمال.

والحب : اسم جمع حبّة ، وهو بزرة النبت مثل البرّة والشعيرة. وقد تقدم عند قوله تعالى : (كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنابِلَ) في سورة البقرة [٢٦١].

٢٢٤

وإخراج الحب من الأرض : هو إخراجه من نباتها فهو جاء منها بواسطة. وهذا إدماج للامتنان في ضمن الاستدلال ولذلك فرّع عليه (فَمِنْهُ يَأْكُلُونَ). وتقديم (فَمِنْهُ) على (يَأْكُلُونَ) للاهتمام تنبيها على النعمة ولرعاية الفاصلة.

[٣٤ ، ٣٥] (وَجَعَلْنا فِيها جَنَّاتٍ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنابٍ وَفَجَّرْنا فِيها مِنَ الْعُيُونِ (٣٤) لِيَأْكُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ وَما عَمِلَتْهُ أَيْدِيهِمْ أَفَلا يَشْكُرُونَ (٣٥))

هذا من إحياء الأرض بإنبات الأشجار ذات الثمار ، وهو إحياء أعجب وأبقى وإن كان الإحياء بإنبات الزرع والكلأ أوضح دلالة لأنه سريع الحصول.

وتقدم ذكر (جَنَّاتٌ) في أول سورة الرعد [٤].

وتفجير العيون تقدم عند قوله تعالى : (وَإِنَّ مِنَ الْحِجارَةِ لَما يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الْأَنْهارُ) في سورة البقرة [٧٤].

والثّمر بفتحتين وبضمتين : ما يغلّه النخل والأعناب من أصناف الثمر وأصناف العنب والثمرة بمنزلة الحبّ للسنبل. وقرأ الجمهور : (ثَمَرِهِ) بفتحتين. وقرأه حمزة والكسائي وخلف بضمتين. والنخيل : اسم جمع نخل.

والأعناب جمع عنب ، وهو يطلق على شجرة الكرم وعلى ثمرها. وجمع النخيل والأعناب باعتبار تعدد أصناف شجرة المثمر أصنافا من ثمره.

وضمير (مِنْ ثَمَرِهِ) عائد إلى المذكور ، أي من ثمر ما ذكرنا ، كقول رؤبة :

فيها خطوط من سواد وبلق

كأنه في الجلد توليع البهق

فقيل له : هلا قلت : كأنها؟ فقال : أردت كأن ذلك ويلك. وتقدم عند قوله تعالى: (عَوانٌ بَيْنَ ذلِكَ) في سورة البقرة [٦٨].

ويجوز أن يعود الضمير على النخيل وتترك الأعناب للعلم بأنها مثل النخيل. كقول الأزرق بن طرفة بن العمود القراطي (١) الباهلي :

__________________

(١) كذا في نسخة «تفسير ابن عطية» ، ولم أقف على معنى هذه النسبة.

٢٢٥

رماني بذنب كنت منه ووالدي

بريئا ومن أجل الطويّ رماني (١)

فلم يقل : بريئين ، للعلم بأن والده مثله.

ويجوز أن تكون (ما) في قوله : (وَما عَمِلَتْهُ أَيْدِيهِمْ) موصولة معطوفة على (ثَمَرِهِ) ، أي ليأكلوا من ثمر ما أخرجناه ومن ثمر ما عملته أيديهم ، فيكون إدماجا للإرشاد إلى إقامة الجنات بالخدمة والسقي والتعهد ليكون ذلك أوفر لإغلالها. وضمير (عَمِلَتْهُ) على هذا عائد إلى اسم الموصول. ويجوز أن يكون (ما) نافية والضمير عائد إلى ما ذكر من الحب والنخيل والأعناب. والمعنى : أن ذلك لم يخلقوه. وهذا أوفر في الامتنان وأنسب بسياق الآية مساق الاستدلال. وقرأ الجمهور : (وَما عَمِلَتْهُ) بإثبات هاء الضمير عائدا إلى المذكور من الحب والنخيل والأعناب. وقرأ حمزة والكسائي وأبو بكر عن عاصم وخلف (وَما عَمِلَتْ) بدون هاء ، وكذلك هو مرسوم في المصحف الكوفي وهو جار على حذف المفعول إن كان معلوما. ويجوز أن يكون من حذف المفعول لإرادة العموم. والتقدير : وما عملت أيديهم شيئا من ذلك. وكلا الحذفين شائع.

وفرع عليه استفهام الإنكار لعدم شكرهم بأن اتخذوا للذي أوجد هذا الصنع العجيب أندادا. وجيء بالمضارع مبالغة في إنكار كفرهم بأن الله حقيق بأن يكرروا شكره فكيف يستمرون على الإشراك به.

(سُبْحانَ الَّذِي خَلَقَ الْأَزْواجَ كُلَّها مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ وَمِنْ أَنْفُسِهِمْ وَمِمَّا لا يَعْلَمُونَ (٣٦))

اعتراض بين جملة (وَآيَةٌ لَهُمُ الْأَرْضُ) [يس : ٣٣] وجملة (وَآيَةٌ لَهُمُ اللَّيْلُ) [يس : ٣٧] ، أثاره ذكر إحياء الأرض وإخراج الحبّ والشجر منها فإن ذلك أحوالا وإبداعا عجيبا يذكّر بتعظيم مودع تلك الصنائع بحكمته وذلك تضمن الاستدلال بخلق الأزواج على طريقة الإدماج. و (سُبْحانَ) هنا لإنشاء تنزيه الله تعالى عن أحوال المشركين تنزيها عن كل ما لا يليق بإلهيته وأعظمه الإشراك به وهو المقصود هنا. وإجراء الموصول على الذات العلية للإيماء إلى وجه إنشاء التنزيه والتعظيم. وقد مضى الكلام على سبحان في سورة البقرة وغيرها.

و (الْأَزْواجَ) : جمع زوج وهو يطلق على كل من الذكر والأنثى من الحيوان ، ويطلق

__________________

(١) نازعه ناس من قشير في بئر لدى الحاكم فقال القشيري للأزرق : هو لص ابن لص ليغري به الحاكم ، ونسب بعضهم هذا إلى البيت للفرزدق ، ولا يصح.

٢٢٦

الزوج على معنى الصنف المتميز بخواصه من نوع الموجودات تشبيها له بصنف الذكر وصنف الأنثى كما في قوله تعالى : (فَأَخْرَجْنا بِهِ أَزْواجاً مِنْ نَباتٍ شَتَّى) وتقدم في سورة طه [٥٣] ، والإطلاق الأول هو الكثير كما يؤخذ من كلام الراغب ، وهو الذي يناسبه نقل اللفظ من الزوج الذي يكون ثانيا لآخر ، فيجوز أن يحمل للأزواج في هذه الآية على المعنى الأول فيكون تذكيرا بخلق أصناف الحيوان الذي منه الذكر والأنثى ، وتكون (مِنْ) في المواضع الثلاثة ابتدائية متعلقة بفعل (خَلَقَ).

وهذا إدماج لذكر آية أخرى من آيات الانفراد بالخلق ، فخلق الحيوان بما فيه من القوى لتناسله وحماية نوعه وإنتاج منافعه ، هو أدق الخلق صنعا وأعمقه حكمة ، وأدخله في المنة على الإنسان ، بأن جعلت منافع الحيوان له كما في آية سورة المؤمنين. فمن أجل ذلك خصّ من بين الخلق الآخر بقرنه بالتسبيح لخالقه تنويها بشأنه وتفننا في سرد أعظم المواليد الناشئة عن إيداع قوة الحياة للأرض وانبثاق أنواع الأحياء وأصنافها منها ، كما أشار إليه الابتداء بذكر (مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ) قبل غيره من مبادئ التخلق لأنه الأسبق في تكوين مواد حياة الحيوان فإنه يتولد من النطف الذكور والإناث ، وتتولد النطف من قوى الأغذية الحاصلة من تناول النبات فذلك من معنى قوله : (مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ وَمِنْ أَنْفُسِهِمْ) أي ومما يتكون فيهم من أجزائهم الحيوانية.

وجيء بضمير جماعة العقلاء تغليبا لنوع الإنسان نظرا لكونه المقصود بالعبرة بهذه الآية ، وللتخلص إلى تخصيصه بالعبرة في قوله : (وَمِمَّا لا يَعْلَمُونَ).

وإشارة قوله تعالى : (وَمِمَّا لا يَعْلَمُونَ) إلى أسرار مودعة في خلق أنواع الحيوان وأصنافه هي التي ميزت أنواعه عن بعض وميزت أصنافه وذكوره عن إناثه ، وأودعت فيه الروح الذي امتاز به عن النبات بتدبير شئونه على حسب استعداد كل نوع وكل صنف حتى يبلغ في الارتقاء إلى أشرف الأنواع وهو نوع الإنسان ، فمعنى (وَمِمَّا لا يَعْلَمُونَ) : مما لا يعلمونه تفصيلا وإن كانوا قد يشعرون به إجمالا ، فإن المتأمل يعلم أن في المخلوقات أسرارا خفية لم تصل أفهامهم إلى إدراك كنهها ، ومن ذلك الروح فقد قال تعالى : (قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَما أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلاً) [الإسراء : ٨٥].

وقد يتفاضل الناس في إدراك بعض تلك الخصائص إجمالا وتفصيلا ثم يستوون في عدم العلم ببعضها ، وقد يمتاز بعض الطوائف أو الأجيال بمعرفة شيء من دقائق الخلق بسبب اكتشاف أو تجربة أو تقضي آثار لم يكن يعرفها غير أولئك ثم يستوون فيما بقي

٢٢٧

تحت طيّ الخفاء من دقائق التكوين ، فبهذا الشعور الإجمالي بها وقع عدّها في ضمن الاعتبار بآية خلق الأزواج من جميع النواحي.

وإذا حمل (الْأَزْواجَ) في قوله : (سُبْحانَ الَّذِي خَلَقَ الْأَزْواجَ كُلَّها) على المعنى الثاني لهذا اللفظ وهو إطلاقه على الأصناف والأنواع المتمايزة كما في قوله : (فَأَخْرَجْنا بِهِ أَزْواجاً مِنْ نَباتٍ شَتَّى) [طه : ٥٣] كانت (مِنْ) في المواضع الثلاثة بيانية ، والمجرور بها في فحوى عطف البيان ، أو بدل مفصل من مجمل من قوله : (الْأَزْواجَ) والمعنى : الأزواج كلها التي هي : ما تنبت الأرض ، وأنفسهم ، وما لا يعلمون. ويدل قوله (وَمِمَّا لا يَعْلَمُونَ) على محذوف تقديره : وما يعلمون ، وذلك من دلالة الإشارة.

فخص بالذكر أصناف النبات لأن بها قوام معاش الناس ومعاش أنعامهم ودوابهم ، وأصناف أنفس الناس لأن العبرة بها أقوى ، قال تعالى : (وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلا تُبْصِرُونَ) [الذاريات : ٢١]. ثم ذكر ما يعمّ المخلوقات مما يعلمه الناس وما لا يعلمونه في مختلف الأقطار والأجيال والعصور. وقدم ذكر النبات إيثارا له بالأهمية في هذا المقام لأنه أشبه بالبعث الذي أومأ إليه قوله : (وَإِنْ كُلٌّ لَمَّا جَمِيعٌ لَدَيْنا مُحْضَرُونَ) [يس : ٣٢].

وتكرير حرف (مِنْ) بعد واو العطف للتوكيد على كلا التفسيرين.

وضمير (أَنْفُسِهِمْ) عائد إلى (الْعِبادِ) في قوله : (يا حَسْرَةً عَلَى الْعِبادِ) [يس : ٣٠]. والمراد بهم : المكذبون للرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

(وَآيَةٌ لَهُمُ اللَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهارَ فَإِذا هُمْ مُظْلِمُونَ (٣٧))

انتقال إلى دلالة مظاهر العوالم العلوية على دقيق نظام الخالق فيها مما تؤذن به المشاهدة مع التبصر. وابتدئ منها بنظام الليل والنهار لتكرر وقوعه أمام المشاهدة لكل راء. وجملة (نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهارَ) تحتمل جميع الوجوه التي ذكرناها في جملة (أَحْيَيْناها) [يس: ٣٣] آنفا.

والسلخ : إزالة الجلد عن حيوانه ، وفعله يتعدّى إلى الجلد المزال بنفسه على المفعولية، ولذلك يقال للجلد المزال من جسم الحيوان : سلخ (بكسر السين وسكون اللام) بمعنى مسلوخ ، ولا يقال للجسم الذي أزيل جلده : سلخ. ويتعدّى فعل سلخ إلى الجسم الذي أزيل جلده بحرف الجر ، والأكثر أنه (من) الابتدائية ، ويتعدى بحرف (عن) أيضا لما في السلخ من معنى المباعدة والمجاوزة بعد الاتصال. فمفعول (نَسْلَخُ) هنا هو

٢٢٨

(النَّهارَ) بلا ريب ، وعدي السلخ إلى ضمير (اللَّيْلُ) ب (من) فصار المعنى : الليل آية لهم في حال إزالة غشاء نور النهار عنه فيبقى عليهم الليل ، فشبه النهار بجلد الشاة ونحوها يغطي ما تحته منها كما يغطي النهار ظلمة الليل في الصباح. وشبه كشف النهار وإزالته بسلخ الجلد عن نحو الشاة فصار الليل بمنزلة جسم الحيوان المسلوخ منه جلده ، وليس الليل بمقصود بالتشبيه وإنما المقصود تشبيه زوال النهار عنه فاستتبع ذلك أن الليل يبقى شبه الجسم المسلوخ عنه جلده. ووجه ذلك أن الظلمة هي الحالة السابقة للعوالم قبل خلق النور في الأجسام النيّرة لأن الظلمة عدم والنور وجود ، وكانت الموجودات في ظلمة قبل أن يخلق الله الكواكب النيّرة ويوصل نورها إلى الأجسام التي تستقبلها كالأرض والقمر.

وإذا كانت الظلمة هي الحالة الأصلية للموجودات فليس يلزم أن تكون أصلية للأرض لأن الظاهر أن الأرض انفصلت عن الشمس نيرة وإنما ظلمة نصف الكرة الأرضية إذا غشيها نور الشمس معتبرة كالجسم الذي غشيه جلده فإذا أزيل النور عادت الظلمة فشبه ذلك بسلخ الجلد عن الحيوان كما قال تعالى في مقابله في سورة الرعد [٣] : (يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهارَ). فليس في الآية دليل على أن أصل أحوال العالم الأرضي هو الظلمة ولكنها ساقت للناس اعتبارا ودلالة بحالة مشاهدة لديهم ففرع عليه (فَإِذا هُمْ مُظْلِمُونَ) بناء على ما هو متعارف. وقد اعتبر أئمة البلاغة الاستعارة في الآية أصلية تبعية ولم يجعلوها تمثيلية لما قدمناه من أن المقصود بالتشبيه هو حالة زوال نور النهار عن الأفق فتخلفها ظلمة الليل لقوله : (فَإِذا هُمْ مُظْلِمُونَ).

وإسناد (مُظْلِمُونَ) إلى الناس من إسناد إفعال الذي الهمزة فيه للدخول في الشيء مثل أصبح وأمسى.

(وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَها ذلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ (٣٨))

(الشَّمْسُ) يجوز أن يكون معطوفا على (اللَّيْلُ) من قوله : (وَآيَةٌ لَهُمُ اللَّيْلُ) [يس : ٣٧] عطف مفرد على مفرد ويقدر له خبر مماثل لخبر الليل ، والتقدير : والشمس آية لهم ، وتكون جملة (تَجْرِي) حالا من (الشَّمْسُ) مثل جملة (نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهارَ) [يس : ٣٧].

ويجوز أن يكون عطف جملة على جملة ويكون قوله : (تَجْرِي) خبرا عن (الشَّمْسُ). وأيّاما كان فهو تفصيل لإجمال جملة (وَآيَةٌ لَهُمُ اللَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهارَ) [يس : ٣٧] إلخ كما دل عليه قوله الآتي : (وَلَا اللَّيْلُ سابِقُ النَّهارِ) [يس : ٤٠] ، وكان مقتضى

٢٢٩

الظاهر من كونه تفصيلا أن لا يعطف فيقال : الشمس تجري لمستقر لها ، فخولف مقتضى الظاهر لأن في هذا التفصيل آية خاصة وهي آية سير الشمس والقمر.

وقدم التنبيه على آية الليل والنهار لما ذكرناه هنالك ؛ فكانت آية الشمس المذكورة هنا مرادا بها دليل آخر على عظيم صنع الله تعالى وهو نظام الفصول.

وجملة (تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَها) يحتمل الوجوه التي ذكرناها في جملة (أَحْيَيْناها) [يس: ٣٣] من كونها حالا أو بيانا لجملة (وَآيَةٌ لَهُمُ) [يس : ٣٧] أو بدل اشتمال من (وَآيَةٌ).

والجري حقيقته : السير السريع وهو لذوات الأرجل ، وأطلق مجازا على تنقل الجسم من مكان إلى مكان تنقلا سريعا بالنسبة لتنقل أمثال ذلك الجسم ، وغلب هذا الإطلاق فساوى الحقيقة وأريد به السير في مسافات متباعدة جدّ التباعد فتقطعها في مدة قصيرة بالنسبة لتباعد الأرض حول الشمس. وهذا استدلال بآثار ذلك السير المعروفة للناس معرفة إجمالية بما يحسبون من الوقت وامتداد الليل والنهار وهي المعرفة لأهل المعرفة بمراقبة أحوالها من خاصة الناس وهم الذين يرقبون منازل تنقلها المسماة بالبروج الاثني عشر ، والمعروفة لأهل العلم بالهيئة تفصيلا واستدلالا وكل هؤلاء مخاطبون بالاعتبار بما بلغه علمهم.

والمستقر : مكان الاستقرار ، أي القرار أو زمانه ، فالسين والتاء فيه للتأكيد مثل : استجاب بمعنى أجاب. واللام في (لِمُسْتَقَرٍّ) يجوز أن تكون لام التعليل على ظاهرها ، أي تجري لأجل أن تستقر ، أي لأجل أن ينتهي جريها كما ينتهي سير المسافر إذا بلغ إلى مكانه فاستقر فيه ، وهو متعلق ب (تَجْرِي) على أنه نهاية له لأن سير الشمس لما كانت نهايته انقطاعه نزّل الانقطاع عنه منزلة العلة كما يقال : «لدوا للموت وابنوا للخراب».

وتنزيل النهاية منزلة العلة مستعمل في الكلام ، ومنه قوله تعالى : (فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَناً) [القصص : ٨]. والمعنى : أنها تسير سيرا دائبا مشاهدا إلى أن تبلغ الاحتجاب عن الأنظار.

ويجوز أن تكون اللام بمعنى (إلى) ، أي تجري إلى مكان استقرارها وهو مكان الغروب ، شبه غروبها عن الأبصار بالمستقر والمأوى الذي يأوي إليه المرء في آخر النهار بعد الأعمال. وقد ورد تقريب ذلك في حديث أبي ذر الهروي في صحيحي «البخاري» و «مسلم» و «جامع الترمذي» بروايات مختلفة حاصل ترتيبها أنه قال : «كنت مع رسول الله

٢٣٠

في المسجد عند غروب الشمس فسألته (أو فقال) : إن هذه تجري حتى تنتهي إلى مستقرها تحت العرش فتخرّ ساجدة فلا تزال كذلك حتى يقال لها : ارتفعي ارجعي من حيث جئت فترجع فتصبح طالعة من مطلعها ثم تجري حتى تنتهي إلى مستقرها تحت العرش فتخر ساجدة ولا تزال كذلك حتى يقال لها : ارتفعي ارجعي من حيث جئت فترجع فتصبح طالعة من مطلعها ، ثم تجري لا يستنكر الناس منها شيئا حتى تنتهي إلى مستقرها ذاك تحت العرش فيقال لها : ارتفعي أصبحي طالعة من مغربك فتصبح طالعة من مغربها فذلك مستقرّ لها ومستقرها تحت العرش فذلك قوله تعالى : (وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَها).

وهذا تمثيل وتقريب لسير الشمس اليومي الذي يبتدئ بشروقها على بعض الكرة الأرضية وينتهي بغروبها على بعض الكرة الأرضية ، في خطوط دقيقة ، وبتكرر طلوعها وغروبها تتكون السنة الشمسية.

وقد جعل الموضع الذي ينتهي إليه سيرها هو المعبر عنه بتحت العرش وهو سمت معيّن لا قبل للناس بمعرفته ، وهو منتهى مسافة سيرها اليومي ، وعنده ينقطع سيرها في إبان انقطاعه وذلك حين تطلع من مغربها ، أي حين ينقطع سير الأرض حول شعاعها لأن حركة الأجرام التابعة لنظامها تنقطع تبعا لانقطاع حركتها هي وذلك نهاية بقاء هذا العالم الدنيوي.

واللام في قوله (لَها) لام الاختصاص وهو صفة (لِمُسْتَقَرٍّ). وعدل عن إضافة مستقر لضمير الشمس المغنية عن إظهار اللام إلى الإتيان باللام ليتأتى تنكير «مستقر» تنكيرا مشعرا بتعظيم ذلك المستقر.

وكلام النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم هذا تمثيل لحال الغروب والشروق اليوميين. وجعل سجود الشمس تمثيلا لتسخرها لتسخير الله إياها كما جعل القول تمثيلا له في آية (فَقالَ لَها وَلِلْأَرْضِ ائْتِيا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً قالَتا أَتَيْنا طائِعِينَ) [فصلت : ١١].

واعلم أن قوله : (لِمُسْتَقَرٍّ لَها) إدماج للتعليم في التذكير وليس من آية الشمس للناس لأن الناس لا يشعرون به فهو كقوله تعالى : (لِيُقْضى أَجَلٌ مُسَمًّى) [الأنعام : ٦٠] عقب الامتنان بقوله : (وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ وَيَعْلَمُ ما جَرَحْتُمْ بِالنَّهارِ ثُمَّ يَبْعَثُكُمْ فِيهِ لِيُقْضى أَجَلٌ مُسَمًّى ثُمَّ إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ) [الأنعام : ٦٠].

والإشارة ب (ذلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ) إلى المذكور : إما من قوله : (وَالشَّمْسُ

٢٣١

تَجْرِي) أي ذلك الجري ، وإما منه ومن قوله : (وَآيَةٌ لَهُمُ اللَّيْلُ) [يس : ٣٧] أي ذلك المذكور من تعاقب الليل والنهار.

وذكر صفتي (الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ) لمناسبة معناهما للتعلق بنظام سير الكواكب ، فالعزة تناسب تسخير هذا الكوكب العظيم ، والعلم يناسب النظام البديع الدقيق ، وتقدم تفصيله عند قوله تعالى : (تَبارَكَ الَّذِي جَعَلَ فِي السَّماءِ بُرُوجاً) في سورة الفرقان [٦١].

(وَالْقَمَرَ قَدَّرْناهُ مَنازِلَ حَتَّى عادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ (٣٩))

قرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو وروح عن يعقوب برفع (وَالْقَمَرَ) فهو إما معطوف على (وَالشَّمْسُ تَجْرِي) [يس : ٣٨] عطف المفردات ، وإما مبتدأ والعطف من عطف الجمل.

وجملة (قَدَّرْناهُ) إما حال وإما خبر. وقرأه ابن عامر وعاصم وحمزة والكسائي وأبو جعفر ورويس عن يعقوب وخلف بنصب (الْقَمَرَ) على الاشتغال فهو إذن من عطف الجمل.

وتقدّم تفسير منازل القمر عند قوله تعالى : (وَقَدَّرَهُ مَنازِلَ لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسابَ) في سورة يونس [٥].

والتقدير : يطلق على جعل الأشياء بقدر ونظام محكم ، ويطلق على تحديد المقدار من شيء تطلب معرفة مقداره مثل تقدير الأوقات وتقدير الكميات من الموزونات والمعدودات ، وكلا الإطلاقين مراد هنا. فإن الله قدّر للشمس والقمر نظام سيرهما وقدّر بذلك حساب الفصول السنوية والأشهر والأيام والليالي.

وعدّي فعل (قَدَّرْناهُ) إلى ضمير (الْقَمَرَ) الذي هو عبارة عن ذاته وإنما التقدير لسيره ولكن عدي التقدير إلى اسم ذاته دون ذكر المضاف مبالغة في لزوم السّير له من وقت خلقه حتى كأنّ تقدير سيره تقدير لذاته.

وانتصب (مَنازِلَ) على الظرفية المكانية مثل : سرت أميالا ، أي قدرنا سيره في منازل ينتقل بسيره فيها منزلة بعد أخرى.

و (حَتَّى) ابتدائية ، أي ليست حرف جر فإن ما بعدها جملة. ومعنى الغاية لا يفارق (حَتَّى) فآذن ما فيها من معنى الغاية بمغيّا محذوف فالغاية تستلزم ابتداء شيء. والتقدير :

٢٣٢

فابتدأ ضوؤه وأخذ في الازدياد ليلة قليلة ثم أخذ في التناقص حتى عاد ، أي صار كالعرجون القديم ، أي شبيها به. وعبر عنه بهذا التشبيه إذ ليس لضوء القمر في أواخر لياليه اسم يعرف به بخلاف أول أجزاء ضوئه المسمّى هلالا ، ولأن هذا التشبيه يماثل حالة استهلاله كما يماثل حالة انتهائه.

و (عادَ) بمعنى صار شكله للرائي كالعرجون. والعرجون : العود الذي تخرجه النخلة فيكون الثمر في منتهاه وهو الذي يبقى متصلا بالنخلة بعد قطع الكباسة منه وهي مجتمع أعواد التمر.

و (الْقَدِيمِ) : هو البالي لأنه إذا انقطع الثمر تقوس واصفار وتضاءل فأشبه صورة ما يواجه الأرض من ضوء القمر في آخر ليالي الشهر وفي أول ليلة منه ، وتركيب (عادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ) صالح لصورة القمر في الليلة الأخيرة وهي التي يعقبها المحاق ولصورته في الليلة الأولى من الشهر هو الهلال. وقد بسط لهم بيان سير القمر ومنازله لأنهم كانوا يتقنون علمه بخلاف سير الشمس.

(لا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَها أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلا اللَّيْلُ سابِقُ النَّهارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ (٤٠))

لما جرى ذكر الشمس والقمر في معرض الآيات الدالة على انفراده تعالى بالخلق والتدبير وعلى صفات إلهيته التي من متعلّقاتها تعلق صفة القدرة بآية الشمس وسيرها ، والقمر وسيره ، وقد سمّاها بعض المتكلمين صفات الأفعال وكان الناس يعرفون تقارب الشمس والقمر فيما يراه الراءون ، وكانوا يقدرون سيرهما بأسمات معلّمة بعلامات نجومية تسمى بروجا بالنسبة لسير الشمس ، وتسمى منازل بالنسبة لسير القمر ، وكانوا يعلمون شدة قرب المنازل القمرية من البروج الشمسية فإن كل برج تسامته منزلتان أو ثلاث منازل ، وبعض نجوم المنازل هي أجزاء من نجوم البروج ، زادهم الله عبرة وتعليما بأن للشمس سيرا لا يلاقي سير القمر ، وللقمر سيرا لا يلاقي سير الشمس ولا يمر أحدهما بطرائق مسير الآخر وأن ما يتراءى للناس من مشاهدة الشمس والقمر في جو واحد وفي حجمين متقاربين ، وما يتراءى لهم من تقارب نجوم بروج الشمس ونجوم منازل القمر ، إن هو إلّا من تخيلات الأبصار وتفاوت المقادير بين الأجرام والأبعاد.

فالكرة العظيمة كالشمس تبدو مقاربة لكرة القمر في المرأى وإنما ذلك من تباعد

٢٣٣

الأبعاد فأبعاد فلك الشمس تفوت أبعاد فلك القمر بمئات الملايين من الأميال ، حتى يلوح لنا حجم الشمس مقاربا لحجم القمر. فبين الله أنه نظم سير الشمس والقمر على نظام يستحيل معه اتصال إحدى الكرتين بالأخرى لشدة الأبعاد بين مداريهما.

فمعنى : (لَا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَها أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ) نفي انبغاء ذلك ، أي نفي تأتيه ، لأن انبغى مطاوع بغى الذي هو بمعنى طلب ، فانبغى يفيد أن الشيء طلب فحصل للذي طلبه ، يقال : بغاه فانبغى له ، فإثبات الانبغاء يفيد التمكن من الشيء فلا يقتضي وجوبا ، ونفي الانبغاء يفيد نفي إمكانه ولذلك يكنى به عن الشيء المحظور. يقال : لا ينبغي لك كذا ، ففرق ما بين قولك : ينبغي أن لا تفعل كذا ، وبين قولك : لا ينبغي لك أن تفعل كذا ، قال تعالى : (قالُوا سُبْحانَكَ ما كانَ يَنْبَغِي لَنا أَنْ نَتَّخِذَ مِنْ دُونِكَ مِنْ أَوْلِياءَ) [الفرقان : ١٨] وتقدم قوله تعالى : (وَما يَنْبَغِي لِلرَّحْمنِ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَداً) في سورة مريم [٩٢] ، ومنه قوله تعالى : (وَما عَلَّمْناهُ الشِّعْرَ وَما يَنْبَغِي لَهُ) [يس : ٦٩] في هذه السورة.

والإدراك : اللحاق والوصول إلى البغية فقوله : (أَنْ تُدْرِكَ) فاعل (يَنْبَغِي) فأفاد الكلام نفي انبغاء إدراك الشمس القمر. والمعنى : نفي أن تصطدم الشمس بالقمر ، خلافا لما يبدو من قرب منازلهما فإن ذلك من المسامتة لا من الاقتراب. وصوغ هذا بصيغة الإخبار عن المسند إليه بالمسند الفعلي لإفادة تقوّي حكم النفي فذلك أبلغ في الانتفاء مما لو قيل : لا ينبغي للشمس أن تدرك القمر.

وافتتاح الجملة بحرف النفي قبل ذكر الفعل المنفي ليكون النفي متقررا في ذهن السامع أقوى مما لو قيل : الشمس لا ينبغي لها أن تدرك القمر ، فكان في قوله : (لَا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَها أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ) خصوصيتان.

ولمّا ذكر الشمس والقمر وكانت الشمس مقارنة للنهار في مخيلات البشر ، وكان القمر مقارنا لليل ، وكان في نظام الليل والنهار منافع للناس اعترض بذكر نظام الشمس والقمر أثناء الاعتبار بنظام الليل والنهار.

ومعنى : (وَلَا اللَّيْلُ سابِقُ النَّهارِ) أن الليل ليس بمفلت للنهار ، فالسبق بمعنى التخلص والنجاة ، كقول مرة بن عدّاء الفقعسي :

كأنّك لم تسبق من الدهر مرّة

إذا أنت أدركت الذي كنت تطلب

وقوله تعالى : (أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئاتِ أَنْ يَسْبِقُونا) في سورة العنكبوت

٢٣٤

[٤] ، والمعنى : أن انسلاخ النهار على الليل أمر مسخّر لا قبل لليل أن يتخلف عنه.

ولا يستقيم تفسير السبق هنا بمعناه المشهور وهو الأوّلية بالسير لأن ذلك لا يتصور في تداول الليل والنهار ، ولا أن يكون المراد بالسبق ابتداء التكوين إذ لا يتعلق بذلك غرض مهم في الآية ، على أن الشأن أن تكون الظلمة أسبق في التكوين. والغرض التذكير بنعمة الليل ونعمة النهار فإن لكليهما فوائد للناس فلو تخلص أحدهما من الآخر فاستقرّ في الأفق لتعطلت منافع جمّة من حياة الناس والحيوان.

وفي الكلام اكتفاء ، أي لأن التقدير : ولا القمر يدرك الشمس ، ولا النهار سابق الليل.

وقوله : (وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ) عطف على جملة (لَا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَها أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ). والواو عاطفة ترجيحا لجانب الإخبار بهذه الحقيقة على جانب التذييل ، وإلّا فحقّ التذييل الفصل. وما أضيف إليه (كُلٌ) محذوف ، وتنوين (كُلٌ) تنوين عوض عن المضاف إليه المحذوف ، فالتقدير : وكلّ الكواكب.

وزيدت قرينة السياق تأكيدا بضمير الجمع في قوله : (يَسْبَحُونَ) مع أن المذكور من قبل شيئان لا أشياء ، وبهذا التعميم صارت الجملة في معنى التذييل.

والفلك : الدائرة المفروضة في الخلاء الجوّي لسير أحد الكواكب سيرا مطّردا لا يحيد عنه ، فإن أهل الأرصاد الأقدمين لما رصدوا تلك المدارات وجدوها لا تتغير ووجدوا نهايتها تتصل بمبتداها فتوهموها طرائق مستديرة تسير فيها الكواكب كما تتقلب الكرة على الأرض وربما توسعوا في التوهم فظنوها طرائق صلبة ترتكز عليها الكواكب في سيرها وبعض الأمم يتوهمون الشمس في سيرها مجرورة بسلاسل وكلاليب وكان ذلك في معتقد القبط بمصر.

وسمّى العرب تلك الطرائق أفلاكا واحدها فلك اشتقوا له اسما من اسم فلكة المغزل ، وهي عود في أعلاه خشبة مستديرة متبطحة مثل التفاحة الكبيرة تلفّ المرأة عليها خيوط غزلها التي تفتلها لتديرها بكفّيها فتلتف عليها خيوط الغزل ، فتوهموا الفلك جسما كرويا وتوهموا الكواكب موضوعة عليه تدور بدورته ولذلك قدروا الزمان بأنه حركة الفلك. وسمّوا ما بين مبدأ المدّتين حتى ينتهي إلى حيث ابتدأ دورة الفلك. ولكن القرآن جاراهم في الاسم اللغوي لأن ذلك مبلغ اللغة وأصلح لهم ما توهموا بقوله :

٢٣٥

(يَسْبَحُونَ) ، فبطل أن تكون أجرام الكواكب ملتصقة بأفلاكها ولزم من كونها سابحة أن طرائق سيرها دوائر وهمية لأن السبح هنا سبح في الهواء لا في الماء ، والهواء لا تخطط فيه الخطوط ولا الأخاديد.

وجيء بضمير (يَسْبَحُونَ) ضمير جمع مع أن المتقدم ذكره شيئان هما الشمس والقمر لأن المراد إفادة تعميم هذا الحكم للشمس والقمر وجميع الكواكب وهي حقيقة علمية سبق بها القرآن.

وجملة (كُلٌّ فِي فَلَكٍ) فيها محسن الطرد والعكس فإنها تقرأ من آخرها كما تقرأ من أولها.

[٤١ ، ٤٤] (وَآيَةٌ لَهُمْ أَنَّا حَمَلْنا ذُرِّيَّتَهُمْ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ (٤١) وَخَلَقْنا لَهُمْ مِنْ مِثْلِهِ ما يَرْكَبُونَ (٤٢) وَإِنْ نَشَأْ نُغْرِقْهُمْ فَلا صَرِيخَ لَهُمْ وَلا هُمْ يُنْقَذُونَ (٤٣) إِلاَّ رَحْمَةً مِنَّا وَمَتاعاً إِلى حِينٍ (٤٤))

انتقال من عدّ آيات في الأرض وفي السماء إلى عد آية في البحر تجمع بين العبرة والمنة وهي آية تسخير الفلك أن تسير على الماء وتسخير الماء لتطفو عليه دون أن يغرقها.

وقد ذكّر الله الناس بآية عظيمة اشتهرت حتى كانت كالمشاهدة عندهم وهي آية إلهام نوح صنع السفينة ليحمل الناس الذين آمنوا ويحمل من كل أنواع الحيوان زوجين لينجي الأنواع من الهلاك والاضمحلال بالغرق في حادث الطوفان. ولما كانت هذه الآية حاصلة لفائدة حمل أزواج من أنواع الحيوان جعلت الآية نفس الحمل إدماجا للمنة في ضمن العبرة فكأنه قيل : وآية لهم صنع الفلك لنحمل ذرياتهم فيه فحملناهم.

وأطلق الحمل على الإنجاء من الغرق على وجه المجاز المرسل لعلاقة السببية والمسببية ، أي أنجينا ذرياتهم من الغرق بحملهم في الفلك حين الطوفان.

والذريات : جمع ذرية وهي نسل الإنسان. و (الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ) : هو المعهود بين البشر في قصة الطوفان ، وهو هنا مفرد بقرينة وصفه بالمفرد وهو (الْمَشْحُونِ) ولم يقل : المشحونة كما قال : (وَتَرَى الْفُلْكَ فِيهِ مَواخِرَ) [فاطر : ١٢] وهو فلك نوح فقد اشتهر بهذا الوصف في القرآن كما في سورة الشعراء [١١٩](فَأَنْجَيْناهُ وَمَنْ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ) ولم يوصف غير فلك نوح بهذا الوصف.

٢٣٦

وتعدية (حَمَلْنا) إلى الذريات تعدية على المفعولية المجازية وهو مجاز عقلي فإن المجاز العقلي لا يختص بالإسناد بل يكون المجاز في التعليق فإن المحمول أصول الذريات لا الذريات وأصولها ملابسة لها.

ولما كانت ذريات المخاطبين مما أراد الله بقاءه في الأرض حين أمر نوحا بصنع الفلك لإنجاء الأنواع وأمره بحمل أزواج من الناس هم الذين تولد منهم البشر بعد الطوفان نزّل البشر كله منزلة محمولين في الفلك المشحون في زمن نوح ، وذكر الذريات يقتضي أن أصولهم محمولون بطريق الكناية إيجازا في الكلام ، وأن أنفسهم محمولون كذلك كأنه قيل : إنا حملنا أصولهم وحملناهم وحملنا ذرياتهم ، إذ لو لا نجاة الأصول ما جاءت الذريّات ، وكانت الحكمة في حمل الأصول بقاء الذريات فكانت النعمة شاملة للكل ، وهذا كالامتنان في قوله : (إِنَّا لَمَّا طَغَى الْماءُ حَمَلْناكُمْ فِي الْجارِيَةِ لِنَجْعَلَها لَكُمْ تَذْكِرَةً) [الحاقة : ١١ ، ١٢].

وضمير ذرياتهم عائد إلى ما عاد إليه ضمير (لَهُمْ) أي العباد المراد بهم المشركون من أهل مكة لكنهم لوحظوا هنا بعنوان كونهم من جملة البشر ، فالمعنى : آية لهم أنا حملنا ذريات البشر في سفينة نوح وذلك حين أمر الله نوحا بأن يحمل فيها أهله والذين آمنوا من قومه لبقاء ذريات البشر فكان ذلك حملا لذرياتهم ما تسلسلت كما تقدم آنفا.

هذا هو تأويل هذه الآية قال القرطبي : وهي من أشكل ما في السورة ، وقال ابن عطية : «قد خلط بعض الناس حتى قالوا : الذرية تطلق على الآباء وهذا لا يعرف من اللغة» وتقدم قوله : (وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ) ذرياتهم في سورة الأعراف [١٧٢].

وقرأ نافع وابن عامر ذرياتهم بلفظ الجمع. وقرأه الباقون بدون ألف بصيغة اسم الجمع ، والمعنى واحد. وقد فهم من دلالة قوله : (أَنَّا حَمَلْنا) ذرياتهم صريحا وكناية أن هذه الآية مستمرة لكل ناظر إذ يشهدون أسفارهم وأسفار أمثالهم في البحر وخاصة سكان الشطوط والسواحل مثل أهل جدة وأهل ينبع إذ يسافرون إلى بلاد اليمن وبلاد الحبشة فيفهم منه : أنا حملنا ونحمل وسنحمل أسلافهم وأنفسهم وذرياتهم. وقد وصف طرفة السفن في معلّقته.

وجملة (وَخَلَقْنا لَهُمْ مِنْ مِثْلِهِ ما يَرْكَبُونَ) معترضة في خلال آية البحر اقتضتها مراعاة النظير تذكيرا بنعمة خلق الإبل صالحة للأسفار فحكيت آية الإلهام بصنع الفلك من

٢٣٧

حيث الحكمة العظيمة في الإلهام وتسخير البحر لها وإيجادها في وقت الحاجة لحفظ النوع ، فلذلك لم يؤت في جانبها بفعل الخلق المختص بالإيجاد دون صنع الناس. وحكيت آية اتخاذ الرواحل بفعل (خَلَقْنا) ، ونظير هذه المقارنة قوله تعالى : (وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْفُلْكِ وَالْأَنْعامِ ما تَرْكَبُونَ) [الزخرف : ١٢] ، فما صدق (ما يَرْكَبُونَ) هنا هو الرواحل خاصة لأنها التي تشبه الفلك في جعلها قادرة على قطع الرمال كما جعل الفلك صالحا لمخر البحار ، وقد سمت العرب الرواحل سفائن البرّ و (مِنْ) التي في قوله : (مِنْ مِثْلِهِ) بيانية بتقديم البيان على المبين وهو جائز على الأصح ، أو مؤكدة ومجرورها أصله حال من (ما) الموصولة في قوله : (ما يَرْكَبُونَ). والمراد المماثلة في العظمة وقوة الحمل ومداومة السير وفي الشكل.

وجملة (وَإِنْ نَشَأْ نُغْرِقْهُمْ) عطف على جملة (أَنَّا حَمَلْنا) ذرياتهم باعتبار دلالتها الكنائية على استمرار هذه الآية وهذه المنة تذكيرا بأن الله تعالى الذي امتنّ عليهم إذا شاء جعل فيما هو نعمة على الناس نقمة لهم لحكمة يعلمها. وهذا جرى على عادة القرآن في تعقيب الترغيب بالترهيب وعكسه لئلا يبطر الناس بالنعمة ولا ييأسوا من الرحمة. وقرينة ذلك أنه جيء في هذه الجملة بالمضارع المتمحّض في سياق الشرط لكونه مستقبلا ، وهذا كقوله تعالى : (أَفَأَمِنْتُمْ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمْ جانِبَ الْبَرِّ أَوْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حاصِباً ثُمَّ لا تَجِدُوا لَكُمْ وَكِيلاً أَمْ أَمِنْتُمْ أَنْ يُعِيدَكُمْ فِيهِ تارَةً أُخْرى فَيُرْسِلَ عَلَيْكُمْ قاصِفاً مِنَ الرِّيحِ فَيُغْرِقَكُمْ بِما كَفَرْتُمْ ثُمَّ لا تَجِدُوا لَكُمْ عَلَيْنا بِهِ تَبِيعاً) [الإسراء : ٦٨ ـ ٦٩].

والصريخ : الصارخ وهو المستغيث المستنجد تقول العرب : جاءهم الصريخ ، أي المنكوب المستنجد لينقذوه ، وهو فعيل بمعنى فاعل. ويطلق الصريخ على المغيث فعيل بمعنى مفعول ، وذلك أن المنجد إذا صرخ به المستنجد صرخ هو مجيبا بما يطمئن له من النصر. وقد جمع المعنيين قول سلامة بن جندل أنشده المبرد في «الكامل» :

إنا إذا أتانا صارخ فزع

كان الصراخ له قرع الظنابيب

والظنابيب : جمع ظنبوب وهو مسمار يكون في جبة السنان. وقرع الظنابيب تفقد الأسنة استعدادا للخروج.

والمعنى : لا يجدون من يستصرخون به وهم في لجج البحر ولا ينقذهم أحد من الغرق.

٢٣٨

والإنقاذ : الانتشال من الماء.

وتقديم المسند إليه على المسند الفعلي في قوله : (وَلا هُمْ يُنْقَذُونَ) لإفادة تقوّي الحكم وهو نفي إنقاذ أحد إياهم.

والاستثناء في قوله : (إِلَّا رَحْمَةً) منقطع فإن الرحمة ليست من الصريخ ولا من المنقذ وإنما هي إسعاف الله تعالى إياهم بسكون البحر وتمكينهم من السبح على أعواد الفلك.

و (وَمَتاعاً) عطف على (رَحْمَةً) ، أي إلّا رحمة هي تمتيع إلى أجل معلوم فإن كل حي صائر إلى الموت فإذا نجا من موته استقبلته موتة أخرى ولكن الله أودع في فطرة الإنسان حبّ زيادة الحياة مع علمه بأنه لا محيد له عن الموت.

[٤٥ ، ٤٦] (وَإِذا قِيلَ لَهُمُ اتَّقُوا ما بَيْنَ أَيْدِيكُمْ وَما خَلْفَكُمْ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (٤٥) وَما تَأْتِيهِمْ مِنْ آيَةٍ مِنْ آياتِ رَبِّهِمْ إِلاَّ كانُوا عَنْها مُعْرِضِينَ (٤٦))

تخلص الكلام من عدم انتفاعهم بالآيات الدالة على وحدانية الله إلى عدم انتفاعهم بالأقوال المبلّغة إليهم في القرآن من الموعظة ، والتذكير بما حلّ بالأمم المكذبة أن يصيبهم مثل ما أصابهم ، وبعدم انتفاعهم بتذكير القرآن إياهم بالأدلة على وحدانية الله ، وعلى البعث.

وبناء فعل (قِيلَ) للمجهول لظهور أن القائل هو الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم في تبليغه عن الله تعالى ، أي قيل لهم في القرآن.

وما بين الأيدي يراد منه المستقبل ، وما هو خلف يراد منه الماضي ، قال تعالى حكاية عن عيسى عليه‌السلام : (مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْراةِ) [آل عمران : ٥٠] ، أي ما تقدمني. وذلك أن أصل هذين التركيبين تمثيلان فتارة ينظرون إلى تمثيل المضاف إليه بسائر إلى مكان فالذي بين يديه هو ما سيرد هو عليه ، والذي من ورائه هو ما خلّفه خلفه في سيره ، وتارة ينظرون إلى تمثيل المضاف بسائر ، فهو إذا كان بين يدي المضاف إليه فقد سبقه في السير فهو سابق له وإذا كان خلف المضاف إليه فقد تأخر عنه فهو وارد بعده.

وقد فسرت هذه الآية بالوجهين فقيل : ما بين أيديكم من أمر الآخرة وما خلفكم من أحوال الأمم في الدنيا ، وهو عن مجاهد وابن جبير عن ابن عباس. وقيل : ما بين أيديكم

٢٣٩

أحوال الأمم في الدنيا وما خلفكم من أحوال الآخرة وهو عن قتادة وسفيان. ومتى حمل أحد الموصولين على ما سبق من أحوال الأمم وجب تقدير مضافين قبل (ما) الموصولة هما المفعول ، أي اتقوا مثل أحوال ما بين أيديكم ، أو مثل أحوال ما خلفكم ، ولا يقدر مضافان في مقابله لأن ما صدق (ما) الموصولة فيه حينئذ هو عذاب الآخرة فهو مفعول (اتَّقُوا). وتقدم قوله تعالى : (فَجَعَلْناها نَكالاً لِما بَيْنَ يَدَيْها وَما خَلْفَها) في سورة البقرة [٦٦].

و (لعلّ) للرجاء ، أي ترجى لكم رحمة الله ، لأنهم إذا اتقوا حذروا ما يوقع في المتقى فارتكبوا واجتنبوا وبادروا بالتوبة فيما فرط فرضي ربهم عنهم فرحمهم بالثواب وجنّبهم العقاب. والكلام في (لعل) الواردة في كلام الله تعالى تقدم عند قوله تعالى : (يا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) في سورة البقرة [٢١].

وجواب (إِذا) محذوف دل عليه قوله في الجملة المعطوفة (إِلَّا كانُوا عَنْها مُعْرِضِينَ). فالتقدير هنا : كانوا معرضين.

وجملة (ما تَأْتِيهِمْ مِنْ آيَةٍ مِنْ آياتِ رَبِّهِمْ إِلَّا كانُوا عَنْها مُعْرِضِينَ) واقعة موقع التذييل لما قبلها ، ففيها تعميم أحوالهم وأحوال ما يبلّغونه من القرآن ؛ فكأنه قيل : وإذا قيل لهم اتقوا أعرضوا ، والإعراض دأبهم في كل ما يقال لهم.

والآيات : آيات القرآن التي تنزل فيقرؤها النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم عليهم ، فأطلق على بلوغها إليهم فعل الإتيان ووصفها بأنها من آيات ربهم للتنويه بالآيات والتشنيع عليهم بالإعراض عن كلام ربهم كفرا بنعمة خلقه إياهم.

و (ما) نافية ، والاستثناء من أحوال محذوفة ، أي ما تأتيهم آية في حال من أحوالهم إلا كانوا عنها معرضين. وجملة (كانُوا عَنْها مُعْرِضِينَ) في موضع الحال.

(وَإِذا قِيلَ لَهُمْ أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللهُ قالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنُطْعِمُ مَنْ لَوْ يَشاءُ اللهُ أَطْعَمَهُ إِنْ أَنْتُمْ إِلاَّ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (٤٧))

كانوا مع ما هم عليه من الكرم يشحّون على فقراء المسلمين فيمنعونهم البذل تشفّيا منهم فإذا سمعوا من القرآن ما فيه الأمر بالإنفاق أو سألهم فقراء المسلمين من فضول أموالهم أو أن يعطوهم ما كانوا يجعلونه لله من أموالهم الذي حكاه الله عنهم بقوله :

٢٤٠