تفسير التّحرير والتّنوير - ج ٢٢

الشيخ محمّد الطاهر ابن عاشور

تفسير التّحرير والتّنوير - ج ٢٢

المؤلف:

الشيخ محمّد الطاهر ابن عاشور


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة التاريخ العربي للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٢٨٨

عطف على جملة (لا يُبْصِرُونَ) [يس : ٩] ، أي إنذارك وعدمه سواء بالنسبة إليهم ، فحرف (على) معناه الاستعلاء المجازي وهو هنا الملابسة ، متعلق ب (سَواءٌ) الدال على معنى (استوى) ، وتقدم نظيرها في أول سورة البقرة.

وهمزة التسوية أصلها الاستفهام ثم استعملت في التسوية على سبيل المجاز المرسل ، وشاع ذلك حتى عدّت التسوية من معاني الهمزة لكثرة استعمالها في ذلك مع كلمة سواء وهي تفيد المصدرية. ولما استعملت الهمزة في معنى التسوية استعملت (أَمْ) في معنى الواو ، وقد جاء على الاستعمال الحقيقي قول بثينة :

سواء علينا يا جميل بن معمر

إذا متّ بأساء الحياة ولينها

وجملة (لا يُؤْمِنُونَ) مبيّنة استواء الإنذار وعدمه بالنسبة إليهم.

(إِنَّما تُنْذِرُ مَنِ اتَّبَعَ الذِّكْرَ وَخَشِيَ الرَّحْمنَ بِالْغَيْبِ فَبَشِّرْهُ بِمَغْفِرَةٍ وَأَجْرٍ كَرِيمٍ (١١))

لما تضمن قوله : (وَسَواءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ) [يس : ١٠] أن الإنذار في جانب الذين حق عليهم القول أنهم لا يؤمنون هو وعدمه سواء وكان ذلك قد يوهم انتفاء الجدوى من الغير وبعض من فضل أهل الإيمان أعقب ببيان جدوى الإنذار بالنسبة لمن اتبع الذكر وخشي الرحمن بالغيب.

و (الذِّكْرَ) القرآن.

والاتّباع : حقيقته الاقتفاء والسّير وراء سائر ، وهو هنا مستعار للإقبال على الشيء والعناية به لأن المتبع شيئا يعتني باقتفائه ، فاتباع الذكر تصديقه والإيمان بما فيه لأن التدبر فيه يفضي إلى العمل به ، كما ورد في قصة إيمان عمر بن الخطاب رضي‌الله‌عنه فإنه وجد لوحا فيه سورة طه عند أخته فأخذ يقرأ ويتدبّر فآمن.

وكان المشركون يعرضون عن سماع القرآن ويصدّون الناس عن سماعه ، ويبين ذلك ما في قصة عبد الله بن أبيّ ابن سلول في مبدأ حلول رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالمدينة «أن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم مرّ بمجلس عبد الله بن أبيّ فنزل فسلم وتلا عليهم القرآن حتى إذا فرغ قال عبد الله بن أبيّ : يا هذا إنه لا أحسن من حديثك إن كان حقا ، فاجلس في بيتك فمن جاءك فحدّثه ومن لم يأتك فلا تغته به». ولما كان الإقبال على سماع القرآن مفضيا إلى

٢٠١

الإيمان بما فيه لأنه يداخل القلب كما قال الوليد بن المغيرة «إن له لحلاوة ، وإن عليه لطلاوة ، وإن أسفله لمغدق ، وإن أعلاه لمثمر». أتبعت صلة (اتَّبَعَ الذِّكْرَ) بجملة (وَخَشِيَ الرَّحْمنَ بِالْغَيْبِ) ، فكان المراد من اتّباع الذكر أكمل أنواعه الذي لا يعقبه إعراض فهو مؤدّ إلى امتثال المتبعين ما يدعوهم إليه.

وخشية الرحمن : تقواه في خويصة أنفسهم ، وهؤلاء هم المؤمنون تنويها بشأنهم وبشأن الإنذار ، فهذا قسيم قوله : (لَقَدْ حَقَّ الْقَوْلُ عَلى أَكْثَرِهِمْ) [يس : ٧] وهو بقية تفصيل قوله : (لِتُنْذِرَ قَوْماً) [يس : ٦]. والغرض تقوية داعية الرسولصلى‌الله‌عليه‌وسلم في الإنذار ، والثناء على الذين قبلوا نذارته فآمنوا.

فمعنى فعل تنذر هو الإنذار المترتب عليه أثره من الخشية والامتثال ، كأنه قيل : إنما تنذر فينتذر من اتبع الذكر ، أي من ذلك شأنهم لأنهم آمنوا ويتقون.

والتعبير بفعل المضيّ للدلالة على تحقيق الاتّباع والخشية. والمراد : ابتداء الاتّباع.

ثم فرع على هذا التنويه الأمر بتبشير هؤلاء بمغفرة ما كان منهم في زمن الجاهلية وما يقترفون من اللمم.

والجمع بين تنذر و «بشر» فيه محسن الطباق ، مع بيان أن أول أمرهم الإنذار وعاقبته التبشير.

والأجر : الثواب على الإيمان والطاعات ، ووصفه بالكريم لأنه الأفضل في نوعه كما تقدم عند قوله تعالى : (إِنِّي أُلْقِيَ إِلَيَّ كِتابٌ كَرِيمٌ) في سورة النمل [٢٩].

والتعبير بوصف (الرَّحْمنَ) دون اسم الجلالة لوجهين : أحدهما : أن المشركين كانوا ينكرون اسم الرحمن ، كما قال تعالى : (قالُوا وَمَا الرَّحْمنُ) [الفرقان : ٦٠]. والثاني : الإشارة إلى أن رحمته لا تقتضي عدم خشيته فالمؤمن يخشى الله مع علمه برحمته فهو يرجو الرحمة.

فالقصر المستفاد من قوله : (إِنَّما تُنْذِرُ مَنِ اتَّبَعَ الذِّكْرَ) وهو قصر الإنذار على التعلّق ب (مَنِ اتَّبَعَ الذِّكْرَ) وخشي الله هو بالتأويل الذي تؤوّل به معنى فعل (تُنْذِرُ) ، أي حصول فائدة الإنذار يكون قصرا حقيقيا ، وإن أبيت إلّا إبقاء فعل (تُنْذِرُ) على ظاهر استعمال الأفعال وهو الدلالة على وقوع مصادرها فالقصر ادعائي بتنزيل إنذار الذين لم يتبعوا الذكر ولم يخشوا منزلة عدم الإنذار في انتفاء فائدته.

٢٠٢

(إِنَّا نَحْنُ نُحْيِ الْمَوْتى وَنَكْتُبُ ما قَدَّمُوا وَآثارَهُمْ وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْناهُ فِي إِمامٍ مُبِينٍ (١٢))

لما اقتضى القصر في قوله : (إِنَّما تُنْذِرُ مَنِ اتَّبَعَ الذِّكْرَ وَخَشِيَ الرَّحْمنَ بِالْغَيْبِ) [يس : ١١] نفى أن يتعلق الإنذار بالذين لم يتبعوا الذكر ولم يخشوا الرحمن ، وكان في ذلك كناية تعريضية بأن الذين لم ينتفعوا بالإنذار بمنزلة الأموات لعدم انتفاعهم بما ينفع كل عاقل ، كما قال تعالى : لتنذر (مَنْ كانَ حَيًّا) [يس : ٧٠] وكما قال : (إِنَّكَ لا تُسْمِعُ الْمَوْتى) [النمل : ٨٠] استطرد عقب ذلك بالتخلّص إلى إثبات البعث فإن التوفيق الذي حفّ بمن اتبع الذكر وخشي الرحمن هو كإحياء الميت لأن حالة الشرك حالة ضلال يشبه الموت ، والإخراج منه كإحياء الميت ؛ فهذه الآية اشتملت بصريحها على علم بتحقيق البعث واشتملت بتعريضها على رمز واستعارتين ضمنيتين : استعارة الموتى للمشركين ، واستعارة الإحياء للإنقاذ من الشرك ، والقرينة هي الانتقال من كلام إلى كلام لما يومئ إليه الانتقال من سبق الحضور في المخيلة فيشمل المتكلم مما كان يتكلم في شأنه إلى الكلام فيما خطر له. وهذه الدلالة من مستتبعات المقام وليست من لوازم معنى التركيب. وهذا من أدق التخلص بحرف (إنّ) لأن المناسبة بين المنتقل منه والمنتقل إليه تحتاج إلى فطنة ، وهذا مقام خطاب الذكيّ المذكور في مقدمة علم المعاني.

فيكون موقع جملة «إنا نحيي الموتى» استئنافا ابتدائيا لقصد إنذار الذين لم يتبعوا الذكر ، ولم يخشوا الرحمن ، وهم الذين اقتضاهم جانب النفي في صيغة القصر.

ويجوز أن يكون الإحياء مستعارا للإنقاذ من الشرك ، والموتى : استعارة لأهل الشكر ، فإحياء الموتى توفيق من آمن من الناس إلى الإيمان كما قال تعالى : (أَوَمَنْ كانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْناهُ وَجَعَلْنا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُماتِ) [الأنعام : ١٢٢] الآية.

فتكون الجملة امتنانا على المؤمنين بتيسير الإيمان لهم ، قال تعالى : (فَمَنْ يُرِدِ اللهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ) [الأنعام : ١٢٥] ، وموقع الجملة موقع التعليل لقوله : (فَبَشِّرْهُ بِمَغْفِرَةٍ وَأَجْرٍ كَرِيمٍ) [يس : ١١].

والمراد بكتابة ما قدموا الكناية عن الوعد بالثواب على أعمالهم الصالحة والثواب على آثارهم.

٢٠٣

وهذا الاعتبار يناسبه الاستئناف الابتدائي ليكون الانتقال بابتداء كلام منبها السامع إلى ما اعتبره المتكلم في مطاوي كلامه.

والتأكيد بحرف (إنّ) منظور فيه إلى معنى الصريح كما هو الشأن ، و (نَحْنُ) ضمير فصل للتقوية وهو زيادة تأكيد. والمعنى : نحييهم للجزاء ، فلذلك عطف (وَنَكْتُبُ ما قَدَّمُوا) ، أي نحصي لهم أعمالهم من خير وشر قدموها في الدنيا لنجازيهم.

وعطف ذلك إدماج للإنذار والتهديد بأنهم محاسبون على أعمالهم ومجازون عليها.

والكناية : كناية عن الإحصاء وعدم إفلات شيء من أعمالهم أو إغفاله. وهي ما يعبر عنه بصحائف الأعمال التي يسجلها الكرام الكاتبون.

فالمراد ب (ما قَدَّمُوا) ما عملوا من الأعمال قبل الموت ؛ شبهت أعمالهم في الحياة الدنيا بأشياء يقدمونها إلى الدار الآخرة كما يقدم المسافر ثقله وأحماله.

وأما الآثار فهي آثار الأعمال وليست عين الأعمال بقرينة مقابلته ب (ما قَدَّمُوا) مثل ما يتركون من خير أو يثير بين الناس وفي النفوس.

والمقصود بذلك ما عملوه موافقا للتكاليف الشرعية أو مخالفا لها وآثارهم كذلك قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «من سنّ سنة حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها إلى يوم القيامة ومن سنّ سنة سيئة فعليه وزرها ووزر من عمل بها إلى يوم القيامة لا ينقص ذلك من أعمالهم شيئا».

فالآثار مسببات أسباب عملوا بها. وليس المراد كتابة كل ما عملوه لأن ذلك لا تحصل منه فائدة دينية يترتب عليها الجزاء. فهذا وعد ووعيد كلّ يأخذ بحظه منه.

وقد ورد عن جابر أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بلغه أن بني سلمة أرادوا أن يتحوّلوا من منازلهم في أقصى المدينة إلى قرب المسجد وقالوا : البقاع خالية ، فقال لهم النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «يا بني سلمة دياركم تكتب آثاركم» مرتين رواه مسلم. ويعني آثار أرجلهم في المشي إلى صلاة الجماعة.

وفي رواية الترمذي عن أبي سعيد زاد : أنّه قرأ عليهم : (وَنَكْتُبُ ما قَدَّمُوا وَآثارَهُمْ) فجعل الآثار عامّا للحسية والمعنوية ، وهذا يلاقي الوجه الثاني في موقع جملة (إِنَّا نَحْنُ

٢٠٤

نُحْيِ الْمَوْتى). وهو جار على ما أسسناه في المقدمة التاسعة. وتوهّم راوي الحديث عن الترمذي أن هذه الآية نزلت في ذلك وسياق الآية يخالفه ومكيتها تنافيه.

والإحصاء : حقيقته العدّ والحساب وهو هنا كناية عن الإحاطة والضبط وعدم تخلف شيء عن الذكر والتعيين لأن الإحصاء والحساب يستلزم أن لا يفوت واحد من المحسوبات.

والإمام : ما يؤتم به في الاقتداء ويعمل على حسب ما يدلّ عليه ، قال النابغة :

بنوا مجد الحياة على إمام

أطلق الإمام على الكتاب لأن الكتاب يتّبع ما فيه من الأخبار والشروط ، قال الحارث بن حلزة :

حذر الجور والتطاخي وهل ين

قض ما في المهارق الأهواء

والمراد ب (كُلَّ شَيْءٍ) بحسب الظاهر هو كل شيء من أعمال الناس كما دل عليه السياق ، فذكر (كُلَّ شَيْءٍ) لإفادة الإحاطة والعموم لما قدموا وآثارهم من كبيرة وصغيرة. فكلمة (كُلَ) نص على العموم من اسم الموصول ومن الجمع المعرّف بالإضافة ، فتكون جملة (وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْناهُ فِي إِمامٍ مُبِينٍ) مؤكدة لجملة (وَنَكْتُبُ ما قَدَّمُوا وَآثارَهُمْ) ، ومبينة لمجملها ، ويكون عطفها دون فصلها مراعى فيه ما اشتملت عليه من زيادة الفائدة.

ويجوز أن يكون المراد ب (كُلَّ شَيْءٍ) كل ما يوجد من الذوات والأعمال ، ويكون الإحصاء إحصاء علم ، أي تعلق العلم بالمعلومات عند حدوثها ، ويكون الإمام المبين علم الله تعالى. والظرفية ظرفية إحاطة ، أي عدم تفلت شيء عن علمه كما لا ينفلت المظروف عن الظرف.

وجعل علم الله إماما لأنه تجري على وفقه تعلقات الإرادة الربانية والقدرة فتكون جملة (وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْناهُ) على هذا تذييلا مفيدا أن الكتابة لا تختص بأعمال الناس الجارية على وفق التكاليف أو ضدها بل تعمّ جميع الكائنات. وإذ قد كان الشيء يرادف الموجود جاز أن يراد ب (كُلَّ شَيْءٍ) الموجود بالفعل أو ما يقبل الإيجاد وهو الممكن ، فيكون إحصاؤه هو العلم بأنه يكون أو لا يكون ومقادير كونه وأحواله ، كقوله تعالى : (وَأَحْصى كُلَّ شَيْءٍ عَدَداً) [الجن : ٢٨].

٢٠٥

[١٣ ، ١٤] (وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلاً أَصْحابَ الْقَرْيَةِ إِذْ جاءَهَا الْمُرْسَلُونَ (١٣) إِذْ أَرْسَلْنا إِلَيْهِمُ اثْنَيْنِ فَكَذَّبُوهُما فَعَزَّزْنا بِثالِثٍ فَقالُوا إِنَّا إِلَيْكُمْ مُرْسَلُونَ (١٤))

أعقب وصف إعراضهم وغفلتهم عن الانتفاع بهدي القرآن بتهديدهم بعذاب الدنيا إذ قد جاء في آخر هذه القصة قوله : (إِنْ كانَتْ إِلَّا صَيْحَةً واحِدَةً فَإِذا هُمْ خامِدُونَ) [يس : ٢٩].

والضرب مجاز مشهور في معنى الوضع والجعل ، ومنه : ضرب ختمه. وضربت بيتا ، وهو هنا في الجعل وتقدم عند قوله تعالى : (إِنَّ اللهَ لا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلاً ما) في سورة البقرة [٢٦].

والمعنى : اجعل أصحاب القرية والمرسلين إليهم شبها لأهل مكة وإرسالك إليهم.

و (لَهُمْ) يجوز أن يتعلق ب (اضْرِبْ) أي اضرب مثلا لأجلهم ، أي لأجل أن يعتبروا كقوله تعالى : (ضَرَبَ لَكُمْ مَثَلاً مِنْ أَنْفُسِكُمْ) [الروم : ٢٨]. ويجوز أن يكون (لَهُمْ) صفة ل (مثل) ، أي اضرب شبيها لهم كقوله تعالى : (فَلا تَضْرِبُوا لِلَّهِ الْأَمْثالَ) [النحل : ٧٤].

والمثل : الشبيه ، فقوله : (وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلاً) معناه ونظّر مثلا ، أي شبّه حالهم في تكذيبهم بك بشبيه من السابقين ، ولما غلب المثل في المشابه في الحال وكان الضرب أعم جعل (مَثَلاً) مفعولا ل (اضْرِبْ) ، أي نظّر حالهم بمشابه فيها فحصل الاختلاف بين (اضْرِبْ) ، و (مَثَلاً) بالاعتبار. وانتصب (مَثَلاً) على الحال.

وانتصب (أَصْحابَ الْقَرْيَةِ) على البيان ل (مَثَلاً) ، أو بدل ، ويجوز أن يكون مفعولا أول ل (اضْرِبْ) و (مَثَلاً) مفعولا ثانيا كقوله تعالى : (ضَرَبَ اللهُ مَثَلاً قَرْيَةً) [النحل : ١١٢].

والمعنى : أن حال المشركين من أهل مكة كحال أصحاب القرية الممثل بهم.

و (الْقَرْيَةِ) قال المفسرون عن ابن عباس : هي (أنطاكية) وهي مدينة بالشام متاخمة لبلاد اليونان.

والمرسلون إليها قال قتادة : هم من الحواريين بعثهم عيسى عليه‌السلام وكان ذلك حين رفع عيسى. وذكروا أسماءهم على اختلاف في ذلك.

وتحقيق القصة : أن عيسى عليه‌السلام لم يدع إلى دينه غير بني إسرائيل ولم يكن الدين الذي أرسل به إلّا تكلمة لما اقتضت الحكمة الإلهية إكماله من شريعة التوراة ، ولكن

٢٠٦

عيسى أوصى الحواريين أن لا يغفلوا عن نهي الناس عن عبادة الأصنام فكانوا إذا رأوا رؤيا أو خطر لهم خاطر بالتوجه إلى بلد من بلاد إسرائيل أو مما جاورها ، أو خطر في نفوسهم إلهام بالتوجه إلى بلد علموا أن ذلك وحي من الله لتحقيق وصية عيسى عليه‌السلام. وكان ذلك في حدود سنة أربعين بعد مولد عيسى عليه‌السلام.

ووقعت اختلافات للمفسرين في تعيين الرسل الثلاثة الذين أرسلوا إلى أهل أنطاكية وتحريفات في الأسماء ، والذي ينطبق على ما في كتاب أعمال الرسل من كتب العهد الجديد (١) أن (برنابا) و (شاول) المدعو (بولس) من تلاميذ الحواريين ووصفا بأنهما من الأنبياء ، كانا في أنطاكية مرسلين للتعليم ، وأنهما عززا بالتلميذ (٢) (سيلا). وذكر المفسرون أن الثالث هو (شمعون) ، لكن ليس في سفر الأعمال ما يقتضي أن بولس وبرنابا عزّزا بسمعان. ووقع في الإصحاح الثالث عشر منه أنه كان نبيء في أنطاكية اسمه (سمعان).

والمكذبون هم من كانوا سكانا بأنطاكية من اليهود واليونان ، وليس في أعمال الرسل سوى كلمات مجملة عن التكذيب والمحاورة التي جرت بين المرسلين وبين المرسل إليهم ، فذكر أنه كان هنالك نفر من اليهود يطعنون في صدق دعوة بولس وبرنابا ويثيرون عليهما نساء الذين يؤمنون بعيسى من وجوه المدينة من اليونان وغيرهم ، حتى اضطر (بولس وبرنابا) إلى أن خرجا من أنطاكية وقصدا أيقونية وما جاورها وقاومهما يهود بعض تلك المدن ، وأن أحبار النصارى في تلك المدائن رأوا أن يعيدون بولس وبرنابا إلى أنطاكية. وبعد عودتهما حصل لهما ما حصل لهما في الأولى وبالخصوص في قضية وجوب الختان على من يدخل في الدين ، فذهب بولس وبرنابا إلى أورشليم لمراجعة الحواريين فرأى أحبار أورشليم أن يؤيدوهما برجلين من الأنبياء هما (برسابا) و (سيلا). فأما (برسابا) فلم يمكث. وأما (سيلا) فبقي مع (بولس وبرنابا) يعظون الناس ، ولعل ذلك كان بوحي من الله إليهم وإلى أصحابهم من الحواريين. فهذا معنى قوله تعالى : (إِذْ أَرْسَلْنا إِلَيْهِمُ اثْنَيْنِ فَكَذَّبُوهُما فَعَزَّزْنا بِثالِثٍ) إذ أسند الإرسال والتعزيز إلى الله.

والتعزيز : التقوية ، وفي هذه المادة معنى جعل المقوّى عزيزا فالأحسن أن التعزيز هو النصر.

__________________

(١) «الإصحاح» ١٣ ، أعمال الرسل ١ ـ ٩.

(٢) «الإصحاح» ١٥ ، أعمال الرسل ٣٤ ـ ٣٥.

٢٠٧

وقرأ أبو بكر عن عاصم (فَعَزَّزْنا) بتخفيف الزاي الأولى ، وفعل عزّ بمعنى يحيي مرادفا لعزّز كما قالوا شدّ وشدّد.

وتأكيد قولهم : (إِنَّا إِلَيْكُمْ مُرْسَلُونَ) لأجل تكذيبهم إياهم فأكدوا الخبر تأكيدا وسطا ، ويسمى هذا ضربا طلبيا.

وتقديم المجرور للاهتمام بأمر المرسل إليهم المقصود إيمانهم بعيسى.

(قالُوا ما أَنْتُمْ إِلاَّ بَشَرٌ مِثْلُنا وَما أَنْزَلَ الرَّحْمنُ مِنْ شَيْءٍ إِنْ أَنْتُمْ إِلاَّ تَكْذِبُونَ (١٥))

كان أهل (أنطاكية) والمدن المجاورة لها خليطا من اليهود وعبدة الأصنام من اليونان ، فقوله : (ما أَنْتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنا) صالح لأن يصدر من عبدة الأوثان وهو ظاهر لظنهم أن الآلهة لا تبعث الرسل ولا توحي إلى أحد ، ولذلك جاء في سفر أعمال الرسل (١) أن بعض اليونان من أهل مدينة (لسترة) رأوا معجزة من بولس النبي فقالوا بلسان يوناني : إن الآلهة تشبهوا بالناس ونزلوا إلينا فكانوا يدعون (برنابا) (زفس). أي كوكب المشتري ، و (بولس) (هرمس) أي كوكب عطارد وجاءهما كاهن (زفس) بثيران ليذبحها لهما ، وأكاليل ليضعها عليهما ، فلما رأى ذلك (بولس وبرنابا) مزّقا ثيابهما وصرخا : نحن بشر مثلكم نعظكم أن ترجعوا عن هذه الأباطيل إلى الإله الحي الذي خلق السماوات والأرض إلخ.

وصالح لأن يصدر من اليهود الذين لم يتنصّروا لأن ذلك القول يقتضي أنهما وبقية اليهود سواء وأن لا فضل لهما بما يزعمون من النبوءة ويقتضي إنكار أن يكون الله أنزل شيئا ، أي بعد التوراة. فمن إعجاز القرآن جمع مقالة الفريقين في هاتين الجملتين.

واختيار وصف (الرَّحْمنُ) في حكاية قول الكفرة (وَما أَنْزَلَ الرَّحْمنُ مِنْ شَيْءٍ) لكونه صالحا لعقيدة الفريقين لأن اليونان لا يعرفون اسم الله ، وربّ الأرباب عندهم هو (زفس) وهو مصدر الرحمة في اعتقادهم ، واليهود كانوا يتجنبون النطق باسم الله الذي هو في لغتهم (يهوه) فيعوضونه بالصفات.

__________________

(١) انظر «الإصحاح» ١٤.

٢٠٨

والاستثناء في (إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَكْذِبُونَ) استفهام مفرغ من أخبار محذوفة فجملة (تَكْذِبُونَ) في موضع الخبر عن ضمير (أَنْتُمْ).

[١٦ ، ١٧] (قالُوا رَبُّنا يَعْلَمُ إِنَّا إِلَيْكُمْ لَمُرْسَلُونَ (١٦) وَما عَلَيْنا إِلاَّ الْبَلاغُ الْمُبِينُ (١٧))

حكيت هذه المحاورة على سنن حكاية المحاورات بحكاية أقوال المتحاورين دون عطف.

و (رَبُّنا يَعْلَمُ) قسم لأنه استشهاد بالله على صدق مقالتهم ، وهو يمين قديمة انتقلها العرب في الجاهلية فقال الحارث بن عبّاد :

لم أكن من جناتها علم الل

ه وإني لحرّها اليوم صالي

ويظهر أنه كان مغلّظا عندهم لقلة وروده في كلامهم ولا يكاد يقع إلّا في مقام مهم. وهو عند علماء المسلمين يمين كسائر الأيمان فيها كفارة عند الحنث. وقال بعض علماء الحنفية : إن لهم قولا بأن الحالف به كاذبا تلزمه الردّة لأنه نسب إلى علم الله ما هو مخالف للواقع ، فآل إلى جعل علم الله جهلا. وهذا يرمي إلى التغليظ والتحذير وإلّا فكيف يكفر أحد بلوازم بعيدة.

واضطرهم إلى شدّة التوكيد بالقسم ما رأوا من تصميم كثير من أهل القرية على تكذيبهم. ويسمى هذا المقدار من التأكيد ضربا إنكاريّا.

وأما قولهم : (وَما عَلَيْنا إِلَّا الْبَلاغُ الْمُبِينُ) فذلك وعظ وعظوا به القوم ليعلموا أنهم لا منفعة تنجرّ لهم من إيمان القوم وإعلان لهم بالتبرّؤ من عهدة بقاء القوم على الشرك وذلك من شأنه أن يثير النظر الفكري في نفوس القوم.

و (الْبَلاغُ) اسم مصدر من أبلغ إذا أوصل خبرا ، قال تعالى : (إِنْ عَلَيْكَ إِلَّا الْبَلاغُ) [الشورى : ٤٨] وقال : (هذا بَلاغٌ لِلنَّاسِ) [إبراهيم : ٥٢]. ولا يستعمل البلاغ في إيصال الذوات. والفقهاء يقولون في كراء السفن والرواحل : إن منه ما هو على البلاغ. يريدون على الوصول إلى مكان معيّن بين المكري والمكتري.

و (الْمُبِينُ) وصف للبلاغ ، أي البلاغ الواضح دلالة وهو الذي لا إيهام فيه ولا مواربة.

٢٠٩

(قالُوا إِنَّا تَطَيَّرْنا بِكُمْ لَئِنْ لَمْ تَنْتَهُوا لَنَرْجُمَنَّكُمْ وَلَيَمَسَّنَّكُمْ مِنَّا عَذابٌ أَلِيمٌ (١٨))

لما غلبتهم الحجة من كل جانب وبلغ قول الرسل (وَما عَلَيْنا إِلَّا الْبَلاغُ الْمُبِينُ) [يس : ١٧] من نفوس أصحاب القرية مبلغ الخجل والاستكانة من إخفاق الحجة والاتسام بميسم المكابرة والمنابذة للذين يبتغون نفعهم انصرفوا إلى ستر خجلهم وانفحامهم بتلفيف السبب لرفض دعوتهم بما حسبوه مقنعا للرسل بترك دعوتهم ظنّا منهم أن يدّعونه شيء خفي لا قبل لغير مخترعه بالمنازعة فيه ، وذلك بأن زعموا أنهم تطيّروا بهم ولحقهم منهم شؤم ، ولا بد للمغلوب من بارد العذر.

والتطير في الأصل : تكلف معرفة دلالة الطير على خير أو شر من تعرض نوع الطير ومن صفة اندفاعه أو مجيئه ، ثم أطلق على كل حدث يتوهم منه أحد أنه كان سببا في لحاق شر به فصار مرادفا للتشاؤم.

وفي الحديث : «لا عدوى ولا طيرة وإنما الطيرة على من تطير» وبهذا المعنى أطلق في هذه الآية ، أي قالوا : إنا تشاءمنا بكم.

ومعنى (بِكُمْ) بدعوتكم ، وليسوا يريدون أن القرية حلّ بها حادث سوء يعمّ الناس كلهم من قحط أو وباء أو نحو ذلك من الضرّ العام مقارن لحلول الرسل أو لدعوتهم ، وقد جوزه بعض المفسرين ، وإنما معنى ذلك : أن أحدا لا يخلو في هذه الحياة من أن يناله مكروه. ومن عادة أصحاب الأوهام السخيفة والعقول المأفونة أن يسندوا الأحداث إلى مقارناتها دون معرفة أسبابها ثم أن يتخيروا في تعيين مقارنات الشؤم أمورا لا تلائم شهواتهم وما ينفرون منه ، وأن يعينوا من المقارنات للتيمن ما يرغبون فيه وتقبله طباعهم يغالطون بذلك أنفسهم شأن أهل العقول الضعيفة ، فمرجع العلل كلها لديهم إلى أحوال نفوسهم ورغائبهم كما حكى الله تعالى عن قوم فرعون : (فَإِذا جاءَتْهُمُ الْحَسَنَةُ قالُوا لَنا هذِهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَطَّيَّرُوا بِمُوسى وَمَنْ مَعَهُ) [الأعراف : ١٣١] وحكى عن مشركي مكة (وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَقُولُوا هذِهِ مِنْ عِنْدِكَ) [النساء : ٧٨].

ويجوز أن يكونوا أرادوا بالشؤم أن دعوتهم أحدثت مشاجرات واختلافا بين أهل القرية فلما تمالأت نفوس أهل القرية على أن تعليل كل حدث مكروه يصيب أحدهم بأنه من جراء هؤلاء الرسل اتفقت كلمتهم على ذلك فقالوا : (إِنَّا تَطَيَّرْنا بِكُمْ) أي يقولها

٢١٠

الواحد منهم أو الجمع فيوافقهم على ذلك جميع أهل القرية.

ثم انتقلوا إلى المطالبة بالانتهاء عن هذه الدعوة فقالوا : (لَئِنْ لَمْ تَنْتَهُوا لَنَرْجُمَنَّكُمْ وَلَيَمَسَّنَّكُمْ مِنَّا عَذابٌ أَلِيمٌ) وبذلك ألجئوا (بولس) و (برنابا) إلى الخروج من أنطاكية فخرجا إلى أيقونية وظهرت كرامة (بولس) في أيقونية ثم في (لسترة) ثم في (دربة). ولم يزل اليهود في كل مدينة من هذه المدن يشاقّون الرسل ويضطهدونهم ويثيرون الناس عليهم ويلحقونهم إلى كل بلد يحلّون به ليشغبوا عليهم ، فمسّهم من ذلك عذاب وضرّ ورجم (بولس) في مدينة (لسترة) حتى حسبوا أن قد مات.

ولام (لَئِنْ لَمْ تَنْتَهُوا) موطئة للقسم حكي بها ما صدر منهم من قسم بكلامهم.

(قالُوا طائِرُكُمْ مَعَكُمْ أَإِنْ ذُكِّرْتُمْ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ مُسْرِفُونَ (١٩))

حكي قول الرسل بما يرادفه ويؤدي معناه بأسلوب عربي تعريضا بأهل الشرك من قريش الذين ضربت القرية مثلا لهم ، فالرسل لم يذكروا مادة الطيرة والطير وإنما أتوا بما يدل على أن شؤم القوم متصل بذواتهم لا جاء من المرسلين إليهم فحكي بما يوافقه في كلام العرب تعريضا بمشركي مكة وهذا بمنزلة التجريد لضرب المثل لهم بأن لوحظ في حكاية القصة ما هو من شئون المشبّهين بأصحاب القصة.

ولما كانت الطيرة بمعنى الشؤم مشتقة من اسم الطير لوحظ فيها مادة الاشتقاق.

وقد جاء إطلاق الطائر على معنى الشؤم في قوله تعالى في سورة الأعراف [١٣١] :(أَلا إِنَّما طائِرُهُمْ عِنْدَ اللهِ) على طريقة المشاكلة.

ومعنى (طائِرُكُمْ مَعَكُمْ) الطائر الذي تنسبون إليه الشؤم هو معكم ، أي في نفوسكم ، أرادوا أنكم لو تدبرتم لوجدتم أن سبب ما سميتموه شؤما هو كفركم وسوء سمعكم للمواعظ ، فإن الذين استمعوا أحسن القول اتبعوه ولم يعتدوا عليكم ، وأنتم الذين آثرتم الفتنة وأسعرتم البغضاء والإحن فلا جرم أنتم سبب سوء الحالة التي حدثت في المدينة.

وأشار آخر كلامهم إلى هذا إذ قالوا : (أَإِنْ ذُكِّرْتُمْ) بطريقة الاستفهام الإنكاري الداخل على (إِنْ) الشرطية ، فهو استفهام على محذوف دلّ عليه الكلام السابق ، وقيّد ذلك المحذوف بالشرط الذي حذف جوابه أيضا استغناء عنه بالاستفهام عنه ، وهما بمعنى واحد ، إلا أن سيبويه يرجّح إذا اجتمع الاستفهام والشرط أن يؤتى بما يناسب الاستفهام

٢١١

لو صرح به ، فكذلك لمّا حذف يكون المقدّر مناسبا للاستفهام. والتقدير : أتتشاءمون بالتذكير إن ذكرتم ، لما يدل عليه قول أهل القرية (إِنَّا تَطَيَّرْنا بِكُمْ) [يس : ١٨] ، أي بكلامكم وأبطلوا أن يكون الشؤم من تذكيرهم بقولهم : (بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ مُسْرِفُونَ) أي لا طيرة فيما زعمتم ولكنكم قوم كافرون غشيت عقولكم الأوهام فظننتم ما فيه نفعكم ضرّا لكم ، ونطتم الأشياء بغير أسبابها من إغراقكم في الجهالة والكفر وفساد الاعتقاد. ومن إسرافكم اعتقادكم بالشؤم والبخت.

وقرأ الجمهور (أَإِنْ ذُكِّرْتُمْ) بهمزة استفهام داخلة على (إِنْ) المكسورة الهمزة الشرطية وتشديد الكاف. وقرأه أبو جعفر أأن ذكرتم بفتح كلتا الهمزتين وبتخفيف الكاف من (ذُكِّرْتُمْ). والاستفهام تقرير ، أي ألأجل إن ذكرنا أسماءكم حين دعوناكم حلّ الشؤم بينكم كناية عن كونهم أهلا لأن تكون أسماؤهم شؤما.

وفي ذكر كلمة (قَوْمٌ) إيذان بأن الإسراف متمكن منهم وبه قوام قوميتهم كما تقدم في قوله : (لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ) في سورة البقرة [١٦٤].

[٢٠ ـ ٢٥] (وَجاءَ مِنْ أَقْصَا الْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعى قالَ يا قَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ (٢٠) اتَّبِعُوا مَنْ لا يَسْئَلُكُمْ أَجْراً وَهُمْ مُهْتَدُونَ (٢١) وَما لِيَ لا أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (٢٢) أَأَتَّخِذُ مِنْ دُونِهِ آلِهَةً إِنْ يُرِدْنِ الرَّحْمنُ بِضُرٍّ لا تُغْنِ عَنِّي شَفاعَتُهُمْ شَيْئاً وَلا يُنْقِذُونِ (٢٣) إِنِّي إِذاً لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ (٢٤) إِنِّي آمَنْتُ بِرَبِّكُمْ فَاسْمَعُونِ (٢٥))

عطف على قصة التحاور الجاري بين أصحاب القرية والرسل الثلاثة لبيان البون بين حال المعاندين من أهل القرية وحال الرجل المؤمن منهم الذي وعظهم بموعظة بالغة وهو من نفر قليل من أهل القرية.

فلك أن تجعل جملة (وَجاءَ مِنْ أَقْصَا الْمَدِينَةِ) عطفا على جملة (جاءَهَا الْمُرْسَلُونَ) [يس : ١٣] ولك أن تجعلها عطفا على جملة (فَقالُوا إِنَّا إِلَيْكُمْ مُرْسَلُونَ) [يس : ١٤].

والمراد بالمدينة هنا نفس القرية المذكورة في قوله : (أَصْحابَ الْقَرْيَةِ) [يس : ١٣] عبر عنها هنا بالمدينة تفننا ، فيكون (أَقْصَا) صفة لمحذوف هو المضاف في المعنى إلى المدينة. والتقدير : من بعيد المدينة ، أي طرف المدينة ، وفائدة ذكر أنه جاء من أقصى المدينة الإشارة إلى أن الإيمان بالله ظهر في أهل ربض المدينة قبل ظهوره في قلب المدينة

٢١٢

لأن قلب المدينة هو مسكن حكامها وأحبار اليهود وهم أبعد عن الإنصاف والنظر في صحة ما يدعوهم إليه الرسل ، وعامة سكانها تبع لعظمائها لتعلقهم بهم وخشيتهم بأسهم بخلاف سكان أطراف المدينة فهم أقرب إلى الاستقلال بالنظر وقلة اكتراث بالآخرين لأن سكان الأطراف غالبهم عملة أنفسهم لقربهم من البدو.

وبهذا يظهر وجه تقديم (مِنْ أَقْصَا الْمَدِينَةِ) على (رَجُلٌ) للاهتمام بالثناء على أهل أقصى المدينة. وأنه قد يوجد الخير في الأطراف ما لا يوجد في الوسط ، وأن الإيمان يسبق إليه الضعفاء لأنهم لا يصدهم عن الحق ما فيه أهل السيادة من ترف وعظمة إذ المعتاد أنهم يسكنون وسط المدينة ، قال أبو تمام :

كانت هي الوسط المحميّ فاتصلت

بها الحوادث حتى أصبحت طرفا

وأما قوله تعالى في سورة القصص [٢٠](وَجاءَ رَجُلٌ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ يَسْعى) فجاء النظم على الترتيب الأصلي إذ لا داعي إلى التقديم إذ كان ذلك الرجل ناصحا ولم يكن داعيا للإيمان.

وعلى هذا فهذا الرجل غير مذكور في سفر أعمال الرسل وهو مما امتاز القرآن بالإعلام به. وعن ابن عباس وأصحابه وجد أن اسمه حبيب بن مرة قيل : كان نجارا وقيل غير ذلك فلما أشرف الرسل على المدينة رآهم ورأى معجزة لهم أو كرامة فآمن. وقيل : كان مؤمنا من قبل ، ولا يبعد أن يكون هذا الرجل الذي وصفه المفسرون بالنجّار أنه هو (سمعان) الذي يدعى (بالنيجر) المذكور في الإصحاح الحادي عشر من سفر أعمال الرسل وأن وصف النجار محرف عن (نيجر) فقد جاء في الأسماء التي جرت في كلام المفسرين عن ابن عباس اسم شمعون الصفا أو سمعان. وليس هذا الاسم موجودا في كتاب أعمال الرسل.

ووصف الرجل بالسعي يفيد أنه جاء مسرعا وأنه بلغه همّ أهل المدينة برجم الرسل أو تعذيبهم ، فأراد أن ينصحهم خشية عليهم وعلى الرسل ، وهذا ثناء على هذا الرجل يفيد أنه ممن يقتدى به في الإسراع إلى تغيير المنكر.

وجملة (قالَ يا قَوْمِ) بدل اشتمال من جملة «جاء رجل» لأن مجيئه لما كان لهذا الغرض كان مما اشتمل عليه المجيء المذكور.

وافتتاح خطابه إياهم بندائهم بوصف القومية له قصد منه أن في كلامه الإيماء إلى أن

٢١٣

ما سيخاطبهم به هو محض نصيحة لأنه يحب لقومه ما يحب لنفسه.

والاتباع : الامتثال ، استعير له الاتّباع تشبيها للآخذ برأي غيره بالمتبع له في سيره. والتعريف في (الْمُرْسَلِينَ) للعهد.

وجملة (اتَّبِعُوا مَنْ لا يَسْئَلُكُمْ أَجْراً) مؤكدة لجملة (اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ) مع زيادة الإيماء إلى علة اتّباعهم بلوائح علامات الصدق والنصح على رسالتهم إذ هم يدعون إلى هدى ولا نفع ينجرّ لهم من ذلك فتمحّضت دعوتهم لقصد هداية المرسل إليهم ، وهذه كلمة حكمة جامعة ، أي اتبعوا من لا تخسرون معهم شيئا من دنياكم وتربحون صحة دينكم.

وإنما قدم في الصلة عدم سؤال الأجر على الاهتداء لأن القوم كانوا في شك من صدق المرسلين وكان من دواعي تكذيبهم اتّهامهم بأنهم يجرّون لأنفسهم نفعا من ذلك لأن القوم لما غلب عليهم التعلق بحب المال وصاروا بعداء عن إدراك المقاصد السامية كانوا يعدّون كل سعي يلوح على امرئ إنما يسعى به إلى نفعه. فقدم ما يزيل عنهم هذه الاسترابة وليتهيّئوا إلى التأمل فيما يدعونهم إليه ، ولأن هذا من قبيل التخلية بالنسبة للمرسلين والمرسل إليهم ، والتخلية تقدّم على التحلية ، فكانت جملة (لا يَسْئَلُكُمْ أَجْراً) أهم في صلة الموصول.

والأجر يصدق بكل نفع دنيوي يحصل لأحد من عمله فيشمل المال والجاه والرئاسة. فلما نفي عنهم أن يسألوا أجرا فقد نفي عنهم أن يكونوا يرمون من دعوتهم إلى نفع دنيوي يحصل لهم.

وبعد ذلك تهيّأ الموقع لجملة (وَهُمْ مُهْتَدُونَ) ، أي وهم متّصفون بالاهتداء إلى ما يأتي بالسعادة الأبدية ، وهم إنما يدعونكم إلى أن تسيروا سيرتهم فإذا كانوا هم مهتدين فإن ما يدعونكم إليه من الاقتداء بهم دعوة إلى الهدى ، فتضمنت هذه الجملة بموقعها بعد التي قبلها ثناء على المرسلين وعلى ما يدعون إليه وترغيبا في متابعتهم.

وأعلم أن هذه الآية قد مثل بها القزويني في «الإيضاح» و «التلخيص» للإطناب المسمى بالإيغال وهو أن يؤتى بعد تمام المعنى المقصود بكلام آخر يتمّ المعنى بدونه لنكتة ، وقد تبين لك مما فسّرنا به أن قوله : (وَهُمْ مُهْتَدُونَ) لم يكن مجرد زيادة بل كان لتوقف الموعظة عليها ، وكان قوله : (مَنْ لا يَسْئَلُكُمْ أَجْراً) كالتوطئة له. ونعتذر لصاحب «التلخيص» بأن المثال يكفي فيه الفرض والتقدير.

٢١٤

وجاءت الجملة الأولى من الصلة فعلية منفية لأن المقصود نفي أن يحدث منهم سؤال أجر فضلا عن دوامه وثباته ، وجاءت الجملة الثانية اسمية لإفادة إثبات اهتدائهم ودوامه بحيث لا يخشى من يتبعهم أن يكون في وقت من الأوقات غير مهتد.

وقوله : (وَما لِيَ لا أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ) عطف على جملة (اتَّبِعُوا)

(الْمُرْسَلِينَ) قصد إشعارهم بأنه اتّبع المرسلين وخلع عبادة الأوثان ، وأبرز الكلام في صورة استفهام إنكاري وبصيغة : ما لي لا أفعل ، التي شأنها أن يوردها المتكلم في ردّ على من أنكر عليه فعلا ، أو ملكه العجب من فعله أو يوردها من يقدر ذلك في قلبه ، ففيه إشعار بأنهم كانوا منكرين عليه الدعوة إلى تصديق الرسل الذين جاءوا بتوحيد الله فإن ذلك يقتضي أنه سبقهم بما أمرهم به.

و (ما) استفهامية في موضع رفع بالابتداء ، والمجرور من قوله : (لِيَ) خبر عن (ما) الاستفهامية.

وجملة (لا أَعْبُدُ) حال من الضمير. والمعنى : وما يكون لي في حال لا أعبد الذي فطرني ، أي لا شيء يمنعني من عبادة الذي خلقني ، وهذا الخبر مستعمل في التعريض بهم كأنه يقول : وما لي لا أعبد وما لكم لا تعبدون الذي فطركم بقرينة قوله : (وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ) ، إذ جعل الإسناد إلى ضميرهم تقوية لمعنى التعرض ، وإنما ابتدأه بإسناد الخبر إلى نفسه لإبرازه في معرض المناصحة لنفسه وهو مريد مناصحتهم ليتلطّف بهم ويدارئهم فيسمعهم الحق على وجه لا يثير غضبهم ويكون أعون على قبولهم إياه حين يرون أنه لا يريد لهم إلّا ما يريد لنفسه.

ثمّ أتبعه بإبطال عبادة الأصنام فرجع إلى طريقة التعريض بقوله : (أَأَتَّخِذُ مِنْ دُونِهِ آلِهَةً) وهي جملة مستأنفة استئنافا بيانيا لاستشعار سؤال عن وقوع الانتفاع بشفاعة تلك الآلهة عند الذي فطره ، والاستفهام إنكاري ، أي أنكر على نفسي أن أتخذ من دونه آلهة ، أي لا أتخذ آلهة.

والاتخاذ : افتعال من الأخذ وهو التناول ، والتناول يشعر بتحصيل ما لم يكن قبل ، فالاتخاذ مشعر بأنه صنع وذلك من تمام التعريض بالمخاطبين أنهم جعلوا الأوثان آلهة وليست بآلهة لأن الإله الحق لا يجعل جعلا ولكنه مستحق الإلهية بالذات.

ووصف الآلهة المزعومة المفروضة الاتخاذ بجملة الشرط بقوله : (إِنْ يُرِدْنِ الرَّحْمنُ

٢١٥

بِضُرٍّ لا تُغْنِ عَنِّي شَفاعَتُهُمْ شَيْئاً وَلا يُنْقِذُونِ). والمقصود : التعريض بالمخاطبين في اتخاذهم تلك الآلهة بعلة أنها تشفع لهم عند الله وتقربهم إليه زلفى. وقد علم من انتفاء دفعهم الضر أنهم عاجزون عن جلب نفع لأن دواعي دفع الضر عن المولى أقوى وأهم ، ولحاق العار بالوليّ في عجزه عنه أشد.

وجاء بوصف (الرَّحْمنِ) دون اسم الجلالة للوجه المتقدم آنفا عند قوله تعالى : (قالُوا ما أَنْتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنا وَما أَنْزَلَ الرَّحْمنُ مِنْ شَيْءٍ) [يس : ١٥].

والإنقاذ : التخليص من غلب أو كرب أو حيرة ، أي لا تنفعني شفاعتهم عند الله الذي أرادني بضر ولا ينقذونني من الضر إذا أصابني.

وإذ قد نفي عن شفاعتهم النفع للمشفوع فيه فقد نفي عنهم أن يشفعوا بطريق الالتزام لأن من يعلم أنه لا يشفع لا يشفّع ، فكأنه قال : آتخذ من دونه آلهة لا شفاعة لهم عند الله ، لإبطال اعتقادهم أنهم شفعاء مقبولو الشفاعة. وإذ كانت شفاعتهم لا تنفع لعجزهم وعدم مساواتهم لله الذي يضرّ وينفع في صفات الإلهية كان انتفاء أن ينقذوا أولى. وإنما ذكر العدول عن دلالة الفحوى إلى دلالة المنطوق لأن المقام مقام تصريح لتعلقه بالإيمان وهو أساس الصلاح.

وجملة (إِنِّي إِذاً لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ) جواب للاستفهام الإنكاري. فحرف (إِذاً) جزاء للمنفي لا للنفي ، أي إن اتخذت من دون الله آلهة أكن في ضلال مبين.

وجملة (إِنِّي آمَنْتُ بِرَبِّكُمْ فَاسْمَعُونِ) واقعة موقع الغاية من الخطاب والنتيجة من الدليل. وهذا إعلان لإيمانه وتسجيل عليهم بأن الله هو ربهم لا تلك الأصنام.

وأكد الإعلان بتفريع (فَاسْمَعُونِ) استدعاء لتحقيق أسماعهم إن كانوا في غفلة.

[٢٦ ، ٢٧] (قِيلَ ادْخُلِ الْجَنَّةَ قالَ يا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ (٢٦) بِما غَفَرَ لِي رَبِّي وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُكْرَمِينَ (٢٧))

استئناف بياني لما ينتظره سامع القصة من معرفة ما لقيه من قومه بعد أن واجههم بذلك الخطاب الجزل. وهل اهتدوا بهديه أو أعرضوا عنه وتركوه أو آذوه كما يؤذى أمثاله من الداعين إلى الحق المخالفين هوى الدهماء فيجاب بما دل عليه قوله : (قِيلَ ادْخُلِ الْجَنَّةَ) وهو الأهم عند المسلمين وهم من المقصودين بمعرفة مثل هذا ليزدادوا يقينا وثباتا

٢١٦

في إيمانهم ، وأما المشركون فحظهم من المثل ما تقدم وما يأتي من قوله : (إِنْ كانَتْ إِلَّا صَيْحَةً واحِدَةً فَإِذا هُمْ خامِدُونَ) [يس : ٢٩].

وفي قوله : (قِيلَ ادْخُلِ الْجَنَّةَ) كناية عن قتله شهيدا في إعلاء كلمة الله لأن تعقيب موعظته بأمره بدخول الجنة دفعة بلا انتقال يفيد بدلالة الاقتضاء أنه مات وأنهم قتلوه لمخالفته دينهم ، قال بعض المفسرين : قتلوه رجما بالحجارة ، وقال بعضهم : أحرقوه ، وقال بعضهم : حفروا له حفرة وردموه فيها حيّا.

وإن هذا الرجل المؤمن قد أدخل الجنة عقب موته لأنه كان من الشهداء والشهداء لهم مزية التعجيل بدخول الجنة دخولا غير موسع. ففي الحديث : «إن أرواح الشهداء في حواصل طيور خضر تأكل من ثمار الجنة».

والقائل : (ادْخُلِ الْجَنَّةَ) هو الله تعالى.

والمقول له هو الرجل الذي جاء من أقصى المدينة وإنما لم يذكر ضمير المقول له مجرورا باللام لأن القول المذكور هنا قول تكويني لا يقصد منه المخاطب به بل يقصد حكاية حصوله لأنه إذا حصل حصل أثره كقوله تعالى : (أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ) [النحل : ٤٠].

وإذ لم يقصّ في المثل أنه غادر مقامه الذي قام فيه بالموعظة كان ذلك إشارة إلى أنه مات في مقامه ذلك ، ويفهم منه أنه مات قتيلا في ذلك الوقت أو بإثره.

وإنما سلك في هذا المعنى طريق الكناية ولم يصرح بأنهم قتلوه إغماضا لهذا المعنى عن المشركين كيلا يسرّهم أن قومه قتلوه فيجعلوه من جملة ما ضرب به المثل لهم والرسولصلى‌الله‌عليه‌وسلم فيطمعوا فيه أنهم يقتلون الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم فهذه الكناية لا يفهمها إلّا أهل الإسلام الذين تقرر عندهم التلازم بين الشهادة في سبيل الله ودخول الجنة ، أما المشركون فيحسبون أن ذلك في الآخرة. وقد تكون في الكلام البليغ خصائص يختص بنفعها بعض السامعين.

وجملة (قالَ يا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ) مستأنفة أيضا استئنافا بيانيا لأن السامع يترقب ما ذا قال حين غمره الفرح بدخول الجنة. والمعنى : أنه لم يلهه دخوله الجنة عن حال قومه ، فتمنى أن يعلموا ما ذا لقي من ربه ليعلموا فضيلة الإيمان فيؤمنوا وما تمنّى هلاكهم ولا الشماتة بهم فكان متّسما بكظم الغيظ وبالحلم على أهل الجهل ، وذلك لأن عالم الحقائق لا تتوجه فيه النفس إلّا إلى الصلاح المحض ولا قيمة للحظوظ الدنية وسفساف الأمور.

٢١٧

وأدخلت الباء على مفعول (يَعْلَمُونَ) لتضمينه معنى : يخبرون ، لأنه لا مطمع في أن يحصل لهم علم ذلك بالنظر والاستدلال.

و (ما) من قوله : (بِما غَفَرَ لِي رَبِّي) مصدرية ، أي يعلمون بغفران ربي وجعله إياي من المكرمين.

والمراد بالمكرمين : الذين تلحقهم كرامة الله تعالى وهم الملائكة والأنبياء وأفضل الصالحين قال تعالى : (بَلْ عِبادٌ مُكْرَمُونَ) [الأنبياء : ٢٦] يعني الملائكة وعيسىعليهم‌السلام.

[٢٨ ، ٢٩] (وَما أَنْزَلْنا عَلى قَوْمِهِ مِنْ بَعْدِهِ مِنْ جُنْدٍ مِنَ السَّماءِ وَما كُنَّا مُنْزِلِينَ (٢٨) إِنْ كانَتْ إِلاَّ صَيْحَةً واحِدَةً فَإِذا هُمْ خامِدُونَ (٢٩))

رجوع إلى قصة أصحاب القرية بعد أن انقطع الحديث عنهم بذكر الرجل المؤمن الذي جاء من أقصى المدينة ناصحا لهم وكان هذا الرجوع بمناسبة أن القوم قوم ذلك الرجل.

فجملة (وَما أَنْزَلْنا عَلى قَوْمِهِ) إلخ عطف على جملة (قِيلَ ادْخُلِ الْجَنَّةَ) [يس: ٢٦] فهي مستأنفة أيضا استئنافا بيانيا لأن السامع يتشوف إلى معرفة ما كان من هذا الرجل ومن أمر قومه الذين نصحهم فلم ينتصحوا فلما بيّن للسامع ما كان من أمره عطف عليه بيان ما كان من أمر القوم بعده.

وافتتاح قصة عقابهم في الدنيا بنفي صورة من صور الانتقام تمهيد للمقصود من أنهم ما حلّ بهم إلّا مثل ما حلّ بأمثالهم من عذاب الاستئصال ، أي لم ننزل جنودا من السماء مخلوقة لقتال قومه ، أو لم ننزل جنودا من الملائكة من السماء لإهلاكهم ، وما كانت عقوبتهم إلّا صيحة واحدة من ملك واحد أهلكتهم جميعا.

و (مِنْ) في قوله : (مِنْ بَعْدِهِ) مزيدة في الظرف لتأكيد اتصال المظروف بالظرف وأصلها (مِنْ) الابتدائية ، وإضافة بعد إلى ضمير الرجل على تقدير مضاف شائع الحذف ، أي بعد موته كقوله تعالى : (إِذْ قالَ لِبَنِيهِ ما تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي)[البقرة : ١٣٣].

و (مِنْ) في قوله : (مِنْ جُنْدٍ) مؤكدة لعموم (جُنْدٍ) في سياق النفي ، و (مِنْ) في قوله : (مِنَ السَّماءِ) ابتدائية وفي الإتيان بحرف (مِنْ) ثلاث مرات مع اختلاف المعنى

٢١٨

محسّن الجناس. وفي هذا تعريض بالمشركين من أهل مكة إذ قالوا للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : (أَوْ تَأْتِيَ بِاللهِ وَالْمَلائِكَةِ قَبِيلاً) [الإسراء : ٩٢] أي تأتي بالله الذي تدّعي أنه أرسلك ومعه جنده من الملائكة ليثأر لك.

فجملة (وَما كُنَّا مُنْزِلِينَ) معترضة بين نوعي العقاب المنفي والمثبت ، لقصد الرد على المشركين بأن سنة الله تعالى لم تجر بإنزال الجنود على المكذبين وشأن العاصين أدون من هذا الاهتمام.

والصيحة : المرة من الصياح ، بوزن فعلة ، فوصفها بواحدة تأكيد لمعنى الوحدة لئلا يتوهم أن المراد الجنس المفرد من بين الأجناس ، و (صَيْحَةً) منصوب على أنه خبر (كانَتْ) بعد الاستثناء المفرّغ ، ولحاق تاء التأنيث بالفعل مع نصب (صَيْحَةً) مشير إلى أن المستثنى منه المحذوف العقوبة أو الصيحة التي دلت عليها (صَيْحَةً واحِدَةً) ، أي لم تكن العقوبة أو الصيحة إلّا صيحة من صفتها أنها واحدة إلى آخره. وقرأ أبو جعفر برفع (صَيْحَةً) على أن «كان» تامة ، أي ما وقعت إلّا صيحة واحدة.

ومجيء «إذا» الفجائية في الجملة المفرعة على (إِنْ كانَتْ إِلَّا صَيْحَةً واحِدَةً) لإفادة سرعة الخمود إليهم بتلك الصيحة. وهذه الصيحة صاعقة كما قال تعالى حكاية عن ثمود : (فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ) [الحجر : ٧٣].

والخمود : انطفاء النار ، استعير للموت بعد الحياة المليئة بالقوة والطغيان ، ليتضمن الكلام تشبيه حال حياتهم بشبوب النار وحال موتهم بخمود النار فحصل لذلك استعارتان إحداهما صريحة مصرحة ، وأخرى ضمنية مكنية ورمزها الأولى ، وهما الاستعارتان اللتان تضمنهما قول لبيد :

وما المرء إلّا كالشهاب وضوئه

يحور رمادا بعد إذ هو ساطع

وتقدم قوله تعالى : (حَتَّى جَعَلْناهُمْ حَصِيداً خامِدِينَ) في سورة الأنبياء [١٥] ، فكان هذا الإيجاز في الآية بديعا لحصول معنى بيت لبيد في ثلاث كلمات. وهذا يشير إلى حدث عظيم حدث بأهل أنطاكية عقب دعوة المرسلين وهو كرامة لشهداء أتباع عيسىعليه‌السلام ، فإن كانت الصيحة صاعقة مثل صاعقة عاد وثمود كان الذين خمدوا بها جميع أهل القرية فلعلهم كانوا كفارا كلهم بعد موت الرجل الذي وعظهم وبعد مغادرة الرسل القرية. ولكن مثل هذا الحادث لم يذكر التاريخ حدوثه في أنطاكية ، فيجوز أن يهمل

٢١٩

التاريخ بعض الحوادث وخاصة في أزمنة الاضطراب والفتنة.

(يا حَسْرَةً عَلَى الْعِبادِ ما يَأْتِيهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (٣٠))

تذييل وهو من كلام الله تعالى واقع موقع الرثاء للأمم المكذبة الرسل شامل للأمة المقصودة بسوق الأمثال السابقة من قوله : (وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلاً أَصْحابَ الْقَرْيَةِ) [يس : ١٣] ، واطراد هذا السنن القبيح فيهم. فالتعريف في (الْعِبادِ) تعريف الجنس المستعمل في الاستغراق وهو استغراق ادعائي روعي فيه حال الأغلب على الأمم التي يأتيها رسول لعدم الاعتداء في هذا المقام بقلة الذين صدّقوا الرسل ونصروهم فكأنّهم كلهم قد كذبوا.

و (الْعِبادِ) : اسم للبشر وهو جمع عبد. والعبد : المملوك وجميع الناس عبيد الله تعالى لأنه خالقهم والمتصرف فيهم قال تعالى : (رِزْقاً لِلْعِبادِ) [ق : ١١] ، وقال المغيرة بن حبناء :

أمسى العباد بشرّ لا غياث لهم

إلا المهلب بعد الله والمطر

ويجمع على عبيد وعباد وغلب الجمع الأول على عبد بمعنى مملوك ، والجمع الثاني على عبد بمعنى آدمي ، وهو تخصيص حسن من الاستعمال العربي.

والحسرة : شدة الندم مشوبا بتلهف على نفع فائت. وحرف النداء هنا لمجرد التنبيه على خطر ما بعده ليصغي إليه السامع وكثر دخوله في الجمل المقصود منها إنشاء معنى في نفس المتكلم دون الإخبار فيكون اقتران ذلك الإنشاء بحرف التنبيه إعلانا بما في نفس المتكلم من مدلول الإنشاء كقولهم : يا خيبة ، ويا لعنة ، ويا ويلي ، ويا فرحي ، ويا ليتني ، ونحو ذلك ، قالت امرأة من طي من أبيات الحماسة :

فيا ضيعة الفتيان إذ يعتلونه

ببطن الشرا مثل الفنيق المسدّم

وبيت الكتاب :

يا لعنة الله والأقوام كلّهم

والصالحين على سمعان من جار

وقد يقع النداء في مثل ذلك بالهمزة كقول جعفر بن علبة الحارثي :

ألهفى بقرّى سحبل حين أجلبت

علينا الولايا والعدوّ المباسل

وأصل هذا النداء أنه على تنزيل المعنى المثير للإنشاء منزلة العاقل فيقصد اسمه بالنداء لطلب حضوره فكأن المتكلم يقول : هذا مقامك فاحضر ، كما ينادى من يقصد في أمر عظيم ، وينتقل من ذلك إلى الكتابة عما لحق المتكلم من حاجة إلى ذلك المنادي ثم

٢٢٠