تفسير التّحرير والتّنوير - ج ٢٢

الشيخ محمّد الطاهر ابن عاشور

تفسير التّحرير والتّنوير - ج ٢٢

المؤلف:

الشيخ محمّد الطاهر ابن عاشور


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة التاريخ العربي للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٢٨٨

وأما قوله : (وَإِنِ اهْتَدَيْتُ فَبِما يُوحِي إِلَيَّ رَبِّي) فكالاحتراس من أن يكون حاله مقتصرا على فرض كونه مظنة الضلال مع ما فيه من الاعتراف لله بنعمته بأن ما يناله من خير فهو بإرشاد الله لا من نفسه لأنه ما كان يصل لذلك وهو مغمور بأمة جاهلية لو لا إرشاد الله إياه كما قال تعالى : (وَكَذلِكَ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنا ما كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتابُ وَلَا الْإِيمانُ) [الشورى : ٥٢].

واختير في جانب الهدى فعل (اهْتَدَيْتُ) الذي هو مطاوع (هدى) لما فيه من الإيماء إلى أن له هاديا ، وبيّنه بقوله : (فَبِما يُوحِي إِلَيَّ رَبِّي) ليحصل شكره لله إجمالا ثم تفصيلا ، وفي قوله : (فَبِما يُوحِي إِلَيَّ رَبِّي) إيماء إلى أنه على هدى لأنه أثبت أن وحيا من الله وارد إليه.

وقد استفيد أن الضلال المفروض إن حصل فسببه من قبل نفسه ، من إسناد فعل (أَضِلُ) إلى ضمير المتكلم ثم مما عقبه من قصر الضلال على الحصول من المتكلم ، وهو أغرق في التعلق به ، وليس الغرض من ذلك الكلام بيان التسبب ولكن عدم مجاوزة الضلال المفروض إليهم إذ هم يتبعوه فيما تلبس به ، ولم يرتكب مثل هذا في جانب فرض اهتدائه لأن اهتداءه كان هو الحاصل في الواقع وكان شاملا له ولغيره من الذين اتبعوه لأن اهتداءه ملابس لدعوته الناس إلى اتّباعه ، ولأن الغرض من الشرطين مختلف وإن كان يعلم من المقابلة أن سبب الضلال والاهتداء مختلف من جهة المعنى ولا سيما حين رجّح جانب اهتدائه بقوله : (فَبِما يُوحِي إِلَيَّ رَبِّي).

على أن المقابلة بين الشرطين ينقدح بها في ذهن السامع أن الضلال من تسويل النفس ولو حصل لكان جناية من النفس عليه وأن الاهتداء من الله وأنه نفع ساقه إليه بوحيه.

وجملة (إِنَّهُ سَمِيعٌ قَرِيبٌ) تذييل لما أفادته الجملتان المقولتان قبله من الترديد في نسبة الاهتداء والضلال ، أي أن الله يعلم أني على هدى أو ضده ويحصل من ذلك علم مقابله من أحوال خصومه لأنه سميع لما يقوله الفريقان قريب مما يضمرونه فلا يخفى عليه.

والقرب هنا كناية عن العلم والإحاطة فيه قرب مجازي. وهذا تعريض بالتهديد.

[٥١ ، ٥٣] (وَلَوْ تَرى إِذْ فَزِعُوا فَلا فَوْتَ وَأُخِذُوا مِنْ مَكانٍ قَرِيبٍ (٥١) وَقالُوا آمَنَّا

١٠١

بِهِ وَأَنَّى لَهُمُ التَّناوُشُ مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ (٥٢) وَقَدْ كَفَرُوا بِهِ مِنْ قَبْلُ وَيَقْذِفُونَ بِالْغَيْبِ مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ (٥٣))

لما جاءهم التعريض بالتهديد من لازم المتاركة المدلول عليها بقوله : (فَإِنَّما أَضِلُّ عَلى نَفْسِي وَإِنِ اهْتَدَيْتُ فَبِما يُوحِي إِلَيَّ رَبِّي) [سبأ : ٥٠] للعلم بأن الضال يستحق العقاب أتبع حالهم حين يحلّ بهم الفزع من مشاهدة ما هدّدوا به.

والخطاب للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم تسلية له أو لكل مخاطب. وحذف جواب (لَوْ) للتهويل. والتقدير : لرأيت أمرا فظيعا.

ومفعول (تَرى) يجوز أن يكون محذوفا ، أي لو تراهم ، أو ترى عذابهم ويكون (إِذْ فَزِعُوا) ظرفا ل (تَرى) ويجوز أن يكون (إِذْ) هو المفعول به وهو مجرد عن الظرفية ، أي لو ترى ذلك الزمان ، أي ترى ما يشتمل عليه.

والفزع : الخوف المفاجئ ، وقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم للأنصار : «إنكم لتكثرون عند الفزع وتقلّون عند الطمع». وهذا الفزع عند البعث يشعر بأنهم كانوا غير مهيّئين لهذا الوقت أسباب النجاة من هوله.

والأخذ : حقيقته التناول وهو هنا مجاز في الغلب والتمكن بهم كقوله تعالى :(فَأَخَذَهُمْ أَخْذَةً رابِيَةً) [الحاقة : ١٠]. والمعنى : أمسكوا وقبض عليهم لملاقاة ما أعد لهم من العقاب.

وجملة (فَلا فَوْتَ) معترضة بين المتعاطفات. والفوت : التفلت والخلاص من العقاب ، قال رويشد الطائي :

إن تذنبوا ثم تأتيني بقيتكم

مما علي بذنب منكم فوت

أي إذا أذنبتم فجاءت جماعة منكم معتذرين فذلك لا يدفع عنكم جزاءكم على ذنبكم.

وفي «الكشاف» : «ولو ، وإذ ، والأفعال التي هي فزعوا ، وأخذوا ، وحيل بينهم ، كلها للمضيّ ، والمراد بها الاستقبال لأن ما الله فاعله في المستقبل بمنزلة ما كان ووجد لتحققه» ا ه. ويزداد عليها فعل (وَقالُوا).

والمكان القريب : المحشر ، أي أخذوا منه إلى النار ، فاستغني بذكر (مِنْ) الابتدائية

١٠٢

عن ذكر الغاية لأن كل مبدأ له غاية ، ومعنى قرب المكان أنه قريب إلى جهنم بحيث لا يجدون مهلة لتأخير العذاب.

وليس بين كلمتي (قَرِيبٍ) هنا والذي في قوله : (إِنَّهُ سَمِيعٌ قَرِيبٌ) [سبأ : ٥٠] ما يشبه الإيطاء في الفواصل لاختلاف الكلمتين بالحقيقة والمجاز فصار في الجمع بينهما محسّن الجناس التام.

وعطف (وَقالُوا) على (وَأُخِذُوا) أي يقولون حينئذ : آمنّا به.

وضمير (بِهِ) للوعيد أو ليوم البعث أو للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أو القرآن ، إذا كان الضمير محكيا من كلامهم لأن جميع ما يصحّ معادا للضمير مشاهد لهم وللملائكة ، فأجملوا فيما يراد الإيمان به لأنهم ضاق عليهم الوقت فاستعجلوه بما يحسبونه منجيا لهم من العذاب ، وإن كان الضمير من الحكاية فهو عائد إلى الحق من قوله : (قُلْ إِنَّ رَبِّي يَقْذِفُ بِالْحَقِ) [سبأ : ٤٨] لأن الحقّ يتضمن ذلك كله.

ثم استطرد الكلام بمناسبة قولهم (آمَنَّا بِهِ) إلى إضاعتهم وقت الإيمان بجملة (وَأَنَّى لَهُمُ التَّناوُشُ) إلى آخرها.

و (أَنَّى) استفهام عن المكان وهو مستعمل في الإنكار.

و (التَّناوُشُ) قرأه الجمهور بواو مضمومة بعد الألف وهو التناول السهل أو الخفيف وأكثر وروده في شرب الإبل شربا خفيفا من الحوض ونحوه ، قال غيلان بن حريث :

باتت تنوش الحوض نوشا من علا

نوشا به تقطع أجواز الفلا

يتحدث عن راحلته ، أي تتناول الماء من أعلاه ولا تغوص مشافرها فيه.

وجملة (وَأَنَّى لَهُمُ التَّناوُشُ مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ) مركب تمثيلي يفيد تشبيه حالهم إذ فرطوا في أسباب النجاة وقت المكنة منها حين كان النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم يدعوهم ويحرضهم ويحذرهم وقد عمرهم الله ما يتذكر فيه من تذكر ثم جاءوا يطلبون النجاة بعد فوات وقتها بحالهم كحال من يريد تناوشها وهو في مكان بعيد عن مراده الذي يجب تناوله.

وهذا التمثيل قابل لتفريق أجزائه بأن يشبه السعي بما يحصل بسرعة بالتناوش ويشبه فوات المطلوب بالمكان البعيد كالحوض.

وقرأ أبو عمرو وحمزة والكسائي وأبو بكر عن عاصم وخلف بالهمزة في موقع الواو

١٠٣

فقال الزجاج : وهو من إبدال الواو المضمومة همزة لقصد التخفيف في نطق الضمة كقوله تعالى : (أُقِّتَتْ) [المرسلات : ١١] وقولهم : أجوه : جمع وجه. وبحث فيه أبو حيان ، وقال الفراء والزجاج أيضا : هو من نأش بالهمز إذا أبطأ وتأخر في عمل. ومنه قول نهشل بن حري النهشلي :

تمنّى نئيشا أن يكون أطاعني

وقد حدثت بعد الأمور أمور

أي تمنّى أخيرا. وفسر المعري في «رسالة الغفران» نئيشا بمعنى : بعد ما فات. وعلى كلا التفسيرين فالمراد بالتناوش وصف قولهم : (آمَنَّا بِهِ) بأنه إيمان تأخر وقته أو فات وقته.

وفي الجمع بين (مَكانٍ قَرِيبٍ) و (مَكانٍ بَعِيدٍ) محسن الطباق.

وجملة (وَقَدْ كَفَرُوا بِهِ مِنْ قَبْلُ) في موضع الحال ، أي كيف يقولون آمنّا به في وقت الفوات والحال أنهم كفروا به من قبل في وقت التمكن فهو كقوله تعالى : (وَقَدْ كانُوا يُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ وَهُمْ سالِمُونَ) [القلم : ٤٣].

(وَيَقْذِفُونَ) عطف على (كَفَرُوا) فهي حال ثانية. والتقدير : وكانوا يقذفون بالغيب. واختيار صيغة المضارع لحكاية الحالة كقوله تعالى : (وَيَصْنَعُ الْفُلْكَ) [هود : ٣٨].

والقذف : الرمي باليد من بعد. وهو هنا مستعار للقول بدون تروّ ولا دليل ، أي يتكلمون فيما غاب عن القياس من أمور الآخرة بما لا علم لهم به إذ أحالوا البعث والجزاء وقالوا لشركائهم : هم شفعاؤنا عند الله.

ولك أن تجعل (وَيَقْذِفُونَ بِالْغَيْبِ مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ) تمثيلا مثل ما في قوله (وَأَنَّى لَهُمُ التَّناوُشُ مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ) ، شبهوا بحال من يقذف شيئا وهو غائب عنه لا يراه فهو لا يصيبه البتة.

وحذف مفعول (يَقْذِفُونَ) لدلالة فعل (وَقَدْ كَفَرُوا بِهِ مِنْ قَبْلُ) عليه ، أي يقذفون أشياء من الكفر يرمون بها جزافا.

والغيب : المغيّب. والباء للملابسة ، والمجرور بها في موضع الحال من ضمير (يَقْذِفُونَ) ، أي يقذفون وهم غائبون عن المقذوف من مكان بعيد.

و (مَكانٍ بَعِيدٍ) هنا مستعمل في حقيقته يعني من الدنيا ، وهي مكان بعيد عن الآخرة

١٠٤

للاستغناء عن استعارته لما لا يشاهد منه بقوله : (بِالْغَيْبِ) كما علمت فتعين للحقيقة لأنها الأصل ، وبذلك فليس بين لفظ (بَعِيدٍ) المذكور هنا والذي في قوله : (وَأَنَّى لَهُمُ التَّناوُشُ مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ) ما يشبه الإيطاء لاختلاف الكلمتين بالمجاز والحقيقة.

(وَحِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ ما يَشْتَهُونَ كَما فُعِلَ بِأَشْياعِهِمْ مِنْ قَبْلُ إِنَّهُمْ كانُوا فِي شَكٍّ مُرِيبٍ)(٥٤)

عطف على الجمل الفعلية نظائر هذه وهي جمل (فَزِعُوا) و (أُخِذُوا) و (قالُوا) [سبأ : ٥١ ، ٥٢] أي وحال زجّهم في النار بينهم وبين ما يأملونه من النجاة بقولهم : (آمَنَّا بِهِ) [سبأ : ٥٢]. وما يشتهونه هو النجاة من العذاب أو عودتهم إلى الدنيا ؛ فقد حكي عنهم في آيات أخرى أنهم تمنّوه (فَقالُوا يا لَيْتَنا نُرَدُّ وَلا نُكَذِّبَ بِآياتِ رَبِّنا وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ) [الأنعام : ٢٧] ، «ربنا أرجعنا نعمل صالحا غير الذي كنا نعمل».

والتشبيه في قوله : (كَما فُعِلَ بِأَشْياعِهِمْ مِنْ قَبْلُ) تشبيه للحيلولة بحيلولة أخرى وهي الحيلولة بين بعض الأمم وبين الإمهال حين حلّ بهم عذاب الدنيا ، مثل فرعون وقومه إذ قال : (آمَنْتُ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُوا إِسْرائِيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ) [يونس : ٩٠] ، وكذلك قوم نوح حين رأوا الطوفان ، وما من أمة حلّ بها عذاب إلّا وتمنّت الإيمان حينئذ فلم ينفعهم إلّا قوم يونس.

والأشياع : المشابهون في النحلة وإن كانوا سالفين. وأصل المشايعة المتابعة في العمل والحلف ونحوه ، ثم أطلقت هنا على مطلق المماثلة على سبيل المجاز المرسل بقرينة قوله : (مِنْ قَبْلُ) ، أي كما فعل بأمثالهم في الدنيا من قبل ، وأما يوم الحشر فإنما يحال بينهم وبين ما يشتهون وكذلك أشياعهم في وقت واحد.

وفائدة هذا التشبيه تذكير الأحياء منهم وهم مشركو أهل مكة بما حل بالأمم من قبلهم ليوقنوا أنه سنة الله واحدة وأنهم لا تنفعهم أصنامهم التي زعموها شفعاء عند الله.

وجملة (إِنَّهُمْ كانُوا فِي شَكٍّ مُرِيبٍ) مسوقة لتعليل الجمل التي قبلها. وفعل بهم جميع ما سمعت لأنهم كانوا في حياتهم في شك من ذلك اليوم وما وصف لهم من أهواله.

وإنما جعلت حالتهم شكا لأنهم كانوا في بعض الأمور شاكّين وفي بعضها موقنين ،

١٠٥

ألا ترى قوله تعالى : (قُلْتُمْ ما نَدْرِي مَا السَّاعَةُ إِنْ نَظُنُّ إِلَّا ظَنًّا وَما نَحْنُ بِمُسْتَيْقِنِينَ) [الجاثية : ٣٢]. وإذا كان الشك مفضيا إلى تلك العقوبة فاليقين أولى بذلك ، ومآل الشك واليقين بالانتفاء واحد إذ ترتب عليهما عدم الإيمان به وعدم النظر في دليله.

ويجوز أن تكون جملة (إِنَّهُمْ كانُوا فِي شَكٍّ مُرِيبٍ) مستأنفة استئنافا بيانيا ناشئة عن سؤال يثيره قوله : (وَحِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ ما يَشْتَهُونَ) كأن سائلا سأل هل كانوا طامعين في حصول ما تمنّوه؟ فأجيب بأنهم كانوا يتمنون ذلك ويشكون في استجابته فلما حيل بينهم وبينه غشيهم اليأس ، واليأس بعد الشك أوقع في الحزن من اليأس المتأصل.

والمريب : الموقع في الريب. والريب : الشك ، فوصف الشك به وصف له بما هو مشتق من مادته لإفادة المبالغة كقولهم : شعر شاعر ، وليل أليل ، أو ليل داج. ومحاولة غير هذا تعسف.

١٠٦

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

٣٥ ـ سورة فاطر

سميت «سورة فاطر» في كثير من المصاحف في المشرق والمغرب وفي كثير من التفاسير. وسميت في «صحيح البخاري» وفي «سنن الترمذي» وفي كثير من المصاحف والتفاسير «سورة الملائكة» لا غير. وقد ذكر لها كلا الاسمين صاحب «الإتقان».

فوجه تسميتها «سورة فاطر» أن هذا الوصف وقع في طالعة السورة ولم يقع في أول سورة أخرى. ووجه تسميتها «سورة الملائكة» أنه ذكر في أولها صفة الملائكة ولم يقع في سورة أخرى.

وهي مكية بالاتفاق وحكى الآلوسي عن الطبرسي أن الحسن استثنى آيتين : آية (إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتابَ اللهِ) [فاطر : ٢٩] الآية ، وآية (ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنا مِنْ عِبادِنا) [فاطر : ٣٢] الآية ، ولم أر هذا لغيره.

وهذه السورة هي الثالثة والأربعون في ترتيب نزول سور القرآن. نزلت بعد سورة الفرقان وقبل سورة مريم.

وقد عدت آيها في عدّ أهل المدينة والشام ستا وأربعين ، وفي عد أهل مكة والكوفة خمسا وأربعين.

أغراض هذه السورة

اشتملت هذه السورة على إثبات تفرد الله تعالى بالإلهية فافتتحت بما يدل على أنه مستحق الحمد على ما أبدع من الكائنات الدالّ إبداعها على تفرده تعالى بالإلهية.

وعلى إثبات صدق الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم فيما جاء به وأنه جاء به الرسل من قبله. وإثبات البعث والدار الآخرة.

١٠٧

وتذكير الناس بإنعام الله عليهم بنعمة الإيجاد ونعمة الإمداد ، وما يعبد المشركون من دونه لا يغنون عنهم شيئا وقد عبدهم الذين من قبلهم فلم يغنوا عنهم.

وتثبيت النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم على ما يلاقيه من قومه.

وكشف نواياهم في الإعراض عن اتباع الإسلام لأنهم احتفظوا بعزتهم.

وإنذارهم أن يحل بهم ما حل بالأمم المكذبة قبلهم.

والثناء على الذين تلقّوا الإسلام بالتصديق وبضد حال المكذبين.

وتذكيرهم بأنهم كانوا يودّون أن يرسل إليهم رسول فلما جاءهم رسول تكبروا واستنكفوا.

وأنهم لا مفر لهم من حلول العذاب عليهم فقد شاهدوا آثار الأمم المكذبين من قبلهم ، وأن لا يغتروا بإمهال الله إياهم فإن الله لا يخلف وعده.

والتحذير من غرور الشيطان والتذكير بعداوته لنوع الإنسان.

(الْحَمْدُ لِلَّهِ فاطِرِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ جاعِلِ الْمَلائِكَةِ رُسُلاً أُولِي أَجْنِحَةٍ مَثْنى وَثُلاثَ وَرُباعَ يَزِيدُ فِي الْخَلْقِ ما يَشاءُ إِنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (١))

افتتاحها ب (الْحَمْدُ لِلَّهِ) مؤذن بأن صفات من عظمة الله ستذكر فيها ، وإجراء صفات الأفعال على اسم الجلالة من خلقه السماوات والأرض وأفضل ما فيها من الملائكة والمرسلين مؤذن بأن السورة جاءت لإثبات التوحيد وتصديق الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم. وإيذان (الْحَمْدُ لِلَّهِ) باستحقاق الله إياه دون غيره تقدم في أول سورة الفاتحة.

والفاطر : فاعل الفطر ، وهو الخلق ، وفيه معنى التكون سريعا لأنه مشتق من الفطر وهو الشق ، ومنه (تَكادُ السَّماواتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْ فَوْقِهِنَ) [الشورى : ٥](إِذَا السَّماءُ انْفَطَرَتْ) [الانفطار : ١]. وعن ابن عباس «كنت لا أدري ما فاطر السماوات والأرض (أي لعدم جريان هذا اللفظ بينهم في زمانه) حتى أتاني أعرابيان يختصمان في بئر ، فقال أحدهما : أنا فطرتها ، أي أنا ابتدأتها. وأحسب أن وصف الله ب (فاطِرِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) مما سبق به القرآن ، وقد تقدم عند قوله تعالى (فاطِرِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) في سورة الأنعام [١٤] ، وقوله : (وَعَلَّمْتَنِي مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحادِيثِ فاطِرَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) في آخر سورة يوسف [١٠١] فضمّه إلى ما هنا.

١٠٨

وأما (جاعِلِ) فيطلق بمعنى مكوّن ، وبمعنى مصيّر ، وعلى الاعتبارين يختلف موقع قوله : (رُسُلاً) بين أن يكون مفعولا ثانيا ل (جاعِلِ) أي جعل الله من الملائكة ، أي ليكونوا رسلا منه تعالى لما يريد أن يفعلوه بقوتهم الذاتية ، وبين أن يكون حالا من (الْمَلائِكَةِ) ، أي يجعل من أحوالهم أن يرسلوا. ولصلاحية المعنيين أوثرت مادة الجعل دون أن يعطف على معمول (فاطِرِ).

وتخصيص ذكر الملائكة من بين مخلوقات السماوات والأرض لشرفهم بأنهم سكان السماوات وعظيم خلقهم.

وأجري عليهم صفة أنهم رسل لمناسبة المقصود من إثبات الرسالة ، أي جاعلهم رسلا منه إلى المرسلين من البشر للوحي بما يراد تبليغهم إياه للناس.

وقوله (أُولِي أَجْنِحَةٍ) يجوز أن يكون حالا من (الْمَلائِكَةِ) ، فتكون الأجنحة ذاتية لهم من مقومات خلقتهم ، ويجوز أن يكون حالا من الضمير في (رُسُلاً) فيكون خاصة بحالة مرسوليتهم.

و (أَجْنِحَةٍ) جمع جناح بفتح الجيم وهو ما يكون للطائر في موضع اليد للإنسان فيحتمل أن إثبات الأجنحة للملائكة في هذه الآية وفي بعض الأحاديث المروية عن النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم حقيقة ، ويحتمل أنه استعارة للقوة التي يخترقون بها الآفاق السماوية صعودا ونزولا لا يعلم كنهها إلّا الله تعالى.

و (مَثْنى) وأخواته كلمات دالّة على معنى التكرير لاسم العدد التي تشتق منه ابتداء من الاثنين بصيغة مثنى ثم الثلاثة والأربعة بصيغة ثلاث ورباع. والأكثر أنهم لا يتجاوزون بهذه الصيغة مادة الأربعة ، وقيل : يجوز إلى العشرة. والمعنى : اثنين اثنين إلخ. وتقدم قوله : (أَنْ تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنى وَفُرادى) في سورة سبأ [٤٦].

والكلام على (أُولِي) تقدم.

والمعنى : أنهم ذوو أجنحة بعضها مصففة جناحين جناحين في الصف ، وبعضها ثلاثة ثلاثة ، وبعضها أربعة أربعة ، وذلك قد تتعدد صفوفه فتبلغ أعدادا كثيرة فلا ينافي هذا ما ورد في الحديث عن عبد الله بن مسعود : «أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم رأى جبريل له ستمائة جناح».

ويجوز أن تكون أعداد الأجنحة متغيرة لكل ملك في أوقات متغيرة على حسب المسافات التي يؤمرون باختراقها من السماوات والأرضين. والأظهر أن الأجنحة للملائكة

١٠٩

من أحوال التشكل الذي يتشكلون به. وفي رواية الزهري أن جبريل قال للنبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم : «لو رأيت إسرافيل إنّ له لاثني عشر ألف جناح وإن العرش لعلى كاهله».

واعلم أن ماهية الملائكة تتحصل فيما ذكره سعد الدين في كتاب «المقاصد» «إنهم أجسام لطيفة نورانية قادرة على التشكلات بأشكال مختلفة ، شأنهم الخير والطاعة ، والعلم ، والقدرة على الأعمال الشاقة ، ومسكنهم السماوات ، وقال : هذا ظاهر الكتاب والسنة وهو قول أكثر الأمة». ا ه. ومعنى الأجسام اللطيفة أنها من قبيل الجوهر لا العرض وأنها جواهر مما يسمى عند الحكماء بالمجردات.

وعندي : أن تعريف صاحب «المقاصد» لحقيقة الملائكة لا يخلو عن تخليط في ترتيب التعريف لأنه خلط في التعريف بين الذاتيات والعرضيات.

والوجه عندي في ترتيب التعريف أن يقال : أجسام لطيفة نورانية أخيار ذوو قوة عظيمة ، ومن خصائصهم القدرة على التشكل بأشكال مختلفة ، والعلم بما تتوقف عليه أعمالهم ، ومقرهم السماوات ما لم يرسلوا إلى جهة من الأرض.

وهذا التشكل انكماش وتقبض في ذرات نورانيتهم وإعطاء صورة من صور الجسمانيات الكثيفة لذواتهم. دل على تشكلهم قوله تعالى لهم يوم بدر (فَاضْرِبُوا فَوْقَ الْأَعْناقِ وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنانٍ) [الأنفال : ١٢] ، وثبت تشكل جبريل عليه‌السلام للنبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم في صورة دحية الكلبي ، وتشكله له ولعمر بن الخطاب في حديث السؤال عن الإيمان والإسلام والإحسان والساعة في صورة «رجل شديد بياض الثياب شديد سواد الشعر ، لا يرى عليه أثر السفر ، ولا يعرفه منا أحد (أي من أهل المدينة) حتى جلس إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فأسند ركبتيه إلى ركبتيه ووضع كفيه على فخذيه» الحديث ، وقول النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم بعد أن فارقهم الرجل «هل تدرون من السائل؟ قالوا : الله ورسوله أعلم. قال : فإنه جبريل أتاكم يعلمكم دينكم» كما في «الصحيحين» عن عمر بن الخطاب.

وثبت حلول جبريل في غار حراء في بدء الوحي ، وظهوره للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم على كرسي بين السماء والأرض بصورته التي رآه فيها في غار حراء كما ذلك في حديث نزول سورة المدثر ، ورأى كثير من أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يوم بدر ناسا لا يعرفونهم على خيل يقاتلون معهم.

وجملة (يَزِيدُ فِي الْخَلْقِ ما يَشاءُ) مستأنفة استئنافا بيانيا لأن ما ذكر من صفات

١١٠

الملائكة يثير تعجب السامع أن يتساءل عن هذه الصفة العجيبة ، فأجيب بهذا الاستئناف بأن مشيئة الله تعالى لا تنحصر ولا توقّت. ولكل جنس من أجناس المخلوقات مقوماته وخواصه. فالمراد بالخلق : المخلوقات كلّها ، أي يزيد الله في بعضها ما ليس في خلق آخر. فيشمل زيادة قوة بعض الملائكة على بعض ، وكل زيادة في شيء بين المخلوقات من المحاسن والفضائل من حصافة عقل وجمال صورة وشجاعة وذلقة لسان ولياقة كلام. ويجوز أن تكون جملة (يَزِيدُ فِي الْخَلْقِ ما يَشاءُ) صفة ثانية للملائكة ، أي أولي أجنحة مثنى وثلاث ورباع يزيد في خلقهم ما يشاء كأنه قيل : مثنى وثلاث ورباع وأكثر ، فما في بعض الأحاديث من كثرة أجنحة جبريل يبين معنى (يَزِيدُ فِي الْخَلْقِ ما يَشاءُ). وعليه فالمراد بالخلق ما خلق عليه الملائكة من أن لبعضهم أجنحة زائدة على من لبعض آخر.

وجملة (إِنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) تعليل لجملة (يَزِيدُ فِي الْخَلْقِ ما يَشاءُ) ، وفي هذا تعريض بتسفيه عقول الذين أنكروا الرسالة وقالوا : (إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنا) [إبراهيم : ١٠] ، فأجيبوا بقول الرسل (إِنْ نَحْنُ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ وَلكِنَّ اللهَ يَمُنُّ عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ) [إبراهيم : ١١].

(ما يَفْتَحِ اللهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلا مُمْسِكَ لَها وَما يُمْسِكْ فَلا مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (٢))

هذا من بقية تصدير السورة ب (الْحَمْدُ لِلَّهِ فاطِرِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ)[فاطر : ١] ، وهو عطف على (فاطِرِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) إلخ. والتقدير : وفاتح الرحمة للناس وممسكها عنهم فلا يقدر أحد على إمساك ما فتحه ولا على فتح ما أمسكه.

و (ما) شرطية ، أي اسم فيه معنى الشرط. وأصلها اسم موصول ضمّن معنى الشرط. فانقلبت صلته إلى جملة شرطية وانقلبت جملة الخبر جوابا واقترنت بالفاء لذلك ، فأصل (ما) الشرطية هو الموصولة. ومحل (ما) الابتداء وجواب الشرط أغنى عن الخبر.

و (مِنْ رَحْمَةٍ) بيان لإبهام (ما) والرابط محذوف لأنه ضمير منصوب.

والفتح : تمثيلية لإعطاء الرحمة إذ هي من النفائس التي تشبه المدخرات المتنافس فيها فكانت حالة إعطاء الله الرحمة شبيهة بحالة فتح الخزائن للعطاء ، فأشير إلى هذا التمثيل بفعل الفتح ، وبيانه بقوله : (مِنْ رَحْمَةٍ) قرينة الاستعارة التمثيلية.

١١١

والإمساك حقيقته : أخذ الشيء باليد مع الشدّ عليه بها لئلا يسقط أو ينفلت ، وهو يتعدّى بنفسه ، أو هو هنا مجاز عن الحبس والمنع ولذلك قوبل به الفتح.

وأما قولهم : أمسك بكذا ، فالباء إمّا لتوكيد لصوق المفعول بفعله كقوله تعالى : (وَلا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوافِرِ) [الممتحنة : ١٠] ، وإمّا لتضمينه معنى الاعتصام كقوله تعالى : (فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقى) [لقمان : ٢٢].

وقد أوهم في «القاموس» و «اللسان» و «التاج» أنه لا يتعدى بنفسه.

فقوله هنا : (وَما يُمْسِكْ) حذف مفعوله لدلالة قوله : (ما يَفْتَحِ اللهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ) عليه. والتقدير : وما يمسكه من رحمة ، ولم يذكر له بيان استغناء ببيانه من فعل.

والإرسال : ضد الإمساك ، وتعدية الإرسال باللام للتقوية لأن العامل هنا فرع في العمل.

و (مِنْ بَعْدِهِ) بمعنى : من دونه كقوله تعالى : (فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللهِ) [الجاثية : ٢٣](فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَ اللهِ) [الجاثية : ٦] ، أي فلا مرسل له دون الله ، أي لا يقدر أحد على إبطال ما أراد الله من إعطاء أو منع والله يحكم لا معقب لحكمه. وتذكير الضمير في قوله : (فَلا مُرْسِلَ لَهُ) مراعاة للفظ (ما) لأنها لا بيان لها ، وتأنيثه في قوله : (فَلا مُمْسِكَ لَها) لمراعاة بيان (ما) في قوله : (مِنْ رَحْمَةٍ) لقربه.

وعطف (وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) تذييل رجّح فيه جانب الإخبار فعطف ، وكان مقتضى الظاهر أن يكون مفصولا لإفادة أنه يفتح ويمسك لحكمة يعلمها ، وأنه لا يستطيع أحد نقض ما أبرمه في فتح الرحمة وغيره من تصرفاته لأن الله عزيز لا يمكن لغيره أن يغلبه ، فأنّ نقض ما أبرم ضرب من الهوان والمذلّة. ولذلك كان من شعار صاحب السؤدد أنه يبرم وينقض قال الأعشى :

علقم ما أنت إلى عامر

الناقض الأوتار والواتر

وضمير (لَها) وضمير (لَهُ) عائدان إلى (ما) من قوله : (ما يَفْتَحِ اللهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ) ، روعي في تأنيث أحد الضميرين معنى (ما) فإنه اسم صادق على (رَحْمَةٍ) وقد بيّن بها ، وروعي في تذكير الضمير الآخر لفظ (ما) لأنه لفظ لا علامة تأنيث فيه. وهما اعتباران كثيران في مثله في فصيح الكلام ، فالمتكلم بالخيار بين أيّ الاعتبارين شاء. والجمع بينهما في هذه الآية تفنن. وأوثر بالتأنيث ضمير (ما) لأنها مبيّنة بلفظ مؤنث وهو

١١٢

(مِنْ رَحْمَةٍ).

(يا أَيُّهَا النَّاسُ اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللهِ عَلَيْكُمْ هَلْ مِنْ خالِقٍ غَيْرُ اللهِ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ (٣))

(يا أَيُّهَا النَّاسُ اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللهِ عَلَيْكُمْ هَلْ مِنْ خالِقٍ غَيْرُ اللهِ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ).

لما جرى ذكر رحمة الله التي تعم الناس كلهم أقبل على خطابهم بأن يتذكروا نعمة الله عليهم الخاصة وهي النعمة التي تخص كل واحد بخاصته فيأتلف منها مجموع الرحمة العامة للناس كلهم وما هي إلّا بعض رحمة الله بمخلوقاته.

والمقصود من تذكر النعمة شكرها وقدرها قدرها. ومن أكبر تلك النعم نعمة الرسالة المحمدية التي هي وسيلة فوز الناس الذين يتبعونها بالنعيم الأبدي. فالمراد بالذكر هنا التذكر بالقلب وباللسان فهو من عموم المشترك أو من إرادة القدر المشترك فإن الذكر باللسان والذكر بالقلب يستلزم أحدهما الآخر وإلّا لكان الأول هذيانا والثاني كتمانا. قال عمر بن الخطاب : «أفضل من ذكر الله باللسان ذكر الله عند أمره ونهيه» ، أي وفي كليهما فضل.

ووصفت النعمة ب (عَلَيْكُمْ) لأن المقصود من التذكر التذكر الذي يترتب عليه الشكر ، وليس المراد مطلق التذكر بمعنى الاعتبار والنظر في بديع فضل الله ، فذلك له مقام آخر ، على أن قوله : (هَلْ مِنْ خالِقٍ غَيْرُ اللهِ يَرْزُقُكُمْ) قد تضمن الدعوة إلى النظر في دليل الوحدانية والقدرة والفضل.

والاستفهام إنكاري في معنى النفي ولذلك اقترن ما بعده ب (مِنْ) التي تزاد لتأكيد النفي ، واختير الاستفهام ب (هَلْ) دون الهمزة لما في أصل معنى (هَلْ) من الدلالة على التحقيق والتصديق لأنها في الأصل بمعنى (قد) وتفيد تأكيد النفي.

والاهتمام بهذا الاستثناء قدّم في الذكر قبل ما هو في قوة المستثنى منه. وجعل صفة ل (خالِقٍ) لأن (غَيْرُ) صالحة للاعتبارين ولذلك جرت القراءات المشهورة على اعتبار (غَيْرُ) هنا وصفا ل (خالِقٍ) ، فجمهور القراء قرءوه برفع (غَيْرُ) على اعتبار محلّ (خالِقٍ) المجرور ب (مِنْ) لأن محله رفع بالابتداء. وإنما لم يظهر الرفع للاشتغال بحركة حرف الجر الزائد. وقرأه حمزة والكسائي وأبو جعفر وخلف بالجر على اتباع اللفظ دون المحل. وهما استعمالان فصيحان في مثله اهتم بالتنبيه عليهما سيبويه في «كتابه».

١١٣

وجملة (يَرْزُقُكُمْ) يجوز أن تكون وصفا ثانيا ل (خالِقٍ). ويجوز أن تكون استئنافا بيانيا.

وجعل النفي متوجها إلى القيد وهو جملة الصفة كما هي سنّته في الكلام المقيّد لأن المقصود التذكير بنعم الله تعالى ليشكروا ، ويكون ذلك كناية عن الاستدلال على انتفاء وصف الخالقية عن غيره تعالى لأنه لو كان غيره خالقا لكان رازقا إذ الخلق بدون رزق قصور في الخالقية لأن المخلوق بدون رزق لا يلبث أن يصير إلى الهلاك والعدم فيكون خلقه عبثا ينزه عنه الموصوف بالإلهية المقتضية للحكمة فكانت الآية مذكرة بنعمتي الإيجاد والإمداد.

وزيادة (مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ) تذكير بتعدد مصادر الأرزاق ؛ فإن منها سماوية كالمطر الذي منه شراب ، ومنه طهور ، وسبب نبات أشجار وكلإ ، وكالمنّ الذي ينزل على شجر خاص من أندية في الجوّ ، وكالضياء من الشمس ، والاهتداء بالنجوم في الليل ، وكذلك أنواع الطير الذي يصاد ، كلّ ذلك من السماء.

ومن الأرض أرزاق كثيرة من حبوب وثمار وزيوت وفواكه ومعادن وكلإ وكمأة وأسماك البحار والأنهار.

وفي هذا القيد فائدة أخرى وهي دفع توهم الغفّل أن أرزاقا تأتيهم من غير الله من أنواع العطايا التي يعطيها بعضهم بعضا ، والمعاوضات التي يعاوضها بعضهم مع بعض فإنها لكثرة تداولها بينهم قد يلهيهم الشغل بها عن التدبر في أصول منابعها فإن أصول موادها من صنع الله تعالى فآل ما يعطاه الناس منها إلى أنه من الله على نحو ما عرض للذي حاجّ إبراهيم في ربه إذ قال له إبراهيم : (رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ قالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ) [البقرة : ٢٥٨] فهذا رجل محكوم بقتله ها أنا ذا أعفو عنه فقد أحييته ، وهذا رجل حيّ ها أنا ذا آمر به فيقتل فأنا أميت. فانتقل إبراهيم إلى أن قال له : (فَإِنَّ اللهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِها مِنَ الْمَغْرِبِ) [البقرة : ٢٥٨].

(لا إِلهَ إِلَّا هُوَ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ).

هذا نتيجة عقب ذكر الدليل إذ رتّب على انفراده بالخالقية والرازقية انفراده بالإلهية لأن هذين الوصفين هما أظهر دلائل الإلهية عند الناس فجملة (لا إِلهَ إِلَّا هُوَ) مستأنفة. وفرع عليه التعجيب من انصرافهم عن النظر في دلائل الوحدانية بجملة (فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ).

١١٤

وأنى اسم استفهام يجيء بمعنى استفهام عن الحالة أو عن المكان أو عن الزمان. والاستفهام عن حالة انصرافهم هو المتعين هنا وهو استفهام مستعمل في التعجيب من انصرافهم عن الاعتراف بالوحدانية تبعا لمن يصرفهم وهم أولياؤهم وكبراؤهم.

و (تُؤْفَكُونَ) مبنيّ للمجهول من أفكه من باب ضربه ، إذا صرفه وعدل به ، فالمصروف مأفوك. وحذف الفاعل هنا لأن آفكيهم أصناف كثيرون ، وتقدم في قوله تعالى : (قاتَلَهُمُ اللهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ) في سورة براءة [٣٠].

(وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ وَإِلَى اللهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ (٤))

عطف على جملة (اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللهِ عَلَيْكُمْ) [فاطر : ٣] أي وإن استمرّوا على انصرافهم عن قبول دعوتك ولم يشكروا النعمة ببعثك فلا عجب فقد كذب أقوام من قبلهم رسلا من قبل. وهو انتقال من خطاب الناس إلى خطاب النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم لمناسبة جريان خطاب الناس على لسانه فهو مشاهد لخطابهم ، فلا جرم أن يوجه إليه الخطاب بعد توجيهه إليهم إذ المقام واحد كقوله تعالى : (يُوسُفُ أَعْرِضْ عَنْ هذا وَاسْتَغْفِرِي لِذَنْبِكِ) [يوسف : ٢٩].

وإذ قد أبان لهم الحجة على انفراد الله تعالى بالإلهية حين خاطبهم بذلك نقل الإخبار عن صدق الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم فيما أنكروا قبوله منه فإنه لما استبان صدقه في ذلك بالحجة ناسب أن يعرّض إلى الذين كذبوه بمثل عاقبة الذين كذبوا الرسل من قبله وقد أدمج في خلال ذلك تسلية الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم على تكذيب قومه إياه بأنه لم يكن مقامه في ذلك دون مقام الرسل السابقين.

وجيء في هذا الشرط بحرف (إِنْ) الذي أصله أن يعلق به شرط غير مقطوع بوقوعه تنزيلا لهم بعد ما قدمت إليهم الحجة على وحدانية الله المصدقة لما جاءهم به الرسول عليه الصلاة والسلام فكذبوه فيه ، منزلة من أيقن بصدق الرسول فلا يكون فرض استمرارهم على تكذيبه إلّا كما يفرض المحال.

وهذا وجه إيثار الشرط هنا بالفعل المضارع الذي في حيّز الشرط يتمخض للاستقبال ، أي إن حدث منهم تكذيب بعد ما قرع أسماعهم من البراهين الدامغة.

والمذكور جوابا للشرط إنما هو سبب لجواب محذوف إذ التقدير : وإن يكذبوك فلا يحزنك تكذيبهم إذ قد كذبت رسل من قبلك فاستغني بالسبب عن المسبب لدلالته عليه.

١١٥

وإنما لم يعرّف (رُسُلٌ) وجيء به منكّرا لما في التنكير من الدلالة على تعظيم أولئك الرسل زيادة على جانب صفة الرسالة من جانب كثرتهم وتنوع آيات صدقهم ومع ذلك كذبهم أقوامهم.

وعطف على هذه التسلية والتعريض ما هو كالتأكيد لهما والتذكير بعاقبة مضمونها بأن أمر المكذبين قد آل إلى لقائهم جزاء تكذيبهم من لدن الذي ترجع إليه الأمور كلها ، فكان أمر أولئك المكذبين وأمر أولئك الرسل في جملة عموم الأمور التي أرجعت إلى الله تعالى إذ لا تخرج أمورهم من نطاق عموم الأمور.

وقد اكتسبت هذه الجملة معنى التذييل بما فيها من العموم.

و (الْأُمُورُ) جمع أمر وهو الشأن والحال ، أي إلى الله ترجع الأحوال كلها يتصرف فيها كيف يشاء ، فتكون الآية تهديدا للمكذبين وإنذارا.

(يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌّ فَلا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا وَلا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللهِ الْغَرُورُ (٥))

أعيد خطاب الناس إعذارا لهم وإنذارا بتحقيق أن وعد الله الذي وعده من عقابه المكذبين في يوم البعث هو وعد واقع لا يتخلف وذلك بعد أن قدّم لهم التذكير بدلائل الوحدانية المشتملة عليها ، مع الدلالة على نعم الله عليهم ليعلموا أنه لا يستحق العبادة غيره وأنه لا يتصف بالإلهية الحق غيره.

وبعد أن أشار إليهم بأن ما أنتجته تلك الدلائل هو ما أنبأهم به الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم فيعلمون صدقه فيما أنبأهم من توحيد الله وهو أكبر ما قرع آذانهم وأحرج شيء لنفوسهم ، فإذا تأيّد بالدليل البرهاني تمهّد السبيل لتصديق الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم فيما أخبرهم به من وعد الله وهو يوم البعث لأنه لما تبين صدقه في الأولى يعلم صدقه في الثانية بحكم قياس المساواة.

والخطاب للمشركين ، أو لهم وللمؤمنين لأن ما تلاه صالح لموعظة الفريقين كل على حسب حاله.

وتأكيد الخبر ب (إِنْ) إمّا لأن الخطاب للمنكرين ، وإمّا لتغليب فريق المنكرين على المؤمنين لأنهم أحوج إلى تقوية الموعظة.

والوعد مصدر ، وهو الإخبار عن فعل المخبر شيئا في المستقبل ، والأكثر أن يكون

١١٦

فيما عدا الشر ، ويخص الشر منه باسم الوعيد ، يعمهما وهو هنا مستعمل في القدر المشترك. وقد تقدم عند قوله تعالى : (الشَّيْطانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ) الآية في سورة البقرة [٢٦٨].

وإضافته إلى الاسم الأعظم توطئة لكونه حقّا لأن الله لا يأتي منه الباطل.

والحق هنا مقابل الكذب. والمعنى : أن وعد الله صادق. ووصفه بالمصدر مبالغة في حقيقته.

والمراد به : الوعد بحلول يوم جزاء بعد انقضاء هذه الحياة كما دل عليه تفريع (فَلا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا) الآية.

والغرور بضم الغين ويقال التغرير : إيهام النفع والصلاح فيما هو ضرّ وفساد. وتقدم عند قوله تعالى : (لا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا) في سورة آل عمران [١٩٦] وعند قوله: (زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُوراً) في سورة الأنعام [١١٢].

والمراد بالحياة : ما تشتمل عليه أحوال الحياة الدنيا من لهو وترف ، وانتهائها بالموت والعدم مما يسول للناس أن ليس بعد هذه الحياة أخرى.

وإسناد التغرير إلى الحياة ولو مع تقدير المضاف إسناد مجازي لأن الغارّ للمرء هو نفسه المنخدعة بأحوال الحياة الدنيا فهو من إسناد الفعل إلى سببه والباعث عليه.

والنهي في الظاهر موجه إلى الناس والمنهي عنه من أحوال الحياة الدنيا ، وليست الحياة الدنيا من فعل الناس ، فتعين أن المقصود النهي عن لازم ذلك الإسناد وهو الاغترار لمظاهر الحياة. ونظيره كثير في كلام العرب كقولهم : لا أعرفنّك تفعل كذا ، ولا أرينّك هاهنا ، (وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ) [المائدة : ٢] ، وتقدم نظيره في قوله تعالى : (لا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلادِ) آخر آل عمران [١٩٦].

وكذلك القول في قوله تعالى : (وَلا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللهِ الْغَرُورُ).

والغرور بفتح الغين : هو الشديد التغرير. والمراد به الشيطان ، قال تعالى : (فَدَلَّاهُما بِغُرُورٍ) [الأعراف : ٢٢]. وهو يغير الناس بتزيين القبائح لهم تمويها بما يلوح عليها من محاسن تلائم نفوس الناس.

والباء في قول (بِاللهِ) للملابسة وهي داخلة على مضاف مقدر أي ، بشأن الله ، أي

١١٧

يتطرق إلى نقض هدى الله فإن فعل غرّ يتعدّى إلى مفعول واحد فإذا أريد تعديته إلى بعض متعلقاته عدّي إليه بواسطة حرف الجرّ ، فقد يعدّى بالباء وهي باء الملابسة كقوله تعالى : (يا أَيُّهَا الْإِنْسانُ ما غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ) [الانفطار : ٦] وقوله في سورة الحديد [١٤] : (وَغَرَّكُمْ بِاللهِ الْغَرُورُ) وذلك إذا أريد بيان من الغرور ملابس له على تقدير مضاف ، أي بحال من أحواله. وتلك ملابسة الفعل للمفعول في الكلام على الإيجاز. وليست هذه الباء باء السببية.

وقد تضمنت الآية غرورين : غرورا يغترّه المرء من تلقاء نفسه ويزيّن لنفسه من المظاهر الفاتنة التي تلوح له في هذه الدنيا ما يتوهمه خيرا ولا ينظر في عواقبه بحيث تخفى مضارّه في بادئ الرأي ولا يظنّ أنه من الشيطان.

وغرورا يتلقاه ممن يغرّه وهو الشيطان ، وكذلك الغرور كله في هذا العالم بعضه يمليه المرء على نفسه وبعضه يتلقاه من شياطين الإنس والجن ، فترك تفصيل الغرور الأول الآن اعتناء بالأصل والأهم ، فإن كل غرور يرجع إلى غرور الشيطان. وسيأتي تفصيله عند قوله تعالى : (مَنْ كانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعاً) [فاطر : ١٠].

(إِنَّ الشَّيْطانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا إِنَّما يَدْعُوا حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحابِ السَّعِيرِ (٦))

لما كان في قوله : (وَلا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللهِ الْغَرُورُ) [فاطر : ٥] إبهام ما في المراد بالغرور عقب ذلك ببيانه بأن الغرور هو الشيطان ليتقرر المسند إليه بالبيان بعد الإبهام. فجملة (إِنَّ الشَّيْطانَ لَكُمْ عَدُوٌّ) تتنزل من جملة (وَلا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللهِ الْغَرُورُ) منزلة البيان من المبيّن فلذلك فصلت ولم تعطف ، وهذا من دلالة ترتيب الكلام على إرادة المتكلم إذ يعلم السامع من وقوع وصف الشيطان عقب وصف الغرور أن الغرور هو الشيطان.

وأظهر اسم الشيطان في مقام الإضمار للإفصاح عن المراد بالغرور أنه الشيطان وإثارة العداوة بين الناس والشيطان معنى من معاني القرآن تصريحا وتضمّنا ، وهو هنا صريح كما في قوله تعالى : (وَقُلْنَا اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ) [البقرة : ٣٦].

وتلك عداوة مودعة في جبلّته كعداوة الكلب للهرّ لأن جبلة الشيطان موكولة بإيقاع الناس في الفساد وأسوأ العواقب في قوالب محسّنة مزينة ، وشواهد ذلك تظهر للإنسان في نفسه وفي الحوادث حيثما عثر عليها وقد قال تعالى : (يا بَنِي آدَمَ لا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطانُ كَما

١١٨

أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ مِنَ الْجَنَّةِ) [الأعراف : ٢٧].

وتأكيد الخبر بحرف التأكيد لقصد تحقيقه لأنهم بغفلتهم عن عداوة الشيطان كحال من ينكر أن الشيطان عدوّ.

وتقديم (لَكُمْ) على متعلّقة للاهتمام بهذا المتعلّق فرع عنه أن أمروا باتخاذه عدوّا لأنهم إذا علموا أنه عدوّ لهم حقّ عليهم اتخاذه عدوّا وإلّا لكانوا في حماقة. وفيه تنبيه على وجوب عداوتهم الدعاة في الضلالة المستمدين من الشيطان.

والكلام على لفظ عدوّ تقدم عند قوله تعالى : (فَإِنْ كانَ مِنْ قَوْمٍ عَدُوٍّ لَكُمْ) في سورة النساء [٩٢].

واللام في (لَكُمْ) لام الاختصاص وهي التي تتضمنها الإضافة فلما قدم ما حقه أن يكون مضافا إليه صرح باللام ليحصل معنى الإضافة.

وإنما أمر الله باتخاذ العدوّ عدوا ولم يندب إلى العفو عنه والإغضاء عن عداوته كما أمر في قوله : (فَمَنْ عَفا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللهِ) [الشورى : ٤٠] ونحو ذلك مما تكرر في القرآن وكلام الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، لأن ما ندب إليه من العفو إنما هو فيما بين المسلمين بعضهم مع بعض رجاء صلاح حال العدوّ لأن عداوة المسلم عارضة لأغراض يمكن زوالها ولها حدود لا يخشى معها المضار الفادحة كما قال تعالى : (ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَداوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ) [فصلت : ٣٤] ولذلك لم يأمر الله تعالى بمثل ذلك مع أعداء الدين فقال : (لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِياءَ) [الممتحنة : ١] الآية ، بل لم يأمر الله تعالى بالعفو عن المحاربين من أهل الملّة لأن مناوأتهم غير عارضة بل هي لغرض ابتزاز الأموال ونحو ذلك فقال : (إِلَّا الَّذِينَ تابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ) [المائدة : ٣٤] فعداوة الشيطان لما كانت جبلّية لا يرجى زوالها مع من يعفو عنه لم يأمر الله إلّا باتخاذه عدوّا لأنه إذا لم يتخذ عدوّا لم يراقب المسلم مكايده ومخادعته. ومن لوازم اتخاذه عدوّا العمل بخلاف ما يدعو إليه لتجنب مكايده ولمقته بالعمل الصالح.

فالإيقاع بالناس في الضرّ لا يسلم منه أولياؤه ولا أعداؤه ولكن أولياءه يضمر لهم العداوة ويأنس بهم لأنه يقضي بهم وطره وأما أعداؤه فهو مع عداوته لهم يشمئزّ وينفر ويغتاظ من مقاومتهم وساوسه إلى أن يبلغ حدّ الفرار من عظماء الأمة فقد قال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم لعمر : «إيه يا بن الخطاب ما رآك الشيطان سالكا فجّا إلّا سلك فجّا غير فجّك». وورد في

١١٩

«الصحيح» «إذا أقيمت الصلاة أدبر الشيطان» الحديث. وورد «أنه ما ريء الشيطان أخسأ وأحقر منه في يوم عرفة لما يرى من الرحمة».

وأعقب الأمر باتخاذ الشيطان عدوّا بتحذير من قبول دعوته وحثّ على وجوب اليقظة لتغريره وتجنب توليه بأنه يسعى في ضرّ أوليائه وحزبه فيدعوهم إلى ما يوقعهم في السعير. وهذا يؤكد الأمر باتخاذه عدوّا لأن أشدّ الناس تضررا به هم حزبه وأولياؤه.

وجملة (إِنَّما يَدْعُوا حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحابِ السَّعِيرِ) تعليل لجملة (فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا). وجيء بها في صيغة حصر لانحصار دعوته في الغاية المذكورة عقبها بلام العلة كيلا يتوهم أن دعوته تخلو عن تلك الغاية ولو في وقت ما. وبهذا العموم الذي يقتضيه الحصر صارت الجملة أيضا في معنى التذييل لما قبلها كله.

ومقتضى وقوع فعل (يَدْعُوا) في حيّز القصر أن مفعوله وهو قوله : (حِزْبَهُ) هو المقصود من القصر ، أي أنه يدعو حزبه ولا يدعو غير حزبه ، والشيطان يدعو الناس كلّهم سواء في ذلك حزبه ومن لم يركن إلى دعوته إلّا أن أثر دعوته لا يظهر إلّا في الذين يركنون له فيصيرون حزبه قال تعالى له : (إِنَّ عِبادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ إِلَّا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغاوِينَ) [الحجر : ٤٢]. وحكى الله عن الشيطان بقوله : (لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ إِلَّا عِبادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ) [الحجر : ٣٩ ، ٤٠] فتعين أن في الكلام إيجاز حذف. والتقدير : إنما يدعو حزبه دعوة بالغة مقصده. والقرينة هي ما تقدم من التحذير ولو كان لا يدعو إلّا حزبه لما كان لتحذير غيرهم فائدة.

واللام في قوله : (لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحابِ السَّعِيرِ) يجوز أن تكون لام العلة فإن الشيطان قد يكون ساعيا لغاية إيقاع الآدميين في العذاب نكاية بهم ، وهي علة للدعوة مخفية في خاطره الشيطاني وإن كان لا يجهر بها لأن إخفاءها من جملة كيده وتزيينه ، ويجوز أن تكون اللام لام العاقبة والصيرورة مثل (فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَناً) [القصص : ٨] قال ابن عطية : لأنه لم يدعهم إلى السعير إنما اتفق أن صار أمرهم عن دعائه إلى ذلك.

و (السَّعِيرِ) : النار الشديدة ، وغلب في لسان الشرع على جنهم.

(الَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ (٧))

١٢٠