تفسير التّحرير والتّنوير - ج ٢٢

الشيخ محمّد الطاهر ابن عاشور

تفسير التّحرير والتّنوير - ج ٢٢

المؤلف:

الشيخ محمّد الطاهر ابن عاشور


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة التاريخ العربي للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٢٨٨

(وَجَعَلُوا لِلَّهِ مِمَّا ذَرَأَ مِنَ الْحَرْثِ وَالْأَنْعامِ نَصِيباً) [الأنعام : ١٣٦] فلعل من أسلم من الفقراء سألوا المشركين ما اعتادوا يعطونهم قبل إسلامهم فيقولون أعطوا مما رزقكم الله وقد سمعوا منهم كلمات إسلامية لم يكونوا يسمعونها من قبل ، وربما كانوا يحاجونهم بأن الله هو الرزاق ولا يقع في الكون كائن إلّا بإرادته فجعل المشركون يتعللون لمنعهم بالاستهزاء فيقولون: لا نطعم من لو يشاء الله لأطعمه ، وإذا كان هذا رزقناه الله فلما ذا لم يرزقكم ، فلو شاء الله لأطعمكم كما أطعمنا. وقد يقول بعضهم ذلك جهلا فإنهم كانوا يجهلون وضع صفات الله في مواضعها كما حكى الله عنهم : (وَقالُوا لَوْ شاءَ الرَّحْمنُ ما عَبَدْناهُمْ)[الزخرف : ٢٠].

وإظهار الموصول من قوله : (قالَ الَّذِينَ كَفَرُوا) في مقام الإضمار مع أن مقتضى الظاهر أن يقال : قالوا أنطعم إلخ لنكتة الإيماء إلى أن صدور هذا القول منهم إنما هو لأجل كفرهم ولأجل إيمان الذين سئل الإنفاق عليهم.

روى ابن عطية : أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أمر المشركين بالإنفاق على المساكين في شدة أصابت الناس فشحّ فيها الأغنياء على المساكين ومنعوهم ما كانوا يعطونهم.

واللام في قوله : (لِلَّذِينَ آمَنُوا) يجوز أن تكون لتعدية فعل القول إلى المخاطب به أي خاطبوا المؤمنين بقولهم : (أَنُطْعِمُ مَنْ لَوْ يَشاءُ اللهُ أَطْعَمَهُ) ، ويجوز أن تكون اللام للعلة ، أي قال الذين كفروا لأجل الذين آمنوا ، أي قالوا في شأن الذين آمنوا كقوله تعالى : (الَّذِينَ قالُوا لِإِخْوانِهِمْ وَقَعَدُوا لَوْ أَطاعُونا ما قُتِلُوا) [آل عمران : ١٦٨] وقوله : (وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا لَوْ كانَ خَيْراً ما سَبَقُونا إِلَيْهِ) [الأحقاف : ١١] أي قالوا ذلك تعلة لعدم الإنفاق على فقراء المؤمنين.

والاستفهام في (أَنُطْعِمُ) إنكاري ، أي لا نطعم من لو شاء الله لأطعمهم بحسب اعتقادكم أن الله هو المطعم.

والتعبير في جوابهم بالإطعام مع أن المطلوب هو الإنفاق : إمّا لمجرد التفنن تجنبا لإعادة اللفظ فإن الإنفاق يراد منه الإطعام ، وإمّا لأنهم سئلوا الإنفاق وهو أعمّ من الإطعام لأنه يشمل الإكساء والإسكان فأجابوا بإمساك الطعام وهو أيسر أنواع الإنفاق ، ولأنهم كانوا يعيّرون من يشحّ بإطعام الطعام وإذا منعوا المؤمنين الطعام كان منعهم ما هو فوقه أحرى.

٢٤١

وجملة (إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا فِي ضَلالٍ مُبِينٍ) من قول المشركين يخاطبون المؤمنين ، أي ما أنتم في قولكم : (أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللهُ) وما في معناه من اعتقاد أن الله متصرف في أحوالنا إلّا متمكن منكم الضلال الواضح. وجعلوه ضلالا لجهلهم بصفات الله ، وجعلوه مبينا لأنهم يحكمون الظواهر من أسباب اكتساب المال وعدمه.

والجملة تعليل للإنكار المستفاد من الاستفهام.

[٤٨ ، ٥٠] (وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (٤٨) ما يَنْظُرُونَ إِلاَّ صَيْحَةً واحِدَةً تَأْخُذُهُمْ وَهُمْ يَخِصِّمُونَ (٤٩) فَلا يَسْتَطِيعُونَ تَوْصِيَةً وَلا إِلى أَهْلِهِمْ يَرْجِعُونَ (٥٠))

ذكر عقب استهزائهم بالمؤمنين لمّا منعوهم الإنفاق بعلة أن الله لو شاء لأطعمهم استهزاء آخر بالمؤمنين في تهديدهم المشركين بعذاب يحلّ بهم فكانوا يسألونهم هذا الوعد استهزاء بهم بقرينة قوله : (إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) ، فالاستفهام مستعمل كناية عن التهكم والتكذيب. وأطلق الوعد على الإنذار والتهديد بالشر لأن الوعد أعمّ ويتعين للخير والشر بالقرينة. واسم الإشارة للوعد مستعمل في الاستخفاف بوعد العذاب كما في قول قيس بن الخطيم :

متى يأت هذا الموت لا يلف حاجة

لنفسي إلّا قد قضيت قضاءها

وإذا قد كان استهزاؤهم هذا يسوء المسلمين أعلم الله ورسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم والمؤمنين بأن الوعد واقع لا محالة وأنهم ما ينتظرون إلّا صيحة تأخذهم فلا يفلتون من أخذتها.

وفعل (يَنْظُرُونَ) مشتق من النظرة وهو الترقب ، وتقدم في قوله تعالى : (هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلائِكَةُ) في سورة [الأنعام : ١٥٨].

والصيحة : الصوت الشديد الخارج من حلق الإنسان لزجر ، أو استغاثة. وأطلقت الصيحة في مواضع في القرآن على صوت الصاعقة كما في قوله تعالى في شأن ثمود : (فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ) [الحجر : ٧٣]. فالصيحة هنا تحتمل المجاز ، أي ما ينتظرون إلّا صعقة أو نفخة عظيمة. والمراد النفخة الأولى التي ينقضي بها نظام الحياة في هذا العالم ، والأخرى تنشأ عنها النشأة الثانية وهي الحياة الأبدية ، فيكون أسلوب الكلام خارجا على الأسلوب الحكيم إعراضا عن جوابهم لأنهم لم يقصدوا حقيقة الاستفهام فأجيبوا بأن ما أعد لهم من العذاب هو الأجدر بأن ينتظروه.

ومعنى (تَأْخُذُهُمْ) تهلكهم فجأة ، شبه حلول صيحة العقاب بحلول المغيرين على

٢٤٢

الحيّ لأخذ أنعامه وسبي نسائه ، فأطلق على ذلك الحلول فعل (تَأْخُذُهُمْ) كقوله تعالى : (فَعَصَوْا رَسُولَ رَبِّهِمْ فَأَخَذَهُمْ أَخْذَةً رابِيَةً) [الحاقة : ١٠] أي تحلّ بهم وهم يختصمون. وإسناد الأخذ إلى الصيحة حقيقة عقلية لأنهم يهلكون بصعقتها.

ويحتمل أن تكون الصيحة على حقيقتها وهي صيحة صائحين ، أي ما ينتظرون إلّا أن يصاح بهم صيحة تنذر بحلول القتل ، فيكون إنذارا بعذاب الدنيا. ولعلها صيحة الصارخ الذي جاءهم بخبر تعرّض المسلمين لركب تجارة قريش في بدر.

و (يَخِصِّمُونَ) من الخصومة والخصام وهو الجدال ، وتقدم في قوله : (وَلا تَكُنْ لِلْخائِنِينَ خَصِيماً) في سورة النساء [١٠٥] ، وقوله : (هذانِ خَصْمانِ) في سورة الحج [١٩]. وأصله : يختصمون فوقع إبدال التاء ضادا لقرب مخرجيهما طلبا للتخفيف بالإدغام.

واختلف القراء في كيفية النطق بها ، فقرأه الجميع بفتح الياء واختلفوا فيما عدا ذلك : فقرأ ورش عن نافع وابن كثير وأبو عمرو في رواية عنه (يَخِصِّمُونَ) بتشديد الصاد مكسورة على اعتبار التاء المبدلة صادا والمسكّنة لأجل الإدغام ، ألقيت حركتها على الخاء التي كانت ساكنة. وقرأه قالون عن نافع وأبو عمرو في المشهور عنه بسكون الخاء سكونا مختلسا (بالفتح) لأجل التخلص من التقاء الساكنين وبكسر الصاد مشدّدة. وقرأه عاصم والكسائي وابن ذكوان عن ابن عامر ويعقوب وخلف (يَخِصِّمُونَ) بكسر الخاء وكسر الصاد مشدّدة. وقرأه حمزة (يَخِصِّمُونَ) بسكون الخاء وكسر الصاد مخففة مضارع (خصم) قيل بمعنى جادل. وقرأ أبو جعفر (يَخِصِّمُونَ) بإسكان الخاء وبكسر الصاد مشددة على الجمع بين الساكنين.

والاختصام : اختصامهم في الخروج إلى بدر أو في تعيين من يخرج لما حلّ بهم من مفاجئات لهم وهم يختصمون بين مصدق ومكذب للنذير. وإسناد الأخذ إلى الصيحة على هذا التأويل مجاز عقلي لأن الصيحة وقت الأخذ وإنما تأخذهم سيوف المسلمين. وتقديم المسند إليه على المسند الفعلي في قوله : (وَهُمْ يَخِصِّمُونَ) لإفادة تقوّي الحكم وهو أن الصيحة تأخذهم.

وفرع على (تَأْخُذُهُمْ) جملة (فَلا يَسْتَطِيعُونَ تَوْصِيَةً) أي لا يتمكنون من توصية على أهليهم وأموالهم من بعدهم كما هو شأن المحتضر ، فإن كان المراد من الصيحة صيحة الواقعة كان قوله : (فَلا يَسْتَطِيعُونَ تَوْصِيَةً) كناية عن شدة السرعة بين الصيحة وهلاكهم ، إذ لا يكون المراد مدلوله الصريح لأنهم لا يتركون غيرهم بعدهم إذ الهلاك

٢٤٣

يأتي على جميع الناس.

وإن كان المراد من الصيحة صيحة القتال كان المعنى : أنهم يفزعون إلى مواقع القتال يوم بدر ، أو إلى ترقب وصول جيش الفتح يوم الفتح فلا يتمكنون من الحديث مع من يوصونه بأهليهم.

والتوصية : مصدر وصّى المضاعف وتنكيرها للتقليل ، أي لا يستطيعون توصية ما.

وقوله : (وَلا إِلى أَهْلِهِمْ يَرْجِعُونَ) يجوز أن يكون عطفا على (تَوْصِيَةً) ، أي لا يستطيعون الرجوع إلى أهلهم كشأن الذي يفاجئه ذعر فيبادر بافتقاد حال أهله من ذلك.

ويجوز أن يكون عطفا على جملة «لا يستطيعون» فيكون مما شمله التفريع بالفاء ، أي فلا يرجعون إلى أهلهم ، أي هم هالكون على الاحتمالين ، إلا أنه على احتمال أن يراد صيحة الحرب يخصص ضمير (يَرْجِعُونَ) بكبراء قريش الذين هلكوا يوم بدر لأنهم هم المتولّون كبر التكذيب والعناد ، أو الذين أكملوا بالهلاك يوم الفتح مثل عبد الله بن خطل الذي قتل يوم الفتح.

(وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَإِذا هُمْ مِنَ الْأَجْداثِ إِلى رَبِّهِمْ يَنْسِلُونَ (٥١))

يجوز أن تكون الواو للحال والجملة موضع الحال ، أي ما ينظرون إلّا صيحة واحدة وقد نفخ في الصور إلخ .. ويجوز أن تكون الواو اعتراضية ، وهذا الاعتراض واقع بين جملة (ما يَنْظُرُونَ إِلَّا صَيْحَةً واحِدَةً) [يس : ٤٩] إلخ ... وجملة (وَلَوْ نَشاءُ لَطَمَسْنا) [يس : ٦٦].

والمقصود : وعظهم بالبعث الذي أنكروه وبما وراءه.

والماضي مستعمل في تحقق الوقوع مثل (أَتى أَمْرُ اللهِ) [النحل : ١]. والمعنى : وينفخ في الصور ، أي وينفخ نافخ في الصور ، وهو الملك الموكّل به ، واسمه إسرافيل. وهذه النفخة الثانية التي في قوله تعالى : (ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرى فَإِذا هُمْ قِيامٌ يَنْظُرُونَ) [الزمر : ٦٨].

و «إذا» للمفاجأة وهي حصول مضمون الجملة التي بعدها سريعا وبدون تهيّؤ. وضمير (هُمْ) عائد إلى ما عادت إليه الضمائر السابقة. ويجوز أن يعود إلى معلوم من المقام ، أي فإذا الناس كلّهم ومنهم المتحدث عنهم.

و (الْأَجْداثِ) : جمع جدث بالتحريك ، وهو القبر.

٢٤٤

و (يَنْسِلُونَ) يمشون مشيا سريعا. وفعله من باب ضرب وورد من باب نصر قليلا. والمصدر : النسلان ، على وزن الغليان لما في معنى الفعل من التقليب والاضطراب ، وتقدم في آخر سورة الأنبياء. وهذا يقتضي أنهم قبروا بعد الصيحة التي أخذتهم فإن كانت الصيحة صيحة الواقعة فالأجداث هي ما يعلوهم من التراب في المدة التي بين الصيحة والنفخة. وقد ورد أن بينهما أربعين سنة إذ لا يبقى بعد تلك الصيحة أحد من البشر ليدفن من هلك منهم ، وإن كانت الصيحة صيحة الفزع إلى القتل فالأجداث على حقيقتها مثل قليب بدر.

ومعنى : (إِلى رَبِّهِمْ) إلى حكم ربهم وحسابه ، وهو متعلق ب (يَنْسِلُونَ).

(قالُوا يا وَيْلَنا مَنْ بَعَثَنا مِنْ مَرْقَدِنا هذا ما وَعَدَ الرَّحْمنُ وَصَدَقَ الْمُرْسَلُونَ (٥٢))

استئناف بياني لأن وصف هذه الحال بعد حكاية إنكارهم البعث وإحالتهم إياه يثير سؤال من يسأل عن مقالهم حينما يرون حقية البعث.

و (يا وَيْلَنا) كلمة يقولها الواقع في مصيبة أو المتحسّر. والويل : سوء الحال ، وإنما قالوا ذلك لأنهم رأوا ما أعدّ لهم من العذاب عند ما بعثوا. وقد تقدم عند قوله تعالى : (فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتابَ بِأَيْدِيهِمْ) في سورة البقرة [٧٩].

وحكي قولهم بصيغة الماضي اتباعا لحكاية ما قبله بصيغة المضيّ لتحقيق الوقوع.

وحرف النداء الداخل على (وَيْلَنا) للتنبيه وتنزيل الويل منزلة من يسمع فينادى ليحضر ، وقد تقدم عند قوله تعالى : (قالَتْ يا وَيْلَتى) في سورة هود [٧٢].

و (مَنْ) استفهام عن فاعل البعث مستعمل في التعجّب والتحسّر من حصول البعث. ولما كان البعث عندهم محالا كنّوا عن التعجب من حصوله بالتعجب من فاعله لأن الأفعال الغريبة تتوجه العقول إلى معرفة فاعلها لأنهم لما بعثوا وأزجي بهم إلى العذاب علموا أنه بعث فعله من أراد تعذيبهم.

والمرقد : مكان الرقاد. وحقيقة الرقاد : النوم. وأطلقوا الرقاد على الموت والاضطجاع في القبور تشبيها بحالة الراقد.

ثم لم يلبثوا أن استحضرت نفوسهم ما كانوا ينذرون به في الدنيا فاستأنفوا عن

٢٤٥

تعجبهم قولهم : (هذا ما وَعَدَ الرَّحْمنُ وَصَدَقَ الْمُرْسَلُونَ). وهذا الكلام خبر مستعمل في لازم الفائدة وهو أنهم علموا سبب ما تعجبوا منه فبطل العجب ، فيجوز أن يكونوا يقولون ذلك كما يتكلم المتحسّر بينه وبين نفسه ، وأن يقوله بعضهم لبعض كل يظن أن صاحبه لم يتفطن للسبب فيريد أن يعلمه به.

وأتوا في التعبير عن اسم الجلالة بصفة الرحمن إكمالا للتحسر على تكذيبهم بالبعث بذكر ما كان مقارنا للبعث في تكذيبهم وهو إنكار هذا الاسم كما قال تعالى : (وَإِذا قِيلَ لَهُمُ اسْجُدُوا لِلرَّحْمنِ قالُوا وَمَا الرَّحْمنُ) [الفرقان : ٦٠].

والإشارة بقوله : (هذا) إشارة إلى الحالة المرئية لجميعهم وهي حالة خروجهم من الأرض.

وجملة (وَصَدَقَ الْمُرْسَلُونَ) عطف على جملة (هذا ما وَعَدَ الرَّحْمنُ) وهو مستعمل في التحسّر على أن كذبوا الرسل.

وجمع المرسلين مع أن المحكي كلام المشركين الذين يقولون (مَتى هذَا الْوَعْدُ) [يس : ٤٨] إمّا لأنهم استحضروا أن تكذيبهم محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان باعثه إحالتهم أن يكون الله يرسل بشرا رسولا ، فكان ذلك لأنهم لا يصدقون أحدا يأتي برسالة من الله كما حكى عنهم قوله تعالى : (وَما قَدَرُوا اللهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِذْ قالُوا ما أَنْزَلَ اللهُ عَلى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ) [الأنعام : ٩١] فلما تحسروا على خطئهم ذكروه بما يشمله ويشمل سببه كقوله تعالى : (كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ الْمُرْسَلِينَ) من سورة الشعراء [١٠٥] ، وقوله في سورة الفرقان [٣٧](وَقَوْمَ نُوحٍ لَمَّا كَذَّبُوا الرُّسُلَ أَغْرَقْناهُمْ) ، وإما لأن ذلك القول صدر عن جميع الكفار المبعوثين من جميع الأمم فعلمت كل أمة خطأها في تكذيب رسولها وخطأ غيرها في تكذيب رسلهم فنطقوا جميعا بما يفصح عن الخطأين ، وقد مضى أن ضمير (فَإِذا هُمْ جَمِيعٌ) [يس : ٥٣] يجوز أن يعود على جميع الناس.

ومن المفسرين من جعل قوله : (هذا ما وَعَدَ الرَّحْمنُ وَصَدَقَ الْمُرْسَلُونَ) من كلام الملائكة يجيبون به قول الكفار (مَنْ بَعَثَنا مِنْ مَرْقَدِنا) فهذا جواب يتضمن بيان من بعثهم مع تنديمهم على تكذيبهم به في الحياة الدنيا حين أبلغهم الرسل ذلك عن الله تعالى. واسم (الرَّحْمنُ) حينئذ من كلام الملائكة لزيادة توبيخ الكفار على تجاهلهم به في الدنيا.

(إِنْ كانَتْ إِلاَّ صَيْحَةً واحِدَةً فَإِذا هُمْ جَمِيعٌ لَدَيْنا مُحْضَرُونَ (٥٣))

٢٤٦

فذلكة لجملة (ما يَنْظُرُونَ إِلَّا صَيْحَةً واحِدَةً) [يس : ٤٩] إلى قوله : (وَصَدَقَ الْمُرْسَلُونَ) [يس : ٥٢] لأن النفخ مرادف للصيحة في إطلاقها المجازي ، فاقتران فعل كانت بتاء التأنيث لتأويل النفي مأخوذ من (وَنُفِخَ فِي الصُّورِ) [يس : ٥١] بمعنى النفخة ينظر إلى الإخبار عنه ب (صَيْحَةً). ووصفها ب (واحِدَةً) لأن ذلك الوصف هو المقصود من الاستثناء المفرّغ ، أي ما كان ذلك النفخ إلّا صيحة واحدة لا يكرر استدعاؤهم للحضور بل النفخ الواحد يخرجهم من القبور ويسير بهم ويحضرهم للحساب.

وأما قوله تعالى : (وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شاءَ اللهُ ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرى فَإِذا هُمْ قِيامٌ يَنْظُرُونَ) [الزمر : ٦٨] فتلك نفخة سابقة تقع على الناس في الدنيا فيفنى بها الناس وسيأتي ذكرها في سورة الزمر.

ولما كان قوله : (إِنْ كانَتْ إِلَّا صَيْحَةً واحِدَةً) في قوة التكرير والتوكيد لقوله (وَنُفِخَ فِي الصُّورِ) [يس : ٥١] كان ما تفرع عليه من قوله : (فَإِذا هُمْ جَمِيعٌ لَدَيْنا مُحْضَرُونَ) بمنزلة العطف على قوله : (فَإِذا هُمْ مِنَ الْأَجْداثِ إِلى رَبِّهِمْ يَنْسِلُونَ) [يس : ٥١] فكأنه مثل (وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَإِذا هُمْ مِنَ الْأَجْداثِ إِلى رَبِّهِمْ يَنْسِلُونَ) [يس : ٥١] و (فَإِذا هُمْ جَمِيعٌ لَدَيْنا مُحْضَرُونَ) ، وإعادة حرف المفاجأة إيماء إلى حصول مضمون الجملتين المقترنتين بحرف المفاجأة في مثل لمح البصر حتى كأن كليهما مفاجأ في وقت واحد. وتقدم الكلام على نظير هذا التركيب آنفا.

و (جَمِيعٌ) نعت للمبتدإ ، أي هم جميعهم ، فالتنوين في (جَمِيعٌ) عوض المضاف إليه الرابط للنعت بالمنعوت ، أي مجتمعون لا يحضرون أفواجا وزرافات ، وقد تقدم قوله تعالى: (وَإِنْ كُلٌّ لَمَّا جَمِيعٌ لَدَيْنا مُحْضَرُونَ) [يس : ٣٢] في هذه السورة.

وقرأ الجمهور بنصب (صَيْحَةً). وقرأه أبو جعفر بالرفع على أن «كان» تامة ، وتقدم نظيره في أوائل السورة.

(فَالْيَوْمَ لا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً وَلا تُجْزَوْنَ إِلاَّ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (٥٤))

إن كان قوله تعالى : (هذا ما وَعَدَ الرَّحْمنُ) [يس : ٥٢] حكاية لكلام الكفار يوم البعث كان هذا كلاما من قبل الله تعالى بواسطة الملائكة وكانت الفاء في قوله : (فَالْيَوْمَ لا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً) فاء فصيحة وهي التي تفصح وتنبئ عن كلام مقدّر نشأ عن قوله : (فَإِذا هُمْ جَمِيعٌ لَدَيْنا مُحْضَرُونَ) [يس : ٥٣] فهو خطاب للذين قالوا : (مَنْ بَعَثَنا مِنْ مَرْقَدِنا) [يس : ٥٢]. والمعنى : فقد أيقنتم أن وعد الله حق وأن الرسل صدقوا فاليوم يوم

٢٤٧

الجزاء كما كان الرسل ينذرونكم.

وإن كان قوله : (هذا ما وَعَدَ الرَّحْمنُ) [يس : ٥٢] من كلام الملائكة كانت الفاء تفريعا عليه وكانت جملة (إِنْ كانَتْ إِلَّا صَيْحَةً واحِدَةً) [يس : ٥٣] إلخ معترضة بين المفرع والمفرع عليه.

و «اليوم» ظرف وتعريفه للعهد ، وهو عهد حضور يعني يوم الجزاء. وفائدة ذكر التنويه بذلك اليوم بأنه يوم العدل.

وأشعر قوله : (لا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً) بالتعريض بأنهم سيلقون جزاء قاسيا لكنه عادل لا ظلم فيه لأن نفي الظلم يشعر بأن الجزاء مما يخال أنه متجاوز معادلة الجريمة ، وهو معنى (وَلا تُجْزَوْنَ إِلَّا ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) أي إلّا على وفاق ما كنتم تعملون وعلى مقداره. وانتصب (شَيْئاً) على المفعول المطلق ، أي شيئا من الظلم.

ووقوع (نَفْسٌ) و (شَيْئاً) وهما نكرتان في سياق النفي يعمّ انتفاء كل ذلك عن كل نفس وانتفاء كل شيء من حقيقة الظلم وذلك يعمّ جميع الأنفس .. ولكن المقصود أنفس المعاقبين ، أي أن جزاءهم على حسب سيّئاتهم جزاء عادل. وإذ قد كان تقديره من الله تعالى وهو العليم بكل شيء كانت حقيقة العدل محققة في مقدار جزائهم إذ كلّ عدل غير عدل الله معرض للزيادة والنقصان في نفس الأمر ولكنه يجري على حسب اجتهاد الحاكمين ، والله لم يكلف الحاكم إلّا ببذل جهده في إصابة الحق ، ولهذا قال النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إذا اجتهد الحاكم فأصاب فله أجران ، وإذا اجتهد فأخطأ فله أجر واحد».

[٥٥ ـ ٥٧] (إِنَّ أَصْحابَ الْجَنَّةِ الْيَوْمَ فِي شُغُلٍ فاكِهُونَ (٥٥) هُمْ وَأَزْواجُهُمْ فِي ظِلالٍ عَلَى الْأَرائِكِ مُتَّكِؤُنَ (٥٦) لَهُمْ فِيها فاكِهَةٌ وَلَهُمْ ما يَدَّعُونَ (٥٧))

هذا من الكلام الذي يلقى من الملائكة ، والجملة مستأنفة ، وهذا مما يقال لمن حق عليهم العذاب إعلاما لهم بنزول مرتبتهم عن مراتب أهل الجنة إعلانا بالحقائق لأن ذلك عالم الحقائق وإدخالا للندامة عليهم على ما فرطوا فيه من طلب الفوز في الآخرة. وهذا يؤذن بأن أهل الجنة عجل بهم إلى النعيم قبل أن يبعث إلى النار أهلها ، وأن أهل الجنة غير حاضرين ذلك المحضر.

وتعريف (الْيَوْمَ) للعهد كما تقدم. وفائدة ذكر الظرف وهو (الْيَوْمَ) التنويه بذلك

٢٤٨

اليوم بأنه يوم الفضل على المؤمنين المتقين.

والشغل : مصدر شغله ، إذا ألهاه. يقال : شغله بكذا عن كذا فاشتغل به. والظرفية مجازية ؛ جعل تلبسهم بالشغل كأنهم مظروفون فيه ، أي أحاط بهم شغل عن مشاهدة موقف أهل العذاب صرفهم الله عن منظر المزعجات لأن مشاهدتها لا تخلو من انقباض النفوس ، ولكون هذا هو المقصود عدل عن ذكر ما يشغلهم إذ لا غرض في ذكره ، فقوله : (فِي شُغُلٍ) خبر (إِنَ) و (فاكِهُونَ) خبر ثان.

وقرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو وأبو جعفر ويعقوب شغل بضم فسكون. وقرأه الباقون بضمتين وهما لغتان فيه.

والفاكه : ذو الفكاهة بضم الفاء ، وهي المزاح بالكلام المسرّ والمضحك ، وهي اسم مصدر : فكه بكسر الكاف ، إذا مزح وسرّ. وعن بعض أهل اللغة : أنه لم يسمع له فعل من الثلاثي ، وكأنه يعني قلة استعماله ، وأما الأفعال غير الثلاثية من هذه المادة فقد جاء في المثل : لا تفاكه أمه ولا تبل على أكمه ، وقال تعالى : (فَظَلْتُمْ تَفَكَّهُونَ) [الواقعة : ٦٥].

وقرأ الجمهور (فاكِهُونَ) بصيغة اسم الفاعل. وقرأه أبو جعفر بدون ألف بصيغة مثال المبالغة.

وجملة (هُمْ وَأَزْواجُهُمْ فِي ظِلالٍ) إلى آخرها واقعة موقع البيان لجملة (إِنَّ أَصْحابَ الْجَنَّةِ) إلخ. والمراد بأزواجهم : الأزواج اللاتي أعدّت لهم في الجنة. ومنهن من كنّ أزواجا لهم في الدنيا إن كنّ غير ممنوعات من الجنة قال تعالى : (جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَها وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبائِهِمْ وَأَزْواجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ) [الرعد : ٢٣].

والظلال قرأه الجمهور بوزن فعال بكسر أوله على أنه جمع ظلّ ، أي ظلّ الجنات. وقرأه حمزة والكسائي وخلف ظلل بضم الظاء وفتح اللام جمع (ظلة) وهي ما يظل كالقباب. وجمع الظلال على القراءتين لأجل مقابلته بالجمع وهم أصحاب الجنة ، فكلّ منهم في ظل أو في ظلة.

و (الْأَرائِكِ) : جمع أريكة ، والأريكة : اسم لمجموع السرير والحجلة ، فإذا كان السرير في الحجلة سمي الجميع أريكة. وهذا من الكلمات الدالة على شيء مركب من شيئين مثل المائدة اسم للخوان الذي عليه طعام.

والاتكاء : هيئة بين الاضطجاع والجلوس وهو اضطجاع على جنب دون وضع

٢٤٩

الرأس والكتف على الفراش. وهو افتعال من وكأ المهموز ، إذا اعتمد ، أبدلت واوه تاء كما أبدلت في تجاه وتراث ، وأخذ منه فعل اتكأ لأن المتّكأ يشد قعدته ويرسخها بضرب من الاضطجاع. والاسم منه التّكأة بوزن همزة ، وهو جلوس المتطلب للراحة والإطالة وهو جلسة أهل الرفاهية ، وقد تقدم عند قوله تعالى : (وَأَعْتَدَتْ لَهُنَّ مُتَّكَأً) في سورة يوسف [٣١]. وكان المترفهون من الأمم المتحضرة يأكلون متّكئين كان ذلك عادة سادة الفرس والروم ومن يتشبه بهم من العرب ولذا قال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «أمّا أنا فلا آكل متكئا» وذلك لأن الاتكاء يعين على امتداد المعدة فتقبل زيادة الطعام ولذلك كان الاتكاء في الطعام مكروها للإفراط في الرفاهية. وأما الاتكاء في غير حال الأكل فقد اتكأ النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم في مجلسه كما في حديث ضمام بن ثعلبة وافد بني سعد بن بكر : أنه دخل المسجد فسأل عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقيل له : «هو ذلك الأزهر المتكئ».

والفاكهة : ما يؤكل للتلذذ لا للشبع كالثمار والنقول وإنما خصت بالذكر لأنها عزيزة النوال للناس في الدنيا ولأنها استجلبها ذكر الاتكاء لأن شأن المتكئين أن يشتغلوا بتناول الفواكه.

ثم عمم ما أعد لهم بقوله : (وَلَهُمْ ما يَدَّعُونَ) و (يَدَّعُونَ) يجوز أن يكون متصرفا من الدعاء أو من الادعاء ، أي ما يدعون إليه أو ما يدّعون في أنفسهم أنه لهم بإلهام إلهي. وصيغ له وزن الافتعال للمبالغة ، فوزن (يَدَّعُونَ) يفتعلون. أصله يدتعيون نقلت حركة الياء إلى العين طلبا للتخفيف لأن الضم على الياء ثقيل بعد حذف حركة العين فبقيت الياء ساكنة وبعدها واو الجماعة لأنه مفيد معنى الإسناد إلى الجمع.

وهذا الافتعال لك أن تجعله من (دعا) ، والافتعال هنا يجعل فعل (دعا) قاصرا فينبغي تعليق مجرور به. والتقدير : ما يدعون لأنفسهم ، كقول لبيد :

فاشتوى ليلة ريح واجتمل (١)

اشتوى إذا شوى لنفسه واجتمل إذا جمل لنفسه ، أي جمع الجميل وهو الشحم المذاب وهو الإهالة.

__________________

(١) قبله :

وغلام أرسلته أمه

بألوك فبذلنا ما سأل

أرسلته فأتاه رزقه

 .................. الخ

٢٥٠

وإن جعلته من الادعاء فمعناه : أنهم يدعون ذلك حقا لهم ، أي تتحدث أنفسهم بذلك فيؤول إلى معنى : ويتمنون في أنفسهم دون احتياج إلى أن يسألوا بالقول فلذلك قيل معنى (يَدَّعُونَ) يتمنون. يقال : ادع عليّ ما شئت ، أي تمنّ عليّ ، وفلان في خير ما ادّعى ، أي في خير ما يتمنى ، ومنه قوله تعالى : (وَلَكُمْ فِيها ما تَشْتَهِي أَنْفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيها ما تَدَّعُونَ) في سورة فصّلت [٣١].

(سَلامٌ قَوْلاً مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ (٥٨))

استئناف قطع عن أن يعطف على ما قبله للاهتمام بمضمونه ، وهو الدلالة على الكرامة والعناية بأهل الجنة من جانب القدس إذ يوجه إليهم سلام الله بكلام يعرفون أنه قول من الله : إمّا بواسطة الملائكة ، وإما بخلق أصوات يوقنون بأنها مجعولة لأجل إسماعهم كما سمع موسى كلام الله حين ناداه من جانب الطور من الشجرة فبعد أن أخبر بما حباهم به من النعيم مشيرا إلى أصول أصنافه ، أخبر بأن لهم ما هو أسمى وأعلى وهو التكريم بالتسليم عليهم قال تعالى : (وَرِضْوانٌ مِنَ اللهِ أَكْبَرُ) [التوبة : ٧٢].

و (سَلامٌ) مرفوع في جميع القراءات المشهورة. وهو مبتدأ وتنكيره للتعظيم ورفعه للدلالة على الدوام والتحقق ، فإن أصله النصب على المفعولية المطلقة نيابة عن الفعل مثل قوله : (فَقالُوا سَلاماً) [الذاريات : ٢٥]. فلما أريدت الدلالة على الدوام جيء به مرفوعا مثل قوله : (قالَ سَلامٌ) [هود : ٦٩] ، وقد تقدم بيان ذلك عند قوله تعالى : (الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ) [الفاتحة : ٢].

وحذف خبر (سَلامٌ) لنيابة المفعول المطلق وهو قوله (قَوْلاً) عن الخبر لأن تقديره : سلام يقال لهم قولا من الله ، والذي اقتضى حذف الفعل ونيابة المصدر عنه هو استعداد المصدر لقبول التنوين الدال على التعظيم ، والذي اقتضى أن يكون المصدر منصوبا دون أن يؤتى به مرفوعا هو ما يشعر به النصب من كون المصدر جاء بدلا عن الفعل.

و (مِنْ) ابتدائية. وتنوين (رَبٍ) للتعظيم ، ولأجل ذلك عدل عن إضافة (رَبٍ) إلى ضميرهم ، واختير في التعبير عن الذات العلية بوصف الرب لشدة مناسبته للإكرام والرضى عنهم بذكر أنهم عبدوه في الدنيا فاعترفوا بربوبيته.

(وَامْتازُوا الْيَوْمَ أَيُّهَا الْمُجْرِمُونَ (٥٩))

٢٥١

يجوز أن يكون عطفا على جملة (إِنَّ أَصْحابَ الْجَنَّةِ الْيَوْمَ فِي شُغُلٍ فاكِهُونَ) [يس: ٥٥] ويجوز أن يعطف على (سَلامٌ قَوْلاً) [يس : ٥٨] ، أي ويقال : امتازوا اليوم أيها المجرمون ، على الضد مما يقال لأصحاب الجنة. والتقدير : سلام يقال لأهل الجنة قولا ، ويقال للمجرمين : امتازوا ، فتكون من توزيع الخطابين على مخاطبين في مقام واحد كقوله تعالى : (يُوسُفُ أَعْرِضْ عَنْ هذا وَاسْتَغْفِرِي لِذَنْبِكِ) [يوسف : ٢٩].

وامتاز مطاوع مازه ، إذا أفرده عما كان مختلطا معه ، وجّه الأمر إليهم بأن يمتازوا مبالغة في الإسراع بحصول الميز لأن هذا الأمر أمر تكوين فعبر عن معنى. فيكون الميز بصوغ الأمر من مادة المطاوعة ، فإن قولك : لتنكسر الزجاجة أشد في الإسراع بحصول الكسر فيها من أن تقول : اكسروا الزجاجة. والمراد : امتيازهم بالابتعاد عن الجنة ، وذلك بأن يصيروا إلى النار فيؤول إلى معنى : ادخلوا النار. وهذا يقتضي أنهم كانوا في المحشر ينتظرون ما ذا يفعل بهم كما أشرنا إليه عند قوله تعالى آنفا : (إِنَّ أَصْحابَ الْجَنَّةِ الْيَوْمَ فِي شُغُلٍ فاكِهُونَ) [يس : ٥٥] ، فلما حكي ما فيه أصحاب الجنة من النعيم حين يقال لأصحاب النار : (فَالْيَوْمَ لا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً) [يس : ٥٤] ، حكي ذلك ثم قيل للمشركين (وَامْتازُوا الْيَوْمَ أَيُّهَا الْمُجْرِمُونَ).

وتكرير كلمة (الْيَوْمَ) ثلاث مرات في هذه الحكاية للتعريض بالمخاطبين فيه وهم الكفار الذين كانوا يجحدون وقوع ذلك اليوم مع تأكيد ذكره على أسماعهم بقوله : (فَالْيَوْمَ لا تُظْلَمُ نَفْسٌ) [يس : ٥٤] وقوله : (إِنَّ أَصْحابَ الْجَنَّةِ الْيَوْمَ فِي شُغُلٍ) [يس : ٥٥] وقوله : (امْتازُوا الْيَوْمَ أَيُّهَا الْمُجْرِمُونَ).

ونداؤهم بعنوان : (الْمُجْرِمُونَ) للإيماء إلى علة ميزهم عن أهل الجنة بأنهم مجرمون ، فاللام في (الْمُجْرِمُونَ) موصولة ، أي أيها الذين أجرموا.

[٦٠ ـ ٦٢] (أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يا بَنِي آدَمَ أَنْ لا تَعْبُدُوا الشَّيْطانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (٦٠) وَأَنِ اعْبُدُونِي هذا صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ (٦١) وَلَقَدْ أَضَلَّ مِنْكُمْ جِبِلاًّ كَثِيراً أَفَلَمْ تَكُونُوا تَعْقِلُونَ (٦٢))

إقبال على جميع البشر الذين جمعهم المحشر غير أهل الجنة الذين عجلوا إلى الجنة ، فيشمل هذا جميع أهل الضلالة من مشركين وغيرهم ، ولعله شامل لأهل الأعراف ، وهو إشهاد على المشركين وتوبيخ لهم.

٢٥٢

والاستفهام تقريري ، وخوطبوا بعنوان (بَنِي آدَمَ) لأن مقام التوبيخ على عبادتهم الشيطان يقتضي تذكيرهم بأنهم أبناء الذي جعله الشيطان عدوّا له ، كقول النابغة :

لئن كان للقبرين قبر بجلق

وقبر بصيدا الذي عند حارب

وللحارث الجفني سيد قومه

ليلتمس بالجيش دار المحارب

يعني بلاد من حارب أصوله.

والعهد : الوصاية ، ووصاية الله بني آدم بألا يعبدوا الشيطان هي ما تقرر واشتهر في الأمم بما جاء به الرسل في العصور الماضية فلا يسع إنكاره. وبهذا الاعتبار صح الإنكار عليهم في حالهم الشبيهة بحال من يجحد هذا العهد.

واعلم أن في قوله تعالى : (أَعْهَدْ) توالي العين والهاء وهما حرفان متقاربا المخرج من حروف الحلق إلّا أن تواليهما لم يحدث ثقلا في النطق بالكلمة ينافي الفصاحة بموجب تنافر الحروف لأن انتقال النطق في مخرج العين من وسط الحلق إلى مخرج الهاء من أقصى الحلق خفف النطق بهما ، وكذلك الانتقال من سكون إلى حركة زاد ذلك خفة. ومثله قوله تعالى : (وَسَبِّحْهُ) [الإنسان : ٢٦] المشتمل على حاء وهي من وسط الحلق وهاء وهي من أقصاه إلّا أن الأولى ساكنة والثانية متحركة وهما متقاربا المخرج ، ولا يعد هذا من تنافر الحروف ، ومثل له بقول أبي تمام :

كريم متى أمدحه أمدحه والورى

معي وإذا ما لمته لمته وحدي

فإن كلمة (أمدحه) لا تعدّ متنافرة الحروف على أن تكريرها أحدث عليها ثقلا ما فلا يكون ذلك مثل قول امرئ القيس :

غدائره مستشزرات إلى العلى (١)

المجعول مثالا للتنافر فإن تنافر حروفه انجرّ إليه من تعاقب ثلاثة حروف : السين والشين والزاي ، ولو لا الفصل بين السين والشين بالتاء لكان أشد تنافرا.

وموجبات التنافر كثيرة ومرجعها إلى سرعة انتقال اللسان في مخارج حروف شديدة التقارب أو التباعد مع عوارض تعرض لها من صفات الحروف من : جهر وهمس ، أو شدة ورخو ، أو استعلاء واستفال ، أو انفتاح وانطباق ، أو إصمات وانذلاق. ومن حركاتها

__________________

(١) تمامه : تضل العقاص في مثنى ومرسل.

٢٥٣

وسكناتها وليس لذلك ضابط مطرد ولكنه مما يرجع فيه إلى ذوق الفصحاء. وقد حاول ابن سنان الخفاجي إرجاعه إلى تقارب مخارج الحروف فردّه ابن الأثير عليه بما لا مخلص منه.

وإذا اقتضى الحال من حقّ البلاغة إيثار كلمة بالذكر إذ لا يعدلها غيرها فعرض من تصاريفها عارض ثقل لا يكون حقّ مقتضى الحال البلاغي موجبا إيرادها.

و (أَنْ) تفسيرية ، فسرت إجمال العهد لأن العهد فيه معنى القول دون حروفه ف (أَنْ) الواقعة بعده تفسيرية.

وعبادة الشيطان : عبادة ما يأمر بعبادته من الأصنام ونحوها.

وجملة (لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ) تعليل لجملة (لا تَعْبُدُوا الشَّيْطانَ) وقد أغنت (أَنْ) عن فاء السببية كما تقدم غير مرة.

و (مُبِينٌ) اسم فاعل من أبان بمعنى بان للمبالغة ، أي عداوته واضحة ، ووجه وضوحها أن المرء إذا راقب عواقب الأعمال التي توسوسها له نفسه واتهمها وعرضها على وصايا الأنبياء والحكماء وجدها عواقب نحسه ، فوضح له أنها من الشيطان بالوسوسة وأن الذي وسوس بها عدوّ له لأنه لو كان ودودا لما أوقعه في الكوارث ولا يظن به الإيقاع في ذلك عن غير بصيرة لأن تكرر أمثال تلك الوساوس للمرء ولأمثاله ممن يبوح له بأحواله يدل ذلك التكرر على أنها وساوس مقصودة للإيقاع في المهالك فعلم أن المشير بها عدوّ ألد ، ولعل هذا المعنى هو المشار إليه بقوله تعالى : (وَلَقَدْ أَضَلَّ مِنْكُمْ جِبِلًّا كَثِيراً أَفَلَمْ تَكُونُوا تَعْقِلُونَ).

وجملة (وَأَنِ اعْبُدُونِي) عطف على (أَنْ لا تَعْبُدُوا الشَّيْطانَ) بإعادة (أَنِ) التفسيرية فهما جملتان مفسرتان لعهدين.

وعدل عن الإتيان بصيغة قصر لأن في الإتيان بهاتين الجملتين زيادة فائدة لأن من أهل الضلالة الدهريين والمعطلين فهم وإن لم يعبدوا الشيطان ولكنهم لم يعبدوا الله فكانوا خاسئين بالعهد.

والإشارة في قوله : (هذا صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ) للعهد المفهوم من فعل (أَعْهَدْ) أو للمذكور في «تفسيره» من جملتي (لا تَعْبُدُوا الشَّيْطانَ وَأَنِ اعْبُدُونِي) ، أي هذا المذكور صراط مستقيم ، أي كالطريق القويم في الإبلاغ إلى المقصود. والتنوين للتعظيم.

٢٥٤

وقوله تعالى : (وَلَقَدْ أَضَلَّ مِنْكُمْ جِبِلًّا كَثِيراً) عطف على (إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ) فعداوته واضحة بدليل التجربة فكانت علة للنهي عن عبادة ما يأمرهم بعبادتهم.

والمعنى : إن عداوته واضحة وضوح الصراط المستقيم لأنها تقررت بين الناس وشهدت بها العصور والأجيال فإنه لم يزل يضلّ الناس إضلالا تواتر أمره وتعذر إنكاره.

والجبلّ : بكسر الجيم وكسر الموحدة وتشديد اللام كما قرأه نافع وعاصم وأبو جعفر. وقرأه ابن كثير وحمزة والكسائي وخلف ورويس عن يعقوب بضم الجيم وضم الباء الموحدة وتخفيف اللام. وقرأه ابن عامر وأبو بكر بضم الجيم وسكون الباء.

والجبلّ : الجمع العظيم ، وهو مشتق من الجبل بسكون الباء بمعنى الخلق. وفرع عليه توبيخهم بقلة العقول بقوله : (أَفَلَمْ تَكُونُوا تَعْقِلُونَ) ، فالاستفهام إنكاري عن عدم كونهم يعقلون ، أي يدركون ، إذ لو كانوا يعقلون لتفطنوا إلى إيقاع الشيطان بهم في مهاوي الهلاك. وزيادة فعل الكون للإيماء إلى أن العقل لم يتكون فيهم ولا هم كائنون به.

[٦٣ ، ٦٤] (هذِهِ جَهَنَّمُ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ (٦٣) اصْلَوْهَا الْيَوْمَ بِما كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ (٦٤))

إقبال على خطاب الذين عبدوا معبودات يسوّلها لهم الشيطان ، إذ تبدو لهم جهنم بحيث يشار إليها ويعرفون أنها هي جهنّم التي كانوا في الدنيا ينذرون بها وتذكر لهم في الوعيد مدة الحياة. والأمر بقوله : (اصْلَوْهَا) مستعمل في الإهانة والتنكير.

و (اصْلَوْهَا) أمر من صلي يصلى ، إذا استدفأ بحرّ النار ، وإطلاق الصلي على الإحراق تهكّم.

والتعريف في (الْيَوْمَ) تعريف العهد ، أي هذا اليوم الحاضر وأريد به جواب ما كانوا يقولون في الحياة الدنيا من استبطاء الوعد والتكذيب إذ يقولون (مَتى هذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) [يونس : ٤٨].

والباء في (بِما كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ) سببية ، أي بسبب كفركم في الدنيا.

(الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلى أَفْواهِهِمْ وَتُكَلِّمُنا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِما كانُوا يَكْسِبُونَ (٦٥))

٢٥٥

الجملة مستأنفة استئنافا ابتدائيا وقوله : (الْيَوْمَ) ظرف متعلق ب (نَخْتِمُ).

والقول في لفظ (الْيَوْمَ) كالقول في نظائره الثلاثة المتقدمة ، وهو تنويه بذكره بحصول هذا الحال العجيب فيه ، وهو انتقال النطق من موضعه المعتاد إلى الأيدي والأرجل.

وضمائر الغيبة في (أَفْواهِهِمْ) ـ (أَيْدِيهِمْ) ـ (أَرْجُلُهُمْ) ـ (يَكْسِبُونَ) عائدة على الذين خوطبوا بقوله : (هذِهِ جَهَنَّمُ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ) [يس : ٦٣] على طريقة الالتفات. وأصل النظم : اليوم نختم على أفواهكم وتكلمنا أيديكم وتشهد أرجلكم بما كنتم تكسبون. ومواجهتهم بهذا الإعلام تأييس لهم بأنهم لا ينفعهم إنكار ما أطلعوا عليه من صحائف أعمالهم كما قال تعالى : (اقْرَأْ كِتابَكَ كَفى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيباً) [الإسراء : ١٤].

وقد طوي في هذه الآية ما ورد تفصيله في آي آخر فقد قال تعالى : (وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا أَيْنَ شُرَكاؤُكُمُ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ* ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ إِلَّا أَنْ قالُوا وَاللهِ رَبِّنا ما كُنَّا مُشْرِكِينَ) [الأنعام : ٢٢ ـ ٢٣] وقال : (وَقالَ شُرَكاؤُهُمْ ما كُنْتُمْ إِيَّانا تَعْبُدُونَ* فَكَفى بِاللهِ شَهِيداً بَيْنَنا وَبَيْنَكُمْ إِنْ كُنَّا عَنْ عِبادَتِكُمْ لَغافِلِينَ) [يونس : ٢٨ ـ ٢٩].

وفي «صحيح مسلم» عن أنس قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «يخاطب العبد ربّه يقول : يا رب ألم تجرني من الظلم؟ فيقول : بلى ، فيقول : إني لا أجيز على نفسي إلّا شاهدا مني ، فيقول الله : كفى بنفسك اليوم عليك شهيدا ، فيختم على فيه. فيقال لأركانه : انطقي ، فتنطق بأعماله ثم يخلّى بينه وبين الكلام فيقول : بعدا لكنّ وسحقا فعنكنّ كنت أناضل» ، وإنما طوي ذكر الداعي إلى خطابهم بهذا الكلام لأنه لم يتعلق به غرض هنا فاقتصر على المقصود.

وقد يخيل تعارض بين هذه الآية وبين قوله : (يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِما كانُوا يَعْمَلُونَ) [النور : ٢٤]. ولا تعارض لأن آية يس في أحوال المشركين وآية سورة النور في أحوال المنافقين. والمراد بتكلم الأيدي تكلمها بالشهادة ، والمراد بشهادة الأرجل نطقها بالشهادة ، ففي كلتا الجملتين احتباك. والتقدير : وتكلمنا أيديهم فتشهد وتكلمنا أرجلهم فتشهد.

ويتعلق (بِما كانُوا يَكْسِبُونَ) بكل من فعلي (تُكَلِّمُنا) و (تَشْهَدُ) على وجه التنازع. وما يكسبونه : هو الشرك وفروعه. وتكذيبهم الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم وما ألحقوا به من الأذى.

٢٥٦

[٦٦ ، ٦٧] (وَلَوْ نَشاءُ لَطَمَسْنا عَلى أَعْيُنِهِمْ فَاسْتَبَقُوا الصِّراطَ فَأَنَّى يُبْصِرُونَ (٦٦) وَلَوْ نَشاءُ لَمَسَخْناهُمْ عَلى مَكانَتِهِمْ فَمَا اسْتَطاعُوا مُضِيًّا وَلا يَرْجِعُونَ (٦٧))

عطف على جملة (وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْوَعْدُ) [يس : ٤٨]. وموقع هاتين الآيتين من التي قبلهما أنه لما ذكر الله إلجاءهم إلى الاعتراف بالشرك بعد إنكاره يوم القيامة كان ذلك مثيرا لأن يهجس في نفوس المؤمنين أن يتمنوا لو سلك الله بهم في الدنيا مثل هذا الإلجاء فألجأهم إلى الإقرار بوحدانيته وإلى تصديق رسوله واتباع دينه ، فأفاد الله أنه لو تعلقت إرادته بذلك في الدنيا لفعل ، إيماء إلى أن إرادته تعالى تجري تعلقاتها على وفق علمه تعالى وحكمته. فهو قد جعل نظام الدنيا جاريا على حصول الأشياء عن أسبابها التي وكل الله إليها إنتاج مسبباتها وآثارها وتوالداتها حتى إذا بدّل هذا العالم بعالم الحقيقة أجرى الأمور كلها على المهيع الحق الذي لا ينبغي غيره في مجاري العقل والحكمة. والمعنى أنّا ألجأناهم إلى الإقرار في الآخرة بأن ما كانوا عليه في الدنيا شرك وباطل ولو نشاء لأريناهم آياتنا في الدنيا ليرتدعوا ويرجعوا عن كفرهم وسوء إنكارهم.

ولما كانت (لَوْ) تقتضي امتناعا لامتناع فهي تقتضي معنى : لكنّا لم نشأ ذلك فتركناهم على شأنهم استدراجا وتمييزا بين الخبيث والطيّب. فهذا كلام موجه إلى المسلمين ومراد منه تبصرة المؤمنين وإرشادهم إلى الصبر على ما يلاقونه من المشركين حتى يأتي نصر الله.

فالطمس والمسخ المعلقان على الشرط الامتناعي طمس ومسخ في الدنيا لا في الآخرة. والطمس : مسخ شواهد العين بإزالة سوادها وبياضها أو اختلاطهما وهو العمى أو العور ، ويقال : طريق مطموسة ، إذا لم تكن فيها آثار السائرين ليقفوها السائر. وحرف الاستعلاء للدلالة على تمكن الطمس وإلّا فإن طمس يتعدى بنفسه.

والاستباق : افتعال من السبق والافتعال دال على التكلف والاجتهاد في الفعل أي فبادروا.

و (الصِّراطَ) : الطريق الذي يمشى فيه ، وتعدية فعل الاستباق إليه على حذف (إلى) بطريقة الحذف والإيصال ، قال الشاعر وهو من شواهد الكتاب :

تمرّون الديار ولم تعرجوا

أراد : تمرون على الديار.

٢٥٧

أو على تضمين «استبقوا» معنى ابتدروا ، أي ابتدروا الصراط متسابقين ، أي مسرعين لما دهمهم رجاء أن يصلوا إلى بيوتهم قبل أن يهلكوا فلم يبصروا الطريق. وتقدم قوله تعالى : (إِنَّا ذَهَبْنا نَسْتَبِقُ) في سورة يوسف [١٧].

و «أنّى» استفهام بمعنى (كيف) وهو مستعمل في الإنكار ، أي لا يبصرون وقد طمست أعينهم ، أي لو شئنا لعجلنا لهم عقوبة في الدنيا يرتدعون بها فيقلعوا عن إشراكهم.

والمسخ : تصيير جسم الإنسان في صورة جسم من غير نوعه ، وقد تقدم القول فيه عند قوله تعالى : (فَقُلْنا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خاسِئِينَ) في سورة البقرة [٦٥].

وعن ابن عباس أن الممسوخ لا يعيش أكثر من ثلاثة أيام وعليه فلا شيء من الأشياء الموجودة الآن ببقية مسخ.

والمكانة : تأنيث المكان على تأويله بالبقعة كما قالوا : مقام ومقامة ، ودار ودارة ، أي لو نشاء لمسخنا الكافرين في الدنيا في مكانهم الذي أظهروا فيه التكذيب بالرسل فما استطاعوا انصرافا إلى ما خرجوا إليه ولا رجوعا إلى ما أتوا منه بل لزموا مكانهم لزوال العقل الإنساني منهم بسبب المسخ.

وكان مقتضى المقابلة أن يقال : ولا رجوعا ، ولكن عدل إلى (وَلا يَرْجِعُونَ) لرعاية الفاصلة فجعل قوله (وَلا يَرْجِعُونَ) عطفا على جملة «ما استطاعوا» وليس عطفا على (مُضِيًّا) لأن فعل استطاع لا ينصب الجمل. والتقدير : فما مضوا ولا رجعوا فجعلنا لهم العذاب في الدنيا قبل عذاب الآخرة وأرحنا منهم المؤمنين وتركناهم عبرة وموعظة لمن بعدهم.

(وَمَنْ نُعَمِّرْهُ نُنَكِّسْهُ فِي الْخَلْقِ أَفَلا يَعْقِلُونَ (٦٨))

قد يلوح في بادئ الرأي أن موقع هذه الآية كالغريب عن السياق فيظن ظانّ أنها كلام مستأنف انتقل به من غرض الحديث عن المشركين وأحوالهم والإملاء لهم إلى التذكير بأمر عجيب من صنع الله حتى يخال أن الذي اقتضى وقوع هذه الآية في هذا الموقع أنها نزلت في تباع نزول الآيات قبلها لسبب اقتضى نزولها.

فجعل كثير من المفسرين موقعها موقع الاستدلال على أن قدرة الله تعالى لا

٢٥٨

يستصعب عليها طمس أعينهم ولا مسخهم كما غيّر خلقة المعمرين من قوة إلى ضعف ، فيكون قياس تقريب من قبيل ما يسمى في أصول الفقه بالقياس الخفيّ وبالأدون ، فيكون معطوفا على علة مقدرة في الكلام كأنه قيل : لو نشأ لطمسنا إلخ لأنا قادرون على قلب الأحوال ، ألا يرون كيف نقلب خلق الإنسان فنجعله على غير ما خلقناه أولا. وبعد هذا كله فموقع واو العطف غير شديد الانتظام. وجعلها بعض المفسرين واقعة موقع الاستدلال على المكان البعيد ، أي أن الذي قدر على تغيير خلقهم من شباب إلى هرم قادر على أن يبعثهم بعد الموت فهو أيضا قياس تقريب بالخفيّ وبالأدون.

ومنهم من تكلم عليها معرضا عما قبلها فتكلموا على معناها وما فيها من العبرة ولم يبيّنوا وجه اتصالها بما قبلها. ومنهم من جعلها لقطع معذرة المشركين في ذلك اليوم أن يقولوا : ما لبثنا في الدنيا إلّا عمرا قليلا ولو عمّرنا طويلا لما كان منا تقصير ، وهو بعيد عن مقتضى قوله : (نُنَكِّسْهُ فِي الْخَلْقِ). وكل هذه التفاسير تحوم حول جعل الخلق بالمعنى المصدري ، أي في خلقته أو في أثر خلقه.

وكل هذه التفسيرات بعيد عن نظم الكلام ، فالذي يظهر أن الذي دفع المفسرين إلى ذلك هو ما ألفه الناس من إطلاق التعمير على طول عمر المعمّر ، فلما تأولوه بهذا المعنى ألحقوا تأويل (نُنَكِّسْهُ فِي الْخَلْقِ) على ما يناسب ذلك.

والوجه عندي أن لكون جملة (وَمَنْ نُعَمِّرْهُ) عطفا على جملة (وَلَوْ نَشاءُ لَمَسَخْناهُمْ عَلى مَكانَتِهِمْ) [يس : ٦٧] فهي جملة شرطية عطفت على جملة شرطية ، فالمعطوف عليها جملة شرط امتناعي والمعطوفة جملة شرط تعليقي ، والجملة الأولى أفادت إمهالهم والإملاء لهم ، والجملة المعطوفة أفادت إنذارهم بعاقبة غير محمودة ووعيدهم بحلولها بهم ، أي إن كنا لم نمسخهم ولم نطمس على عيونهم فقد أبقيناهم ليكونوا مغلوبين أذلة ، فمعنى (وَمَنْ نُعَمِّرْهُ) من نعمره منهم.

فالتعمير بمعنى الإبقاء ، أي من نبقيه منهم ولا نستأصله منهم ، أي من المشركين فجعله بين الأمم دليلا ، فالتعمير المراد هنا كالتعمير الذي في قوله تعالى : (أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ ما يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ) [فاطر : ٣٧] ، بأن معناها : ألم نبقكم مدة من الحياة تكفي المتأمل وهو المقدر بقوله : (ما يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ). وليس المراد من التعمير فيها طول الحياة وإدراك الهرم كالذي في قولهم : فلان من المعمّرين ، فإن ذلك لم يقع بجميع أهل النار الذين خوطبوا بقوله : (أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ). وقد طويت في الكلام جملة تقديرها : ولو نشاء

٢٥٩

لأهلكناهم ، يدل عليها قوله : (وَمَنْ نُعَمِّرْهُ) أي نبقه حيا.

والنكس : حقيقته قلب الأعلى أسفل أو ما يقرب من الأسفل ، قال تعالى : (ناكِسُوا رُؤُسِهِمْ) [السجدة : ١٢]. ويطلق مجازا على الرجوع من حال حسنة إلى سيئة ، ولذلك يقال : فلان نكس ، إذا كان ضعيفا لا يرجى لنجدة ، وهو فعل بمعنى مفعول كأنه منكوس في خلائق الرجولة ، ف (نُنَكِّسْهُ) مجاز لا محالة إلّا أنا نجعله مجازا في الإذلال بعد العزة وسوء الحالة بعد زهرتها.

و (الْخَلْقِ) : مصدر خلقه ، ويطلق على المخلوق كثيرا وعلى الناس. وفي حديث عائشة عن الكنيسة التي رأتها أم سلمة وأم حبيبة بالحبشة قال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «وأولئك شرار الخلق عند الله يوم القيامة» ، أي شرار الناس.

ووقوع حرف (فِي) هنا يعين أن الخلق هنا مراد به الناس ، أي تجعله دليلا في الناس وهو أليق بهذا المعنى دون معنى في خلقته لأن الإنكاس لا يكون في أصل الخلقة وإنما يكون في أطوارها ، وقد فسر بذلك قوله تعالى : (وَزادَكُمْ فِي الْخَلْقِ بَصْطَةً) [الأعراف : ٦٩] أي زادكم قوة وسعة في الأمم ، أي في الأمم المعاصرة لكم ، فهو وعيد لهم ووعد للمؤمنين بالنصر على المشركين ووقوعهم تحت نفوذ المسلمين ، فإن أولئك الذين كانوا رءوسا للمشركين في الجاهلية صاروا في أسر المسلمين يوم بدر وفي حكمهم يوم الفتح فكانوا يدعون الطلقاء.

وقرأ الجمهور : (نُنَكِّسْهُ) بفتح النون الأولى وسكون النون الثانية وضمّ الكاف مخففة وهو مضارع نكس المتعدّي ، يقال : نكس رأسه. وقرأه عاصم وحمزة بضم النون الأولى وفتح النون الثانية وكسر الكاف مشددة مضارع نكس المضاعف.

وفرّع على الجمل الشرطية الثلاث وما تفرع عليها قوله : (أَفَلا يَعْقِلُونَ) استئنافا إنكاريا لعدم تأملهم في عظيم قدرة الله تعالى الدالة على أنه لو شاء لطمس على أعينهم ولو شاء لمسخهم على مكانتهم ، وأنه إن لم يفعل ذلك فإنهم لا يسلمون من نصره المسلمين عليهم لأنهم لو قاسوا مقدورات الله تعالى المشاهدة لهم لعلموا أن قدرته على مسخهم فما دونه من إنزال مكروه بهم أيسر من قدرته على إيجاد المخلوقات العظيمة المتقنة وأنه لا حائل بين تعلق قدرته بمسخهم إلّا عدم إرادته ذلك لحكمة علمها فإن القدرة إنما تتعلق بالمقدورات على وفق الإرادة.

٢٦٠