تفسير التّحرير والتّنوير - ج ٢٢

الشيخ محمّد الطاهر ابن عاشور

تفسير التّحرير والتّنوير - ج ٢٢

المؤلف:

الشيخ محمّد الطاهر ابن عاشور


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة التاريخ العربي للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٢٨٨

استئناف ابتدائي يفيد مفاد الفذلكة والاستنتاج مما تقدم. وهذا الاستئناف يومئ إلى أن الذين كفروا هم حزب الشيطان لأنه لما ذكر أن حزبه من أصحاب السعير وحكم هنا بأن الذين كفروا لهم عذاب شديد علم أن الذين كفروا من أصحاب السعير إذ هو العذاب الشديد فعلم أنهم حزب الشيطان بطريقة قياس مطويّ ، فالذين كفروا هم حزب الشيطان لعكوفهم على متابعته وإن لم يعلنوا ذلك لاقتناعه منهم بملازمة ما يمليه عليهم.

وأما المؤمنون العصاة فليسوا من حزبه لأنهم يعلمون كيده ولكنهم يتبعون بعض وسوسته بدافع الشهوات وهم مع ذلك يلعنونه ويتبرءون منه. وقد قال النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم في حجة الوداع «إن الشيطان قد يئس أن يعبد في أرضكم هذه ولكنه قد رضي منكم بما دون ذلك مما تحقرون من أعمالكم».

وذكر (وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ) تتميم بأن الذين لم يكونوا من حزبه قد فازوا بالخيرات.

وقد أشارت الآية إلى طرفين في الضلال والاهتداء وطوت ما بين ذينك من المراتب ليعلم أن ما بين ذلك ينالهم نصيبهم من أشبه أحوالهم بأحوال أحد الفريقين على عادة القرآن في وضع المسلم بين الخوف والرجاء ، والأمل والرهبة.

(أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَناً فَإِنَّ اللهَ يُضِلُّ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ فَلا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَراتٍ إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ بِما يَصْنَعُونَ (٨))

لما جرى تحذير الناس من غرور الشيطان وإيقاظهم إلى عداوته للنوع الإنساني ، وتقسيم الناس إلى فريقين : فريق انطلت عليه مكائد الشيطان واغتروا بغروره ولم يناصبوه العداء ، وفريق أخذوا حذرهم منه واحترسوا من كيده وتجنبوا السير في مسالكه ، ثم تقسيمهم إلى كافر معذب ومؤمن صالح منعم عليه ، أعقب ذلك بالإيماء إلى استحقاق حزب الشيطان عذاب السعير ، وبتسلية النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم على من لم يخلصوا من حبائل الشيطان من أمة دعوته بأسلوب الملاطفة في التسلية ففرع على جميع ما تقدم قوله : (أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَناً) إلى قوله : (بِما يَصْنَعُونَ) فابتداؤه بفاء التفريع ربط له بما تقدم ليعود الذهن إلى ما حكي من أحوالهم ، فالتفريع على قوله : (إِنَّما يَدْعُوا حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحابِ السَّعِيرِ) [فاطر : ٦] ، ثم بإبراز الكلام المفرّع في صورة الاستفهام الإنكاري ، واجتلاب الموصول الذي تومئ صلته إلى علة الخبر المقصود ، فأشير إلى أن وقوعه في

١٢١

هذه الحالة ناشئ من تزيين الشيطان له سوء عمله ، فالمزيّن للأعمال السيئة هو الشيطان قال تعالى : (وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ أَعْمالَهُمْ) [النمل : ٢٤] فرأوا أعمالهم السيئة حسنة فعكفوا عليها ولم يقبلوا فيها نصيحة ناصح ، ولا رسالة مرسل.

و (مَنْ) موصولة صادقة على جمع من الناس كما دل عليه قوله في آخر الكلام (فَلا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَراتٍ) بل ودل عليه تفريع هذا على قوله (إِنَّما يَدْعُوا حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحابِ السَّعِيرِ) [فاطر : ٦] و (مَنْ) في موضع رفع الابتداء والخبر عنه محذوف إيجازا لدلالة ما قبله عليه وهو قوله : (الَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ) [فاطر : ٧] عقب قوله : (إِنَّما يَدْعُوا حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحابِ السَّعِيرِ). فتقديره بالنسبة لما استحقه حزب الشيطان من العذاب : أفأنت تهدي من زيّن له سوء عمله فرآه حسنا فإن الله يضل من يشاء ويهدي من يشاء.

وتقديره بالنسبة إلى تسلية النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : لا يحزنك مصيره فإن الله مطلع عليه.

وفرع عليه : (فَإِنَّ اللهَ يُضِلُّ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ). وفرع على هذا قوله : (فَلا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَراتٍ) أي فلا تفعل ذلك ، أي لا ينبغي لك ذلك فإنهم أوقعوا أنفسهم في تلك الحالة بتزيين الشيطان لهم ورؤيتهم ذلك حسنا وهو من فعل أنفسهم فلما ذا تتحسر عليهم.

وهذا الخبر مما دلت عليه المقابلة في قوله : (الَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ) [فاطر : ٧] فقد دل ذلك على أن الكفر سوء وأن الإيمان حسن ، فيكون «من زين له سوء عمله» هو الكافر ، ويكون ضده هو المؤمن ، ونظير هذا التركيب قوله تعالى : (أَفَمَنْ حَقَّ عَلَيْهِ كَلِمَةُ الْعَذابِ أَفَأَنْتَ تُنْقِذُ مَنْ فِي النَّارِ) في سورة الزمر [١٩] ، وتقدم عند قوله تعالى : (أَفَمَنْ هُوَ قائِمٌ عَلى كُلِّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ) في سورة الرعد [٣٣].

والتزيين : تحسين ما ليس بحسن بعضه أو كله. وقد صرح هنا بضده في قوله : (سُوءُ عَمَلِهِ) ، أي صورت لهم أعمالهم السيئة بصورة حسنة ليقدموا عليها بشره وتقدم في أوائل سورة النمل.

وجملة (فَإِنَّ اللهَ يُضِلُّ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ) مفرّعة ، وهي تقرير للتسلية وتأييس من اهتداء من لم يخلق الله فيه أسباب الاهتداء إلى الحق من صحيح النظر

١٢٢

وإنصاف المجادلة.

وإسناد الإضلال والهداية إلى الله إسناد بواسطة أنه خالق أسباب الضلال والاهتداء ، وذلك من تصرفه تعالى بالخلق وهو سر من الحكمة عظيم لا يدرك غوره وله أصول وضوابط سأبينها في «رسالة القضاء والقدر» إن شاء الله تعالى.

وجملة (فَلا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَراتٍ) مفرعة على المفرع على جملة (أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ) إلخ فتؤول إلى التفريع على الجملتين فيؤول إلى أن يكون النظم هكذا : أفتتحسر على من زيّن لهم سوء أعمالهم فرأوها حسنات واختاروا لأنفسهم طريق الضلال فإن الله أضلهم باختيارهم وهو قد تصرف بمشيئته فهو أضلهم وهدى غيرهم بمشيئته وإرادته التي شاء بها إيجاد الموجودات لا بأمره ورضاه الذي دعا به الناس إلى الرشاد ، فلا تذهب نفسك عليهم حسرات وإنما حسرتهم على أنفسهم إذ رضوا لها باتباع الشيطان ونبذوا اتباع إرشاد الله كما دلّ على ذلك قوله : (إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ بِما يَصْنَعُونَ) تسجيلا عليهم أنهم ورطوا أنفسهم فيما أوقعوها فيه بصنعهم.

فالله أرشدهم بإرسال رسوله ليهديهم إلى ما يرضيه ، والله أضلهم بتكوين نفوسهم نافرة عن الهدى تكوينا متسلسلا من كائنات جمّة لا يحيط بها إلّا علمه وكلها من مظاهر حكمته ولو شاء لجعل سلاسل الكائنات على غير هذا النظام فلهدى الناس جميعا ، وكلّهم ميسّر بتيسيره إلى ما يعلم منهم فعدل عن النظم المألوف إلى هذا النظم العجيب. وصيغ بالاستفهام الإنكاري والنهي التثبيتي ، ونظير هذه الآية في هذا الأسلوب قوله تعالى : (أَفَمَنْ حَقَّ عَلَيْهِ كَلِمَةُ الْعَذابِ أَفَأَنْتَ تُنْقِذُ مَنْ فِي النَّارِ) في سورة الزمر [١٩] ، فإن أصل نظمها : أفمن حق عليه كلمة العذاب أنت تنقذه من النار ، أفأنت تنقذ الذين في النار. إلا أن هذه الآية زادت بالاعتراض وكان المفرع الأخير فيها نهيا والأخرى عريت عن الاعتراض وكان المفرع الأخير فيها استفهاما إنكاريا.

والنهي موجه إلى نفس الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن تذهب حسرات على الضالّين ولم يوجه إليه بأن يقال : فلا تذهب عليهم حسرات ، والرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم ونفسه متحدان فتوجيه النهي إلى نفسه دون أن يقال فلا تذهب عليهم حسرات للإشارة إلى أن الذهاب مستعار إلى التلف والانعدام كما يقال : طارت نفسه شعاعا ، ومثله في كلامهم كثير كقول الأعرابي من شعراء الحماسة :

أقول للنفس تأساء وتعزية

إحدى يديّ أصابتني ولم ترد

١٢٣

لتحصل فائدة توزيع النهي والخطاب على شيئين في ظاهر الأمر فهو تكرير الخطاب والنهي لكليهما. وهي طريقة التجريد المعدود في المحسنات ، وفائدة التكرير الموجب تقرير الجملة في النفس. وقد تقدم قريب من هذا عند قوله تعالى : وما يخادعون (إِلَّا أَنْفُسَهُمْ) في سورة البقرة [٩].

والحسرة تقدمت في قوله تعالى : (وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ إِذْ قُضِيَ الْأَمْرُ) من سورة مريم [٣٩].

وانتصب (حَسَراتٍ) على المفعول لأجله ، أي لا تتلف نفسك لأجل الحسرة عليهم ، وهو كقوله : (لَعَلَّكَ باخِعٌ نَفْسَكَ أَلَّا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ) [الشعراء : ٣] ، وقوله: (وَابْيَضَّتْ عَيْناهُ مِنَ الْحُزْنِ) [يوسف : ٨٤] أي من حزن نفسه لا من حزن العينين.

وجمعت الحسرات مع أن اسم الجنس صالح للدلالة على تكرار الأفراد قصدا للتنبيه على إرادة أفراد كثيرة من جنس الحسرة لأن تلف النفس يكون عند تعاقب الحسرات الواحدة تلو الأخرى لدوام المتحسّر منه فكل تحسر يترك حزازة وكمدا في النفس حتى يبلغ إلى الحد الذي لا تطيقه النفس فينفطر له القلب فإنه قد علم في الطب أن الموت من شدة الألم كالضرب المبرح وقطع الأعضاء سببه اختلال حركة القلب من توارد الآلام عليه.

وقرأ الجمهور (فَلا تَذْهَبْ نَفْسُكَ) بفتح الفوقية والهاء ورفع (نَفْسُكَ) على أنه نهي لنفسه وهو كناية ظاهرة عن نهيه. وقرأه أبو جعفر بضم الفوقية وكسر الهاء ونصب (نَفْسُكَ) على أنه نهي الرسول أن يذهب نفسه.

وقد اشتملت هذه الآية على فاءات أربع كلها للسببية والتفريع وهي التي بلغ بها نظم الآية إلى هذا الإيجاز البالغ حد الإعجاز وفي اجتماعها محسن جمع النظائر.

وجملة (إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ بِما يَصْنَعُونَ) تصلح لإفادة التصبر والتحلم ، أي أن الله عليم بصنعهم في المخالفة عن أمره فكما أنه لحلمه لم يعجل بمؤاخذتهم فكن أنت مؤتسيا بالله ومتخلقا بما تستطيعه من صفاته وفي ضمن هذا كناية عن عدم إفلاتهم من العذاب على سوء عملهم ، وليس في هذه الجملة معنى التعليل لجملة (فَلا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَراتٍ) لأن كمد نفس الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم لم يكن لأجل تأخير عقابهم ولكن لأجل عدم اهتدائهم.

١٢٤

وتأكيد الخبر ب (إِنَ) إما تمثيل لحال الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم بحال من أغفله التحسر عليهم عن التأمل في إمهال الله إياهم فأكد له الخبر ب (إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ بِما يَصْنَعُونَ) ، وإمّا لجعل التأكيد لمجرد الاهتمام بالخبر لتكون (إِنَ) مغنية غناء فاء التفريع فتتمخض الجملة لتقرير التسلية والتعريض بالجزاء عن ذلك.

وعبر ب (يَصْنَعُونَ) دون : يعملون ، للإشارة إلى أنهم يدبرون مكائد للنبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم وللمسلمين فيكون هذا الكلام إيذانا بوجود باعث آخر على النزع عن الحسرة عليهم. وعن ابن عباس : أن المراد به أبو جهل وحزبه.

(وَاللهُ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّياحَ فَتُثِيرُ سَحاباً فَسُقْناهُ إِلى بَلَدٍ مَيِّتٍ فَأَحْيَيْنا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها كَذلِكَ النُّشُورُ (٩))

لما قدم في أول السورة الاستدلال بأن الله فطر السماوات والأرض وما في السماوات من أهلها وذلك أعظم دليل على تفرده بالإلهية ثنّي هنا بالاستدلال بتصريف الأحوال بين السماء والأرض وذلك بإرسال الرياح وتكوين السحاب وإنزال المطر ، فهذا عطف على قوله : (فاطِرِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) [فاطر : ١].

وإظهار اسم الجلالة في مقام الإضمار دون أن يقول وهو الذي أرسل الرياح فيعود الضمير إلى اسم الله من قوله : (إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ بِما يَصْنَعُونَ) [فاطر : ٨].

واختير من دلائل الوحدانية دلالة تجمع أسباب المطر ليفضي من ذلك إلى تنظير إحياء الأموات بعد أحوال الفناء بآثار ذلك الصنع العجيب وأن الذي خلق وسائل إحياء الأرض قادر على خلق وسائل إحياء الذين ضمنتهم الأرض على سبيل الإدماج.

وإذ قد كان القصد من الاستدلال هو وقوع الإحياء وتقرر وقوعه جيء بفعل الماضي في قوله : (أَرْسَلَ). وأما تغييره إلى المضارع في قوله : (فَتُثِيرُ سَحاباً) فلحكاية الحال العجيبة التي تقع فيها إثارة الرياح السحاب وهي طريقة للبلغاء في الفعل الذي فيه خصوصية بحال تستغرب وتهم السامع. وهو نظير قول تأبط شرّا :

بأني قد لقيت الغول تهوي

بسهب كالصحيفة صحصحان

فأضربها بلا دهش فخرت

صريعا لليدين وللجران

فابتدأ ب (لقيت) لإفادة وقوع ذلك ثم ثنى ب (أضربها) لاستحضار تلك الصورة

١٢٥

العجيبة من إقدامه وثباته حتى كأنهم يبصرونه في تلك الحالة. ولم يؤت بفعل الإرسال في هذه الآية بصيغة المضارع بخلاف قوله في سورة الروم [٤٨](اللهُ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّياحَ) الآية لأن القصد هنا استدلال بما هو واقع إظهارا لإمكان نظيره وأما آية سورة الروم فالمقصود منها الاستدلال على تجديد صنع الله ونعمه.

والقول في الرياح والسحاب تقدم غير مرة أولاها في سورة البقرة.

وفي قوله : (فَسُقْناهُ) بعد قوله : (اللهُ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّياحَ) التفاوت من الغيبة إلى التكلم.

وقوله : (كَذلِكَ النُّشُورُ) سبيله سبيل قوله : (يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌ) [فاطر : ٥] الآيات من إثبات البعث مع تصديق الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم فيما أخبر به عنه ، إلا أن ما قبله كان مأخوذا من فحوى الدلالة لما ظهرت في برهان صدق الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم فيما أخبر به من توحيد أخذ من طريق دلالة التقريب لوقوع البعث إذ عسر على عقولهم تصديق إمكان الإعادة بعد الفناء ليحصل من بارقة صدق الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم وبارقة الإمكان ما يسوق أذهانهم إلى استقامة التصديق بوقوع البعث.

والإشارة في قوله : (كَذلِكَ النُّشُورُ) إلى المذكور من قوله : (فَأَحْيَيْنا بِهِ الْأَرْضَ). والأظهر أن تكون الإشارة إلى مجموع الحالة المصورة ، أي مثل ذلك الصنع المحكم المتقن نصنع صنعا يكون به النشور بأن يهيّئ الله حوادث سماوية أو أرضية أو مجموعة منهما حتى إذا استقامت آثارها وتهيأت أجسام لقبول أرواحها أمر الله بالنفخة الأولى والثانية فإذا الأجساد قائمة ماثلة نظير أمر الله بنفخ الأرواح في الأجنة عند استكمال تهيئها لقبول الأرواح.

وقد روي عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم تقريب ذلك بمثل هذا مما رواه أحمد وابن أبي شيبة وقريب منه في «صحيح مسلم» عن عروة بن مسعود عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «قيل لرسول الله : كيف يحيي الله الموتى وما آية ذلك في خلقه؟ فقال : هل مررت بواد أهلك ممحلا ثم مررت به يهتز خضرا؟ قيل : نعم. قال : فكذلك يحيي الله الموتى وتلك آيته في خلقه». وفي بعض الروايات عن أبي رزين العقيلي أن السائل أبو رزين.

وقرأ الجمهور (الرِّياحَ) بصيغة الجمع. وقرأ حمزة والكسائي «الريح» بالإفراد ، والمعرّف بلام الجنس يستوي فيه المفرد والجمع.

١٢٦

(مَنْ كانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعاً إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ وَالَّذِينَ يَمْكُرُونَ السَّيِّئاتِ لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ وَمَكْرُ أُولئِكَ هُوَ يَبُورُ (١٠))

(مَنْ كانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعاً).

مضى ذكر غرورين إجمالا في قوله تعالى : (فَلا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا)[فاطر : ٥]، (وَلا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللهِ الْغَرُورُ) [فاطر : ٥] فأخذ في تفصيل الغرور الثاني من قوله تعالى: (إِنَّ الشَّيْطانَ لَكُمْ عَدُوٌّ) [فاطر : ٦] وما استتبعه من التنبيه على أحجار كيده وانبعاث سموم مكره والحذر من مصارع متابعته وإبداء الفرق بين الواقعين في حبائله والمعافين من أدوائه ، بدارا بتفصيل الأهم والأصل ، وأبقى تفصيل الغرور الأول إلى هنا.

وإذ قد كان أعظم غرور المشركين في شركهم ناشئا عن قبول تعاليم كبرائهم وسادتهم وكان أعظم دواعي القادة إلى تضليل دهمائهم وصنائعهم ، هو ما يجدونه من العزة والافتنان بحب الرئاسة فالقادة يجلبون العزة لأنفسهم والأتباع يعتزّون بقوة قادتهم ، لا جرم كانت إرادة العزّة ملاك تكاتف المشركين بعضهم مع بعض ، وتألبهم على مناوأة الإسلام ، فوجّه الخطاب إليهم لكشف اغترارهم بطلبهم العزة في الدنيا ، فكل مستمسك بحبل الشرك معرض عن التأمل في دعوة الإسلام ، لا يمسّكه بذلك إلّا إرادة العزة ، فلذلك نادى عليهم القرآن بأن من كان ذلك صارفه عن الدين الحق فليعلم بأن العزة الحق في اتباع الإسلام وأن ما هم فيه من العزة كالعدم.

و (مَنْ) شرطية ، وجعل جوابها (فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعاً) ، وليس ثبوت العزة لله بمرتب في الوجود على حصول هذا الشرط فتعين أن ما بعد فاء الجزاء هو علة الجواب أقيمت مقامه واستغني بها عن ذكره إيجازا ، وليحصل من استخراجه من مطاوي الكلام تقرّره في ذهن السامع ، والتقدير : من كان يريد العذاب فليستجب إلى دعوة الإسلام ففيها العزة لأن العزة كلها لله تعالى ، فأما العزة التي يتشبثون بها فهي كخيط العنكبوت لأنها واهية بالية. وهذا أسلوب متبع في المقام الذي يراد فيه تنبيه المخاطب على خطإ في زعمه كما في قول الربيع بن زياد العبسي في مقتل مالك بن زهير العبسي :

من كان مسرورا بمقتل مالك

فليأت نسوتنا بوجه نهار

يجد النساء حواسرا يندبنه

بالليل قبل تبلّج الإسفار

أراد أن من سرّه مقتل مالك فلا يتمتع بسروره ولا يحسب أنه نال مبتغاه لأنه إن أتى

١٢٧

ساحة نسوتنا انقلب سروره غمّا وحزنا إذ يجد دلائل أخذ الثأر من قاتله بادية له ، لأن العادة أن القتيل لا يندبه النساء إلّا إذا أخذ ثأره. هذا ما فسره المرزوقي وهو الذي تلقيته عن شيخنا الوزير وفي البيتين تفسير آخر.

وقد يكون بالعكس وهو تثبيت المخاطب على علمه كقوله تعالى : (مَنْ كانَ يَرْجُوا لِقاءَ اللهِ فَإِنَّ أَجَلَ اللهِ لَآتٍ) [العنكبوت : ٥].

وقريب من هذا الاستعمال ما يقصد به إظهار الفرق بين من اتصف بمضمون الشرط ومن اتصف بمضمون الجزاء كقول النابغة :

فمن يكن قد قضى من خلّة وطرا

فإنني منك ما قضّيت أوطاري

وقول ضابئ بن الحارث :

ومن يك أمسى بالمدينة رحله

فإني وقيّار بها لغريب

وقول الكلابي :

فمن يكلم يغرض فإني وناقتي

بحجر إلى أهل الحمى غرضان

فتقديم المجرور يفيد قصرا وهو قصر ادعائي ، لعدم الاعتداد بما للمشركين من عزة ضئيلة ، أي فالعزة لله لا لهم.

ومنه ما يكون فيه ترتيب الجواب على الشرط في الوقوع ، وهو الأصل كقوله تعالى : (مَنْ كانَ يُرِيدُ الْعاجِلَةَ عَجَّلْنا لَهُ فِيها ما نَشاءُ) [الإسراء : ١٨] الآية ، وقوله : (مَنْ كانَ يُرِيدُ الْحَياةَ الدُّنْيا وَزِينَتَها نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمالَهُمْ فِيها) [هود : ١٥].

و (جَمِيعاً) أفادت الإحاطة فكانت بمنزلة التأكيد للقصر الادعائي فحصلت ثلاثة مؤكدات ؛ فالقصر بمنزلة تأكيدين (١) و (جَمِيعاً) بمنزلة تأكيد. وهذا قريب من قوله (أَيَبْتَغُونَ عِنْدَهُمُ الْعِزَّةَ فَإِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعاً) [النساء : ١٣٩] فإن فيه تأكيدين : تأكيدا ب (إنّ) وتأكيدا ب (جَمِيعاً) لأن تلك الآية نزلت في وقت قوة الإسلام فلم يحتج فيها إلى تقوية التأكيد. وتقدم الكلام على (جَمِيعاً) عند قوله تعالى : (وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً) في سورة سبأ [٤٠].

__________________

(١) لقول السكاكي : ليس الحصر والتخصيص إلّا تأكيدا على تأكيد.

١٢٨

وانتصب (جَمِيعاً) على الحال من (الْعِزَّةَ) وكأنه فعيل بمعنى مفعول ، أي العزة كلها لله لا يشذ شيء منها فيثبت لغيره ، لأن العزة المتعارفة بين الناس كالعدم إذ لا يخلو صاحبها من احتياج ووهن والعزة الحق لله.

وتعريف (الْعِزَّةَ) تعريف الجنس. والعزة : الشرف والحصانة من أن ينال بسوء. فالمعنى : من كان يريد العزة فانصرف عن دعوة الله إبقاء على ما يخاله لنفسه من عزة فهو مخطئ إذ لا عزة له فهو كمن أراق ماء للمع سراب. والعزة الحق لله الذي دعاهم على لسان رسوله. وعزة المولى ينال حزبه وأولياءه حظ منها فلو اتبعوا أمر الله فالتحقوا بحزبه صارت لهم عزة الله وهي العزة الدائمة ؛ فإن عزة المشركين يعقبها ذلّ الانهزام والقتل والأسر في الدنيا وذلّ الخزي والعذاب في الآخرة ، وعزة المؤمنين في تزايد الدنيا ولها درجات كمال في الآخرة.

(إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ).

كما أتبع تفصيل غرور الشيطان بعواقبه في الآخرة بقوله : (إِنَّما يَدْعُوا حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحابِ السَّعِيرِ) [فاطر : ٦] الآية ، وبذكر مقابل عواقبه من حال المؤمنين ، كذلك أتبع تفصيل غرور الأنفس أهلها بعواقبه وبذكر مقابله أيضا ليلتقي مآل الغرورين ومقابلهما في ملتقى واحد ، ولكن قدم في الأول عاقبة أهل الغرور بالشيطان ثم ذكرت عاقبة أضدادهم ، وعكس في ما هنا لجريان ذكر عزة الله فقدم ما هو المناسب لآثار عزة الله في حزبه وجنده.

وجملة (إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ) مستأنفة استئنافا ابتدائيا بمناسبة تفصيل الغرور الذي يوقع فيه.

والمقصود أن أعمال المؤمنين هي التي تنفع ليعلم الناس أن أعمال المشركين سعي باطل. والقربات كلّها ترجع إلى أقوال وأعمال ، فالأقوال ما كان ثناء على الله تعالى واستغفارا ودعاء ، ودعاء الناس إلى الأعمال الصالحة. وتقدم ذكرها عند قوله تعالى : (وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً) في سورة الأحزاب [٧٠]. والأعمال فيها قربات كثيرة. وكان المشركون يتقربون إلى أصنامهم بالثناء والتمجيد كما قال أبو سفيان يوم أحد : اعل هبل ، وكانوا يتحنثون بأعمال من طواف وحج وإغاثة ملهوف وكان ذلك كله مشوبا بالإشراك لأنهم ينوون بها التقرب إلى الآلهة فلذلك نصبوا أصناما في الكعبة وجعلوا هبل وهو كبيرهم على سطح الكعبة ، وجعلوا إسافا ونائلة فوق الصفا والمروة ، لتكون مناسكهم لله

١٢٩

مخلوطة بعبادة الآلهة تحقيقا لمعنى الإشراك في جميع أعمالهم.

فلما قدم المجرور من قوله : (إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ) أفيد أن كل ما يقدم من الكلم الطيب إلى غير الله لا طائل تحته.

وأما قوله : (وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ) ف (الْعَمَلُ) مقابل (الْكَلِمُ) ، أي الأفعال التي ليست من الكلام ، وضمير الرفع عائد إلى معاد الضمير المجرور في قوله : (إِلَيْهِ) وهو اسم الجلالة من قوله (فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعاً). والضمير المنصوب من (يَرْفَعُهُ) عائد إلى (الْعَمَلُ الصَّالِحُ) أي الله يرفع العمل الصالح.

والصعود : الإذهاب في مكان عال. والرفع : نقل الشيء من مكان إلى مكان أعلى منه ، فالصعود مستعار للبلوغ إلى عظيم القدر وهو كناية عن القبول لديه. والرفع : حقيقته نقل الجسم من مقرّه إلى أعلى منه وهو هنا كناية للقبول عند عظيم ، لأن العظيم تتخيله التصورات رفيع المكان. فيكون كلّ من (يصعد) و (يرفع) تبعتين قرينتي مكنية بأن شبه جانب القبول عند الله تعالى بمكان مرتفع لا يصله إلّا ما يصعد إليه.

فقوله : (الْعَمَلُ) مبتدأ وخبره (يَرْفَعُهُ) ، وفي بناء المسند الفعلي على المسند إليه ما يفيد تخصيص المسند إليه بالمسند ، فإذا انضم إليه سياق جملته عقب سياق جملة القصر المشعر بسريان حكم القصر إليه بالقرينة لاتحاد المقام إذ لا يتوهم أن يقصر صعود الكلم الطيب على الجانب الإلهي ثم يجعل لغيره شركة معه في رفع العمل الصالح ، تعين معنى التخصيص ، فصار المعنى : الله الذي يقبل من المؤمنين أقوالهم وأعمالهم الصالحة.

وإنما جيء في جانب العمل الصالح بالإخبار عنه بجملة (يَرْفَعُهُ) ولم يعطف على (الْكَلِمُ الطَّيِّبُ) في حكم الصعود إلى الله مع تساوي الخبرين لفائدتين :

أولاهما : الإيماء إلى أن نوع العمل الصالح أهم من نوع الكلم الطيب على الجملة لأن معظم العمل الصالح أوسع نفعا من معظم الكلم الطيب (عدا كلمة الشهادتين وما ورد تفضيله من الأقوال في السنة مثل دعاء يوم عرفة) فلذلك أسند إلى الله رفعه بنفسه

كقول النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «من تصدّق بصدقة من كسب طيّب ولا يقبل الله إلّا طيبا تلقّاها الرحمن بيمينه ، وكلتا يديه يمين ، فيربيها له كما يربّي أحدكم فلوّه حتى تصير مثل الجبل».

وثانيهما : أن الكلم الطيب يتكيف في الهواء فإسناد الصعود إليه مناسب لماهيته ، وأما العمل الصالح فهو كيفيات عارضة لذوات فاعلة ومفعولة فلا يناسبه إسناد الصعود إليه

١٣٠

وإنما يحسن أن يجعل متعلقا لرفع يقع عليه ويسخره إلى الارتفاع.

(وَالَّذِينَ يَمْكُرُونَ السَّيِّئاتِ لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ وَمَكْرُ أُولئِكَ هُوَ يَبُورُ).

هذا فريق من الذين يريدون العزة من المشركين وهم الذين ذكرهم الله تعالى في قوله : (وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ) [الأنفال : ٣٠] الآية قاله أبو العالية فعطفهم على (مَنْ كانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ) تخصيص لهم بالذكر لما اختصوا به من تدبير المكر. وهو من عطف الخاص على العام للاهتمام بذكره.

والمكر : تدبير إلحاق الضر بالغير في خفية لئلا يأخذ حذره ، وفعله قاصر. وهو يتعلق بالمضرور بواسطة الباء التي للملابسة ، يقال : مكر بفلان ، ويتعلق بوسيلة المكر بباء السببية يقال : مكر بفلان بقتله ؛ فانتصاب (السَّيِّئاتِ) هنا على أنه وصف لمصدر المكر نائبا مناب المفعول المطلق المبيّن لنوع الفعل فكأنه قيل والذين يمكرون المكر السيّئ. وكان حقّ وصف المصدر أن يكون مفردا كقوله تعالى : (وَلا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ) [فاطر : ٤٣] فلما أريد هنا التنبيه على أن أولياء الشيطان لهم أنواع من المكر عدل عن الإفراد إلى الجمع وأتي به جمع مؤنث للدلالة على معنى الفعلات من المكر ، فكل واحدة من مكرهم هي سيئة ، كما جاء ذلك في لفظ (صالحة) كقول جرير :

كيف الهجاء وما تنفك صالحة

من آل لأم بظهر الغيب تأتيني

أي صالحات كثيرة ، وأنواع مكراتهم هي ما جاء في قوله تعالى : (وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ) [الأنفال : ٣٠].

والتعريف في (السَّيِّئاتِ) تعريف الجنس. وجيء باسم الموصول للإيماء إلى أن مضمون الصلة علّة فيما يرد بعدها من الحكم ، أي لهم عذاب شديد جزاء مكرهم. وعبر بالمضارع في الصلة للدلالة على تجدد مكرهم واستمراره وأنه دأبهم وهجّيراهم.

ولما توعدهم الله بالعذاب الشديد على مكرهم أنبأهم أن مكرهم لا يروج ولا ينفق وأن الله سيبطله فلا ينتفعون منه في الدنيا ، ويضرون بسببه في الآخرة فقال (وَمَكْرُ أُولئِكَ هُوَ يَبُورُ).

وعبر عنهم باسم الإشارة دون الضمير الذي هو مقتضى الظاهر لتمييزهم أكمل تمييز ، فيكنى بذلك عن تمييز المكر المضاف إليهم ووضوحه في علم الله وعلم رسولهصلى‌الله‌عليه‌وسلم بما أعلمه الله به منه ، فكأنما أشير إليهم وإلى مكرهم باسم إشارة واحد على سبيل الإيجاز.

١٣١

والضمير المتوسط بين (مَكْرُ أُولئِكَ) وبين (يَبُورُ) ضمير فصل إذ لا يحتمل غيره. ومثله قوله تعالى : (أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللهَ هُوَ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبادِهِ)[التوبة : ١٠٤].

والراجح من أقوال النحاة قول المازني : إن ضمير الفصل يليه الفعل المضارع ، وحجته قوله : (وَمَكْرُ أُولئِكَ هُوَ يَبُورُ) دون غير المضارع ، ووافقه عبد القاهر الجرجاني في «شرح الإيضاح» لأبي على الفارسي ، وخالفهما أبو حيان وقال : لم يذهب أحد إلى ذلك فيما علمنا. وأقول : إن وجه وقوع الفعل المضارع بعد ضمير الفصل أن المضارع يدل على التجدد فإذا اقتضى المقام إرادة إفادة التجدد في حصول الفعل من إرادة الثبات والدوام في حصول النسبة الحكمية لم يكن إلى البليغ سبيل للجمع بين القصدين إلّا أن يأتي بضمير الفصل ليفيد الثبات والتقوية لتعذر إفادة ذلك بالجملة الإسلامية. وقد تقدم القول في ذلك عند قوله : (وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) [البقرة : ٥] ، فالفصل هنا يفيد القصر ، أي مكرهم يبور دون غيره ، ومعلوم أن غيره هنا تعريض بأن الله يمكر بهم مكرا يصيب المحزّ منهم على حد قوله تعالى : (وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللهُ وَاللهُ خَيْرُ الْماكِرِينَ) [آل عمران : ٥٤].

والبوار حقيقته : كساد التجارة وعدم نفاق السلعة ، واستعير هنا لخيبة العمل بوجه الشبه بين ما دبروه من المكر مع حرصهم على إصابة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بضرّ وبين ما ينمّقه التاجر وما يخرجه من عيابه ويرصفه على مبناته وسط اللّطيمة مع السلع لاجتلاب شره المشترين.

ثم لا يقبل عليه أحد من أهل السوق فيرجع من لطيمته لطيم كف الخيبة ، فارغ الكف والعيبة.

(وَاللهُ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ جَعَلَكُمْ أَزْواجاً وَما تَحْمِلُ مِنْ أُنْثى وَلا تَضَعُ إِلاَّ بِعِلْمِهِ وَما يُعَمَّرُ مِنْ مُعَمَّرٍ وَلا يُنْقَصُ مِنْ عُمُرِهِ إِلاَّ فِي كِتابٍ إِنَّ ذلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيرٌ (١١))

(وَاللهُ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ جَعَلَكُمْ أَزْواجاً).

هذا عود إلى سوق دلائل الوحدانية بدلالة عليها من أنفس الناس بعد أن قدم لهم ما هو من دلالة الآفاق بقوله : (وَاللهُ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّياحَ) [فاطر : ٩]. فهذا كقوله : (سَنُرِيهِمْ آياتِنا فِي الْآفاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُ) [فصلت : ٥٣] وقوله : (وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلا تُبْصِرُونَ) [الذاريات : ٢١] فابتدأهم بتذكيرهم بأصل التكوين الأول من تراب وهو ما تقرر علمه لدى جميع البشر من أن أصلهم وهو البشر الأول ، خلق من طين فصار ذلك حقيقة

١٣٢

مقررة في علم البشر وهي مما يعبر عنه في المنطق «بالأصول الموضوعة» القائمة مقام المحسوسات.

ثم استدرجهم إلى التكوين الثاني بدلالة خلق النسل من نطفة وذلك علم مستقر في النفوس بمشاهدة الحاضر وقياس الغائب على المشاهد ، فكما يجزم المرء بأن نسله خلق من نطفته يجزم بأنه خلق من نطفة أبويه ، وهكذا يصعد إلى تخلق أبناء آدم وحواء.

والنطفة تقدمت عند قوله تعالى : (أَكَفَرْتَ بِالَّذِي خَلَقَكَ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ) في سورة الكهف [٣٧].

وقوله : (ثُمَّ جَعَلَكُمْ أَزْواجاً) يشير إلى حالة في التكوين الثاني وهو شرطه من الازدواج. ف (ثُمَ) عاطفة الجملة فهي دالة على الترتيب الرتبي الذي هو أهمّ في الغرض أعني دلالة التكوين على بديع صنع الخالق سبحانه فذلك موزع على مضمون قوله : (ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ).

والمعنى : ثم من نطفة وقد جعلكم أزواجا لتركيب تلك النطفة ، فالاستدلال بدقة صنع النوع الإنساني من أعظم الدلائل على وحدانية الصانع. وفيها غنية عن النظر في تأمل صنع بقية الحيوان.

والأزواج : جمع زوج وهو الذي يصير بانضمام الفرد إليه زوجا ، أي شفعا ، وقد شاع إطلاقه على صنف الذكور مع صنف الإناث لاحتياج الفرد الذكر من كل صنف إلى أنثاه من صنفه والعكس.

(وَما تَحْمِلُ مِنْ أُنْثى وَلا تَضَعُ إِلَّا بِعِلْمِهِ).

بعد الاستدلال بما في بدء التكوين الثاني من التلاقح بين النطفتين استدل بما ينشأ عن ذلك من الأطوار العارضة للنطفة في الرحم وهو أطوار الحمل من أوله إلى الوضع.

وأدمج في ذلك دليل التنبيه على إحاطة علم الله بالكائنات الخفية والظاهرة ، ولكون العلم بالخفيّات أعلى قدّم ذكر الحمل على ذكر الوضع ، والمقصود من عطف الوضع أن يدفع توهم وقوف العلم عند الخفيّات التي هي من الغيب دون الظواهر بأن يشتغل عنها بتدبير خفيّاتها كما هو شأن عظماء العلماء من الخلق ، لظهور استحالة توجه إرادة الخلق نحو مجهول عند مريده.

١٣٣

والاستثناء مفرغ من عموم الأحوال. والباء للملابسة. والمجرور في موضع الحال.

(وَما يُعَمَّرُ مِنْ مُعَمَّرٍ وَلا يُنْقَصُ مِنْ عُمُرِهِ إِلَّا فِي كِتابٍ إِنَّ ذلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيرٌ).

لا جرم أن الحديث عن التكوين يستتبع ذكر الموت المكتوب على كل بشر فجاء بذكر علمه الآجال والأعمار للتنبيه على سعة العلم الإلهي.

والتعمير : جعل الإنسان عامرا ، أي باقيا في الحياة ، فإن العمر هو مدة الحياة يقال:عمر فلان كفرح ونصر وضرب ، إذا بقي زمانا ، فمعنى عمّره بالتضعيف : جعله باقيا مدة زائدة على المدة المتعارفة في أعمار الأجيال ، ولذلك قوبل بالنقص من العمر ، ولذلك لا يوصف بالتعمير صاحبه إلّا بالمبني للمجهول فيقال : عمّر فلان فهو معمّر. وقد غلب في هذه الأجيال أن يكون الموت بين الستين والسبعين فما بينهما ، فهو عمر متعارف ، والمعمّر الذي يزيد عمره على السبعين ، والمنقوص عمره الذي يموت دون الستين. ولذلك كان أرجح الأقوال في تعمير المفقود عند فقهاء المالكية هو الإبلاغ به سبعين سنة من تاريخ ولادته ووقع القضاء في تونس بأنه ما تجاوز ثمانين سنة ، قالوا : لأن الذين يعيشون إلى ثمانين سنة غير قليل فلا ينبغي الحكم باعتبار المفقود ميتا إلّا بعد ذلك لأنه يترتب عليه الميراث ولا ميراث بشك ، ولأنه بعد الحكم باعتباره ميتا تزوج امرأته ، وشرط صحة التزوج أن تكون المرأة خلية من عصمة ، ولا يصح إعمال الشرط مع الشك فيه. وهو تخريج فيه نظر.

وضمير (مِنْ عُمُرِهِ) عائدا إلى (مُعَمَّرٍ) على تأويل (مُعَمَّرٍ) ب (أحد) كأنه قيل : وما يعمّر من أحد ولا ينقص من عمره ، أي عمر أحد وآخر. وهذا كلام جار على التسامح في مثله في الاستعمال واعتمادا على أن السامعين يفهمون المراد كقوله تعالى : (وَإِنْ كانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلالَةً أَوِ امْرَأَةٌ وَلَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ فَلِكُلِّ واحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ فَإِنْ كانُوا أَكْثَرَ مِنْ ذلِكَ فَهُمْ شُرَكاءُ فِي الثُّلُثِ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصى بِها أَوْ دَيْنٍ) [النساء : ١٢] لظهور أنه لا ينقلب الميت وارثا لمن قد ورثه ولا وارث ميتا موروثا لوارثه.

والكتاب كناية عن علم الله تعالى الذي لا يغيب عنه معلوم كما أن الشيء المكتوب لا يزاد فيه ولا ينقص ، ويجوز أن يجعل الله موجودات هي كالكتب تسطر فيها الآجال مفصلة وذلك يسير في مخلوقات الله تعالى. ولذلك قال : (إِنَّ ذلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيرٌ) أي لا يلحقه من هذا الضبط عسر ولا كدّ.

١٣٤

وقد ورد هنا الإشكال العام الناشئ عن التعارض بين أدلة جريان كل شيء على ما هو سابق في علم الله في الأزل ، وبين إضافة الأشياء إلى أسباب وطلب اكتساب المرغوب من تلك الأسباب واجتناب المكروه منها فكيف يثبت في هذه الآية للأعمار زيادة ونقص مع كونها في كتاب وعلم لا يقبل التغيير ، وكيف يرغّب في الصدقة مثلا بأنها تزيد في العمر ، وأن صلة الرحم تزيد في العمر.

والمخلص من هذا ونحوه هو القاعدة الأصلية الفارقة بين كون الشيء معلوما لله تعالى وبين كونه مرادا ، فإن العلم يتعلق بالأشياء الموجودة والمعدومة. والإرادة تتعلق بإيجاد الأشياء على وفق العلم بأنها توجد ، فالناس مخاطبون بالسعي لما تتعلق به الإرادة فإذا تعلقت الإرادة بالشيء علمنا أن الله علم وقوعه ، وما تصرفات الناس ومساعيهم إلّا أمارات على ما علمه الله لهم ، فصدقة المتصدق أمارة على أن الله علم تعميره ، والله تعالى يظهر معلوماته في مظاهر تكريم أو تحقير ليتم النظام الذي أسس الله عليه هذا العالم ويلتئم جميع ما أراده الله من هذا التكوين على وجوه لا يخلّ بعضها ببعض وكل ذلك مقتضى الحكمة العالية. ولا مخلص من هذا الإشكال إلّا هذا الجواب وجميع ما سواه وإن أقنع ابتداء فمآله إلى حيث ابتدأ الإشكال.

(وَما يَسْتَوِي الْبَحْرانِ هذا عَذْبٌ فُراتٌ سائِغٌ شَرابُهُ وَهذا مِلْحٌ أُجاجٌ وَمِنْ كُلٍّ تَأْكُلُونَ لَحْماً طَرِيًّا وَتَسْتَخْرِجُونَ حِلْيَةً تَلْبَسُونَها وَتَرَى الْفُلْكَ فِيهِ مَواخِرَ لِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (١٢))

انتقال من الاستدلال بالأحوال في الأجواء بين السماء والأرض على تفرد الله تعالى بالإلهية إلى الاستدلال بما على الأرض من بحار وأنهار وما في صفاتها من دلالة زائدة على دلالة وجود أعيانها ، على عظيم مخلوقات الله تعالى ، فصيغ هذا الاستدلال على أسلوب بديع إذ اقتصر فيه على التنبيه على الحكمة الربانية في المخلوقات وهي ناموس تمايزها بخصائص مختلفة واتحاد أنواعها في خصائص متماثلة استدلالا على دقيق صنع الله تعالى كقوله : تسقى (بِماءٍ واحِدٍ وَنُفَضِّلُ بَعْضَها عَلى بَعْضٍ فِي الْأُكُلِ) [الرعد : ٤] ويتضمن ذلك الاستدلال بخلق البحرين أنفسهما لأن ذكر اختلاف مذاقهما يستلزم تذكر تكوينهما.

فالتقدير : وخلق البحرين العذب والأجاج على صورة واحدة وخالف بين أعراضهما ، ففي الكلام إيجاز حذف ، وإنما قدم من هذا الكلام تفاوت البحرين في المذاق واقتصر عليه

١٣٥

لأنه المقصود من الاستدلال بأفانين الدلائل على دقيق صنع الله تعالى.

وفي «الكشاف» : ضرب البحرين العذب والمالح مثلا للمؤمن والكافر ، ثم قال على سبيل الاستطراد في صفة البحرين وما علق بهما من نعمته وعطائه (وَمِنْ كُلٍّ تَأْكُلُونَ لَحْماً طَرِيًّا).

والبحر في كلام العرب : اسم للماء الكثير القار في سعة ، فالفرات والدجلة بحران عذبان وبحر خليج العجم ملح. وتقدم ذكر البحرين عند قوله تعالى : (وَهُوَ الَّذِي مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ) في سورة الفرقان [٥٣] وقد اتحدا في إخراج الحيتان والحلية ، أي اللؤلؤ والمرجان ، وهما يوجد أجودهما في بحر العجم حيث مصبّ النهرين ، ولماء النهرين العذب واختلاطه بماء البحر الملح أثر في جودة اللؤلؤ كما بيّناه فيما تقدم في سورة النحل ، فقوله : (وَمِنْ كُلٍّ تَأْكُلُونَ لَحْماً طَرِيًّا) كلّية ، وقوله : (وَتَسْتَخْرِجُونَ حِلْيَةً) كلّ لا كلية لأن من مجموعها تستخرجون حلية. وكلمة (كُلٍ) صالحة للمعنيين ، فعطف (وَتَسْتَخْرِجُونَ) من استعمال المشترك في معنييه.

فالاختلاف بين البحرين بالعذوبة والملوحة دليل على دقيق صنع الله. والتخالف في بعض مستخرجاتهما والتماثل في بعضها دليل آخر على دقيق الصنع وهذا من أفانين الاستدلال.

والعذب : الحلو حلاوة مقبولة في الذوق.

والملح بكسر الميم وسكون اللام : الشيء الموصوف بالملوحة بذاته لا بإلقاء ملح فيه ، فأما الشيء الذي يلقى فيه الملح حتى يكتسب ملوحة فإنما يقال له : مالح ، ولا يقال : ملح.

ومعنى : (سائِغٌ شَرابُهُ) أن شربه لا يكلف النفس كراهة ، وهو مشتق من الإساغة وهي استطاعة ابتلاع المشروب دون غصة ولا كره. قال عبد الله بن يعرب :

فساغ لي الشراب وكنت قبلا

أكاد أغصّ بالماء الحميم

والأجاج : الشديد الملوحة ، وتقدم ذكر البحر في قوله تعالى : (وَيَعْلَمُ ما فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ) في سورة الأنعام [٥٩] ، وبقية الآية تقدم نظيره في أول سورة النحل.

وتقديم الظرف في قوله : (فِيهِ مَواخِرَ) على عكس آية سورة النحل ، لأن هذه الآية مسوقة مساق الاستدلال على دقيق صنع الله تعالى في المخلوقات وأدمج فيه الامتنان

١٣٦

بقوله : (تَأْكُلُونَ .... وتَسْتَخْرِجُونَ حِلْيَةً) وقوله : (لِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ) فكان المقصد الأول من سياقها الاستدلال على عظيم الصنع فهو الأهم هنا. ولما كان طفو الفلك على الماء حتى لا يغرق فيه أظهر في الاستدلال على عظيم الصنع من الذي ذكر من النعمة والامتنان قدم ما يدل عليه وهو الظرفية في البحر. والمخر في البحر آية صنع الله أيضا بخلق وسائل ذلك والإلهام له ، إلّا أن خطور السفر من ذلك الوصف أو ما يتبادر إلى الفهم فأخر هنا لأنه من مستتبعات الغرض لا من مقصده فهو يستتبع نعمة تيسير الأسفار لقطع المسافات التي لو قطعت بسير القوافل لطالت مدة الأسفار.

ومن هنا يلمع بارق الفرق بين هذه الآية وآية سورة النحل في كون فعل (لِتَبْتَغُوا) غير معطوف بالواو هنا ومعطوفا نظيره في آية النحل لأن الابتغاء علق هنا ب (مَواخِرَ) إيقافا على الغرض من تقديم الظرف ، وفي آية النحل ذكر المخر في عداد الامتنان لأنه به تيسير الأسفار ، ثم فصل بين (مَواخِرَ) وعلته بظرف (فِيهِ) ، فصار ما يومئ إليه الظرف فصلا بغرض أدمج إدماجا وهو الاستدلال على عظيم الصنع بطفوّ الفلك على الماء ، فلما أريد الانتقال منه إلى غرض آخر وهو العود إلى الامتنان بالمخر لنعمة التجارة في البحر عطف المغاير في الغرض.

[١٣ ، ١٤] (يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ وَيُولِجُ النَّهارَ فِي اللَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى ذلِكُمُ اللهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ ما يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ (١٣) إِنْ تَدْعُوهُمْ لا يَسْمَعُوا دُعاءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجابُوا لَكُمْ وَيَوْمَ الْقِيامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ وَلا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ (١٤))

(يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ وَيُولِجُ النَّهارَ فِي اللَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى).

استدلال عليهم بما في مظاهر السماوات من الدلائل على بديع صنع الله في أعظم المخلوقات ليتذكروا بذلك أنه الإله الواحد.

وتقدم الكلام على نظير هذه الآية في سورة لقمان ، سوى أن هذه الآية جاء فيها (كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ) فعدي فعل (يَجْرِي) باللام وجيء في آية سورة لقمان تعدية فعل (يَجْرِي) بحرف (إلى) ، فقيل اللام تكون بمعنى (إلى) في الدلالة على الانتهاء ، فالمخالفة بين الآيتين تفنن في النظم. وهذا أباه الزمخشري في سورة لقمان وردّه أغلظ ردّ فقال:

١٣٧

ليس ذلك من تعاقب الحرفين ولا يسلك هذه الطريقة إلّا بليد الطبع ضيق العطن ولكن المعنيين أعني الانتهاء والاختصاص كل واحد منهما ملائم لصحة الغرض لأن قولك : يجري إلى أجل مسمى معناه يبلغه ، وقوله : (يَجْرِي لِأَجَلٍ) تريد لإدراك أجل ا ه. وجعل اللام للاختصاص أي ويجري لأجل أجل ، أي لبلوغه واستيفائه ، والانتهاء والاختصاص كل منهما ملائم للغرض ، أي فمآل المعنيين واحد وإن كان طريقه مختلفا ، يعني فلا يعد الانتهاء معنى للام كما فعل ابن مالك وابن هشام ، وهو وإن كان يرمي إلى تحقيق الفرق بين معاني الحروف وهو مما نميل إليه إلّا أننا لا نستطيع أن ننكر كثرة ورود اللام في مقام معنى الانتهاء كثرة جعلت استعارة حرف التخصيص لمعنى الانتهاء من الكثرة إلى مساويه للحقيقة ، اللهم إلّا أن يكون الزمخشري يريد أن الأجل هنا هو أجل كل إنسان ، أي عمره وأن الأجل في سورة لقمان هو أجل بقاء هذا العالم.

وهو على الاعتبارين إدماج للتذكير في خلال الاستدلال ففي هذه الآية ذكّرهم بأن لأعمارهم نهاية تذكيرا مرادا به الإنذار والوعيد على نحو قوله تعالى في سورة الأنعام [٦٠](ثُمَّ يَبْعَثُكُمْ فِيهِ لِيُقْضى أَجَلٌ مُسَمًّى). واقتلاع الطغيان والكبرياء من نفوسهم.

ويريد ذلك أن معظم الخطاب في هذه الآية موجه إلى المشركين ، ألا ترى إلى قوله بعدها : (وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ ما يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ) وفي سورة لقمان الخطاب للرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم أو عامّ لكل مخاطب من مؤمن وكافر فكان إدماج التذكير فيه بأن لهذا العالم انتهاء أنسب بالجميع ليستعدّ له الذين آمنوا وليرغم الذين كفروا على العلم بوجود البعث لأنّ نهاية هذا العالم ابتداء لعالم آخر.

(ذلِكُمُ اللهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ ما يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ إِنْ تَدْعُوهُمْ لا يَسْمَعُوا دُعاءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجابُوا لَكُمْ وَيَوْمَ الْقِيامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ وَلا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ)

استئناف موقعه موقع النتيجة من الأدلة بعد تفصيلها.

واسم الإشارة موجه إلى من جرت عليه الصفات والأخبار السابقة من قوله : (وَاللهُ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّياحَ) [فاطر : ٩] الآيات فكان اسمه حريّا بالإشارة إليه بعد إجراء تلك الصفات إذ بذكرها يتميز عند السامعين أكمل تمييز حتى كأنه مشاهد لأبصارهم مع ما في اسم الإشارة من البعد المستعمل كناية عن تعظيم المشار إليه ، ومع ما يقتضيه إيراد اسم الإشارة عقب أوصاف كثيرة من التنبيه على أنه حقيق بما سيرد بعد الإشارة من أجل تلك

١٣٨

الصفات فأخبر عنه بأنه صاحب الاسم المختص به الذي لا يجهلونه ، وأخبر عنه بأنه رب الخلائق بعد أن سجل عليهم ما لا قبل لهم بإنكاره من أنه الذي خلقهم خلقا من بعد خلق ، وأن خلقهم من تراب ، وقدر آجالهم وأوجد ما هو أعظم منهم من الأحوال السماوية والأرضية مما يدل على أنه لا يعجزه شيء فهو الرب دون غيره وهو الذي الملك والسلطان له لا لغيره أفاد ذلك كله قوله تعالى : (ذلِكُمُ اللهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ) ، فانتهض الدليل.

وعطف عليه التصريح بأن أصنامهم لا يملكون من الملك شيئا ولو حقيرا وهو الممثّل بالقطمير.

والقطمير : القشرة التي في شقّ النواة كالخيط الدقيق. فالمعنى : لا يملكون شيئا ولو حقيرا ، فكونهم لا يملكون أعظم من القطمير معلوم بفحوى الخطاب ، وذلك حاصل بالمشاهدة فإن أصنامهم حجارة جاثمة لا تملك شيئا بتكسب ولا تحوزه بهبة ، فإذا انتفى أنها تملك شيئا انتفى عنها وصف الإلهية بطريق الأولى ، فنفي ما كانوا يزعمونه من أنها تشفع لهم.

وجملة (إِنْ تَدْعُوهُمْ) خبر ثان عن (الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ) [فاطر : ١٣]. والمقصد منها تنبيه المشركين إلى عجز أصنامهم بأنها لا تسمع ، وليس ذلك استدلالا فإنهم كانوا يزعمون أن الأصنام تسمع منهم فلذلك كانوا يكلمونها ويوجهون إليها محامدهم ومدائحهم ، ولكنه تمهيد للجملة المعطوفة على الخبر وهي جملة (وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجابُوا لَكُمْ) فإنها معطوفة على جملة (إِنْ تَدْعُوهُمْ لا يَسْمَعُوا دُعاءَكُمْ) ، وليست الواو اعتراضية ، أي ولو سمعوا على سبيل الفرض والتقدير ومجاراة مزاعمكم حين تدعونها فإنها لا تستجيب لدعوتكم ، أي لا ترد عليكم بقبول ، وهذا استدلال سنده المشاهدة ، فطالما دعوا الأصنام فلم يسمعوا منها جوابا وطالما دعوها فلم يحصل ما دعوها لتحصيله مع أنها حاضرة بمرأى منهم غير محجوبة ، فعدم إجابتها دليل على أنها لا تسمع ، لأن شأن العظيم أن يستجيب لأوليائه الذين يسعون في مرضاته ، فقد لزمهم إمّا عجزها وإما أنها لا تفقه إذ ليس في أوليائها مغمز بأنهم غير مرضين لهذا. وهذا من أبدع الاستدلال الموطّأ بمقدمة متفق عليها.

وقوله : (مَا اسْتَجابُوا) يجوز أن يكون بمعنى إجابة المنادي بكلمات الجواب. ويجوز أن يكون بمعنى إجابة السائل بتنويله ما سأله. وهذا من استعمال المشترك في

١٣٩

معنييه.

ولما كشف حال الأصنام في الدنيا بما فيه تأييس من انتفاعهم بها فيها كمّل كشف أمرها في الآخرة بأن تلك الأصنام ينطقها الله فتتبرأ من شركهم ، أي تتبرأ من أن تكون دعت له أو رضيت به.

والكفر : جحد في كراهة.

والشرك أضيف إلى فاعله ، أي بشرككم إياهم في الإلهية مع الله تعالى.

وأجري على الأصنام موصول العاقل وضمائر العقلاء (وَالَّذِينَ تَدْعُونَ) [فاطر : ١٣] إلى قوله : (يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ) على تنزيل الأصنام منزلة العقلاء مجاراة للمردود عليهم على طريقة التهكم.

وقوله : (وَلا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ) تذييل لتحقيق هذه الأخبار بأن المخبر بها هو الخبير بها وبغيرها ولا يخبرك أحد مثل ما يخبرك هو.

وعبّر بفعل الإنباء لأن النبأ هو الخبر عن حدث خطير مهمّ.

والخطاب في قوله : (يُنَبِّئُكَ) لكل من يصح منه سماع هذا الكلام لأن هذه الجملة أرسلت مرسل الأمثال فلا ينبغي تخصيص مضمونها بمخاطب معين.

و (خَبِيرٍ) صفة مشبهة مشتقة من خبر ، بضم الباء ، فلان الأمر ، إذا علمه علما لا شك فيه. والمراد ب (خَبِيرٍ) جنس الخبير ، فلما أرسل هذا القول مثلا وكان شأن الأمثال أن تكون موجزة صيغ على أسلوب الإيجاز فحذف منه متعلّق فعل (ينبّئ) ومتعلّق وصف (خَبِيرٍ) ، ولم يذكر وجه المماثلة لعلمه من المقام. وجعل (خَبِيرٍ) نكرة مع أن المراد به خبير معيّن وهو المتكلم فكان حقه التعريف ، فعدل إلى تنكيره لقصد التعميم في سياق النفي لأن إضافة كلمة (مِثْلُ) إلى خبير لا تفيده تعريفا. وجعل نفي فعل الإنباء كناية عن نفي المنبئ. ولعل التركيب : ولا يوجد أحد ينبئك بهذا الخبر يماثل هذا الخبير الذي أنبأك به ، فإذا أردف مخبر خبره بهذا المثل كان ذلك كناية عن كون المخبر بالخبر المخصوص يريد ب (خَبِيرٍ) نفسه للتلازم بين معنى هذا المثل وبين تمثل المتكلم منه. فالمعنى : ولا ينبئك بهذا الخبر مثلي لأني خبرته ، فهذا تأويل هذا التركيب وقد أغفل المفسّرون بيان هذا التركيب.

١٤٠