تفسير التّحرير والتّنوير - ج ٢٢

الشيخ محمّد الطاهر ابن عاشور

تفسير التّحرير والتّنوير - ج ٢٢

المؤلف:

الشيخ محمّد الطاهر ابن عاشور


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة التاريخ العربي للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٢٨٨

الْأُمَمِ فَلَمَّا جاءَهُمْ نَذِيرٌ ما زادَهُمْ إِلاَّ نُفُوراً (٤٢) اسْتِكْباراً فِي الْأَرْضِ وَمَكْرَ السَّيِّئِ وَلا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلاَّ بِأَهْلِهِ فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلاَّ سُنَّتَ الْأَوَّلِينَ فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللهِ تَبْدِيلاً وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللهِ تَحْوِيلاً (٤٣))

(وَأَقْسَمُوا بِاللهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ لَئِنْ جاءَهُمْ نَذِيرٌ لَيَكُونُنَّ أَهْدى مِنْ إِحْدَى الْأُمَمِ فَلَمَّا جاءَهُمْ نَذِيرٌ ما زادَهُمْ إِلَّا نُفُوراً [٤٢] اسْتِكْباراً فِي الْأَرْضِ وَمَكْرَ السَّيِّئِ وَلا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ).

هذا شيء حكاه القرآن عن المشركين فهو حكاية قول صدر عنهم لا محالة ، ولم يرو خبر عن السلف يعين صدور مقالتهم هذه ، ولا قائلها سوى كلام أثر عن الضحاك هو أشبه بتفسير الضمير من (أَقْسَمُوا) ، وتفسير المراد (مِنْ إِحْدَى الْأُمَمِ) ولم يقل إنه سبب نزول.

وقال كثير من المفسرين : إن هذه المقالة صدرت عنهم قبل بعثة النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم لمّا بلغهم أن اليهود والنصارى كذّبوا الرسل. والذي يلوح لي : أن هذه المقالة صدرت عنهم في مجاري المحاورة أو المفاخرة بينهم وبين بعض أهل الكتاب ممن يقدم عليهم بمكة ، أو يقدمون هم عليهم في أسفارهم إلى يثرب أو إلى بلاد الشام ، فربما كان أهل تلك البلدان يدعون المشركين إلى اتباع اليهودية أو النصرانية ويصغرون الشرك في نفوسهم ، فكان المشركون لا يجرءون على تكذيبهم لأنهم كانوا مرموقين عندهم بعين الوقار إذ كانوا يفضلونهم بمعرفة الديانة وبأنهم ليسوا أميين وهم يأبون أن يتركوا دين الشرك فكانوا يعتذرون بأن رسول القوم الذين يدعونهم إلى دينهم لم يكن مرسلا إلى العرب ولو جاءنا رسول لكنا أهدى منكم ، كما قال تعالى : (أَوْ تَقُولُوا لَوْ أَنَّا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْكِتابُ لَكُنَّا أَهْدى مِنْهُمْ) [الأنعام : ١٥٧]. والأظهر أن يكون الداعون لهم هم النصارى لأن الدعاء إلى النصرانية من شعار أصحاب عيسى عليه‌السلام فإنهم يقولون : إن عيسى أوصاهم أن يرشدوا بني الإنسان إلى الحق وكانت الدعوة إلى النصرانية فأشبه في بلاد العرب أيام الجاهلية وتنصرت قبائل كثيرة مثل تغلب ، ولخم ، وكلب ، ونجران ، فكانت هذه الدعوة إن صح إيصاء عيسى عليه‌السلام بها دعوة إرشاد إلى التوحيد لا دعوة تشريع ، فإذا ثبتت هذه الوصية فما أراها إلّا توطئة لدين يجيء تعمّ دعوته سائر البشر ، فكانت وصيته وسطا بين أحوال الرسل الماضين إذ كانت دعوتهم خاصة وبين حالة الرسالة المحمدية العامة لكافة الناس عزما.

١٨١

أما اليهود فلم يكونوا يدعون الناس إلى اليهودية ولكنهم يقبلون من يتهود كما تهود عرب اليمن.

وأحسب أن الدعوة إلى نبذ عبادة الأصنام ، أو تشهير أنها لا تستحق العبادة ، لا يخلو عنها علماء موحّدون ، وبهذا الاعتبار يصح أن يكون بعض النصاح من أحبار يهود يثرب يعرض لقريش إذا مروا على يثرب بأنهم على ضلال من الشرك فيعتذرون بما في هذه الآية. وهي تساوق قوله تعالى : (وَهذا كِتابٌ أَنْزَلْناهُ مُبارَكٌ فَاتَّبِعُوهُ وَاتَّقُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ أَنْ تَقُولُوا إِنَّما أُنْزِلَ الْكِتابُ عَلى طائِفَتَيْنِ مِنْ قَبْلِنا وَإِنْ كُنَّا عَنْ دِراسَتِهِمْ لَغافِلِينَ أَوْ تَقُولُوا لَوْ أَنَّا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْكِتابُ لَكُنَّا أَهْدى مِنْهُمْ فَقَدْ جاءَكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَهُدىً وَرَحْمَةٌ) [الأنعام : ١٥٥ ـ ١٥٧].

فيتضح بهذا أن هذه الآية معطوفة على ما قبلها من أخبار ضلال المشركين في شأن الربوبية وفي شأن الرسالة والتديّن ، وأن ما حكي فيها هو من ضلالاتهم ومجازفتهم.

والقسم بين أهل الجاهلية أكثره بالله ، وقد يقسمون بالأصنام وبآبائهم وعمرهم.

والغالب في ذلك أن يقولوا : باللات والعزى ، ولذلك جاء في الحديث : «من حلف باللات والعزى فليقل لا إله إلّا الله» ، أي من جرى على لسانه ذلك جري الكلام الغالب وذلك في صدر انتشار الإسلام.

وجهد اليمين : أبلغها وأقواها. وأصله من الجهد وهو التعب ، يقال : بلغ كذا منّي الجهد ، أي عملته حتى بلغ عمله مني تعبي ، كناية عن شدة عزمه في العمل. فجهد الأيمان هنا كناية عن تأكيدها ، وتقدم نظيره في قوله تعالى : (أَهؤُلاءِ الَّذِينَ أَقْسَمُوا بِاللهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ) في سورة العقود [٥٣] ، وتقدم في سورة الأنعام وسورة النحل وسورة النور.

وانتصب (جَهْدَ) على النيابة عن المفعول المطلق المبين للنوع لأنه صفة لما كان حقه أن يكون مفعولا مطلقا وهو (أَيْمانِهِمْ) إذ هو جمع يمين وهو الحلف فهو مرادف ل (أَقْسَمُوا) ، فتقديره : وأقسموا بالله قسما جهدا ، وهو صفة بالمصدر أضيفت إلى موصوفها.

وجملة (لَئِنْ جاءَهُمْ نَذِيرٌ) إلخ بيان لجملة (أَقْسَمُوا) كقوله تعالى : (فَوَسْوَسَ إِلَيْهِ الشَّيْطانُ قالَ يا آدَمُ) الآية [طه : ١٢٠].

١٨٢

وعبر عن الرسول بالنذير لأن مجادلة أهل الكتاب إياهم كانت مشتملة على تخويف وإنذار ، ولذلك لم يقتصر على وصف النذير في قوله تعالى : (أَنْ تَقُولُوا ما جاءَنا مِنْ بَشِيرٍ وَلا نَذِيرٍ فَقَدْ جاءَكُمْ بَشِيرٌ وَنَذِيرٌ) [المائدة : ١٩]. وهذا يرجح أن تكون المجادلة جرت بينهم وبين بعض النصارى لأن الإنجيل معظمه نذارة.

و (إِحْدَى الْأُمَمِ) أمة من الأمم ذات الدين ؛ فإن عنوا بها أمة معروفة : إمّا الأمة النصرانية ، وإما الأمة اليهودية ، أو الصابئة كان التعبير عنها ب (إِحْدَى الْأُمَمِ) إبهاما لها يحتمل أن يكون إبهاما من كلام المقسمين تجنبا لمجابهة تلك الأمة بصريح التفضيل عليها ، ويحتمل أن يكون إبهاما من كلام القرآن على عادة القرآن في الترفع عما لا فائدة في تعيينه إذ المقصود أنهم أشهدوا الله على أنهم إن جاءهم رسول يكونوا أسبق من غيرهم اهتداء فإذا هم لم يشموا رائحة الاهتداء. ويحتمل أن يكون فريق من المشركين نظّروا في قسمهم بهدي اليهود ، وفريق نظّروا بهدي النصارى ، وفريق بهدي الصابئة ، فجمعت عبارة القرآن ذلك بقوله : (مِنْ إِحْدَى الْأُمَمِ) ليأتي على مقالة كل فريق مع الإيجاز.

وذكر في «الكشاف» وجها آخر أن يكون (إِحْدَى الْأُمَمِ) بمعنى أفضل الأمم ، فيكون من تعبير المقسمين ، أي أهدى من أفضل الأمم ، ولكنه بناه على التنظير بما ليس له نظير ، وهو قولهم : إحدى الإحد (بكسر الهمزة وفتح الحاء في الإحد) ولا يتم التنظير لأن قولهم : إحدى الإحد ، جرى مجرى المثل في استعظام الأمر في الشرّ أو الخير. وقرينة إرادة الاستعظام إضافة «إحدى» إلى اسم من لفظها فلا يقتضي أنه معنى يراد في حالة تجرد (إِحْدَى) عن الإضافة.

وبين : (أَهْدى) و (إِحْدَى) الجناس المحرّف.

وهذه الآية وغيرها وما يؤثر من تنصّر بعض العرب ومن اتساع بعضهم في التحنف يدل على أنهم كانوا يعلمون رسالة الرسل ، وأما ما حكي عنهم في قوله تعالى : (وَما قَدَرُوا اللهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِذْ قالُوا ما أَنْزَلَ اللهُ عَلى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ) [الأنعام : ٩١] ، فذلك صدر منهم في الملاجّة والمحاجّة لما لزمتهم الحجة بأن الرسل من قبل محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم كانوا من البشر وكانت أحوالهم أحوال البشر مثل قوله تعالى : (وَما أَرْسَلْنا قَبْلَكَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطَّعامَ وَيَمْشُونَ فِي الْأَسْواقِ) [الفرقان : ٢٠] فلجأوا إلى إنكار أن يوحي الله إلى بشر شيئا.

وأما ما حكي عنهم هنا فهو شأنهم قبل بعثة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

١٨٣

والنذير : المنذر بكلامه. فالمعنى : فلما جاءهم رسول وهو محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ولم يكن جاءهم رسول قبله كما قال تعالى : (لِتُنْذِرَ قَوْماً ما أَتاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ)[القصص : ٤٦] وهذا غير القسم المحكي في قوله تعالى : «وأقسموا بالله جهد أيمانهم لئن جاءتهم آية ليؤمنن بها».

والزيادة : أصلها نماء وتوفر في ذوات. وقد يراد بها القوة في الصفات على وجه الاستعارة كقوله تعالى : (فَزادَتْهُمْ رِجْساً إِلَى رِجْسِهِمْ) [التوبة : ١٢٥]. ومن ثمة تطلق الزيادة أيضا على طروّ حال على حال ، أو تغيير حال إلى غيره كقوله تعالى : (فَلَنْ نَزِيدَكُمْ إِلَّا عَذاباً) [النبأ : ٣٠].

وتطلق على ما يطرأ من الخير على الإنسان وإن لم يكن نوعه عنده من قبل كقوله تعالى : (لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنى وَزِيادَةٌ) [يونس : ٢٦] ، أي وعطاء يزيد في خيرهم.

ولما كان مجيء الرسول يقتضي تغير أحوال المرسل إليهم إلى ما هو أحسن كان الظنّ بهم لمّا أقسموا قسمهم ذلك أنهم إذا جاءهم النذير اهتدوا وازدادوا من الخير أن كانوا على شأن من الخير فإن البشر لا يخلو من جانب من الخير قوي أو ضعيف فإذا بهم صاروا نافرين من الدين الذي جاءهم.

والاستثناء مفرع من مفعول (زادَهُمْ) المحذوف ، أي ما أفادهم صلاحا وحالا أو نحو ذلك إلّا نفورا فيكون الاستثناء في قوله : (إِلَّا نُفُوراً) من تأكيد الشيء بما يشبه ضده لأنهم لم يكونوا نافرين من قبل.

ويحتمل أن يكون المراد أنهم لما أقسموا : (لَئِنْ جاءَهُمْ نَذِيرٌ لَيَكُونُنَّ أَهْدى) كان حالهم حال النفور من قبول دعوة النصارى إياهم إلى دينهم أو من الاتعاظ بمواعظ اليهود في تقبيح الشرك فأقسموا ذلك القسم تفصيا من المجادلة ، وباعثهم عليه النفور من مفارقة الشرك ، فلما جاءهم الرسول ما زادهم شيئا وإنما زادهم نفورا ، فالزيادة بمعنى التغيير والاستثناء تأكيد للشيء بما يشبه ضده. والنفور هم نفورهم السابق ، فالمعنى لم يزدهم شيئا وحالهم هي هي.

وضمير (زادَهُمْ) عائد إلى رسول أو إلى المجيء المأخوذ من (جاءَهُمْ). وإسناد الزيادة إليه على كلا الاعتبارين مجاز عقلي لأن الرسول أو مجيئه ليس هو يزيدهم ولكنه سبب تقوية نفورهم أو استمرار نفورهم.

و (اسْتِكْباراً) بدل اشتمال من (نُفُوراً) أو مفعول لأجله ، لأن النفور في معنى

١٨٤

الفعل فصحّ إعماله في المفعول له. والتقدير : نفروا لأجل الاستكبار في الأرض.

والاستكبار : شدة التكبر ، فالسين والتاء فيه للمبالغة مثل استجاب.

والأرض : موطن القوم كما في قوله تعالى : (لَنُخْرِجَنَّكَ يا شُعَيْبُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَكَ مِنْ قَرْيَتِنا) [الأعراف : ٨٨] أي بلدنا ، فالتعريف في (الْأَرْضِ) للعهد. والمعنى : أنهم استكبروا في قومهم أن يتبعوا واحدا منهم.

(وَمَكْرَ السَّيِّئِ) عطف على (اسْتِكْباراً) بالوجوه الثلاثة ، وإضافة (مَكْرَ) إلى (السَّيِّئِ) من إضافة الموصوف إلى الصفة مثل : عشاء الآخرة. وأصله : أن يمكروا المكر السيّئ بقرينة قوله : (وَلا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ).

والمكر : إخفاء الأذى وهو سيّئ لأنه من الغدر وهو مناف للخلق الكريم ، فوصفه بالسيّئ وصف كاشف ، ولعل التنبيه إلى أنه وصف كاشف هو مقتضى إضافة الموصوف إلى الوصف لإظهار ملازمة الوصف للموصوف فلم يقل : ومكرا سيئا (ولم يرخص في المكر إلّا في الحرب لأنها مدخول فيها على مثله) أي مكرا بالنذير وأتباعه وهو مكر ذميم لأنه مقابلة المتسبب في صلاحهم بإضمار ضره.

وقد تبين كذبهم في قسمهم إذ قالوا : «لئن جاءنا نذير لنكونن أهدى منهم» وأنهم ما أرادوا به إلّا التفصّي من اللوم.

وجملة (وَلا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ) تذييل أو موعظة. و (يَحِيقُ) : ينزل به شيء مكروه حاق به ، أي نزل وأحاط إحاطة سوء ، أي لا يقع أثره إلّا على أهله. وفيه حذف مضاف تقديره : ضر المكر السيّئ أو سوء المكر السيّئ كما دل عليه فعل (يَحِيقُ) ؛ فإن كان التعريف في (الْمَكْرُ) للجنس كان المراد ب «أهله» كل ماكر. وهذا هو الأنسب بموقع الجملة ومحملها على التذييل ليعم كل مكر وكل ماكر ، فيدخل فيه الماكرون بالمسلمين من المشركين ، فيكون القصر الذي في الجملة قصرا ادعائيا مبنيّا على عدم الاعتداد بالضر القليل الذي يحيق بالممكور به بالنسبة لما أعده الله للماكر في قدره من ملاقاة جزائه على مكره فيكون ذلك من النواميس التي قدّرها القدر لنظام هذا العالم لأن أمثال هذه المعاملات الضارة تؤول إلى ارتفاع ثقة الناس بعضهم ببعض والله بنى نظام هذا العالم على تعاون الناس بعضهم مع بعض لأن الإنسان مدني بالطبع ، فإذا لم يأمن أفراد الإنسان بعضهم بعضا تنكّر بعضهم لبعض وتبادروا الإضرار والإهلاك ليفوز كل واحد

١٨٥

بكيد الآخر قبل أن يقع فيه فيفضي ذلك إلى فساد كبير في العالم والله لا يحب الفساد ، ولا ضر عبيده إلّا حيث تأذن شرائعه بشيء ، ولهذا قيل في المثل : «وما ظالم إلّا سيبلى بظالم». وقال الشاعر :

لكل شيء آفة من جنسه

حتى الحديد سطا عليه المبرد

وكم في هذا العالم من نواميس مغفول عنها ، وقد قال الله تعالى : (وَاللهُ لا يُحِبُّ الْفَسادَ) [البقرة : ٢٠٥]. وفي كتاب ابن المبارك في الزهد بسنده عن الزهري بلغنا أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «لا تمكر ولا تعن ماكرا فإن الله يقول (وَلا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ) ، ومن كلام العرب «من حفر لأخيه جبا وقع فيه منكبا» ، ومن كلام عامة أهل تونس (يا حافر حفرة السّوء ما تحفر إلّا قياسك».

وإذا كان تعريف (الْمَكْرُ) تعريف العهد كان المعنى : ولا يحيق هذا المكر إلّا بأهله ، أي الذين جاءهم النذير فازدادوا نفورا ، فيكون موقع قوله : (وَلا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ) موقع الوعيد بأن الله يدفع عن رسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم مكرهم ويحيق ضر مكرهم بهم بأن يسلط عليهم رسوله على غفلة منهم كما كان يوم بدر ويوم الفتح ، فيكون على نحو قوله تعالى : (وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللهُ وَاللهُ خَيْرُ الْماكِرِينَ) [آل عمران : ٥٤] فالقصر حقيقي.

فكم انهالت من خلال هذه الآية من آداب عمرانية ومعجزات قرآنية ومعجزات نبوية خفية.

واعلم أن قوله تعالى : (وَلا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ) قد جعل في علم المعاني مثالا للكلام الجاري على أسلوب المساواة دون إيجاز ولا إطناب. وأول من رأيته مثّل بهذه الآية للمساواة هو الخطيب القزويني في «الإيضاح» وفي «تلخيص المفتاح» ، وهو مما زاده على ما في «المفتاح» ولم يمثل صاحب «المفتاح» للمساواة بشيء ولم أدر من أين أخذه القزويني فإن الشيخ عبد القاهر لم يذكر الإيجاز والإطناب في كتابه.

وإذ قد صرح صاحب «المفتاح» «أن المساواة هي متعارف الأوساط وأنه لا يحمد في باب البلاغة ولا يذم» فقد وجب القطع بأن المساواة لا تقع في الكلام البليغ بله المعجز. ومن العجيب إقرار العلامة التفتازانيّ كلام صاحب «تلخيص المفتاح» وكيف يكون هذا من المساواة وفيه جملة ذات قصر والقصر من الإيجاز لأنه قائم مقام جملتين : جملة إثبات للمقصود ، وجملة نفيه عما سواه ، فالمساواة أن يقال : يحيق المكر السيّئ

١٨٦

بالماكرين دون غيرهم ، فما عدل عن ذلك إلى صيغة القصر فقد سلك طريقة الإيجاز.

وفيه أيضا حذف مضاف إذ التقدير : ولا يحيق ضر المكر السيّئ إلّا بأهله على أن في قوله : (بِأَهْلِهِ) إيجازا لأنه عوض عن أن يقال : بالذين تقلدوه. والوجه أن المساواة لم تقع في القرآن وإنما مواقعها في محادثات الناس التي لا يعبأ فيها بمراعاة آداب اللغة.

وقرأ حمزة وحده (وَمَكْرَ السَّيِّئِ) بسكون الهمزة في حالة الوصل إجراء للوصل مجرى الوقف.

(فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا سُنَّتَ الْأَوَّلِينَ فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللهِ تَبْدِيلاً وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللهِ تَحْوِيلاً).

تفريع على جملة (فَلَمَّا جاءَهُمْ نَذِيرٌ ما زادَهُمْ إِلَّا نُفُوراً) الآية.

ويجوز أن يكون تفريعا على جملة (وَلا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ) على الوجه الثاني في تعريف (الْمَكْرُ) وفي المراد ب (بِأَهْلِهِ) ، أي كما مكر الذين من قبلهم فحاق بهم مكرهم كذلك هؤلاء.

و (يَنْظُرُونَ) هنا من النظر بمعنى الانتظار. كقول ذي الرّمة :

وشعث ينظرون إلى بلال

كما نظر العطاش حيا الغمام

فقوله : «إلى» مفرد مضاف ، وهو النعمة وجمعه آلاء.

ومعنى الانتظار هنا : أنهم يستقبلون ما حلّ بالمكذبين قبلهم ، فشبه لزوم حلول العذاب بهم بالشيء المعلوم لهم المنتظر منهم على وجه الاستعارة.

والسّنّة : العادة : والأوّلون : هم السابقون من الأمم الذين كذبوا رسلهم ، بقرينة سياق الكلام. و (سُنَّتَ) مفعول (يَنْظُرُونَ) وهو على حذف مضاف. تقديره : مثل أو قياس ، وهذا كقوله تعالى : (فَهَلْ يَنْتَظِرُونَ إِلَّا مِثْلَ أَيَّامِ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِهِمْ) [يونس : ١٠٢].

والفاء في قوله : (فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللهِ تَبْدِيلاً) فاء فصيحة لأن ما قبلها لمّا ذكّر الناس بسنة الله في المكذبين أفصح عن اطّراد سنن الله تعالى في خلقه. والتقدير : إذا علموا ذلك فلن تجد لسنة الله تبديلا.

و (لَنْ) لتأكيد النفي.

١٨٧

والخطاب في (تَجِدُ) لغير معيّن فيعم كل مخاطب ، وبذلك يتسنّى أن يسير هذا الخبر مسير الأمثال. وفي هذا تسلية للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وتهديد للمشركين.

والتبديل : تغيير شيء وتقدم عند قوله تعالى : (وَلا تَتَبَدَّلُوا الْخَبِيثَ بِالطَّيِّبِ) في سورة النساء [٢].

والتحويل : نقل الشيء من مكان إلى غيره ، وكأنه مشتق من الحول وهو الجانب.

والمعنى : أنه لا تقع الكرامة في موقع العقاب ، ولا يترك عقاب الجاني. وفي هذا المعنى قول الحكماء : ما بالطبع لا يتخلف ولا يختلف.

(أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَكانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَما كانَ اللهُ لِيُعْجِزَهُ مِنْ شَيْءٍ فِي السَّماواتِ وَلا فِي الْأَرْضِ إِنَّهُ كانَ عَلِيماً قَدِيراً (٤٤))

(أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَكانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً).

عطف على جملة (فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا سُنَّتَ الْأَوَّلِينَ) [فاطر : ٤٣] استدلالا على أن مساواتهم للأولين تنذر بأن سيحل بهم ما حلّ بأولئك من نوع ما يشاهدونه من آثار استئصالهم في ديارهم.

وجملة (وَكانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً) في موضع الحال ، أي كان عاقبتهم الاضمحلال مع أنهم أشد قوة من هؤلاء فيكون استئصال هؤلاء أقرب.

وجيء بهذه الحال في هذه الآية لما يفيده موقع الحال من استحضار صورة تلك القوة إيثارا للإيجاز لاقتراب ختم السورة. ولذلك لم يؤت في نظائرها بجملة الحال ولكن أتى فيها بجملة وصف في قوله في سورة غافر [٢١] : (الَّذِينَ كانُوا مِنْ قَبْلِهِمْ كانُوا هُمْ أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَآثاراً فِي الْأَرْضِ) ، وفي سورة الروم [٩](الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَأَثارُوا الْأَرْضَ) حيث أوثر فيهما الإطناب بتعداد بعض مظاهر تلك القوة.

(وَما كانَ اللهُ لِيُعْجِزَهُ مِنْ شَيْءٍ فِي السَّماواتِ وَلا فِي الْأَرْضِ إِنَّهُ كانَ عَلِيماً قَدِيراً).

لما عرض وصف الأمم السابقة بأنهم أشد قوة من قريش في معرض التمثيل بالأولين تهديدا واستعدادا لتلقّي مثل عذابهم أتبع ذلك بالاحتراس عن الطماعية في النجاة من مثل عذابهم بعلة أن لهم من المنجيات ما لم يكن للأمم الخالية كزعمهم : أن لهم آلهة تمنعهم

١٨٨

من عذاب الله بشفاعتها أو دفاعها فقيل : (وَما كانَ اللهُ لِيُعْجِزَهُ مِنْ شَيْءٍ فِي السَّماواتِ وَلا فِي الْأَرْضِ) ، أي هبكم أقوى من الأولين أو أشدّ حيلة منهم أو لكم من الأنصار ما ليس لهم ، فما أنتم بمفلتين من عذاب الله لأن الله لا يعجزه شيء في الأرض ولا في السماء كقوله : (وَما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي السَّماءِ وَما لَكُمْ مِنْ دُونِ اللهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ) [العنكبوت : ٢٢].

وجيء بلام الجحود مع (كانَ) المنفية لإفادة تأكيد نفي كل شيء يحول دون قدرة الله وإرادته ، فهذه الجملة كالاحتراس.

ومعنى «يعجزه» : يجعله عاجزا عن تحقيق مراده فيه فيفلت أحد عن مراد الله منه.

وجملة (إِنَّهُ كانَ عَلِيماً قَدِيراً) تعليل لانتفاء شيء يغالب مراد الله بأن الله شديد العلم واسعه لا يخفى عليه شيء وبأنه شديد القدرة.

وقد حصر هذان الوصفان انتفاء أن يكون شيء يعجز الله لأن عجز المريد عن تحقيق إرادته : إما أن يكون سببه خفاء موضع تحقق الإرادة ، وهذا ينافي إحاطة العلم ، أو عدم استطاعة التمكن منه وهذا ينافي عموم القدرة.

(وَلَوْ يُؤاخِذُ اللهُ النَّاسَ بِما كَسَبُوا ما تَرَكَ عَلى ظَهْرِها مِنْ دَابَّةٍ وَلكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى فَإِذا جاءَ أَجَلُهُمْ فَإِنَّ اللهَ كانَ بِعِبادِهِ بَصِيراً (٤٥))

تذكير لهم عن أن يغرهم تأخير المؤاخذة فيحسبوه عجزا أو رضى من الله بما هم فيه فهم الذين قالوا : (اللهُمَّ إِنْ كانَ هذا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنا حِجارَةً مِنَ السَّماءِ أَوِ ائْتِنا بِعَذابٍ أَلِيمٍ) [الأنفال : ٣٢] فعلّمهم أن لعذاب الله آجالا اقتضتها حكمته ، فيها رعي مصالح أمم آخرين ، أو استبقاء أجيال آتين. فالمراد ب (النَّاسَ) مجموع الأمة ، وضمير «ما كسبوا» وضمير (يُؤَخِّرُهُمْ) عائد إلى (أَجَلٍ).

ونظير هذه الآية تقدم في سورة النحل إلى قوله : (فَإِذا جاءَ أَجَلُهُمْ) إلا أن هذه الآية جاء فيها (بِما كَسَبُوا) وهنالك جاء فيها (بِظُلْمِهِمْ) [النحل : ٦١] لأن ما كسبوا يعم الظلم وغيره. وأوثر في سورة النحل (بِظُلْمِهِمْ) لأنها جاءت عقب تشنيع ظلم عظيم من ظلمهم وهو ظلم بناتهم الموءودات وإلّا أن هنالك قال : (ما تَرَكَ عَلَيْها) [النحل : ٦١] وهنا (ما تَرَكَ عَلى ظَهْرِها) وهو تفنن تبعه المعري في قوله :

١٨٩

وإن شئت فازعم أن من فوق ظهرها

عبيدك واستشهد إلهك يشهد

والضمير للأرض هنا وهناك في البيت لأنها معلومة من المقام. والظهر : حقيقته متن الدابة الذي يظهر منها ، وهو ما يعلو الصلب من الجسد وهو مقابل البطن فأطلق على ظهر الإنسان أيضا وإن كان غير ظاهر لأن الذي يظهر من الإنسان صدره وبطنه. وظهر الأرض مستعار لبسطها الذي يستقر عليه مخلوقات الأرض تشبيها للأرض بالدابة المركوبة على طريقة المكنية. ثم شاع ذلك فصار من الحقيقة.

فأما قوله هنا : (فَإِنَّ اللهَ كانَ بِعِبادِهِ بَصِيراً) ، وقد قال هنالك (لا يَسْتَأْخِرُونَ ساعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ) [النحل : ٦١] ، فما هنا إيماء إلى الحكمة في تأخيرهم إلى أجل مسمى. والتقدير : فإذا جاء أجلهم آخذهم بما كسبوا فإن الله كان بعباده بصيرا ، أي عليما في حالي التأخير ومجيء الأجل ، ولهذا فقوله : (فَإِنَّ اللهَ كانَ بِعِبادِهِ بَصِيراً) دليل جواب (إذا) وليس هو جوابها ، ولذلك كان حقيقا بقرنه بفاء التسبب ، وأما ما في سورة النحل فهو الجواب وهو تهديد بأنهم إذا جاء أجلهم وقع بهم العذاب دون إمهال.

وقوله : (فَإِنَّ اللهَ كانَ بِعِبادِهِ بَصِيراً) هو أيضا جواب عن سؤال مقدر أن يقال : ما ذا جنت الدوابّ حتى يستأصلها الله بسبب ما كسب الناس ، وكيف يهلك كل من على الأرض وفيهم المؤمنون والصالحون ، فأفيد أن الله أعلم بعدله. فأما الدواب فإنها مخلوقة لأجل الإنسان كما قال تعالى : (هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً) [البقرة : ٢٩] ، فإهلاكها قد يكون إنذارا للناس لعلهم يقلعون عن إجرامهم ، وأما حال المؤمنين في حين إهلاك الكفار فالله أعلم بهم فلعل الله أن يجعل لهم طريقا إلى النجاة كما نجّى هودا ومن معه ، ولعله إن أهلكهم أن يعوض لهم حسن الدار كما قال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «ثم يحشرون على نياتهم».

١٩٠

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

٣٦ ـ سورة يس

سميت هذه السورة يس بمسمّى الحرفين الواقعين في أولها في رسم المصحف لأنها انفردت بهما فكانا مميزين لها عن بقية السور ، فصار منطوقهما علما عليها. وكذلك ورد اسمها عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

روى أبو داود عن معقل بن يسار قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «اقرءوا يس على موتاكم». وبهذا الاسم عنون البخاري والترمذي في كتابي التفسير.

ودعاها بعض السلف «قلب القرآن» لوصفها في قول النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إن لكل شيء قلبا وقلب القرآن يس» ، رواه الترمذي عن أنس ، وهي تسمية غير مشهورة.

ورأيت مصحفا مشرقيا نسخ سنة ١٠٧٨ أحسبه في بلاد العجم عنونها «سورة حبيب النجّار» وهو صاحب القصة (وَجاءَ مِنْ أَقْصَا الْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعى)[يس : ٢٠] كما يأتي. وهذه تسمية غريبة لا نعرف لها سندا ولم يخالف ناسخ ذلك المصحف في أسماء السور ما هو معروف إلّا في هذه السورة وفي «سورة التين» عنونها «سورة الزيتون».

وهي مكية ، وحكى ابن عطية الاتفاق على ذلك قال : «إلا أن فرقة قالت قوله تعالى : (وَنَكْتُبُ ما قَدَّمُوا وَآثارَهُمْ) [يس : ١٢] نزلت في بني سلمة من الأنصار حين أرادوا أن يتركوا ديارهم وينتقلوا إلى جوار مسجد الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال لهم : «دياركم تكتب آثاركم». وليس الأمر كذلك وإنما نزلت الآية بمكة ولكنها احتج بها عليهم في المدينة» ا ه.

وفي الصحيح أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قرأ عليهم : (وَنَكْتُبُ ما قَدَّمُوا وَآثارَهُمْ) وهو يؤول ما في حديث الترمذي بما يوهم أنها نزلت يومئذ.

وهي السورة الحادية والأربعون في ترتيب النزول في قول جابر بن زيد الذي اعتمده

١٩١

الجعبري ، نزلت بعد سورة (قُلْ أُوحِيَ) وقبل سورة الفرقان.

وعدّت آياتها عند جمهور الأمصار اثنتين وثمانين. وعدت عند الكوفيين ثلاثا وثمانين.

وورد في فضلها ما رواه الترمذي عن أنس قال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إن لكل شيء قلبا وقلب القرآن يس. ومن قرأ يس كتب الله له بقراءتها قراءة القرآن عشر مرات». قال الترمذي : هذا حديث غريب ، وفيه هارون أبو محمد شيخ مجهول. قال أبو بكر بن العربي : حديثها ضعيف.

أغراض هذه السورة

التحدي بإعجاز القرآن بالحروف المقطّعة ، وبالقسم بالقرآن تنويها به ، وأدمج وصفه بالحكيم إشارة إلى بلوغه أعلى درجات الإحكام. والمقصود من ذلك تحقيق رسالة محمدصلى‌الله‌عليه‌وسلم وتفضيل الدين الذي جاء به في كتاب منزل من الله لإبلاغ الأمة الغاية السامية وهي استقامة أمورها في الدنيا والفوز في الحياة الأبدية ، فلذلك وصف الدين بالصراط المستقيم كما تقدم في سورة الفاتحة.

وأن القرآن داع لإنقاذ العرب الذين لم يسبق مجيء رسول إليهم ، لأن عدم سبق الإرسال إليهم تهيئة لنفوسهم لقبول الدين إذ ليس فيها شاغل سابق يعزّ عليهم فراقه أو يكتفون بما فيه من هدى.

ووصف إعراض أكثرهم عن تلقّي الإسلام ، وتمثيل حالهم الشنيعة ، وحرمانهم من الانتفاع بهدي الإسلام وأن الذين اتبعوا دين الإسلام هم أهل الخشية وهو الدين الموصوف بالصراط المستقيم.

وضرب المثل لفريقي المتبعين والمعرضين من أهل القرى بما سبق من حال أهل القرية الذين شابه تكذيبهم الرسل تكذيب قريش.

وكيف كان جزاء المعرضين من أهلها في الدنيا وجزاء المتبعين في درجات الآخرة.

ثم ضرب المثل بالأعم وهم القرون الذين كذبوا فأهلكوا.

والرثاء لحال الناس في إضاعة أسباب الفوز كيف يسرعون إلى تكذيب الرسل.

وتخلص إلى الاستدلال على تقريب البعث وإثباته بالاستقلال تارة وبالاستطراد

١٩٢

أخرى.

مدمجا في آياته الامتنان بالنعمة التي تتضمنها تلك الآيات.

ورامزا إلى دلالة تلك الآيات والنعم على تفرد خالقها ومنعمها بالوحدانية إيقاظا لهم.

ثم تذكيرهم بأعظم حادثة حدثت على المكذبين للرسل والمتمسكين بالأصنام من الذين أرسل إليهم نوح نذيرا ، فهلك من كذّب ، ونجا من آمن.

ثم سيقت دلائل التوحيد المشوبة بالامتنان للتذكير بواجب الشكر على النعم بالتقوى والإحسان وترقب الجزاء.

والإقلاع عن الشرك والاستهزاء بالرسول واستعجال وعيد العذاب.

وحذروا من حلوله بغتة حين يفوت التدارك.

وذكروا بما عهد الله إليهم مما أودعه في الفطرة من الفطنة.

والاستدلال على عداوة الشيطان للإنسان.

واتباع دعاة الخير.

ثم رد العجز على الصدر فعاد إلى تنزيه القرآن عن أن يكون مفترى صادرا من شاعر بتخيلات الشعراء.

وسلّى الله رسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن لا يحزنه قولهم وأن له بالله أسوة إذ خلقهم فعطلوا قدرته عن إيجادهم مرة ثانية ولكنهم راجعون إليه.

فقامت السورة على تقرير أمهات أصول الدين على أبلغ وجه وأتمه من إثبات الرسالة ، والوحي ، ومعجزة القرآن ، وما يعتبر في صفات الأنبياء ، وإثبات القدر ، وعلم الله ، والحشر ، والتوحيد ، وشكر المنعم ، وهذه أصول الطاعة بالاعتقاد والعمل ، ومنها تتفرع الشريعة. وإثبات الجزاء على الخير والشرّ مع إدماج الأدلة من الآفاق والأنفس بتفنن عجيب ، فكانت هذه السورة جديرة بأن تسمى «قلب القرآن» لأن من تقاسيمها تتشعب شرايين القرآن كله ، وإلى وتينها ينصبّ مجراها.

قال الغزالي : إن ذلك لأن الإيمان صحته باعتراف بالحشر ، والحشر مقرر في هذه

١٩٣

السورة بأبلغ وجه ، كما سميت الفاتحة أم القرآن إذ كانت جامعة لأصول التدبر في أفانينه كما تكون أم الرأس ملاك التدبر في أمور الجسد.

(يس (١))

القول فيه كالقول في الحروف المقطّعة الواقعة في أوائل السور ، ومن جملتها أنه اسم من أسماء الله تعالى ، رواه أشهب عن مالك قاله ابن العربي ، وفيه عن ابن عباس أنه : يا إنسان ، بلسان الحبشة. وعنه أنها كذلك بلغة طيئ ، ولا أحسب هذا يصح عنه لأن كتابتها في المصاحف على حرفين تنافي ذلك.

ومن الناس من يدعي أن يس من أسماء النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم. وبنى عليه إسماعيل بن بكر الحميري شاعر الرافضة المشهور عندهم بالسيد الحميري قوله :

يا نفس لا تمحضي بالودّ جاهدة

على المودة إلّا آل ياسينا

ولعله أخذه من قوله تعالى في سورة الصافات [١٣٠](سَلامٌ عَلى إِلْ ياسِينَ) فقد قيل إنه يعني آل محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

ومن الناس من قال : إن يس اختزال : يا سيد ، خطابا للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ويوهنه نطق القراء بها بنون.

ومن الناس من يسمّي ابنه بهذه الكلمة وهو كثير في البلاد المصرية والشامية ومنهم الشيخ يس بن زين الدين العليمي الحمصي المتوفى سنة ١٠٦١ صاحب التعاليق القيمة فإنما يكتب اسمه بحسب ما ينطق به لا بحروف التهجي وإن كان الناس يغفلون فيكتبونه بحرفين كما يكتب أول هذه السورة.

قال ابن العربي قال أشهب : سألت مالكا هل ينبغي لأحد أن يسمي يس؟ قال : ما أراه ينبغي لقول الله تعالى : (يس* وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ) [يس : ١ ، ٢] يقول هذا : اسمي يس.

قال ابن العربي : وهو كلام بديع لأن العبد لا يجوز أن يسمّى باسم الله إذا كان فيه معنى منه كقوله : عالم وقادر ، وإنما منع مالك من التسمية بهذا لأنه اسم من أسماء الله لا يدرى معناه فربما كان معناه ينفرد به الرب فلا يجوز أن يقدم عليه العبد فيقدم على خطر فاقتضى النظر رفعه عنه ا ه. وفيه نظر.

والنطق باسم (يا) بدون مد تخفيف كما في كهيعص.

١٩٤

[٢ ـ ٤] (وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ (٢) إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (٣) عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (٤))

القسم بالقرآن كناية عن شرف قدره وتعظيمه عند الله تعالى ، وذلك هو المقصود من الآيات الأول من هذه السورة. والمقصود من هذا القسم تأكيد الخبر مع ذلك التنويه.

و (الْقُرْآنِ) علم بالغلبة على الكتاب الموحى به إلى محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم من وقت مبعثه إلى وفاته للإعجاز والتشريع ، وقد تقدم في قوله تعالى : (وَما تَتْلُوا مِنْهُ مِنْ قُرْآنٍ) في سورة يونس [٦١].

و (الْحَكِيمِ) يجوز أن يكون بمعنى المحكم بفتح الكاف ، أي المجعول ذا إحكام ، والإحكام : الإتقان بماهية الشيء فيما يراد منه.

ويجوز أن يكون بمعنى صاحب الحكمة ، ووصفه بذلك مجاز عقلي لأنه محتو عليها.

وجملة (إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ) جواب القسم ، وتأكيد هذا الخبر بالقسم وحرف التأكيد ولام الابتداء باعتبار كونه مرادا به التعريض بالمشركين الذين كذبوا بالرسالة فهو تأنيس للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وتعريض بالمشركين ، فالتأكيد بالنسبة إليه زيادة تقرير وبالنسبة للمعنى الكنائي لرد إنكارهم ، والنكت لا تتزاحم.

(عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ) خبر ثان ل (إنّ) ، أو حال من اسم (إنّ). والمقصود منه : الإيقاظ إلى عظمة شريعته بعد إثبات أنه مرسل كغيره من الرسل.

و (عَلى) للاستعلاء المجازي الذي هو بمعنى التمكّن كما تقدم في قوله : (أُولئِكَ عَلى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ) في سورة البقرة [٥]. وليس الغرض من الإخبار به عن المخاطب إفادة كونه على صراط مستقيم لأن ذلك معلوم حصوله من الأخبار من كونه أحد المرسلين. فقد علم أن المراد من المرسلين المرسلون من عند الله ، ولكن الغرض الجمع بين حال الرسول عليه الصلاة والسلام وبين حال دينه ليكون العلم بأن دينه صراط مستقيم علما مستقلا لا ضمنيا.

والصراط المستقيم : الهدى الموصل إلى الفوز في الآخرة ، وهو الدين الذي بعث به النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، والخلق الذي لقنه الله ، شبه بطريق مستقيم لا اعوجاج فيه في أنه موثوق به في الإيصال إلى المقصود دون أن يتردد السائر فيه.

١٩٥

فالإسلام فيه الهدى في الحياتين فمتّبعه كالسائر في صراط مستقيم لا حيرة في سيره تعتريه حتى يبلغ المكان المراد.

والقرآن حاوي الدين فكان القرآن من الصراط المستقيم.

وتنكير (صِراطٍ) للتوصل إلى تعظيمه.

[٥ ـ ٦] (تَنْزِيلَ الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ (٥) لِتُنْذِرَ قَوْماً ما أُنْذِرَ آباؤُهُمْ فَهُمْ غافِلُونَ (٦))

راجع إلى (الْقُرْآنِ الْحَكِيمِ) [يس : ٢] إذ هو المنزل من عند الله ، فبعد أن استوفى القسم جوابه رجع الكلام إلى بعض المقصود من القسم وهو تشريف المقسم به فوسم بأنه (تَنْزِيلَ الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ).

وقد قرأه الجمهور بالرفع على أنه خبر مبتدأ محذوف للعلم به ، وهذا من مواقع حذف المسند إليه الذي سماه السكاكي الحذف الجاري على متابعة الاستعمال في أمثاله. وذلك أنهم إذا أجروا حديثا على شيء ثم أخبروا عنه التزموا حذف ضميره الذي هو مسند إليه إشارة إلى التنويه به كأنه لا يخفى كقول إبراهيم الصّولي ، أو عبد الله بن الزّبير الأسدي أو محمد بن سعيد الكاتب ، وهي من أبيات الحماسة في باب الأضياف :

سأشكر عمرا إن تراخت منيتي

أيادي لم تمنن وإن هي جلّت

فتى غير محجوب الغنى عن صديقه

ولا مظهر الشكوى إذ النعل زلّت

تقديره : هو فتى.

وقرأه ابن عامر وحمزة والكسائي وحفص عن عاصم وخلف بنصب (تَنْزِيلَ) على تقدير : أعني. والمعنى : أعني من قسمي قرآنا نزّلته ، وتلك العناية زيادة في التنويه بشأنه وهي تعادل حذف المسند إليه الذي في قراءة الرفع.

والتنزيل : مصدر بمعنى المفعول أخبر عنه بالمصدر للمبالغة في تحقيق كونه منزلا.

وأضيف التنزيل إلى الله بعنوان صفتي (الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ) لأن ما اشتمل عليه القرآن لا يعدو أن يكون من آثار عزة الله تعالى ، وهو ما فيه من حمل الناس على الحقّ وسلوك طريق الهدى دون مصانعة ولا ضعف مع ما فيه من الإنذار والوعيد على العصيان والكفران.

وأن يكون من آثار رحمته وهو ما في القرآن من نصب الأدلة وتقريب البعيد وكشف

١٩٦

الحقائق للناظرين ، مع ما فيه من البشارة للذين يكونون عند مرضاة الله تعالى ، وذلك هو ما ورد بيانه بعد إجمالا من قوله : (لِتُنْذِرَ قَوْماً ما أُنْذِرَ آباؤُهُمْ فَهُمْ غافِلُونَ) ، [يس : ٦] ثم تفصيلا بقوله : (لَقَدْ حَقَّ الْقَوْلُ عَلى أَكْثَرِهِمْ) [يس : ٧] وبقوله : (إِنَّما تُنْذِرُ مَنِ اتَّبَعَ الذِّكْرَ وَخَشِيَ الرَّحْمنَ بِالْغَيْبِ فَبَشِّرْهُ بِمَغْفِرَةٍ وَأَجْرٍ كَرِيمٍ) [يس : ١١].

فاللام في (لِتُنْذِرَ) متعلقة ب (تَنْزِيلَ) وهي لام التعليل تعليلا لإنزال القرآن.

واقتصر على الإنذار لأن أول ما ابتدئ به القوم من التبليغ إنذارهم جميعا بما تضمنته أول سورة نزلت من قوله : (كَلَّا إِنَّ الْإِنْسانَ لَيَطْغى أَنْ رَآهُ اسْتَغْنى) [العلق : ٦ ، ٧] الآية. وما تضمنته سورة المدثر لأن القوم جميعا كانوا على حالة لا ترضي الله تعالى فكان حالهم يقتضي الإنذار ليسرعوا إلى الإقلاع عما هم فيه مرتبكون.

والقوم الموصوفون بأنهم لم تنذر آباؤهم : إما العرب العدنانيون فإنهم مضت قرون لم يأتهم فيها نذير ، ومضى آباؤهم لم يسمعوا نذيرا ، وإنما يبتدأ عدّ آبائهم من جدّهم الأعلى في عمود نسبهم الذين تميزوا به جذما وهو عدنان ، لأنه جذم العرب المستعربة ، أو أريد أهل مكة. وإنما باشر النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم في ابتداء بعثته دعوة أهل مكة وما حولها فكانوا هم الذين أراد الله أن يتلقّوا الدين وأن تتأصل منهم جامعة الإسلام ثم كانوا هم حملة الشريعة وأعوان الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم في تبليغ دعوته وتأييده. فانضمّ إليهم أهل يثرب وهم قحطانيون فكانوا أنصارا ثم تتابع إيمان قبائل العرب.

وفرع عليه قوله : (فَهُمْ غافِلُونَ) أي فتسبب على عدم إنذار آبائهم أنهم متصفون بالغفلة وصفا ثابتا ، أي فهم غافلون عما تأتي به الرسل والشرائع فهم في جهالة وغواية إذ تراكمت الضلالات فيهم عاما فعاما وجيلا فجيلا.

فهذه الحالة تشمل جميع من دعاهم النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم سواء من آمن بعد ومن لم يؤمن.

والغفلة : صريحها الذهول عن شيء وعدم تذكره ، وهي هنا كناية عن الإهمال والإعراض عما يحق التنبيه إليه كقول النابغة :

يقول أناس يجهلون خليقتي

لعلّ زيادا لا أباك غافل

(لَقَدْ حَقَّ الْقَوْلُ عَلى أَكْثَرِهِمْ فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ (٧))

هذا تفصيل لحال القوم الذين أرسل محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم لينذرهم ، فهم قسمان : قسم لم تنفع

١٩٧

فيهم النذارة ، وقسم اتبعوا الذكر وخافوا الله فانتفعوا بالنذارة. وبيّن أن أكثر القوم حقت عليهم كلمة العذاب ، أي علم الله أنهم لا يؤمنون بما جبل عليه عقولهم من النفور عن الخير ، فحقق في علمه وكتب أنهم لا يؤمنون ، فالفاء لتفريع انتفاء إيمان أكثرهم على القول الذي حق على أكثرهم.

و (حَقَ) : بمعنى ثبت ووقع فلا يقبل نقضا. و (الْقَوْلُ) : مصدر أريد به ما أراده الله تعالى بهم فهو قول من قبيل الكلام النفسي ، أو مما أوحى الله به إلى رسله.

والتعريف في (الْقَوْلُ) تعريف الجنس ، والمقول محذوف لدلالة تفريعه عليه.

والتقدير : (لَقَدْ حَقَ) القول ، أي القول النفسي وهو المكتوب في علمه تعالى أنهم لا يؤمنون فهم لا يؤمنون.

(إِنَّا جَعَلْنا فِي أَعْناقِهِمْ أَغْلالاً فَهِيَ إِلَى الْأَذْقانِ فَهُمْ مُقْمَحُونَ (٨))

هذه الجملة بدل اشتمال من جملة (لَقَدْ حَقَّ الْقَوْلُ عَلى أَكْثَرِهِمْ فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ) [يس : ٧] فإن انتفاء إيمانهم يشتمل على ما تضمنته هذه الآية من جعل أغلال في أعناقهم حقيقة أو تمثيلا.

والجعل : تكوين الشيء ، أي جعلنا حالهم كحال من في أعناقهم أغلال فهي إلى الأذقان فهم مقمحون ، فيجوز أن يكون تمثيلا بأن شبهت حالة إعراضهم عن التدبر في القرآن ودعوة الإسلام والتأمل في حججه الواضحة بحال قوم جعلت في أعناقهم أغلال غليظة ترتفع إلى أذقانهم فيكونون كالمقمحين ، أي الرافعين رءوسهم الغاضّين أبصارهم لا يلتفتون يمينا ولا شمالا فلا ينظرون إلى شيء مما حولهم فتكون تمثيلية.

وذكر (فَهِيَ إِلَى الْأَذْقانِ) لتحقيق كون الأغلال ملزوزة إلى عظام الأذقان بحيث إذا أراد المغلول منهم الالتفات أو أن يطاطئ رأسه وجعه ذقنه فلازم السكون وهذه حالة تخييل هذه الأغلال وليس كل الأغلال مثل هذه الحالة.

وهذا التمثيل قابل لتوزيع أجزاء المركب التمثيلي إلى تشبيه كل جزء من الحالين بجزء من الحالة الأخرى بأن يشبه ما في نفوسهم من النفور عن الخير بالأغلال ، ويشبه إعراضهم عن التأمل والإنصاف بالإقماح.

فالفاء في قوله : (فَهِيَ إِلَى الْأَذْقانِ) عطف على جملة (جَعَلْنا فِي أَعْناقِهِمْ

١٩٨

أَغْلالاً) ، أي جعلنا أغلالا ، أي فأبلغناها إلى الأذقان.

والجعل : هنا حقيقة وهو ما خلق في نفوسهم من خلق التكبر والمكابرة.

والأغلال : جمع غلّ بضم الغين ، وهو حلقة عريضة من حديد كالقلادة ذات أضلاع من إحدى جهاتها وطرفين يقابلان أضلاعهما فيهما أثقاب متوازية تشد الحلقة من طرفيها على رقبة المغلول بعمود من حديد له رأس كالكرة الصغيرة يسقط ذلك العمود في الأثقاب فإذا انتهى إلى رأسه الذي كالكرة استقرّ ليمنع الغلّ من الانحلال والتفلّت ، وتقدم عند قوله تعالى : (وَأُولئِكَ الْأَغْلالُ فِي أَعْناقِهِمْ) في سورة الرعد [٥].

والفاء في قوله : (فَهُمْ مُقْمَحُونَ) تفريع على جملة (فَهِيَ إِلَى الْأَذْقانِ).

والمقمح : بصيغة اسم المفعول المجعول قامحا ، أي رافعا رأسه ناظرا إلى فوقه يقال : قمحه الغلّ ، إذا جعل رأسه مرفوعا وغضّ بصره ، فمدلوله مركب من شيئين. والأذقان : جمع ذقن بالتحريك ، وهو مجتمع اللحيين. وتقدم في الإسراء.

ويجوز أن يكون قوله : (إِنَّا جَعَلْنا فِي أَعْناقِهِمْ أَغْلالاً) إلخ وعيدا بما سيحلّ بهم يوم القيامة حين يساقون إلى جهنم في الأغلال كما أشار إليه قوله تعالى : (إِذِ الْأَغْلالُ فِي أَعْناقِهِمْ وَالسَّلاسِلُ يُسْحَبُونَ فِي الْحَمِيمِ ثُمَّ فِي النَّارِ يُسْجَرُونَ) في سورة غافر [٧١ ، ٧٢] ، فيكون فعل (جَعَلْنا) مستقبلا وعبر عنه بصيغة الماضي لتحقيق وقوعه كقوله تعالى : (أَتى أَمْرُ اللهِ) [النحل : ١] ، أي سنجعل في أعناقهم أغلالا.

(وَجَعَلْنا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا فَأَغْشَيْناهُمْ فَهُمْ لا يُبْصِرُونَ (٩))

(وَجَعَلْنا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا).

هذا ارتقاء في حرمانهم من الاهتداء لو أرادوا تأملا بأنّ فظاظة قلوبهم لا تقبل الاستنتاج من الأدلة والحجج بحيث لا يتحولون عما هم فيه ، فمثّلت حالهم بحالة من جعلوا بين سدّين ، أي جدارين : سدا أمامهم ، وسدا خلفهم ، فلو راموا تحوّلا عن مكانهم وسعيهم إلى مرادهم لما استطاعوه كقوله تعالى : (فَمَا اسْتَطاعُوا مُضِيًّا وَلا يَرْجِعُونَ) [يس: ٦٧] ، وقول أبي الشيص :

وقف الهوى بي حيث أنت فليس لي

متأخّر عنه ولا متقدّم

١٩٩

وقد صرح بذلك في قول ... :

ومن الحوادث لا أبا لك أنني

ضربت على الأرض بالأسداد

لا أهتدي فيها لموضع تلعة

بين العذيب وبين أرض مراد

وتقدم السدّ في سورة الكهف.

وفي «مفاتيح الغيب» : مانع الإيمان : إما أن يكون في النفس ، وإما أن يكون خارجا عنها. ولهم المانعان جميعا : أما في النفس فالغلّ ، وأما من الخارج فالسد فلا يقع نظرهم على أنفسهم فيروا الآيات التي في أنفسهم لأن المقمح لا يرى نفسه ولا يقع نظرهم على الآفاق لأن من بين السدّين لا يبصرون الآفاق فلا تتبين لهم الآيات كما قال تعالى : (سَنُرِيهِمْ آياتِنا فِي الْآفاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ) [فصلت : ٥٣].

وإعادة فعل (وَجَعَلْنا) على الوجه الأول في معنى قوله : (إِنَّا جَعَلْنا فِي أَعْناقِهِمْ أَغْلالاً) [يس : ٨] الآية ، تأكيد لهذا الجعل ، وأما على الوجه الثاني في معنى (إِنَّا جَعَلْنا فِي أَعْناقِهِمْ أَغْلالاً) فإعادة فعل (وَجَعَلْنا) لأنه جعل حاصل في الدّنيا فهو مغاير للجعل الحاصل يوم القيامة.

وقرأ الجمهور (سَدًّا) بالضم وهو اسم الجدار الذي يسدّ بين داخل وخارج.

وقرأ حمزة والكسائي وحفص وخلف بالفتح وهو مصدر سمي به ما يسد به.

(فَأَغْشَيْناهُمْ فَهُمْ لا يُبْصِرُونَ).

تفريع على كلا الفعلين (جَعَلْنا فِي أَعْناقِهِمْ أَغْلالاً) [يس : ٨] و (جَعَلْنا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا) لأن في كلا الفعلين مانعا من أحوال النظر.

وفي الكلام اكتفاء عن ذكر ما يتفرع ثانيا على تمثيلهم بمن جعلوا بين سدين من عدم استطاعة التحول عمّا هم عليه.

والإغشاء : وضع الغشاء. وهو ما يغطي الشيء. والمراد : أغشينا أبصارهم ، ففي الكلام حذف مضاف دلّ عليه السياق وأكّده التفريع بقوله : (فَهُمْ لا يُبْصِرُونَ). وتقديم المسند إليه على المسند الفعلي لإفادة تقوي الحكم ، أي تحقيق عدم إبصارهم.

(وَسَواءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ (١٠))

٢٠٠