تفسير التّحرير والتّنوير - ج ٢٢

الشيخ محمّد الطاهر ابن عاشور

تفسير التّحرير والتّنوير - ج ٢٢

المؤلف:

الشيخ محمّد الطاهر ابن عاشور


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة التاريخ العربي للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٢٨٨

وقرأ نافع وابن ذكوان عن أبي عامر وأبو جعفر ا فلا تعقلون بتاء الخطاب وهو خطاب للذين وجه إليهم قوله : (وَلَوْ نَشاءُ لَطَمَسْنا عَلى أَعْيُنِهِمْ) [يس : ٦٦] الآية. وقرأ الباقون بياء الغيبة لأن تلك الجمل الشرطية لا تخلو من مواجهة بالتعريض للمتحدث عنهم فكانوا أحرياء أن يعقلوا مغزاها ويتفهموا معناها.

[٦٩ ، ٧٠] (وَما عَلَّمْناهُ الشِّعْرَ وَما يَنْبَغِي لَهُ إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ وَقُرْآنٌ مُبِينٌ (٦٩) لِيُنْذِرَ مَنْ كانَ حَيًّا وَيَحِقَّ الْقَوْلُ عَلَى الْكافِرِينَ (٧٠))

هذه الآية ترجع إلى ما تضمنه قوله تعالى : (وَما تَأْتِيهِمْ مِنْ آيَةٍ مِنْ آياتِ رَبِّهِمْ إِلَّا كانُوا عَنْها مُعْرِضِينَ) [يس : ٤٦] فقد بيّنا أن المراد بالآيات آيات القرآن ، فإعراضهم عن القرآن له أحوال شتى : بعضها بعدم الامتثال لما يأمرهم به من الخير مع الاستهزاء بالمسلمين وهو قوله تعالى : (وَإِذا قِيلَ لَهُمْ أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللهُ) [يس : ٤٧] الآية ، وبعضها بالتكذيب لما ينذرهم به من الجزاء ، وهو قوله : (وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) [يس : ٤٨]. ومن إعراضهم عنه طعنهم في آيات القرآن بأقوال شتّى منها قولهم : هو قول شاعر ، فلما تصدّى القرآن لإبطال تكذيبهم بوعيد بالجزاء يوم الحشر بما تعاقب من الكلام على ذلك عاد هنا إلى طعنهم في ألفاظ القرآن من قولهم : (بَلِ افْتَراهُ بَلْ هُوَ شاعِرٌ) [الأنبياء : ٥] ، فقولهم (بَلْ هُوَ شاعِرٌ) يقتضي لا محالة أنهم يقولون : القرآن شعر.

فالجملة معطوفة على جملة (وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) [الأنبياء : ٣٨] ، عطف القصة على القصة والغرض على الغرض. ويجوز أن تكون مستأنفة استئنافا ابتدائيا ويكون الواو للاستئناف ، ولذلك اقتصر هنا على تنزيه القرآن عن أن يكون شعرا والنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن أن يكون شاعرا دون التعرض لتنزيهه عن أن يكون ساحرا ، أو أن يكون مجنونا لأن الغرض الرد على إعراضهم عن القرآن ، ألا ترى أنه لما قصد إبطال مقالات لهم في القرآن قال في الآية الأخرى : (وَما هُوَ بِقَوْلِ شاعِرٍ قَلِيلاً ما تُؤْمِنُونَ وَلا بِقَوْلِ كاهِنٍ قَلِيلاً ما تَذَكَّرُونَ) [الحاقة : ٤١ ، ٤٢].

وضمير (عَلَّمْناهُ) عائد إلى معلوم من مقام الردّ وليس عائدا إلى مذكور إذ لم يتقدم له معاد.

وبني الرد عليهم على طريقة الكناية بنفي تعليم النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم الشعر لما في ذلك من إفادة أن القرآن معلّم للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم من قبل الله تعالى وأنه ليس بشعر وأن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ليس

٢٦١

بشاعر. وانتصب (الشِّعْرَ) على أن مفعول ثان لفعل (عَلَّمْناهُ) ، وهذا الفعل من أفعال العلم ، ومجرّده يتعدّى إلى مفعول واحد غالبا نحو علم المسألة. ويتعدّى إلى مفعولين أصلهما المبتدأ والخبر. فإذا دخله التضعيف صار متعديا إلى مفعولين فقط اعتدادا بأن مجرده متعدّ إلى واحد كقوله تعالى : (وَإِذْ عَلَّمْتُكَ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ) [المائدة : ١١٠] في سورة العقود ، وقوله : (وَما عَلَّمْناهُ الشِّعْرَ) في هذه السورة يس وهذه تفرقة في الاستعمال موكولة إلى اختيار أهل اللسان نبّه عليه الرضيّ في «شرح الكافية» في باب تعدية أفعال القلوب إلى مفعولين بأن أصله متعدّ إلى واحد. فتقدير المعنى : نحن علمناه القرآن وما علمناه الشعر ، فالقرآن موحى إليه بتعليم من الله والذي أوحى به إليه ليس بشعر ، وإذن فالمعنى : أن القرآن ليس من الشعر في شيء ، فكانت هاته الجملة ردّا على قولهم : هو شاعر على طريقة الكناية لأنها انتقال من اللازم إلى الملزوم.

ودل على أن هذا هو المقصود من قوله : (وَما عَلَّمْناهُ الشِّعْرَ) قوله عقبه (إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ وَقُرْآنٌ مُبِينٌ) ، أي ليس الذي علمناه إياه إلّا ذكرا وقرآنا وما هو بشعر. والتعليم هنا بمعنى الوحي ، أي وما أوحينا إليه الشعر فقد أطلق التعليم على الوحي في قوله تعالى : (إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحى عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوى) [النجم : ٤ ، ٥] وقال : (وَعَلَّمَكَ ما لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ) [النساء : ١١٣].

وكيف يكون القرآن شعرا والشعر كلام موزون مقفّى له معان مناسبة لأغراضه التي أكثرها هزل وفكاهة ، فأين الوزن في القرآن ، وأين التقفية ، وأين المعاني التي ينتجها الشعراء ، وأين نظم كلامهم من نظمه ، وأساليبهم من أساليبه. ومن العجيب في الوقاحة أن يصدر عن أهل اللسان والبلاغة قول مثل هذا ولا شبهة لهم فيه بحال ، فما قولهم ذلك إلّا بهتان.

وما بني عليه أسلوب القرآن من تساوي الفواصل لا يجعلها موازية للقوافي كما يعلمه أهل الصناعة منهم وكل من زاول مبادئ القافية من المولدين ، ولا أحسبهم دعوه شعرا إلّا تعجلا في الإبطال ، أو تمويها على الإغفال ، فأشاعوا في العرب أن محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم شاعر ، وأن كلامه شعر. وينبني عن هذا الظن خبر أنيس بن جنادة الغفاري أخي أبي ذرّ ، فقد روى البخاري عن ابن عباس ، ومسلم عن عبد الله بن الصامت ، يزيد أحدهما على الآخر قالا : «قال أبو ذر لأخيه : اركب إلى هذا الوادي فاعلم لي علم هذا الرجل الذي يزعم أنه نبي يأتيه الخبر من السماء واستمع من قوله ثم ائتني ، فانطلق الأخ حتى قدم

٢٦٢

وسمع من قوله ، ثم رجع إلى أبي ذر فقال له : رأيته يأمر بمكارم الأخلاق وكلاما ما هو بالشعر. قال أبو ذر : فما يقول الناس؟ قال : يقولون شاعر كاهن ، ساحر. وكان أنيس أحد الشعراء ، قال أنيس : لقد سمعت قول الكهنة فما هو بقولهم ، ولقد وضعت قوله على أقراء الشعر فما يلتئم على لسان أحد بعدي أنه شعر والله إنه لصادق وإنهم لكاذبون» ثم اقتص الخبر عن إسلام أبي ذر ، ويظهر أن ذلك كان في أول البعثة.

ومثله خبر الوليد بن المغيرة الذي رواه البيهقي وابن إسحاق «أنه جمع قريشا عند حضور الموسم ليتشاوروا في أمر النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال لهم : إن وفود العرب ترد عليكم فأجمعوا فيه رأيا لا يكذب بعضكم بعضا ، فقالوا : نقول كاهن؟ فقال : والله ما هو بكاهن ، ما هو بزمزمته ولا بسجعه ، قالوا : نقول مجنون؟ فقال : والله ما هو بمجنون ولا بخنقه ولا وسوسته ، فذكر ترددهم في وصفه إلى أن قالوا : نقول شاعر؟ قال : ما هو بشاعر ، قد عرفت الشعر كله رجزه وهزجه وقريضه ومبسوطه ومقبوضه وما هو بشاعر ...» إلى آخر القصة.

فمعنى (وَما عَلَّمْناهُ الشِّعْرَ) : وما أوحينا إليه شعرا علمناه إياه.

وليس المراد أن الله لم يجعل في طبع النبي القدرة على نظم الشعر لأن تلك المقدرة لا تسمّى تعليما حتى تنفى وإنما يستفاد هذا المعنى من قوله بعده : (وَما يَنْبَغِي لَهُ) وسنتكلم عليه قريبا.

وقد اقتضت الآية نفي أن يكون القرآن شعرا ، وهذا الاقتضاء قد أثار مطاعن للملحدين ومشاكل للمخلصين ، إذ وجدت فقرات قرآنية استكملت ميزان بحور من البحور الشعرية ، بعضها يلتئم منه بيت كامل ، وبعضها يتقوّم منه مصراع واحد ، ولا تجد أكثر من ذلك فهذا يلزم منه وقوع الشعر في آي القرآن.

وقد أثار الملاحدة هذا المطعن ، فلذلك تعرض أبو بكر الباقلاني إلى دحضه في كتابه «إعجاز القرآن» وتبعه السكاكي وأبو بكر بن العربي ، فأما الباقلاني فانفرد بردّ قال فيه : إن البيت المفرد لا يسمّى شعرا بله المصراع الذي لا يكمل به بيت. وأرى هذا غير كاف هنا لأنه لا يستطاع نفي مسمّى الشعر عن المصراع وأولى عن البيت.

وقال السكاكي في آخر مبحث ردّ المطاعن عن القرآن من كتاب «مفتاح العلوم» :

٢٦٣

«إنهم يقولون أنتم في دعواكم أن القرآن كلام الله وقد علّمه محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم على أحد أمرين : إما أن الله تعالى جاهل لا يعلم ما الشعر ، وإما أن الدعوى باطلة ، وذلك أن في قرآنكم (وَما عَلَّمْناهُ الشِّعْرَ) وأنه يستدعي أن لا يكون فيما علّمه شعر».

ثم إن في القرآن من جميع البحور شعرا :

فمن الطويل من «صحيحه» (فَمَنْ شاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شاءَ فَلْيَكْفُرْ) [الكهف : ٢٩].

ومن مخرومه (مِنْها خَلَقْناكُمْ وَفِيها نُعِيدُكُمْ) [طه : ٥٥].

ومن بحر المديد (وَاصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنا) [هود : ٣٧].

ومن بحر الوافر (وَيُخْزِهِمْ وَيَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ) [التوبة : ١٤].

ومن بحر الكامل : (وَاللهُ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ) [البقرة : ٢١٣].

ومن بحر الهجز من مخرومه : (تَاللهِ لَقَدْ آثَرَكَ اللهُ عَلَيْنا) [يوسف : ٩١].

ومن بحر الرجز : (دانِيَةً عَلَيْهِمْ ظِلالُها وَذُلِّلَتْ قُطُوفُها تَذْلِيلاً) [الإنسان : ١٤].

ومن بحر الرمل (وَجِفانٍ كَالْجَوابِ وَقُدُورٍ راسِياتٍ) [سبأ : ١٣]. ونظيره (وَضَعْنا عَنْكَ وِزْرَكَ الَّذِي أَنْقَضَ ظَهْرَكَ) [الشرح : ٢ ـ ٣].

ومن بحر السريع (قالَ فَما خَطْبُكَ يا سامِرِيُ) [طه : ٩٥] ونظيره (نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْباطِلِ) [الأنبياء : ١٨] ومنه (أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلى قَرْيَةٍ)[البقرة : ٢٥٩].

ومن بحر المنسرح (إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ نُطْفَةٍ) [الإنسان : ٢].

ومن بحر الخفيف (أَرَأَيْتَ الَّذِي يُكَذِّبُ بِالدِّينِ فَذلِكَ الَّذِي يَدُعُّ الْيَتِيمَ) [الماعون : ١ ـ ٢].

ومنه (لا يَكادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثاً) [النساء : ٧٨] ونحوه : (قالَ يا قَوْمِ هؤُلاءِ بَناتِي) [هود : ٧٨].

ومن بحر المضارع من مخرومه (يَوْمَ التَّنادِ يَوْمَ تُوَلُّونَ مُدْبِرِينَ) [غافر : ٣٢ ـ ٣٣].

ومن بحر المقتضب (فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ) [البقرة : ١٠].

ومن بحر المتقارب (وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ) [الأعراف : ١٨٣].

فيقال لهم من قبل النظر فيما أوردوه : هل حرفوا بزيادة أو نقصان حركة أو حرفا أم

٢٦٤

لا. وقبل أن ننظر هل راعوا أحكام علم العروض في الأعاريض والضروب التي سبق ذكرها أم لا. ومن قبل أن ننظر هل عملوا بالمنصور من المذهبين في معنى الشعر على نحو ما سبق أم لا (يعني المذهبين مذهب الذين قالوا لا يكون الشعر شعرا إلّا إذا قصد قائله أن يكون موزونا ، ومذهب الذين قالوا : إن تعمّد الوزن ليس بواجب بل يكفي أن يلفى موزونا ولو بدون قصد قائله للوزن وقد نصر المذهب الأول) يا سبحان الله قدروا جميع ذلك أشعارا ، أليس يصح بحكم التغليب أن لا يلتفت إلى ما أوردتموه لقلته ، ويجرى ذلك القرآن مجرى الخالي عن الشعر فيقال بناء على مقتضى البلاغة : (وَما عَلَّمْناهُ الشِّعْرَ) ا ه. كلامه ، وقد نحا به نحو أمرين :

أحدهما : أن ما وقع في القرآن من الكلام المتّزن ليس بمقصود منه الوزن ، فلا يكون شعرا على رأي الأكثر من اشتراط القصد إلى الوزن لأن الله تعالى لم يعبأ باتزانه.

الثاني : إن سلمنا عدم اشتراط القصد فإن نفي كون القرآن شعرا جرى على الغالب. فلا يعدّ قائله كاذبا ولا جاهلا فلا ينافي اليقين بأن القرآن من عند الله علمه محمداصلى‌الله‌عليه‌وسلم.

ومال ابن العربي في «أحكام القرآن» إلى أن ما تكلفوه من استخراج فقرات من القرآن على موازين شعرية لا يستقيم إلّا بأحد أمور مثل بتر الكلام أو زيادة ساكن أو نقص حرف أو حرفين ، وذكر أمثلة لذلك في بعضها ما لا يتم له فراجعه.

ولا محيص من الاعتراف باشتمال القرآن على فقرات متزنة يلتئم منها بيت أو مصراع ، فأما ما يقلّ عن بيت فهو كالعدم إذ لا يكون الشعر أقل من بيت ، ولا فائدة في الاستكثار من جلب ما يلفى متزنا فإن وقوع ما يساوي بيتا تاما من بحر من بحور الشعر العربي ولو نادرا أو مزحّفا أو معلّا كاف في بقاء الإشكال ، فلا حاجة إلى ما سلك ابن العربي في رده ولا كفاية لما سلكه السكاكي في كتابه ، لأن المردود عليهم في سعة من الأخذ بما يلائم نحلتهم من أضعف المذاهب في حقيقة الشعر وفي زحافه وعلّله. وبعد ذلك فإن الباقلاني والسكاكي لم يغوصا على اقتلاع ما يثيره الجواب الثاني في كلامهما بعدم القصد إلى الوزن ، من لزوم خفاء ذلك على علم الله تعالى فلما ذا لا تجعل في موضع تلك الفقرات المتزنة فقرات سليمة من الاتّزان.

ولم أر لأحد من المفسرين والخائضين في وجوه إعجاز القرآن التصدي لاقتلاع هذه الشبهة ، وقد مضت عليها من الزمان برهة ، وكنت غير مقتنع بتلك الردود ولا أرضاها ، وأراها غير بالغة من غاية خيل الحلبة منتهاها.

٢٦٥

فالذي بدا لي أن نقول : إن القرآن نزل بأفصح لغات البشر التي تواضعوا واصطلحوا عليها ولو أن كلاما كان أفصح من كلام العرب أو أمة كانت أسلم طباعا من الأمة العربية لاختارها الله لظهور أفضل الشرائع وأشرف الرسل وأعز الكتب الشرعية.

ومعلوم أن القرآن جاء معجزا لبلغاء العرب فكانت تراكيبه ومعانيها بالغين حدّا يقصر عنه كل بليغ من بلغائهم على مبلغ ما تتسع له اللغة العربية فصاحة وبلاغة فإذا كانت نهاية مقتضى الحال في مقام من مقامات الكلام تتطلب لإيفاء حقّ الفصاحة والبلاغة ألفاظا وتركيبا ونظما فاتفق أن كان لمجموع حركاتها وسكوناتها ما كان جاريا على ميزان الشعر العربي في أعاريضه وضروبه لم يكن ذلك الكلام معدودا من الشعر لو وقع مثله في كلام عن غير قصد فوقوعه في كلام البشر قد لا يتفطن إليه قائله ولو تفطن له لم يعسر تغييره لأنه ليس غاية ما يقتضيه الحال ، اللهم إلّا أن يكون قصد به تفننا في الإتيان بكلام ظاهره نثر وتفكيكه نظم.

فأما وقوعه في كلام الله تعالى فخارج عن ذلك كله من ثلاثة وجوه :

أحدها : أن الله لا يخفى عليه وقوعه في كلام أوحى به إلى رسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

الثاني : أنه لا يجوز تبديل ذلك المجموع من الألفاظ بغيره لأن مجموعها هو جميع ما اقتضاه الحال وبلغ حد الإعجاز.

الثالث : أن الله لا يريد أن يشتمل الكلام الموحى به من عنده على محسّن الجمع بين النثر والنظم لأنه أراد تنزيه كلامه عن شائبة الشعر.

واعلم أن الحكمة في أن لا يكون القرآن من الشعر مع أن المتحدّين به بلغاء العرب وجلّهم شعراء وبلاغتهم مودعة في أشعارهم هي الجمع بين الإعجاز وبين سدّ باب الشبهة التي تعرض لهم لو جاء القرآن على موازين الشعر ، وهي شبهة الغلط أو المغالطة بعدّهم النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم في زمرة الشعراء فيحسب جمهور الناس الذين لا تغوص مدركاتهم على الحقائق أن ما جاء به الرسول ليس بالعجيب ، وأن هذا الجائي به ليس بنبي ولكنه شاعر ، فكان القرآن معجزا لبلغاء العرب بكونه من نوع كلامهم لا يستطيعون جحودا لذلك ، ولكنه ليس من الصنف المسمّى بالشعر بل هو فائق على شعرهم في محاسنه البلاغية وليس هو في أسلوب الشعر بالأوزان التي ألقوها بل هو في أسلوب الكتب السماوية والذكر.

ولقد ظهرت حكمة علّام الغيوب في ذلك فإن المشركين لمّا سمعوا القرآن ابتدروا

٢٦٦

إلى الطعن في كونه منزّلا من عند الله بقولهم في الرسول : هو شاعر ، أي أن كلامه شعر حتى أفاقهم من غفلتهم عقلاؤهم مثل الوليد بن المغيرة ، وأنيس بن جنادة الغفاري ، وحتى قرعهم القرآن بهذه الآية : (وَما عَلَّمْناهُ الشِّعْرَ وَما يَنْبَغِي لَهُ إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ وَقُرْآنٌ مُبِينٌ).

وبعد هذا فإن إقامة الشعر لا يخلو الشاعر فيها من أن يتصرف في ترتيب الكلام تارات بما لا تقضيه الفصاحة مثل ما وقع لبعض الشعراء من التعقيد اللفظي ، ومثل تقديم وتأخير على خلاف مقتضى الحال فيعتذر لوقوعه بعذر الضرورة الشعرية ، فإذا جاء القرآن شعرا قصّر في بعض المواضع عن إيفاء جميع مقتضى الحال حقّه. وسنذكر عند تفسير قوله تعالى : (وَما يَنْبَغِي لَهُ) وجوها ينطبق معظمها على ما أشار إليه قوله تعالى هنا : (وَما عَلَّمْناهُ الشِّعْرَ). وقد قال ابن عطية : إن الضمير المجرور باللام في قوله : (وَما يَنْبَغِي لَهُ) يجوز أن يعود على القرآن كما سيأتي.

وقوله : (وَما يَنْبَغِي لَهُ) جملة معترضة بين الجملتين المتعاطفتين قصد منها اتباع نفي أن يكون القرآن الموحى به للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم شعرا بنفي أن يكون النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم شاعرا فيما يقوله من غير ما أوحى به إليه أي فطر الله النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم على النفرة بين ملكته الكلامية والملكة الشاعرية ، أي لم يجعل له ملكة أصحاب قرض الشعر لأنه أراد أن يقطع من نفوس المكذّبين دابر أن يكون النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم شاعرا وأن يكون قرآنه شعرا ليتضح بهتانهم عند من له أدنى مسكة من تمييز للكلام وكثير ما هم بين العرب رجالهم وكثير من نسائهم غير زوج عبد الله بن رواحة ونظيراتها ، والواو اعتراضية.

وضمير (يَنْبَغِي) عائد إلى الشعر ، وضمير (لَهُ) يجوز أن يكون عائدا إلى ما عاد إليه ضمير الغائب في قوله : (عَلَّمْناهُ) وهو الظاهر. وجوّز ابن عطية أن يعود إلى القرآن الذي يتضمنه فعل (عَلَّمْناهُ) فجعل جملة (وَما يَنْبَغِي لَهُ) بمنزلة التعليل لجملة (وَما عَلَّمْناهُ الشِّعْرَ).

ومعنى (وَما يَنْبَغِي لَهُ) ما يتأتّى له الشعر ، وقد تقدم عند قوله تعالى : (وَما يَنْبَغِي لِلرَّحْمنِ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَداً) [مريم : ٩٢] تفصيل ذلك في سورة مريم ، وتقدم قريبا عند قوله : (لَا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَها أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ) [يس : ٤٠]. فأصل معنى (يَنْبَغِي) يستجيب للبغي ، أي الطلب ، وهو يشعر بالطلب الملحّ. ثم غلب في معنى يتأتّى ويستقيم فتنوسي منه معنى المطاوعة وصار (يَنْبَغِي) بمعنى يتأتّى يقال : لا ينبغي كذا ، أي لا يتأتى. قال الطيبي : روي عن الزمخشري أنه قال في «كتاب سيبويه» «كل فعل فيه علاج يأتي مطاوعه على

٢٦٧

الانفعال : كضرب وطلب وعلم ، وما ليس فيه علاج : كعدم وفقد لا يأتي في مطاوعه الانفعال البتة» ا ه.

ومعنى كون الشعر لا ينبغي له : أن قول الشعر لا ينبغي له لأن الشعر صنف من القول له موازين وقواف ، فالنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم منزّه عن قرض الشعر وتأليفه ، أي ليست من طباع ملكته إقامة الموازين الشعرية ، وليس المراد أنه لا ينشد الشعر لأن إنشاد الشعر غير تعلّمه ، وكم من راوية للأشعار ومن نقّاد للشعر لا يستطيع قول الشعر وكذلك كان النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم قد انتقد الشعر ، ونبه على بعض مزايا فيه ، وفضّل بعض الشعراء على بعض وهو مع ذلك لا يقرض شعرا. وربما أنشد البيت فغفل عن ترتيب كلماته فربما اختلّ وزنه في إنشاده (١) وذلك من تمام المنافرة بين ملكة بلاغته وملكة الشعراء ، ألا ترى أنه لم يكن مطّردا فربما أنشد البيت موزونا.

هذا من جانب نظم الشعر وموازينه ، وكذلك أيضا جانب قوام الشعر ومعانيه فإن للشعر طرائق من الأغراض كالغزل والنسيب والهجاء والمديح والملح ، وطرائق من المعاني كالمبالغة البالغة حدّ الإغراق وكادّعاء الشاعر أحوالا لنفسه في غرام أو سير أو شجاعة هو خلو من حقائقها فهو كذب مغتفر في صناعة الشعر. وذلك لا يليق بأرفع مقام لكمالات النفس ، وهو مقام أعظم الرسل صلوات الله عليه وعليهم فلو أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قرض الشعر ولم يأت في شعره بأفانين الشعراء لعدّ غضاضة في شعره وكانت تلك الغضاضة داعية للتناول من حرمة كماله في أنفس قومه يستوي فيها العدوّ والصديق. على أن الشعراء في ذلك الزمان كانت أحوالهم غير مرضية عند أهل المروءة والشرف لما فيهم من الخلاعة

__________________

(١) كما أنشد بيت عباس بن مرداس :

أتجعل نهبي ونهب العبي

د بين عيينة والأقرع

فقال : بين الأقرع وعيينة ، وكذلك أنشد مرة مصراع طرفة :

ويأتيك بالأخبار من لم تزوّد

فقال : «ويأتيك من لم تزود بالأخبار».

وربما أنشد البيت دون تغيير كما أنشد بيت ابن رواحة :

يبيت يجافي جنبه عن فراشه

إذا استثقلت بالمشركين المضاجع

وأنشد بيت عنترة :

ولقد أبيت على الطوى وأظله

كيما أنال به شهيّ المطعم

٢٦٨

والإقبال على السكر والميسر والنساء ونحو ذلك. وحسبك ما هو معلوم من قضية خلع حجر الكندي ابنه إمرأ القيس وقد قال تعالى : (وَالشُّعَراءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغاوُونَ) [الشعراء : ٢٢٤] الآية. فلو جاء الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالشعر أو قاله لرمقه الناس بالعين التي لا يرمق بها قدره الجليل وشرفه النبيل ، والمنظور إليه في هذا الشأن هو الغالب الشائع وإلّا فقد قال النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إن من الشعر لحكمة» وقال : «أصدق كلمة قالها شاعر كلمة لبيد :

ألا كل شيء ما خلا الله باطل»

فتنزيه النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن قول الشعر من قبيل حياطة معجزة القرآن وحياطة مقام الرسالة مثل تنزيهه عن معرفة الكتابة.

قال أبو بكر بن العربي : هذه الآية ليست من عيب الشعر كما لم يكن قوله تعالى : (وَما كُنْتَ تَتْلُوا مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتابٍ وَلا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ) [العنكبوت : ٤٨] من عيب الخط. فلما لم تكن الأمية من عيب الخط كذلك لا يكون نفي النظم عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم من عيب الشعر.

ومن أجل ما للشعر من الفائدة والتأثير في شيوع دعوة الإسلام أن أمر النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم حسانا وعبد الله بن رواحة بقوله ، وأظهر استحسانه لكعب بن زهير حين أنشده القصيدة المشهورة : بانت سعاد.

والقول في ما صدر عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم من كلام موزون مثل قوله يوم أحد :

أنا النبي لا كذب

أنا ابن عبد المطلب

كالقول فيما وقع في القرآن من شبيه ذلك مما بيناه آنفا.

وجملة (إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ وَقُرْآنٌ مُبِينٌ) استئناف بياني لأن نفي الشعر عن القرآن يثير سؤال متطلب يقول : فما هو هذا الذي أوحي به إلى محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم فكان قوله : (إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ) جوابا لطلبته.

وضمير (هُوَ) للقرآن المفهوم من (عَلَّمْناهُ) ، أي ليس الذي علّمه الرسول إلّا ذكرا وقرآنا أو للشيء الذي علمناه ، أي للشيء المعلّم الذي تضمنه (عَلَّمْناهُ) ، أو عائد إلى (ذِكْرٌ) في قوله : (إِلَّا ذِكْرٌ) الذي هو (مُبِينٌ). وهذا من مواضع عود الضمير على متأخر لفظا ورتبة لأن البيان كالبدل. وتقدم نظيره في قوله تعالى : (إِنْ هِيَ إِلَّا حَياتُنَا الدُّنْيا) في سورة المؤمنين [٣٧].

٢٦٩

وجيء بصيغة القصر المفيدة قصر الوحي على الاتصاف بالكون ذكرا وقرآنا قصر قلب ، أي ليس شعرا كما زعمتم. فحصل بذلك استقصاء الرد عليهم وتأكيد قوله : (وَما عَلَّمْناهُ الشِّعْرَ) من كون القرآن شعرا.

والذكر : مصدر وصف به الكتاب المنزل على محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم وصفا للمبالغة ، أي إن هو إلا مذكّر للناس بما نسوه أو جهلوه. وقد تقدم الكلام على الذكر عند قوله تعالى : (وَقالُوا يا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ) في سورة الحجر [٦].

والقرآن : مصدر قرأ ، أطلق على اسم المفعول ، أي الكلام المقروء ، وتقدم بيانه عند قوله تعالى : (وَما تَتْلُوا مِنْهُ مِنْ قُرْآنٍ) في سورة يونس [٦١].

والمبين : هو الذي أبان المراد بفصاحة وبلاغة.

ويتعلق قوله : لتنذر بقوله : (عَلَّمْناهُ) باعتبار ما اتصل به من نفي كونه شعرا ثم إثبات كونه ذكرا وقرآنا ، أي لأن جملة (إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ) بيان لما قبلها في قوة أن لو قيل : وما علمناه إلّا ذكرا وقرآنا مبينا لينذر أو لتنذر. وجعله ابن عطية متعلقا ب (مُبِينٌ).

وقرأ نافع وابن عامر وأبو جعفر ويعقوب لتنذر بتاء الخطاب على الالتفات من ضمير الغيبة في قوله : (عَلَّمْناهُ) إلى ضمير الخطاب. وقرأه الباقون بياء الغائب ، أي لينذر النبي الذي علمناه.

والإنذار : الإعلام بأمر يجب التوقي منه.

والحيّ : مستعار لكامل العقل وصائب الإدراك ، وهذا تشبيه بليغ ، أي من كان مثل الحي في الفهم.

والمقصود منه : التعريض بالمعرضين عن دلائل القرآن بأنهم كالأموات لا انتفاع لهم بعقولهم كقوله تعالى : (إِنَّكَ لا تُسْمِعُ الْمَوْتى وَلا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعاءَ إِذا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ) [النمل : ٨٠].

وعطف (وَيَحِقَّ الْقَوْلُ عَلَى الْكافِرِينَ) على لتنذر عطف المجاز على الحقيقة لأن اللام النائب عنه واو العطف ليس لام تعليل ولكنه لام عاقبة كاللام في قوله تعالى : (فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَناً) [القصص : ٨]. ففي الواو استعارة تبعية ، وهذا قريب من استعمال المشترك في معنييه. وفي هذه العاقبة احتباك إذ التقدير : لتنذر من كان

٢٧٠

حيّا فيزداد حياة بامتثال الذكر فيفوز ومن كان ميتا فلا ينتفع بالإنذار فيحق عليه القول ، كما قال تعالى في أول السورة (إِنَّما تُنْذِرُ مَنِ اتَّبَعَ الذِّكْرَ وَخَشِيَ الرَّحْمنَ بِالْغَيْبِ فَبَشِّرْهُ بِمَغْفِرَةٍ وَأَجْرٍ كَرِيمٍ) [يس : ١١] ، فجمع له بين الإنذار ابتداء والبشارة آخرا.

و (الْقَوْلُ) : هو الكلام الذي جاء بوعيد من لم ينتفعوا بإنذار الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

والمراد بالكافرين : المستمرون على كفرهم وإلّا فإن الإنذار ورد للناس أول ما ورد وكلهم من الكافرين.

وفي ذكر الإنذار عود إلى ما ابتدئت به السورة من قوله : (لِتُنْذِرَ قَوْماً ما أُنْذِرَ آباؤُهُمْ فَهُمْ غافِلُونَ) [يس : ٦] فهو كرد العجز على الصدر ، وبذلك تمّ مجال الاستدلال عليهم وإبطال شبههم وتخلص إلى الامتنان الآتي في قوله : (أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا خَلَقْنا لَهُمْ مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينا أَنْعاماً) [يس : ٧١] إلى قوله : (أَفَلا يَشْكُرُونَ) [يس : ٧٣].

[٧١ ، ٧٣] (أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا خَلَقْنا لَهُمْ مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينا أَنْعاماً فَهُمْ لَها مالِكُونَ (٧١) وَذَلَّلْناها لَهُمْ فَمِنْها رَكُوبُهُمْ وَمِنْها يَأْكُلُونَ (٧٢) وَلَهُمْ فِيها مَنافِعُ وَمَشارِبُ أَفَلا يَشْكُرُونَ (٧٣))

بعد أن انقضى إبطال معاقد شرك المشركين أخذ الكلام يتطرق غرض تذكيرهم بنعم الله تعالى عليهم وكيف قابلوها بكفران النعمة وأعرضوا عن شكر المنعم وعبادته واتخذوا لعبادتهم آلهة زعما بأنها تنفعهم وتدفع عنهم وأدمج في ذلك التذكير بأن الأنعام مخلوقة بقدرة الله. فالجملة معطوفة عطف الغرض على الغرض.

والاستفهام : إنكار وتعجيب من عدم رؤيتهم شواهد النعمة ، فإن كانت الرؤية قلبية كان الإنكار جاريا على مقتضى الظاهر ، وإن كانت الرؤية بصرية فالإنكار على خلاف مقتضى الظاهر بتنزيل مشاهدتهم تلك المذكورات منزلة عدم الرؤية لعدم جريهم على مقتضى العلم بتلك المشاهدات الذي ينشأ عن رؤيتها ورؤية أحوالها ، وعلى الاحتمالين فجملة الفعل المنسبك بالمصدر سادّة مسدّ المفعولين للرؤية القلبية ، أو المصدر المنسبك منها مفعول للرؤية البصرية.

وفي خلال هذا الامتنان إدماج شيء من دلائل الانفراد بالتصرف في الخلق المبطلة لإشراكهم إياه غيره في العبادة وذلك في قوله : (أَنَّا خَلَقْنا) وقوله : (مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينا) وقوله : (وَذَلَّلْناها) وقوله : (وَلَهُمْ فِيها مَنافِعُ وَمَشارِبُ) ، لأن معناه : أودعنا لهم في

٢٧١

أضراعها ألبانا يشربونها وفي أبدانها أوبارا وأشعارا ينتفعون بها.

وقوله : (لَهُمْ) هو محل الامتنان ، أي لأجلهم ، فإن جميع المنافع التي على الأرض خلقها الله لأجل انتفاع الإنسان بها تكرمة له ، كما تقدم في قوله تعالى : (هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً) في سورة البقرة [٢٩].

واستعير عمل الأيدي الذي هو المتعارف في الصنع إلى إيجاد أصول الأجناس بدون سابق منشأ من توالد أو نحوه فأسند ذلك إلى أيدي الله تعالى لظهور أن تلك الأصول لم تتولد عن سبب كقوله : (وَالسَّماءَ بَنَيْناها بِأَيْدٍ) [الذاريات : ٤٧] ، ف (من) في قوله : (مِمَّا عَمِلَتْ) ابتدائية لأن الأنعام التي لهم متولدة من أصول حتى تنتهي إلى أصولها الأصلية التي خلقها الله كما خلق آدم ، فعبر عن ذلك الخلق بأنه بيد الله استعارة تمثيلية لتقريب شأن الخلق الخفيّ البديع مثل قوله : (لِما خَلَقْتُ بِيَدَيَ) [ص : ٧٥]. وقرينة هذه الاستعارة ما تقرّر من أن ليس كمثله شيء وأنه لا يشبه المخلوقات ، فذلك من العقائد القطعية في الإسلام. فأما الذين رأوا الإمساك عن تأويل أمثال هذه الاستعارات فسمّوها المتشابه وإنما أرادوا أننا لم نصل إلى حقيقة ما نعبر عنه بالكنه ، وأما الذين تأوّلوها بطريقة المجاز فهم معترفون بأن تأويلها تقريب وإساغة لغصص العبارة. فأما الذين أثبتوا وصف الله تعالى بظواهرها فباعثهم فرط الخشية ، وكان للسلف في ذلك عذر لا يسع أهل العصور التي فشا فيها الإلحاد والكفر فهم عن إقناع السائلين بمعزل ، وقلم التطويل في ذلك مغزل.

والأنعام : الإبل والبقر والغنم والمعز. وفرع على خلقها للناس أنهم لها مالكون قادرون على استعمالها فيما يشاءون لأن الملك هو أنواع التصرف. قال الربيع بن ضبع الفزاري من شعراء الجاهلية المعمّرين :

أصبحت لا أحمل السلاح ولا

أملك رأس البعير إن نفرا

وهذا إدماج للامتنان في أثناء التذكير.

وتقديم (لَها) على (مالِكُونَ) الذي هو متعلّقه لزيادة استحضار الأنعام عند السامعين قبل سماع متعلّقه ليقع كلاهما أمكن وقع بالتقديم وبالتشويق ، وقضى بذلك أيضا رعي الفاصلة.

وعدل عن أن يقال : فهم مالكوها ، إلى (فَهُمْ لَها مالِكُونَ) ليتأتّى التنكير فيفيد بتعظيم المالكين للأنعام الكناية عن تعظيم الملك ، أي بكثرة الانتفاع وهو ما أشار إليه

٢٧٢

تفصيلا وإجمالا قوله تعالى : (وَذَلَّلْناها لَهُمْ) إلى قوله : (وَلَهُمْ فِيها مَنافِعُ وَمَشارِبُ). وأن إضافة الوصف المشبه الفعل وإن كانت لا تكسب المضاف تعريفا لكنها لا تنسلخ منها خصائص التنكير مثل التنوين. وجيء بالجملة الاسمية لإفادة ثبات هذا الملك ودوامه.

والتذليل : جعل الشيء ذليلا ، والذليل ضد العزيز وهو الذي لا يدفع عن نفسه ما يكرهه. ومعنى تذليل الأنعام خلق مهانتها للإنسان في جبلتها بحيث لا تقدم على مدافعة ما يريد منها فإنها ذات قوات يدفع بعضها بعضا عن نفسه بها فإذا زجرها الإنسان أو أمرها ذلّت له وطاعت مع كراهيتها ما يريده منها ، من سير أو حمل أو حلب أو أخذ نسل أو ذبح. وقد أشار إلى ذلك قوله : (فَمِنْها رَكُوبُهُمْ وَمِنْها يَأْكُلُونَ).

والرّكوب بفتح الراء : المركوب مثل الحلوب وهو فعول بمعنى مفعول ، فلذلك يطابق موصوفه يقال : بعير ركوب وناقة حلوبة.

ومن تبعيضية ، أي وبعضها غير ذلك مثل الحرث والقتال كما قال : (وَلَهُمْ فِيها مَنافِعُ وَمَشارِبُ) والمشارب : جمع مشرب ، وهو مصدر ميمي بمعنى : الشرب ، أريد به المفعول ، أي مشروبات.

وتقديم المجرورين ب (من) على ما حقهما أن يتأخرا عنهما للوجه الذي ذكر في قوله : (فَهُمْ لَها مالِكُونَ).

وفرع على هذا التذكير والامتنان قوله : (أَفَلا يَشْكُرُونَ) استفهاما تعجيبيا لتركهم تكرير الشكر على هذه النعم العدّة فلذلك جيء بالمضارع المفيد للتجديد والاستمرار لأن تلك النعم متتالية متعاقبة في كل حين ، وإذ قد عجب من عدم تكريرهم الشكر كانت إفادة التعجيب من عدم الشكر من أصله بالفحوى ولذلك أعقبه بقوله : (وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللهِ آلِهَةً) [يس : ٧٤].

[٧٤ ، ٧٥] (وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللهِ آلِهَةً لَعَلَّهُمْ يُنْصَرُونَ (٧٤) لا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَهُمْ وَهُمْ لَهُمْ جُنْدٌ مُحْضَرُونَ (٧٥))

عطف على جملة (أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا خَلَقْنا لَهُمْ مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينا أَنْعاماً) [يس : ٧١] ، أي ألم يروا دلائل الوحدانية ولم يتأملوا جلائل النعمة ، واتخذوا آلهة من دون الله المنعم والمنفرد بالخلق. ولك أن تجعله عطفا على الجملتين المفرعتين ، والمقصود من الإخبار

٢٧٣

باتخاذهم آلهة من دون الله التعجيب من جريانهم على خلاف حقّ النعمة ثم مخالفة مقتضى دليل الوحدانية المدمج في ذكر النعم.

والإتيان باسم الجلالة العلم دون ضمير إظهار في مقام الإضمار لما يشعر به اسمه العلم من عظمة الإلهية إيماء إلى أن اتخاذهم آلهة من دونه جراءة عظيمة ليكون ذلك توطئة لقوله بعده (فَلا يَحْزُنْكَ قَوْلُهُمْ) [يس : ٧٦] أي فإنهم قالوا ما هو أشد نكرا.

وأما الإضمار في قوله في سورة الفرقان [٣] : (وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً لا يَخْلُقُونَ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ) فلأنه تقدم ذكر انفراده بالإلهية صريحا من قوله : (الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَلَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيراً) [الفرقان: ٢].

وقوله : (لَعَلَّهُمْ يُنْصَرُونَ) وقعت (لعلّ) فيه موقعا غير مألوف لأن شأن (لعلّ) أن تفيد إنشاء رجاء المتكلم بها وذلك غير مستقيم هنا. وقد أغفل المفسرون التعرض لتفسيره ، وأهمله علماء النحو واللغة من استعمال (لعلّ) ، فيتعين : إما أن تكون (لعلّ) تمثيلية مكنية بأن شبه شأن الله فيما أخبر عنهم بحال من يرجو من المخبر عنهم أن يحصل لهم خبر (لعلّ) ، وذكر حرف (لعلّ) رمز لرديف المشبه به فتكون جملة (لَعَلَّهُمْ يُنْصَرُونَ) معترضة بين (آلِهَةً) وبين صفته وهي جملة (لا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَهُمْ) ، وإما أن يكون الكلام جرى على معنى الاستفهام وهو استفهام إنكاري أو تهكمي والجملة معترضة أيضا ، وإما أن يجعل الرجاء منصرفا إلى رجاء المخبر عنهم ، أي راجين أن تنصرهم تلك الآلهة وعلى تقدير قول محذوف ، أي قائلين : لعلنا ننصر ، وحكي (يُنْصَرُونَ) بالمعنى على أحد وجهين في حكاية الأقوال تقول : قال أفعل كذا ، وقال يفعل كذا ، وتكون جملة (لا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَهُمْ) استئنافا للرد عليهم. وإما أن تجعل (لعلّ) للتعليل على مذهب الكسائي فتكون جملة (لا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَهُمْ) استئنافا.

والمقصود : الإشارة إلى أن الكفار يزعمون أن الأصنام تشفع لهم عند الله في أمور الدنيا ويقولون : (هؤُلاءِ شُفَعاؤُنا عِنْدَ اللهِ) [يونس : ١٨] وهم سالكون في هذا الزعم مسلك ما يألفونه من الاعتزاز بالموالاة والحلف بين القبائل والانتماء إلى قادتهم ، فبمقدار كثرة الموالي تكون عزّة القبيلة فقاسوا شئونهم مع ربهم على شئونهم الجارية بينهم وقياس أمور الإلهية على أحوال البشر من أعمق مهاوي الضلالة.

وأجري على الأصنام ضمير جمع العقلاء في قوله : (لا يَسْتَطِيعُونَ) لأنهم سموهم

٢٧٤

بأسماء العقلاء وزعموا لهم إدراكا.

وضمير (وَهُمْ) يجوز أن يعود إلى (آلِهَةً) تبعا لضمير (لا يَسْتَطِيعُونَ). وضمير (لَهُمْ) للمشركين ، أي والأصنام للمشركين جند محضرون ، والجند العدد الكثير. والمحضر الذي جيء به ليحضر مشهدا. والمعنى : أنهم لا يستطيعون النصر مع حضورهم في موقف المشركين لمشاهدة تعذيبهم ومع كونهم عددا كثيرا ولا يقدرون على نصر المتمسكين بهم ، أي هم عاجزون عن ذلك ، وهذا تأييس للمشركين من نفع أصنامهم. ويجوز العكس ، أي والمشركون جند لأصنامهم محضرون لخدمتها. ويجوز أن يكون هذا إخبارا عن حالهم مع أصنامهم في الدنيا وفي الآخرة.

وينبغي أن تكون جملة (وَهُمْ لَهُمْ جُنْدٌ مُحْضَرُونَ) في موضع الحال ، والواو واو الحال من ضمير (يَسْتَطِيعُونَ) ، أي ليس عدم استطاعتهم نصرهم لبعد مكانهم وتأخر الصريخ لهم ولكنهم لا يستطيعون وهم حاضرون لهم ، واللام في (لَهُمْ) للأجل ، أي أن الله يحضر الأصنام حين حشر عبدتها إلى النار ليري المشركين خطل رأيهم وخيبة أملهم ، فهذا وعيد بعذاب لا يجدون منه ملجأ.

(فَلا يَحْزُنْكَ قَوْلُهُمْ إِنَّا نَعْلَمُ ما يُسِرُّونَ وَما يُعْلِنُونَ (٧٦))

(فَلا يَحْزُنْكَ قَوْلُهُمْ).

فرّع على قوله : (وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللهِ آلِهَةً) [يس : ٧٤] صرف أن تحزن أقوالهم النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، أي تحذيره من أن يحزن لأقوالهم فيه فإنهم قالوا في شأن الله ما هو أفظع.

و (قَوْلُهُمْ) من إضافة اسم الجنس فيعم ، أي فلا تحزنك أقوالهم في الإشراك وإنكار البعث والتكذيب والأذى للرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم وللمؤمنين ، ولذلك حذف المقول ، أي لا يحزنك قولهم الذي من شأنه أن يحزنك.

والنهي عن الحزن نهي عن سببه وهو اشتغال بال الرسول بإعراضهم عن قبول الدين الحق ، وهو يستلزم الأمر بالأسباب الصارفة للحزن عن نفسه من التسلّي بعناية الله تعالى وعقابه من ناووه وعادوه.

(إِنَّا نَعْلَمُ ما يُسِرُّونَ وَما يُعْلِنُونَ).

تعليل للنهي عن الحزن لقولهم.

٢٧٥

والخبر كناية عن مؤاخذتهم بما يقولون ، أي إنا محصون عليهم أقوالهم وما تسرّه أنفسهم مما لا يجهرون به فنؤاخذهم بذلك كله بما يكافئه من عقابهم ونصرك عليهم ونحو ذلك. وفي قوله : (ما يُسِرُّونَ وَما يُعْلِنُونَ) تعميم لجعل التعليل تذييلا أيضا.

و «إنّ» مغنية عن فاء التسبب في مقام ورودها لمجرد الاهتمام بالتأكيد المخبر بالجملة ليست مستأنفة ولكنها مترتبة.

وقرأ نافع (يَحْزُنْكَ) بضم الياء وكسر الزاي من أحزنه إذا أدخل عليه حزنا. وقرأه الباقون بفتح الياء وضم الزاي من حزنه بفتح الزاي بمعنى أحزنه وهما بمعنى واحد.

وقدم الإسرار للاهتمام به لأنه أشدّ دلالة على إحاطة علم الله بأحوالهم ، وذكر بعده الإعلان لأنه محل الخبر ، وللدلالة على استيعاب علم الله تعالى بجزئيات الأمور وكلياتها.

والوقف عند قوله : (وَلا يَحْزُنْكَ قَوْلُهُمْ) مع الابتداء بقوله : (إِنَّا نَعْلَمُ) أحسن من الوصل لأنه أوضح للمعنى ، وليس بمتعيّن إذ لا يخطر ببال سامع أنهم يقولون : إن الله يعلم ما يسرون وما يعلنون ، ولو قالوه لما كان مما يحزن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فكيف ينهى عن الحزن منه.

[٧٧ ، ٧٩] (أَوَلَمْ يَرَ الْإِنْسانُ أَنَّا خَلَقْناهُ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ (٧٧) وَضَرَبَ لَنا مَثَلاً وَنَسِيَ خَلْقَهُ قالَ مَنْ يُحْيِ الْعِظامَ وَهِيَ رَمِيمٌ (٧٨) قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَها أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ (٧٩))

لما أبطلت شبه المشركين في إشراكهم بعبادة الله وإحالتهم قدرته على البعث وتكذيبهم محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم في إنبائه بذلك إبطالا كليّا ، عطف الكلام إلى جانب تسفيه أقوال جزئية لزعماء المكذبين بالبعث توبيخا لهم على وقاحتهم وكفرهم بنعمة ربهم وهم رجال من أهل مكة أحسب أنهم كانوا يموهون الدلائل ويزينون الجدال للناس ويأتون لهم بأقوال إقناعية جارية على وفق أفهام العامة ، فقيل أريد ب (الْإِنْسانُ) أبيّ بن خلف. وقيل أريد به العاصي بن وائل ، وقيل أبو جهل ، وفي ذلك روايات بأسانيد ، ولعلّ ذلك تكرر مرات تولى كلّ واحد من هؤلاء بعضها.

قالوا في الروايات : جاء أحد هؤلاء الثلاثة إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في يده عظم إنسان

٢٧٦

رميم ففتّه وذراه في الريح وقال : يا محمد أتزعم أن الله يحيي هذا بعد ما أرمّ (أي بلي) فقال له النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : نعم يميتك الله ثم يحييك ثم يدخلك جهنم.

فالتعريف في (الْإِنْسانُ) تعريف العهد وهو الإنسان المعيّن المعروف بهذه المقالة يومئذ. وقد تقدم في سورة مريم [٦٦] أن قوله تعالى : (وَيَقُولُ الْإِنْسانُ أَإِذا ما مِتُّ لَسَوْفَ أُخْرَجُ حَيًّا) نزل في أحد هؤلاء ، وذكر معهم الوليد بن المغيرة. ونظير هذه الآية قوله تعالى : (أَيَحْسَبُ الْإِنْسانُ أَلَّنْ نَجْمَعَ عِظامَهُ) في سورة القيامة [٣].

ووجه حمل التعريف هنا على التعريف العهدي أنه لا يستقيم حملها على غير ذلك لأن جعله للجنس يقتضي أن جنس الإنسان ينكرون البعث ، كيف وفيهم المؤمنون وأهل الملل ، وحملها على الاستغراق أبعد إلّا أن يراد الاستغراق العرفي وليس مثل هذا المقام من مواقعه. فأما قوله تعالى في سورة النحل [٤] : (خَلَقَ الْإِنْسانَ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ) فهو تعريف الاستغراق ، أي خلق كلّ إنسان لأن المقام مقام الاستغراق الحقيقي.

والمراد ب (خَصِيمٌ) في تلك الآية : أنه شديد الشكيمة بعد أن كان أصله نطفة ، فالجملة معطوفة على جملة (أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا خَلَقْنا لَهُمْ) [يس : ٧١] الآية. والاستفهام كالاستفهام في الجملة المعطوف عليها. والرؤية هنا قلبية. وجملة (أَنَّا خَلَقْناهُ) سادّة مسدّ المفعولين كما تقدم في قوله تعالى : (أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا خَلَقْنا لَهُمْ مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينا أَنْعاماً) [يس: ٧١].

و «إذا» للمفاجأة. ووجه المفاجأة أن ذلك الإنسان خلق ليعبد الله ويعلم ما يليق به فإذا لم يجر على ذلك فكأنه فاجأ بما لم يكن مترقبا منه مع إفادة أن الخصومة في شئون الإلهية كانت بما بادر به حين عقل.

والخصيم فعيل مبالغة في معنى مفاعل ، أي مخاصم شديد الخصام.

والمبين : من أبان بمعنى بان ، أي ظاهر في ذلك.

وضرب المثل : إيجاده ، كما يقال : ضرب خيمة ، وضرب دينارا ، وتقدم بيانه عند قوله تعالى : (إِنَّ اللهَ لا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلاً ما) في سورة البقرة [٢٦].

والمثل : تمثيل الحالة ، فالمعنى : وأظهر للناس وأتى لهم بتشبيه حال قدرتنا بحال عجز الناس إذ أحال إحياءنا العظام بعد أن أرمّت فهو كقوله تعالى : (فَلا تَضْرِبُوا لِلَّهِ الْأَمْثالَ) [النحل : ٧٤] ، أي لا تشبّهوه بخلقه فتجعلوا له شركاء لوقوعه بعد (وَيَعْبُدُونَ مِنْ

٢٧٧

دُونِ اللهِ ما لا يَمْلِكُ لَهُمْ رِزْقاً مِنَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ شَيْئاً) [النحل : ٧٣].

والاستفهام في قوله : (مَنْ يُحْيِ الْعِظامَ) إنكاري. و (مَنْ) عامة في كل من يسند إليه الخبر. فالمعنى : لا أحد يحيي العظام وهي رميم. فشمل عمومه إنكارهم أن يكون الله تعالى محييا للعظام وهي رميم ، أي في حال كونها رميما.

وجملة (قالَ مَنْ يُحْيِ الْعِظامَ) بيان لجملة (ضَرَبَ لَنا مَثَلاً) كقوله تعالى : (فَوَسْوَسَ إِلَيْهِ الشَّيْطانُ قالَ يا آدَمُ) [طه : ١٢٠] الآية ، فجملة (قالَ يا آدَمُ) بيان لجملة (فَوَسْوَسَ).

والنسيان في قوله : (وَنَسِيَ خَلْقَهُ) مستعار لانتفاء العلم من أصله ، أي لعدم الاهتداء إلى كيفية الخلق الأول ، أي نسي أننا خلقناه من نطفة ، أي لم يهتد إلى أن ذلك أعجب من إعادة عظمه كقوله تعالى : (أَفَعَيِينا بِالْخَلْقِ الْأَوَّلِ بَلْ هُمْ فِي لَبْسٍ مِنْ خَلْقٍ جَدِيدٍ) [ق : ١٥].

وذكر النطفة هنا تمهيد للمفاجأة بكونه خصيما مبينا عقب خلقه ، أي ذلك الهيّن المنشأ قد أصبح خصيما عنيدا ، وليبني عليه قوله بعد : (وَنَسِيَ خَلْقَهُ) أي نسي خلقه الضعيف فتطاول وجاوز ، ولأن خلقه من النطفة أعجب من إحيائه وهو عظم مجاراة لزعمه في مقدار الإمكان ، وإن كان الله يحيي ما هو أضعف من العظام فيحيي الإنسان من رماده ، ومن ترابه ، ومن عجب ذنبه ، ومن لا شيء باقيا منه.

والرميم : البالي ، يقال : رمّ العظم وأرمّ ، إذا بلي فهو فعيل بمعنى المصدر ، يقال : رمّ العظم رميما ، فهو خبر بالمصدر ، ولذلك لم يطابق المخبر عنه في الجمعية وهي بلىّ.

وأمر النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بأن يقول له (يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَها) أمر بجواب على طريقة الأسلوب الحكيم بحمل استفهام القائل على خلاف مراده لأنه لما قال : (مَنْ يُحْيِ الْعِظامَ وَهِيَ رَمِيمٌ) لم يكن قاصدا تطلب تعيين المحيي وإنما أراد الاستحالة ، فأجيب جواب من هو متطلب علما. فقيل له : (يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَها أَوَّلَ مَرَّةٍ). فلذلك بني الجواب على فعل الإحياء مسندا للمحيي ، على أن الجواب صالح لأن يكون إبطالا للنفي المراد من الاستفهام الإنكاري كأنه قيل : بل يحييها الذي أنشأها أول مرة. ولم يبن الجواب على بيان إمكان الإحياء وإنما جعل بيان الإمكان في جعل المسند إليه موصولا لتدل الصلة على الإمكان فيحصل الغرضان ، فالموصول هنا إيماء إلى وجه بناء الخبر وهو يحييها ، أي

٢٧٨

يحييها لأنه أنشأها أول مرة فهو قادر على إنشائها ثاني مرة كما أنشأها أول مرة. قال تعالى : (وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ النَّشْأَةَ الْأُولى فَلَوْ لا تَذَكَّرُونَ) [الواقعة : ٦٢] ، وقال : (وَهُوَ الَّذِي يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ) [الروم : ٢٧].

وذيل هذا الاستدلال بجملة (وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ) أي واسع العلم محيط بكل وسائل الخلق التي لا نعلمها : كالخلق من نطفة ، والخلق من ذرة ، والخلق من أجزاء النبات المغلقة كسوس الفول وسوس الخشب ، فتلك أعجب من تكوين الإنسان من عظامه.

وفي تعليق الإحياء بالعظام دلالة على أن عظام الحيّ تحلّها الحياة كلحمه ودمه ، وليست بمنزلة القصب والخشب وهو قول مالك وأبي حنيفة ولذلك تنجس عظام الحيوان الذي مات دون ذكاة. وعن الشافعي : أنّ العظم لا تحله الحياة فلا ينجس بالموت. قال ابن العربي : وقد اضطرب أرباب المذاهب فيه. والصحيح ما ذكرناه ، يعني أن بعضهم نسب إلى الشافعي موافقة قول مالك وهو قول أحمد فيصير اتفاقا وعلماء الطب يثبتون الحياة في العظام والإحساس. وقال ابن زهر الحكيم الأندلسي في كتاب «التيسير» : إن جالينوس اضطرب كلامه في العظام هل لها إحساسا والذي ظهر لي أن لها إحساسا بطيئا.

(الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ مِنَ الشَّجَرِ الْأَخْضَرِ ناراً فَإِذا أَنْتُمْ مِنْهُ تُوقِدُونَ (٨٠))

بدل من (الَّذِي أَنْشَأَها) [يس : ٧٩] بدلا مطابقا ، وإنما لم تعطف الصلة على الصلة فيكتفى بالعطف عن إعادة اسم الموصول لأن في إعادة الموصول تأكيدا للأول واهتماما بالثاني حتى تستشرف نفس السامع لتلقّي ما يرد بعده فيفطن بما في هذا الخلق من الغرابة إذ هو إيجاد الضد وهو نهاية الحرارة من ضده وهو الرطوبة. وهذا هو وجه وصف الشجر بالأخضر إذ ليس المراد من الأخضر اللون وإنما المراد لازمه وهو الرطوبة لأن الشجر أخضر اللون ما دام حيا فإذا جفّ وزالت منه الحياة استحال لونه إلى الغبرة فصارت الخضرة كناية عن رطوبة النبت وحياته. قال ذو الرمة :

ولما تمنّت تأكل الرمّ لم تدع

ذوابل مما يجمعون ولا خضرا

ووصف الشجر وهو اسم جمع شجرة وهو مؤنث المعنى ب (الْأَخْضَرِ) بدون تأنيث مراعاة للفظ الموصوف بخلوّه عن علامة تأنيث وهذه لغة أهل نجد ، وأما أهل الحجاز فيقولون : شجر خضراء على اعتبار معنى الجمع ، وقد جاء القرآن بهما في قوله : (لَآكِلُونَ

٢٧٩

مِنْ شَجَرٍ مِنْ زَقُّومٍ فَمالِؤُنَ مِنْهَا الْبُطُونَ فَشارِبُونَ عَلَيْهِ مِنَ الْحَمِيمِ) [الواقعة : ٥٢ ـ ٥٤].

والمراد بالشجر هنا : شجر المرخ (بفتح الميم وسكون الراء) وشجر العفار (بفتح العين المهملة وفتح الفاء) فهما شجران يقتدح بأغصانهما يؤخذ غصن من هذا وغصن من الآخر بمقدار المسواك وهما خضراوان يقطر منهما الماء فيسحق المرخ على العفار فتنقدح النار ، قيل : يجعل العفار أعلى والمرخ أسفل ، وقيل العكس لأن الجوهري وابن السيد في «المخصص» قالا : العفار هو الزّند وهو الذكر والمرخ الأنثى وهو الزندة. وقال الزمخشري في «الكشاف» : المرخ الذكر والعفار الأنثى ، والنار هي سقط الزّند ، وهو ما يخرج عند الاقتداح مشتعلا فيوضع تحته شيء قابل للالتهاب من تبن أو ثوب به زيت فتخطف فيه النار.

والمفاجأة المستفادة من (فَإِذا أَنْتُمْ مِنْهُ تُوقِدُونَ) دالة على عجيب إلهام الله البشر لاستعمال الاقتداح بالشجر الأخضر واهتدائهم إلى خاصيته.

والإيقاد : إشعال النار يقال : أوقد ، ويقال : وقد بمعنى.

وجيء بالمسند فعلا مضارعا لإفادة تكرر ذلك واستمراره.

(أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِقادِرٍ عَلى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ بَلى وَهُوَ الْخَلاَّقُ الْعَلِيمُ (٨١))

عطف هذا التقرير على الاحتجاجات المتقدمة على الإنسان المعني من قوله تعالى : (أَوَلَمْ يَرَ الْإِنْسانُ أَنَّا خَلَقْناهُ مِنْ نُطْفَةٍ) [يس : ٧٧] ، وذلك أنه لما تبيّن الاستدلال بخلق أشياء على إمكان خلق أمثالها ارتقي في هذه الآية إلى الاستدلال بخلق مخلوقات عظيمة على إمكان خلق ما دونها.

وجيء في هذا الدليل بطريقة التقرير الذي دل عليه الاستفهام التقريري لأن هذا الدليل لوضوحه لا يسع المقرّ إلّا الإقرار به فإن البديهة قاضية بأن من خلق السماوات والأرض هو على خلق ناس بعد الموت أقدر. وإنما وجه التقرير إلى نفي المقرّر بثبوته توسعة على المقرّر إن أراد إنكارا مع تحقق أنه لا يسعه الإنكار فيكون إقراره بعد توجيه التقرير إليه على نفي المقصود ، شاهدا على أنه لا يستطيع إلّا أن يقرّ ، وأمثال هذا الاستفهام التقريري كثيرة.

٢٨٠