تفسير التّحرير والتّنوير - ج ٢٢

الشيخ محمّد الطاهر ابن عاشور

تفسير التّحرير والتّنوير - ج ٢٢

المؤلف:

الشيخ محمّد الطاهر ابن عاشور


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة التاريخ العربي للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٢٨٨

والباء في (بِما كَفَرُوا) للسببية و (ما) مصدرية ، أي بسبب كفرهم.

والكفر هو الكفر بالله ، أي إنكار إلهيته لأنهم عبدة الشمس.

والاستفهام في وهل يجازى إنكاري في معنى النفي كما دل عليه الاستثناء.

و (الْكَفُورَ) : الشديد الكفر لأنهم كانوا لا يعرفون الله ويعبدون الشمس فهم أسوأ حالا من أهل الشرك.

والمعنى : ما يجازى ذلك الجزاء إلّا الكفور لأن ذلك الجزاء عظيم في نوعه ، أي نوع العقوبات فإن العقوبة من جنس الجزاء. والمثوبة من جنس الجزاء فلما قيل (ذلِكَ جَزَيْناهُمْ بِما كَفَرُوا) تعين أن المراد : وهل يجازى مثل جزائهم إلّا الكفور ، فلا يتوهم أن هذا يقتضي أن غير الكفور لا يجازى على فعله ، ولا أن الثواب لا يسمى جزاء ولا أن العاصي المؤمن لا يجازى على معصيته ، لأن تلك التوهمات كلها مندفعة بما في اسم الإشارة من بيان نوع الجزاء ، فإن الاستئصال ونحوه لا يجري على المؤمنين.

وقرأ الجمهور يجازى بياء الغائب والبناء للمجهول ورفع (الْكَفُورَ). وقرأ حمزة والكسائي بنون العظمة والبناء للفاعل ونصب (الْكَفُورَ).

(وَجَعَلْنا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْقُرَى الَّتِي بارَكْنا فِيها قُرىً ظاهِرَةً وَقَدَّرْنا فِيهَا السَّيْرَ سِيرُوا فِيها لَيالِيَ وَأَيَّاماً آمِنِينَ (١٨))

تكملة القصة بذكر نعمة بعد نعمة فإن ما تقدم لنعمة الرخاء والبهجة وطيب الإقامة ، وما هنا لنعمة الأمن وتيسير الأسفار وعمران بلادهم.

والمراد بالقرى التي بوركت قرى بلاد الشام فكانوا إذا خرجوا من مأرب إلى البلاد الشامية قوافل للتجارة وبيع الطعام سلكوا طريق تهامة ثم الحجاز ثم مشارف الشام ثم بلاد الشام ، فكانوا كلما ساروا مرحلة وجدوا قرية أو بلدا أو دارا للاستراحة واستراحوا وتزودوا. فكانوا من أجل ذلك لا يحملون معهم أزوادا إذا خرجوا من مأرب.

وهذه القرى الظاهرة يحتمل أنها تكونت من عمل الناس القاطنين حفافي الطريق السابلة بين مأرب وجلّق قصد استجلاب الانتفاع بنزول القوافل بينهم وابتياع الأزواد منهم وإيصال ما تحتاجه تلك القرى من السلع والثمار وهذه طبيعة العمران.

ويحتمل أن سبأ أقاموا مباني يأوون إليها عند كل مرحلة من مراحل أسفارهم

٤١

واستنبطوا فيها الآبار والمصانع وأوكلوا بها من يحفظها ويكون لائذا بهم عند نزولهم. فيكون ذلك من جملة ما وطّد لهم ملوكهم من أسباب الحضارة والأمن على القوافل ، وقد تكون إقامة هاته المنازل مجلبة لمن يقطنون حولها ممن يرغب في المعاملة مع القافلة عند مرورها.

وعلى الاحتمالين فإسناد جعل تلك القرى إلى الله تعالى لأنه الملهم الناس والملوك أو لأنه الذي خلق لهم تربة طيبة تتوفر محاصيلها على حاجة السكان فتسمح لهم بتطلب ترويجها في بلاد أخرى.

ووصف (ظاهِرَةً) أنها متقاربة بحيث يظهر بعضها لبعض ويتراءى بعضها من بعض. وقيل : الظاهرة التي تظهر للسائر من بعد بأن كانت القرى مبنية على الآكام والظراب يشاهدها المسافر فلا يضل طريقها. وقال ابن عطية : الذي يظهر لي أن معنى (ظاهِرَةً) أنها خارجة عن المدن فهي في ظواهر المدن ومنه قولهم : نزلنا بظاهر المدينة الفلانية ، أي خارجا عنها. فقوله : (ظاهِرَةً) كتسمية الناس إياها بالبادية وبالضاحية ، ومنه قول الشاعر وأنشده أهل اللغة :

فلو شهدتني من قريش عصابة

قريش البطاح لا قريش الظواهر

وفي حديث الاستسقاء : «وجاء أهل الظواهر يشتكون الغرق» ا ه. وهو تفسير جميل. ويكون في قوله : (ظاهِرَةً) على ذلك كناية عن وفرة المدن حتى إن القرى كلها ظاهرة منها.

ومعنى تقدير السير في القرى : أن أبعادها على تقدير وتعادل بحيث لا يتجاوز مقدار مرحلة. فكان الغادي يقبل في قرية والرائح يبيت في قرية. فالمعنى : قدرنا مسافات السير في القرى ، أي في أبعادها. ويتعلق قوله : (فِيها) بفعل (قَدَّرْنا) لا بالسير لأن التقدير في القرى وأبعادها لا في السير إذ تقدير السير تبع لتقدير الأبعاد.

وجملة (سِيرُوا فِيها لَيالِيَ) مقول قول محذوف. وجملة القول بيان لجملة (قَدَّرْنا) أو بدل اشتمال منها.

وهذا القول هو قول التكوين وهو جعلها يسيرون فيها. وصيغة الأمر للتكوين. وضمير (فِيها) عائد إلى القرى ، والظرفية المستفادة من حرف الظرف تخييل لمكنية ، شبهت القرى لشدة تقاربها بالظرف وحذف المشبه به ورمز إليه بحرف الظرفية. والمعنى :

٤٢

سيروا بينها.

وكانوا يسيرون غدوّا وعشيّا فيسيرون الصباح ثم تعترضهم قرية فيريحون فيها ويقيلون ، ويسيرون المساء فتعترضهم قرية يبيتون بها. فمعنى قوله : (سِيرُوا فِيها لَيالِيَ وَأَيَّاماً) : سيروا كيف شئتم.

وتقديم الليالي على الأيام للاهتمام بها في مقام الامتنان لأن المسافرين أحوج إلى الأمن في الليل منهم إليه في النهار لأن الليل تعترضهم فيه القطاع والسباع.

(فَقالُوا رَبَّنا باعِدْ بَيْنَ أَسْفارِنا وَظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَجَعَلْناهُمْ أَحادِيثَ وَمَزَّقْناهُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ (١٩))

الفاء من قوله : (فَقالُوا رَبَّنا) لتعقيب قولهم هذا إثر إتمام النعمة عليهم باقتراب المدن وتيسير الأسفار ، والتعقيب في كل شيء بحسبه ، فلما تمت النعمة بطروها فحلت بهم أسباب سلبها عنهم.

ومن أكبر أسباب زوال النعمة كفرانها. قال الشيخ ابن عطاء الله الإسكندري «من لم يشكر النعم فقد تعرض لزوالها ومن شكرها فقد قيدها بعقالها».

والأظهر عندي أن يكون هذا القول قالوه جوابا عن مواعظ أنبيائهم والصالحين منهم حين ينهونهم عن الشرك فهم يعظونهم بأن الله أنعم عليهم بتلك الرفاهية وهم يجيبون بهذا القول إفحاما لدعاة الخير منهم على نحو قول كفار قريش : (اللهُمَّ إِنْ كانَ هذا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنا حِجارَةً مِنَ السَّماءِ أَوِ ائْتِنا بِعَذابٍ أَلِيمٍ) [الأنفال : ٣٢] ، قبل هذا «فأعرضوا فإن الإعراض يقتضي دعوة لشيء» ويفيد هذا المعنى قوة (وَظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ) عقب حكاية قولهم ، فإنه إما معطوف على جملة (فَقالُوا) ، أي فأعقبوا ذلك بكفران النعمة وبالإشراك ، فإن ظلم النفس أطلق كثيرا على الإشراك في القرآن وما الإشراك إلّا أعظم كفران نعمة الخالق.

ويجوز أن تكون جملة (وَظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ) في موضع الحال ، والواو واو الحال ، أي قالوا ذلك وقد ظلموا أنفسهم بالشرك فكان قولهم مقارنا للإشراك.

وعلى الاعتبارين فإن العقاب إنما كان مسببا بسببين كما هو صريح قوله : (فَأَعْرَضُوا فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ سَيْلَ الْعَرِمِ وَبَدَّلْناهُمْ بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ) إلى قوله : (إِلَّا الْكَفُورَ) [سبأ : ١٦ ،

٤٣

١٧].

فالمسبّب على الكفر هو استئصالهم وهو مدلول قوله : (فَجَعَلْناهُمْ أَحادِيثَ) كما ستعرفه ، والمسبب على كفران نعمة تقارب البلاد هو تمزيقهم كل ممزق ، أي تفريقهم ، فنظم الكلام جاء على طريقة اللف والنشر المشوّش.

ودرج المفسرون على أنهم دعوا الله بذلك ، ويعكر عليه أنهم لم يكونوا مقرّين بالله فيما يظهر فإن درجنا على أنهم عرفوا الله ودعوه بهذا الدعاء لأنهم لم يقدروا نعمته العظيمة قدرها فسألوا الله أن تزول تلك القرى العامرة ليسيروا في الفيافي ويحملوا الأزواد من الميرة والشراب.

ثم يحتمل أن يكون أصحاب هذه المقالة ممن كانوا أدركوا حالة تباعد الأسفار في بلادهم قبل أن تؤول إلى تلك الحضارة ، أو ممن كانوا يسمعون أحوال الأسفار الماضية في بلادهم أو أسفار الأمم البادية فتروق لهم تلك الأحوال ، وهذا من كفر النعمة الناشئ عن فساد الذوق في إدراك المنافع وأضدادها.

والمباعدة بصيغة المفاعلة القائمة مقام همزة التعدية والتضعيف. فالمعنى : ربنا أبعد بين أسفارنا. وقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم «اللهم باعد بيني وبين خطاياي كما باعدت بين المشرق والمغرب».

وقرأه الجمهور (باعِدْ). وقرأ ابن كثير وأبو عمرو بعد بفتح الباء وتشديد العين. وقرأه يعقوب وحده (رَبَّنا) بالرفع و (باعِدْ) بفتح العين وفتح الدال بصيغة الماضي على أن الجملة خبر المبتدأ. والمعنى : أنهم تذمروا من ذلك العمران واستقلّوه وطلبوا أن تزداد البلاد قربا وذلك من بطر النعمة وطلب ما يتعذر حينئذ.

والتركيب يعطي معنى «اجعل البعد بين أسفارنا». ولما كانت (بَيْنَ) تقتضي أشياء تعين أن المعنى : باعد بين السفر والسفر من أسفارنا. ومعنى ذلك إبعاد المراحل لأن كل مرحلة تعتبر سفرا ، أي باعد بين مراحل أسفارنا.

ومعنى (فَجَعَلْناهُمْ أَحادِيثَ) جعلنا أولئك الذين كانوا في الجنات وفي بحبوحة العيش أحاديث ، أي لم يبق منهم أحد فصار وجودهم في الأخبار والقصص وأبادهم الله حين تفرقوا بعد سيل العرم فكان ذلك مسرعا فيهم بالفناء بالتغرب في الأرض والفاقة وتسلط العوادي عليهم في الطرقات كما ستعلمه. وفعل الجعل يقتضي تغييرا ولما علق

٤٤

بذواتهم انقلبت من ذوات مشاهدة إلى كونها أخبارا مسموعة. والمعنى : أنهم هلكوا وتحدث الناس بهم. وهذا نظير قولهم : دخلوا في خبر كان ، وإلّا فإن الأحاديث لا يخلو منها أحد ولا جماعة. وقد يكون في المدح كقوله :

هذي قبورهم وتلك قصورهم

وحديثهم مستودع الأوراق

أو أريد : فجعلناهم أحاديث اعتبار وموعظة ، أي فأصبناهم بأمر غريب من شأنه أن يتحدث به الناس فيكون (أَحادِيثَ) موصوفا بصفة مقدرة دل عليها السياق مثل قوله تعالى : (يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْباً) [الكهف : ٧٩] ، أي كل سفينة صالحة بقرينة قوله: (فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَها) [الكهف : ٧٩].

والتمزيق : تقطيع الثوب قطعا ، استعير هنا للتفريق تشبيها لتفريق جامعة القوم شذر مذر بتمزيق الثوب قطعا.

و (كُلَ) منصوب على المفعولية المطلقة لأنه بمعنى الممزق كله ، فاكتسب معنى المفعولية المطلقة من إضافته إلى المصدر.

ومعنى (كُلَ) كثيرة التمزيق لأن (كلا) ترد كثيرا بمعنى الكثير لا بمعنى الجميع ، قال تعالى : (وَلَوْ جاءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ) [يونس : ٩٧] وقال النابغة :

بها كل ذيال

وأشارت الآية إلى التفرق الشهير الذي أصيبت به قبيلة سبأ إذ حملهم خراب السد وقحولة الأرض إلى مفارقة تلك الأوطان مفارقة وتفريقا ضربت به العرب المثل في قولهم : ذهبوا ، أو تفرقوا أيدي سبا ، أو أيادي سبا ، بتخفيف همزة سبا لتخفيف المثل. وفي «لسان العرب» في مادة (يدي) قال العمري : لم يهمزوا سبا لأنهم جعلوه مع ما قبله بمنزلة الشيء الواحد. هكذا ولعله التباس أو تحريف ، وإنما ذكر المعري عدم إظهار الفتحة على ياء «أيادي» أو «أيدي» كما هو مقتضى التعليل لأن التعليل يقتضي التزام فتح همزة سبا كشأن المركب المزجي. قال في «لسان العرب» : وبعضهم ينوّنه إذا خففه ، قال ذو الرمة :

فيا لك من دار تفرق أهلها

أيادي سبا عنها وطال انتقالها

والأكثر عدم تنوينه قال كثير :

أيادي سبا يا عز ما كنت بعدكم

فلم يحل بالعينين بعدك منظر

٤٥

والأيادي والأيدي فيه جمع يد. واليد بمعنى الطريق.

والمعنى : أنهم ذهبوا في مذاهب شتّى يسلكون منها إلى أقطار عدة كقوله تعالى : (نَّا طَرائِقَ قِدَداً) [الجن : ١١]. وقيل : الأيادي جمع يد بمعنى النعمة لأن سبا تلفت أموالهم.

وكانت سبأ قبيلة عظيمة تنقسم إلى عشر أفخاذ وهم : الأزد ، وكندة ، ومذحج ، والأشعريون ، وأنمار ، وبجيلة ، وعاملة ، وهم خزاعة ، وغسان ، ولخم ، وجذام.

فلما فارقوا مواطنهم فالستة الأولون تفرقوا في اليمن والأربعة الأخيرون خرجوا إلى جهات قاصية فلحقت الأزد بعمان ، ولحقت خزاعة بتهامة في مكة ، ولحقت الأوس والخزرج بيثرب ، ولعلهم معدودون في لخم ، ولحقت غسان ببصرى والغوير من بلاد الشام ، ولحقت لخم بالعراق.

وقد ذكر أهل القصص لهذا التفرق سببا هو أشبه بالخرافات فأعرضت عن ذكره ، وهو موجود في كتب السير والتواريخ. وعندي أن ذلك لا يخلو من خذلان من الله تعالى سلبهم التفكر في العواقب فاستخفّ الشيطان أحلامهم فجزعوا من انقلاب حالهم ولم يتدرّعوا بالصبر حين سلبت عنهم النعمة ولم يجأروا إلى الله بالتوبة فبعثهم الجزع والطغيان والعناد وسوء التدبير من رؤسائهم على أن فارقوا أوطانهم عوضا من أن يلموا شعثهم ويرقعوا خرقهم فتشتتوا في الأرض ، ولا يخفى ما يلاقون في ذلك من نصب وجوع ونقص من الأنفس والحمولة والأزواد والحلول في ديار أقوام لا يرثون لحالهم ولا يسمحون لهم بمقاسمة أموالهم فيكونون بينهم عافين.

وجملة (إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ) تذييل فلذلك قطعت ، وافتتاحها بأداة التوكيد للاهتمام بالخبر. والمشار إليه بذلك هو ما تقدم من قوله : (لَقَدْ كانَ لِسَبَإٍ فِي) مساكنهم آية [سبأ : ١٥].

ويظهر أن هذا التذييل تنهية للقصة وأن ما بعد هذه الجملة متعلق بالغرض الأول المتعلق بأقوال المشركين والمنتقل منه إلى العبرة بداود وسليمان والممثّل لحال المشركين فيه بحال أهل سبا.

وجمع «الآيات» لأن في تلك القصة عدة آيات وعبر فحالة مساكنهم آية على قدرة الله ورحمته وإنعامه ، وفيه آية على أنه الواحد بالتصرف ، وفي إرسال سير العرم عليهم آية

٤٦

على انفراده تعالى بالتصرف ، وعلى أنه المنتقم وعلى أنه واحد ، فلذلك عاقبهم على الشرك ، وفي انعكاس حالهم من الرفاهة إلى الشظف آية على تقلب الأحوال وتغير العالم وآية على صفات الأفعال لله تعالى من خلق ورزق وإحياء وإماتة ، وفي ذلك آية من عدم الاطمئنان لدوام حال في الخير والشر. وفيما كان من عمران إقليمهم واتساع قراهم إلى بلاد الشام آية على مبلغ العمران وعظم السلطان من آيات التصرفات ، وآية على أن الأمن أساس العمران. وفي تمنيهم زوال ذلك آية على ما قد تبلغه العقول من الانحطاط المفضي إلى اختلال أمور الأمة وذهاب عظمتها ، وفيما صاروا إليه من النزوح عن الأوطان والتشتت في الأرض آية على ما يلجئ الاضطرار إليه الناس من ارتكاب الأخطار والمكاره كما يقول المثل : الحمى أضرعتني إليك.

والجمع بين (صَبَّارٍ) و (شَكُورٍ) في الوصف لإفادة أن واجب المؤمن التخلق بالخلقين وهما : الصبر على المكاره ، والشكر على النعم ، وهؤلاء المتحدث عنهم لم يشكروا النعمة فبطروها ، ولم يصبروا على ما أصابهم من زوالها فاضطربت نفوسهم وعمّهم الجزع فخرجوا من ديارهم وتفرقوا في الأرض ، ولا تسأل عما لاقوه في ذلك من المتالف والمذلات.

فالصبّار يعتبر من تلك الأحوال فيعلم أن الصبر على المكاره خير من الجزع ويرتكب أخف الضررين ، ولا يستخفه الجزع فيلقي بنفسه إلى الأخطار ولا ينظر في العواقب.

والشكور يعتبر بما أعطي من النعم فيزداد شكرا لله تعالى ولا يبطر النعمة ولا يطغى فيعاقب بسلبها كما سلبت عنهم ، ومن وراء ذلك أن يحرمهم الله التوفيق. وأن يقذف بهم الخذلان في بنيات الطريق.

وفي الآية دلالة واضحة على أن تأمين الطريق وتيسير المواصلات وتقريب البلدان لتيسير تبادل المنافع واجتلاب الأرزاق من هنا ومن هناك نعمة إلهية ومقصد شرعي يحبه الله لمن يحب أن يرحمه من عباده كما قال تعالى : (وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْناً) [البقرة : ١٢٥] وقال : (وَإِذْ قالَ إِبْراهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هذا بَلَداً آمِناً وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَراتِ) [البقرة : ١٢٦] وقال : (وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ) [قريش : ٤] ؛ فلذلك قال هنا : (وَجَعَلْنا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْقُرَى الَّتِي بارَكْنا فِيها قُرىً ظاهِرَةً وَقَدَّرْنا فِيهَا السَّيْرَ سِيرُوا فِيها لَيالِيَ وَأَيَّاماً آمِنِينَ) [سبأ : ١٨].

٤٧

وعلى أن الإجحاف في إيفاء النعمة حقها من الشكر يعرّض بها للزوال وانقلاب الأحوال قال تعالى : (ضَرَبَ اللهُ مَثَلاً قَرْيَةً كانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيها رِزْقُها رَغَداً مِنْ كُلِّ مَكانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللهِ فَأَذاقَهَا اللهُ لِباسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِما كانُوا يَصْنَعُونَ) [النحل : ١١٢].

من أجل ذلك كله كان حقا على ولاة أمور الأمة أن يسعوا جهدهم في تأمين البلاد وحراسة السبل وتيسير الأسفار وتقرير الأمن في سائر نواحي البلاد جليلها وصغيرها بمختلف الوسائل ، وكان ذلك من أهم ما تنفق فيه أموال المسلمين وما يبذل فيه أهل الخير من الموسرين أموالهم عونا على ذلك ، وذلك من رحمة أهل الأرض المشمولة لقول النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم «ارحموا من في الأرض يرحمكم من في السماء».

وكان حقا على أهل العلم والدين أن يرشدوا الأئمة والأمة إلى طريق الخير وأن ينبهوا على معالم ذلك الطريق ومسالكه بالتفصيل دون الإجمال ، فقد افتقرت الأمة إلى العمل وسئمت الأقوال.

[٢٠ ، ٢١] (وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ فَاتَّبَعُوهُ إِلاَّ فَرِيقاً مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (٢٠) وَما كانَ لَهُ عَلَيْهِمْ مِنْ سُلْطانٍ إِلاَّ لِنَعْلَمَ مَنْ يُؤْمِنُ بِالْآخِرَةِ مِمَّنْ هُوَ مِنْها فِي شَكٍّ وَرَبُّكَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ (٢١))

الأظهر أن هذا عطف على قوله : (وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا هَلْ نَدُلُّكُمْ عَلى رَجُلٍ) [سبأ : ٧] الآية وأن ما بينهما من الأخبار المسوقة للاعتبار كما تقدم واقع موقع الاستطراد والاعتراض فيكون ضمير (عَلَيْهِمْ) عائدا إلى (الَّذِينَ كَفَرُوا) من قوله : (وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا هَلْ نَدُلُّكُمْ) إلخ. والذي درج عليه المفسرون أن ضمير (عَلَيْهِمْ) عائد إلى سبأ المتحدث عنهم. ولكن لا مفرّ من أن قوله تعالى بعد ذلك : (قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللهِ) [سبأ : ٢٢] الآيات هو عود إلى محاجة المشركين المنتقل منها بذكر قصة داود وسليمان وأهل سبا. وصلوحية الآية للمحملين ناشئة من موقعها ، وهذا من بلاغة القرآن المستفادة من ترتيب مواقع الآية.

فالمقصود تنبيه المؤمنين إلى مكائد الشيطان وسوء عاقبة أتباعه ليحذروه ويستيقظوا لكيده فلا يقعوا في شرك وسوسته.

فالمعنى : أن الشيطان سوّل للمشركين أو سوّل للممثّل بهم حال المشركين الإشراك

٤٨

بالمنعم وحسّن لهم ضد النعمة حتى تمنّوه وتوسم فيهم الانخداع له فألقى إليهم وسوسته وكرّه إليهم نصائح الصالحين منهم فصدق توسّمه فيهم أنهم يأخذون بدعوته فقبلوها وأعرضوا عن خلافها فاتبعوه.

ففي قوله : (صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ) إيجاز حذف لأن صدق الظن المفرع عنه اتّباعهم يقتضي أنه دعاهم إلى شيء ظانّا استجابة دعوته إياهم.

وقرأ الجمهور (صَدَّقَ) بتخفيف الدال ف (إِبْلِيسُ) فاعل و (ظَنَّهُ) منصوب على نزع الخافض ، أي في ظنه. و (عَلَيْهِمْ) متعلق ب (صَدَّقَ) لتضمينه معنى أوقع أو ألقى ، أي أوقع عليهم ظنه فصدق فيه. والصدق بمعنى الإصابة في الظن لأن الإصابة مطابقة للواقع فهي من قبيل الصدق. قال أبو الغول الطهوي من شعراء الحماسة :

فدت نفسي وما ملكت يميني

فوارس صدّقت فيهم ظنوني

وقرأ عاصم وحمزة والكسائي وخلف (صَدَّقَ) بتشديد الدال بمعنى حقّق ظنه عليهم حين انخدعوا لوسوسته فهو لمّا وسوس لهم ظن أنهم يطيعونه فجدّ في الوسوسة حتى استهواهم فحقق ظنه عليهم.

وفي (على) إيماء إلى أن عمل إبليس كان من جنس التغلب والاستعلاء عليهم.

وقوله : (فَاتَّبَعُوهُ) تفريع وتعقيب على فعل (صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ) أي تحقق ظنه حين انفعلوا لفعل وسوسته فبادروا إلى العمل بما دعاهم إليه من الإشراك والكفران.

و (إِلَّا فَرِيقاً) استثناء من ضمير الرفع في (فَاتَّبَعُوهُ) وهو استثناء متصل إن كان ضمير «اتبعوه» عائدا على المشركين وأما إن كان عائدا على أهل سبا فيحتمل الاتصال إن كان فيهم مؤمنين وإلا فهو استثناء منقطع ، أي لم يعصه في ذلك إلّا فريق من المؤمنين وهم الذين آمنوا من أهل مكة ، أو الذين آمنوا من أهل سبا. فلعل فيهم طائفة مؤمنين ممن نجوا قبل إرسال سيل العرم.

والفريق : الطائفة مطلقا ، واستثناؤها من ضمير الجماعة يؤذن بأنهم قليل بالنسبة للبقية ، وإلّا فإن الفريق يصدق بالجماعة الكثيرة كما في قوله تعالى : (فَرِيقاً هَدى وَفَرِيقاً حَقَّ عَلَيْهِمُ الضَّلالَةُ) [الأعراف : ٣٠].

والتعريف في (الْمُؤْمِنِينَ) للاستغراق و (مِنَ) تبعيضية ، أي إلّا فريقا هم بعض جماعات المؤمنين في الأزمان والبلدان.

٤٩

وقوله : (وَما كانَ لَهُ عَلَيْهِمْ مِنْ سُلْطانٍ) أي ما كان للشيطان من سلطان على الذين اتبعوه.

وفعل (كانَ) في النفي مع (مِنْ) التي تفيد الاستغراق في النفي يفيد انتفاء السلطان ، أي الملك والتصريف للشيطان ، أي ليست له قدرة ذاتية هو مستقل بها يتصرف بها في العالم كيف يشاء لأن تلك القدرة خاصة بالله تعالى.

والاستثناء في قوله : (إِلَّا لِنَعْلَمَ) استثناء من علل. فيفيد أن تأثير وسوسته فيهم كان بتمكين من الله ، أي لكن جعلنا الشيطان سببا يتوجه إلى عقولهم وإرادتهم فتخامرها وسوسته فيتأثر منها فريق وينجو منها فريق بما أودع الله في هؤلاء وهؤلاء من قوة الانفعال أو الممانعة على حسب السنن التي أودعها الله في المخلوقات.

ويجوز أن يكون الاستثناء من عموم سلطان ، وحذف المستثنى ودلّ عليه علته والتقدير : إلا سلطانا لنعلم من يؤمن بالآخرة. فيدل على أنه سلطان مجعول له بجعل الله بقرينة أن تعليله مسند إلى ضمير الجلالة.

وانظر ما قلناه عند قوله تعالى : (إِنَّ عِبادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ إِلَّا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغاوِينَ) في سورة الحجر [٤٢] وضمّه إلى ما قلناه هنا.

واقتصر من علل تمكين الشيطان من السلطان على تمييز من يؤمن بالآخرة ومن لا يؤمن بها لمراعاة أحوال الذين سبقت إليهم الموعظة بأهل سبا وهم كفار قريش لأن جحودهم الآخرة قرين للشرك ومساو له فإنهم لو آمنوا بالآخرة لآمنوا بربها وهو الرب الواحد الذي لا شريك له ، وإلّا فإن علل جعل الشيطان للوسوسة كثيرة مرجعها إلى تمييز الكفار من المؤمنين ، والمتقين من المعرضين. وكني ب «نعلم» عن إظهار التمييز بين الحالين لأن الظهور يلازم العلم في العرف. قال قبيضة الطائي من رجال حرب ذي قار :

وأقبلت والخطي يخطر بيننا

لأعلم من جبانها من شجاعها

أراد ليتميز الجبان من الشجاع فيعلمه الناس ، فإن غرضه الأهم إظهار شجاعة نفسه لثقته بها لا اختبار شجاعة أقرانه وإلّا لكان مترددا في إقدامه. فالمعنى : ليظهر من يؤمن بالآخرة ويتميز عمّن هو منها في شك فيعلمه من يعلمه ويتعلق علمنا به تعلقا جزئيا عند حصوله يترتب عليه الجزاء فقد ذكرنا فيما تقدم أن لا محيص من اعتبار تعلق تنجيزيّ لعلم الله. ورأيت في «الرسالة الخاقانية» لعبد الحكيم السلكوتي أن بعض العلماء أثبت ذلك

٥٠

التعلق ولم يعين قائله. وخولف في النظم بين الصلتين فجاءت جملة (مَنْ يُؤْمِنُ بِالْآخِرَةِ) فعلية ، وجاءت جملة (هُوَ مِنْها فِي شَكٍ) اسمية لأن الإيمان بالآخرة طارئ على كفرهم السابق ومتجدد ومتزايد آنا فآنا. فكان مقتضى الحال إيراد الفعل في صلة أصحابه. وأما شكهم في الآخرة فبخلاف ذلك هو أمر متأصل فيهم فاجتلبت لأصحابه الجملة الاسمية.

وجيء بحرف الظرفية للدلالة على إحاطة الشك بنفوسهم ويتعلق قوله : (مِنْها) بقوله : «بشك».

وجملة (وَرَبُّكَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ) تذييل. والحفيظ : الذي لا يخرج عن مقدرته ما هو في حفظه ، وهو يقتضي العلم والقدرة إذ بمجموعهما تتقوم ماهية الحفظ ولذلك يتبع الحفظ بالعلم كثيرا كقوله تعالى : (إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ) [يوسف : ٥٥]. وصيغة فعيل تدل على قوة الفعل وأفاد عموم (كُلِّ شَيْءٍ) أنه لا يخرج عن علمه شيء من الكائنات فتنزل هذا التذييل منزلة الاحتراس عن غير المعنى الكنائي من قوله : (لِنَعْلَمَ مَنْ يُؤْمِنُ بِالْآخِرَةِ مِمَّنْ هُوَ مِنْها فِي شَكٍ) ، أي ليظهر ذلك لكل أحد فتقوم الحجة لهم وعليهم.

[٢٢ ، ٢٣] (قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللهِ لا يَمْلِكُونَ مِثْقالَ ذَرَّةٍ فِي السَّماواتِ وَلا فِي الْأَرْضِ وَما لَهُمْ فِيهِما مِنْ شِرْكٍ وَما لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ (٢٢) وَلا تَنْفَعُ الشَّفاعَةُ عِنْدَهُ إِلاَّ لِمَنْ أَذِنَ لَهُ حَتَّى إِذا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ قالُوا ما ذا قالَ رَبُّكُمْ قالُوا الْحَقَّ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ (٢٣))

كانت قصة سبا قد ضربت مثلا وعبرة للمشركين من قريش وكان في أحوالهم مثيل لأحوال المشركين في أمن بلادهم وتيسير أرزاقهم وتأمين سبلهم في أسفارهم مما أشار إليه قوله تعالى : (أَوَلَمْ نُمَكِّنْ لَهُمْ حَرَماً آمِناً) تجبى (إِلَيْهِ ثَمَراتُ كُلِّ شَيْءٍ) [القصص : ٥٧] وقوله : (لِإِيلافِ قُرَيْشٍ) [قريش : ١] إلى آخر السورة ، ثم فيما قابلوا به نعمة الله بالإشراك به وكفران نعمته وإفحامهم دعاة الخير الملهمين من لدنه إلى دعوتهم ، فلما تقضى خبرهم لينتقل منه إلى تطبيق العبرة على من قصد اعتبارهم انتقالا مناسبته بينة وهو أيضا عود إلى إبطال أقوال المشركين ، وسيق لهم من الكلام ما هو فيه توقيف على أخطائهم ، وأيضا فلما جرى من استهواء الشيطان أهل سبا فاتبعوه وكان الشيطان مصدر الضلال وعنصر الإشراك أعقب ذكره بذكر فروعه وأوليائه.

وافتتح الكلام بأمر النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بأن يقول لهم ما هو متتابع في بقية هذه الآيات

٥١

المتتابعة بكلمة (قُلِ) فأمر بالقول تجديدا لمعنى التبليغ الذي هو مهمة كل القرآن.

والأمر في قوله : (ادْعُوا) مستعمل في التخطئة والتوبيخ ، أي استمروا على دعائكم.

و (الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللهِ) معناه زعمتموهم أربابا ، فحذف مفعولا الزعم : أما الأول فحذف لأنه ضمير متصل منصوب بفعل قصدا لتخفيف الصلة بمتعلقاتها ، وأما الثاني فحذفه لدلالة صفته عليه وهي (مِنْ دُونِ اللهِ).

و (مِنْ دُونِ اللهِ) صفة لمحذوف تقديره : زعمتم أولياء.

ومعنى (مِنْ دُونِ اللهِ) أنهم مبتدءون من جانب غير جانب الله ، أي زعمتموهم آلهة مبتدءين إياهم من ناحية غير الله لأنهم حين يعبدونهم قد شغلوا بعبادتهم ففرطوا في عبادة الله المستحق للعبادة وتجاوزوا حق إلهيته في أحوال كثيرة وأوقات وفيرة.

وجملة (لا يَمْلِكُونَ) مبينة لما في جملة (ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ) من التخطئة.

وقد نفي عنهم ملك أحقر الأشياء وهو ما يساوي ذرّة من السماء والأرض.

والذّرة : بيضة النمل التي تبدو حبيبة صغيرة بيضاء ، وتقدم عند قوله تعالى : (وَما يَعْزُبُ عَنْ رَبِّكَ مِنْ مِثْقالِ ذَرَّةٍ) في سورة يونس [٦١]. والمراد بالسماوات والأرض جوهرهما وعينهما لا ما تشتملان عليه من الموجودات لأن جوهرهما لا يدّعي المشركون فيه ملكا لآلهتهم ، فالمثقال : إما آلة الثقل فهو اسم للصنوج التي يوزن بها فأطلق على العديل مجازا مرسلا ، وإما مصدر ميمي سمي به الشيء الذي به التثقيل ثم أطلق على العديل مجازا ، وتقدم المثقال عند قوله : (وَإِنْ كانَ مِثْقالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ) في سورة الأنبياء [٤٧].

ومثقال الذرة : ما يعدل الذرة فيثقل به الميزان ، أي لا يملكون شيئا من السماوات ولا في الأرض. وإعادة حرف النفي تأكيد له للاهتمام به.

وقد نفى أن يكون لآلهتهم ملك مستقل ، وأتبع بنفي أن يكون لهم شرك في شيء من السماء والأرض ، أي شرك مع الله كما هو السياق فلم يذكر متعلق الشرك إيجازا لأنه محل الوفاق.

ثم نفى أن يكون منهم ظهير ، أي معين لله تعالى. وتقدم الظهير في قوله تعالى :

٥٢

(وَلَوْ كانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً) في سورة الإسراء [٨٨]. وهنا تعين التصريح بالمتعلق ردّا على المشركين إذ زعموا أن آلهتهم تقرّب إليه وتبعّد عنه ، ثم أتبع ذلك بنفي أن يكون شفيع عند الله يضطره إلى قبول الشفاعة فيمن يشفع له لتعظيم أو حياء. وقد صرح بالمتعلق هنا أيضا ردا على قول المشركين (هؤُلاءِ شُفَعاؤُنا عِنْدَ اللهِ) [يونس : ١٨] فنفيت شفاعتهم في عموم نفي كل شفاعة نافعة عند الله إلّا شفاعة من أذن الله أن يشفع. وفي هذا إبطال شفاعة أصنامهم لأنهم زعموا لهم شفاعة لازمة من صفات آلهتهم لأن أوصاف الإله يجب أن تكون ذاتية فلما نفى الله كل شفاعة لم يأذن فيها للشافع انتفت الشفاعة المزعومة لأصنامهم. وبهذا يندفع ما يتوهم من أن قوله : (إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ) لا يبطل شفاعة الأصنام فافهم.

وجاء نظم قوله : (وَلا تَنْفَعُ الشَّفاعَةُ عِنْدَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ) نظما بديعا من وفرة المعنى ، فإن النفع يجيء بمعنى حصول المقصود من العمل ونجاحه كقول النابغة :

ولا حلفي على البراءة نافع

ومنه قوله تعالى : (لا يَنْفَعُ نَفْساً إِيمانُها لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ)[الأنعام : ١٥٨] ، ويجيء بمعنى المساعد الملائم وهو ضد الضار وهو أكثر إطلاقه. ومنه : دواء نافع ، ونفعني فلان. فالنفع بالمعنى الأول في الآية يفيد القبول من الشافع لشفاعته ، وبالمعنى الثاني يفيد انتفاع المشفوع له بالشفاعة ، أي حصول النفع له بانقشاع ضر المؤاخذة بذنب كقوله تعالى: (فَما تَنْفَعُهُمْ شَفاعَةُ الشَّافِعِينَ) [المدثر : ٤٨]. فلما عبر في هذه الآية بلفظ الشفاعة الصالح لأن يعتبر مضافا إلى الفاعل أو إلى المفعول احتمل النفع أن يكون نفع الفاعل ، أي قبول شفاعته ، ونفع المفعول ، أي قبول شفاعة من شفع فيه.

وتعدية فعل الشفاعة باللام دون (في) ودون تعديته بنفسه زاد صلوحيته للمعنيين لأن الشفاعة تقتضي شافعا ومشفوعا فيه فكان بذلك أوفر معنى.

فالاستثناء في قوله : (إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ) استثناء من جنس الشفاعة المنفي بقرينة وجود اللام وليس استثناء من متعلّق (تَنْفَعُ) لأن الفعل لا يعدّى إلى مفعوله باللام إلّا إذا تأخر الفعل عنه فضعف عن العمل بسبب التأخير فلذلك احتملت اللام أن تكون داخلة على الشافع ، وأن (من) المجرورة باللام صادقة على الشافع ، أي لا تقبل شفاعة إلّا شفاعة كائنة لمن أذن الله له ، أي أذن له بأن يشفع فاللام للملك كقولك : الكرم لزيد ، أي هو كريم فيكون في معنى قوله : (ما لَكُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا شَفِيعٍ)[السجدة : ٤]. وأن

٥٣

تكون اللام داخلة على المشفوع فيه ، و (من) صادقة على مشفوع فيه ، أي إلّا شفاعة لمشفوع أذن الله الشافعين أن يشفعوا له أي لأجله فاللام للعلة كقولك : قمت لزيد ، فهو كقوله تعالى : (وَلا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضى) [الأنبياء : ٢٨].

وإنما جيء بنظم هذه الآية على غير ما نظمت عليه غيرها لأن المقصود هنا إبطال رجائهم أن تشفع لهم آلهتهم عند الله فينتفعوا بشفاعتها ، لأن أول الآية توبيخ وتعجيز لهم في دعوتهم الآلهة المزعومة فاقتضت إبطال الدعوة والمدعوّ.

وقد جمعت الآية نفي جميع أصناف التصرف عن آلهة المشركين كما جمعت نفي أصناف الآلهة المعبودة عند العرب ، لأن من العرب صابئة يعبدون الكواكب وهي في زعمهم مستقرة في السماوات تدبر أمور أهل الأرض فأبطل هذا الزعم قوله : (لا يَمْلِكُونَ مِثْقالَ ذَرَّةٍ فِي السَّماواتِ وَلا فِي الْأَرْضِ) ؛ فأما في السماوات فباعترافهم أن الكواكب لا تتصرف في السماوات وإنما تصرفها في الأرض ، وأما في الأرض فبقوله : (وَلا فِي الْأَرْضِ). ومن العرب عبدة أصنام يزعمون أن الأصنام شركاء لله في الإلهية فنفي ذلك بقوله : (وَما لَهُمْ فِيهِما مِنْ شِرْكٍ وَما لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ) ، ومنهم من يزعمون أن الأصنام جعلها الله شفعاء لأهل الأرض فنفي ذلك بقوله : (وَلا تَنْفَعُ الشَّفاعَةُ عِنْدَهُ) الآية.

وقرأ الجمهور (أَذِنَ) بفتح الهمزة وفيه ضمير يعود إلى اسم الجلالة مثل ضمائر الغيبة التي قبله. وقرأه أبو عمرو وحمزة والكسائي وخلف بضم الهمزة على البناء للنائب. والمجرور من قوله : (لَهُ) في موضع نائب الفاعل.

وقوله : (حَتَّى إِذا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ حَتَّى) ابتدائية وهي تفيد ارتباط ما بعدها بما قبلها لا محالة فالضمائر التي في الجملة الواقعة بعد (حَتَّى) عائدة على ما يصلح لها في الجمل التي قبلها. وقد أفادت (حَتَّى) الغاية بأصل وضعها وهي هنا غاية لما أفهمه قوله : (إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ) من أن هنالك إذنا يصدر من جانب القدس يأذن الله به ناسا من الأخيار بأن يشفعوا كما جاء تفصيل بعض هذه الشفاعة في الأحاديث الصحيحة وأن الذين يرجون أن يشفع فيهم ينتظرون ممن هو أهل لأن يشفع وهم في فزع من الإشفاق أن لا يؤذن بالشفاعة فيهم ، فإذا أذن الله لمن شاء أن يشفع زال الفزع عن قلوبهم واستبشروا إذ أنه فزع عن قلوب الذين قبلت الشفاعة فيهم ، أي وأيس المحرومون من قبول الشفاعة فيهم. وهذا من الحذف المسمى بالاكتفاء اكتفاء بذكر الشيء عن ذكر نظيره أو ضده ، وحسنه هنا أنه اقتصار على ما يسرّ المؤمنين الذين لم يتخذوا من دون الله أولياء.

٥٤

وقد طويت جمل من وراء (حَتَّى) ، والتقدير : إلا لمن أذن له ويومئذ يبقى الناس مرتقبين الإذن لمن يشفع ، فزعين من أن لا يؤذن لأحد زمنا ينتهي بوقت زوال الفزع عن قلوبهم حين يؤذن للشافعين بأن يشفعوا ، وهو إيجاز حذف.

و (إِذا) ظرف للمستقبل وهو مضاف إلى جملة (فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ) ومتعلق ب (قالُوا).

و (فُزِّعَ) قرأه الجمهور بضم الفاء وكسر الزاي مشددة ، وهو مضاعف فزع. والتضعيف فيه للإزالة مثل : قشّر العود ، ومرّض المريض إذا باشر علاجه ، وبني للمجهول لتعظيم ذلك التفزيع بأنه صادر من جانب عظيم ، ففيه جانب الآذن فيه ، وجانب المبلغ له وهو الملك.

والتفزيع يحصل لهم بانكشاف إجمالي يلهمونه فيعلمون بأن الله أذن بالشفاعة ثم يتطلبون التفصيل بقولهم : (ما ذا قالَ رَبُّكُمْ) ليعلموا من أذن له ممن لم يؤذن له ، وهذا كما يكرّر النظر ويعاود المطالعة من ينتظر القبول ، أو هم يتساءلون عن ذلك من شدة الخشية فإنهم إذا فزّع عن قلوبهم تساءلوا لمزيد التحقق بما استبشروا به فيجابون أنه قال الحق.

فضمير (قالُوا ما ذا قالَ رَبُّكُمْ) عائد على بعض مدلول قوله : (لِمَنْ أَذِنَ لَهُ). وهم الذين أذن للشفعاء بقبول شفاعتهم منهم وهم يوجهون هذا الاستفهام إلى الملائكة الحافّين ، وضمير (قالُوا الْحَقَ) عائد إلى المسئولين وهم الملائكة.

ويظهر أن كلمة (الْحَقَ) وقعت حكاية لمقول الله بوصف يجمع متنوع أقوال الله تعالى حينئذ من قبول شفاعة في بعض المشفوع فيهم ومن حرمان لغيرهم كما يقال : ما ذا قال القاضي للخصم؟ فيقال : قال الفصل. فهذا حكاية لمقول الله بالمعنى.

وانتصاب (الْحَقَ) على أنه مفعول (قالُوا) يتضمن معنى الكلام ، أي قال الكلام الحق ، كقوله :

وقصيدة تأتي الملوك غريبة

قد قلتها ليقال من ذا قالها

هذا هو المعنى الذي يقتضيه نظم الآية ويلتئم مع معانيها. وقد ذهبت في تفسيرها أقوال كثير من المفسرين طرائق قددا ، وتفرقوا بددا بددا.

و (ذا) من قوله : (ما ذا) إشارة عوملت معاملة الموصول لأن أصل : (ما ذا قالَ) :

٥٥

ما هذا الذي قال ، فلما كثر استعمالها بدون ذكر اسم الموصول قيل إن (ذا) بعد الاستفهام تصير اسم موصول ، وقد يذكر الموصول بعدها كقوله تعالى : (مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ) [البقرة : ٢٥٥].

وقرأ ابن عامر ويعقوب (فُزِّعَ) بفتح الفاء وفتح الزاي مشددة بصيغة البناء للفاعل ، أي فزّع الله عن قلوبهم.

وقد ورد في أحاديث الشفاعة عن أبي هريرة وأبي سعيد الخدري أن الله يقول لآدم : «أخرج بعث النار من ذريتك» ، وفي حديث أنس في شفاعة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم لأهل المحشر كلهم «ليدخل أهل الجنة الجنة وأهل النار النار». وفيه أن الأنبياء أبوا أن يشفعوا وأن أهل المحشر أتوا محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأنه استأذن ربه في ذلك فقال له : «سل تعط واشفع تشفّع» ، وفي حديث أبي سعيد «أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم يشفع لعمه أبي طالب فيجعل في ضحضاح من نار يبلغ كعبيه تغلي منه أم دماغه».

وجملة (وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ) تتمة جواب المجيبين ، عطفوا تعظيم الله بذكر صفتين من صفات جلاله ، وهما صفة (الْعَلِيُ) وصفة (الْكَبِيرُ).

والعلو : علوّ الشأن الشامل لمنتهى الكمال في العلم.

والكبر : العظمة المعنوية ، وهي منتهى القدرة والعدل والحكمة ، وتخصيص هاتين الصفتين لمناسبة مقام الجواب ، أي قد قضى بالحق لكل أحد بما يستحقه فإنه لا يخفى عليه حال أحد ولا يعوقه عن إيصاله إلى حقه عائق ولا يجوز دونه حائل. وتقدم ذكر هاتين الصفتين في قوله : (وَأَنَّ اللهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ) في سورة الحج [٦٢].

واعلم أنه قد ورد في صفة تلقّي الملائكة الوحي أن من يتلقى من الملائكة الوحي يسأل الذي يبلغه إليه بمثل هذا الكلام كما في حديث أبي هريرة في «صحيح البخاري» وغيره : أن نبيء الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «إذا قضى الله الأمر في السماء ضربت الملائكة بأجنحتها خضعانا لقوله كأنه سلسلة على صفوان فإذا فزّع عن قلوبهم قالوا : ما ذا قال ربكم؟ قالوا للذي قال الحقّ وهو العلي الكبير» ا ه. فمعنى قوله في الحديث : قضى صدر منه أمر التكوين الذي تتولى الملائكة تنفيذه ، وقوله في الحديث : «في السماء» يتعلق ب «قضى» بمعنى أوصل قضاءه إلى السماء حيث مقرّ الملائكة ، وقوله : «خضعانا لقوله» أي خوفا وخشية ، وقوله : (فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ) أي أزيل الخوف عن نفوسهم.

٥٦

وفي حديث ابن عباس عند الترمذي «إذا قضى ربنا أمرا سبح له حملة العرش ، ثم سبح أهل السماء الذين يلونهم ثم الذين يلونهم» قال : «ثم أهل كل سماء» الحديث. وذلك لا يقتضي أنه المراد في آية سورة سبأ وإنما هذه صفة تلقي الملائكة أمر الله في الدنيا والآخرة فكانت أقوالهم على سنة واحدة.

وليس تخريج البخاري والترمذي هذا الحديث في الكلام على تفسير سورة سبأ مرادا به أنه وارد في ذلك ، وإنما يريد أن من صور معناه ما ذكر في سورة سبأ. وهذا يغنيك عن الالتجاء إلى تكلفات تعسّفوها في تفسير هذه الآية وتعلّقها بما قبلها.

(قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ قُلِ اللهُ وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلى هُدىً أَوْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (٢٤))

انتقال من دمغ المشركين بضعف آلهتهم وانتفاء جدواها عليهم في الدنيا والآخرة إلى إلزامهم بطلان عبادتها بأنها لا تستحق العبادة لأن مستحق العبادة هو الذي يرزق عباده فإن العبادة شكر ولا يستحق الشكر إلّا المنعم ، وهذا احتجاج بالدليل النظري لأن الاعتراف بأن الله هو الرزاق يستلزم انفراده بإلهيته إذ لا يجوز أن ينفرد ببعض صفات الإلهية ويشارك في بعض آخر فإن الإلهية حقيقة لا تقبل التجزئة والتبعيض.

وأعيد الأمر بالقول لزيادة الاهتمام بالمقول فإن أصل الأمر بالقول في مقام التصدّي للتبليغ دال على الاهتمام ، وإعادة ذلك الأمر زيادة في الاهتمام.

و (مَنْ) استفهام للتنبيه على الخطأ ولذلك أعقب بالجواب من طرف السائل بقوله:

(قُلِ اللهُ) لتحقق أنهم لا ينكرون ذلك الجواب كما في قوله تعالى : (قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ) إلى قوله : (فَسَيَقُولُونَ اللهُ) في سورة يونس [٣١]. وتقدم نظير صدر هذه الآية في سورة الرعد.

وعطف على الاستفهام إبراز المقصد بطريقة خفية توقع الخصم في شرك المغلوبية وذلك بترديد حالتي الفريقين بين حالة هدى وحالة ضلال لأن حالة كل فريق لما كانت على الضد من حال الفريق الآخر بين موافقة الحق وعدمها ، تعين أن أمر الضلال والهدى دائر بين الحالتين لا يعدوانهما. ولذلك جيء بحرف (أَوْ) المفيد للترديد المنتزع من الشک.

٥٧

وهذا اللون من الكلام يسمى الكلام المنصف وهو أن لا يترك المجادل لخصمه موجب تغيظ واحتداد في الجدال ، ويسمى في علم المناظرة إرخاء العنان للمناظر ، ومع ذلك فقرينة إلزامهم الحجة قرينة واضحة.

ومن لطائفة هنا أن اشتمل على إيماء إلى ترجيح أحد الجانبين في أحد الاحتمالين بطريق مقابلة الجانبين في ترتيب الحالتين باللف والنشر المرتّب وهو أصل اللفّ. فإنه ذكر ضمير جانب المتكلم وجماعته وجانب المخاطبين ، ثم ذكر حال الهدى وحال الضلال على ترتيب ذكر الجانبين ، فأومأ إلى أن الأولين موجّهون إلى الهدى والآخرين موجهون إلى الضلال المبين ، لا سيما بعد قرينة الاستفهام ، وهذا أيضا من التعريض وهو أوقع من التصريح لا سيما في استنزال طائر الخصم.

وفيه أيضا تجاهل العارف فقد التأم في هذه الجملة ثلاثة محسنات من البديع ونكتة من البيان فاشتملت على أربع خصوصيات.

وجيء في جانب أصحاب الهدى بحرف الاستعلاء المستعار للتمكن تمثيلا لحال المهتدي بحال متصرّف في فرسه يركضه حيث شاء فهو متمكّن من شيء يبلغ به مقصده. وهي حالة مماثلة لحال المهتدي على بصيرة فهو يسترجع مناهج الحق في كل صوب ، متسع النظر ، منشرح الصدر : ففيه تمثيلية مكنية وتبعية.

وجيء في جانب الضالّين بحرف الظرفية المستعار لشدة التلبس بالوصف تمثيلا لحالهم في إحاطة الضلال بهم بحال الشيء في ظرف محيط به لا يتركه يفارقه ولا يتطلع منه على خلاف ما هو فيه من ضيق يلازمه. وفيه أيضا تمثيلية تبعية ، وهذا ينظر إلى قوله تعالى : (فَمَنْ يُرِدِ اللهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقاً حَرَجاً) [الأنعام : ١٢٥].

فحصل في الآية أربع استعارات وثلاثة محسنات من البديع وأسلوب بياني ، وحجة قائمة ، وهذا إعجاز بديع.

ووصف الضلال بالمبين دون وصف الهدى بالمبين لأن حقيقة الهدى مقول عليها بالتواطؤ وهو معنى قول أصحابنا الأشاعرة : الإيمان لا يزيد ولا ينقص في ذاته وإنما زيادته بكثرة الطاعات ، وأما الكفر فيكون بإنكار بعض المعتقدات وبإنكار جميعها وكل ذلك يصدق عليه الكفر. ولذلك قيل كفر دون كفر ، فوصف كفرهم بأنه أشدّ الكفر ، فإن

٥٨

المبين هو الواضح في جنسه البالغ غاية حده.

(قُلْ لا تُسْئَلُونَ عَمَّا أَجْرَمْنا وَلا نُسْئَلُ عَمَّا تَعْمَلُونَ (٢٥))

أعيد الأمر بأن يقول لهم مقالا آخر إعادة لزيادة الاهتمام كما تقدم آنفا واستدعاء لأسماء المخاطبين بالإصغاء إليه.

ولما كان هذا القول يتضمن بيانا للقول الذي قبله فصلت جملة الأمر بالقول عن أختها إذ لا يعطف البيان على المبين بحرف النسق ، فإنه لما ردّد أمر الفريقين بين أن يكون أحدهما على هدى والآخر في ضلال وكان الضلال يأتي بالإجرام اتّسع في المحاجة فقيل لهم : إذا نحن أجرمنا فأنتم غير مؤاخذين بجرمنا وإذا عملتم عملا فنحن غير مؤاخذين به ، أي أن كل فريق مؤاخذ وحده بعمله فالأجدى بكلا الفريقين أن ينظر كل في أعماله وأعمال ضده ليعلم أيّ الفريقين أحق بالفوز والنجاة عند الله.

وأيضا فصلت لتكون هذه الجملة مستقلة بنفسها ليخصها السامع بالتأمل في مدلولها فيجوز أن تعتبر استئنافا ابتدائيا ، وهي مع ذلك اعتراض بيّن أثناء الاحتجاج.

فمعنى : (لا تُسْئَلُونَ وَلا نُسْئَلُ) ، أن كل فريق له خويصته.

والسؤال : كناية عن أثره وهو الثواب على العمل الصالح والجزاء على الإجرام بمثله ، كما هو في قوله كعب بن زهير :

وقيل إنك منسوب ومسئول

أراد ومؤاخذ بما سبق منك لقوله قبله :

لذاك أهيب عندي إذ أكلمه

وإسناد الإجرام إلى جانب المتكلم ومن معه مبنيّ على زعم المخاطبين ، قال تعالى : (وَإِذا رَأَوْهُمْ قالُوا إِنَّ هؤُلاءِ لَضالُّونَ) [المطففين : ٣٢] كان المشركون يؤنّبون المؤمنين بأنهم خاطئون في تجنب عبادة أصنام قومهم.

وهذه نكتة صوغه في صيغة الماضي لأنه متحقق على زعم المشركين. وصيغ ما يعمل المشركون في صيغة المضارع لأنهم ينتظرون منهم عملا تعريضا بأنهم يأتون عملا غير ما عملوه ، أي يؤمنون بالله بعد كفرهم.

٥٩

وهذا ضرب من المشاركة والموادعة ليخلوا بأنفسهم فينظروا في أمرهم ولا يلهيهم جدال المؤمنين عن استعراض ومحاسبة أنفسهم. وفيه زيادة إنصاف إذ فرض المؤمنون الإجرام في جانب أنفسهم وأسندوا العمل على إطلاقه في جانب المخاطبين لأن النظر والتدبر بعد ذلك يكشف عن كنه كلا العملين.

وليس لهذه الآية تعلق بمشاركة القتال فلا تجعل منسوخة بآيات القتال.

(قُلْ يَجْمَعُ بَيْنَنا رَبُّنا ثُمَّ يَفْتَحُ بَيْنَنا بِالْحَقِّ وَهُوَ الْفَتَّاحُ الْعَلِيمُ (٢٦))

إعادة فعل (قُلْ) لما عرفت في الجملة التي قبلها من زيادة الاهتمام بهذه المحاجات لتكون كل مجادلة مستقلة غير معطوفة فتكون هذه الجملة استئنافا ابتدائيا.

وأيضا فهي بمنزلة البيان للتي قبلها لأن نفي سؤال كل فريق عن عمل غيره يقتضي أن هنالك سؤالا عن عمل نفسه فبيّن بأن الذي يسأل الناس عن أعمالهم هو الله تعالى ، وأنه الذي يفصل بين الفريقين بالحق حين يجمعهم يوم القيامة الذي هم منكروه فما ظنك بحالهم يوم تحقّق ما أنكروه.

وهنا تدرج الجدل من الإيماء إلى الإشارة القريبة من التصريح لما في إثبات يوم الحساب والسؤال من المصارحة بأنهم الضالّون. ويسمى هذا التدرج عند أهل الجدل بالترقّي.

والفتح : الحكم والفصل بالحق ، كقوله تعالى : (رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنا وَبَيْنَ قَوْمِنا بِالْحَقِّ وَأَنْتَ خَيْرُ الْفاتِحِينَ) [الأعراف : ٨٩] وهو مأخوذ من فتح الكوة لإظهار ما خلفها.

وجملة (وَهُوَ الْفَتَّاحُ الْعَلِيمُ) تذييل بوصفه تعالى بكثرة الحكم وقوته وإحاطة العلم ، وبذلك كان تذييلا لجملة (يَجْمَعُ بَيْنَنا رَبُّنا ثُمَّ يَفْتَحُ بَيْنَنا بِالْحَقِ) المتضمنة حكما جزئيا فذيل بوصف كلي. وإنما أتبع (الْفَتَّاحُ) ب (الْعَلِيمُ) للدلالة على أن حكمه عدل محض لأنه عليم لا تحفّ بحكمه أسباب الخطأ والجور الناشئة عن الجهل والعجز واتباع الضعف النفساني الناشئ عن الجهل بالأحوال والعواقب.

(قُلْ أَرُونِيَ الَّذِينَ أَلْحَقْتُمْ بِهِ شُرَكاءَ كَلاَّ بَلْ هُوَ اللهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (٢٧))

أعيد الأمر بالقول رابع مرة لمزيد الاهتمام وهو رجوع إلى مهيع الاحتجاج على

٦٠