دروس في علم الأصول - ج ٢

آية الله السيّد محمّد باقر الصدر

دروس في علم الأصول - ج ٢

المؤلف:

آية الله السيّد محمّد باقر الصدر


المحقق: لجنة التحقيق التابعة للمؤتمر العالمي للإمام الشهيد الصدر
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مركز الأبحاث والدراسات التخصصية للشهيد الصدر
الطبعة: ١
الصفحات: ٦٠٨
الجزء ١ الجزء ٢

بيانٍ من الشارع ، إذ لا يحتمل صدوره واختفاؤه على النبيّ ، وأين هذا من عدم الوصول الناشئ من احتمال اختفاء البيان؟

وثالثاً : أنّ إطلاق العنان كما قد يكون بلحاظ أصلٍ عمليٍّ قد يكون بلحاظ عمومات الحلّ التي لا يرفع اليد عنها إلاّبمخصِّصٍ واصل.

ومنها : قوله تعالى : (وَمَا كَان اللهُ ليُضِلَّ قَوْماً بعدَ إذْ هَداهُم حتّى يُبَيِّنَ لَهُمْ ما يتَّقُونَ إنّ الله بكُلِّ شيءٍ عَليمٌ) (١).

وتقريب الاستدلال كما تقدّم في الحلقة السابقة (٢). وما يتّقى إن اريد به ما يُتّقى بعنوانه انحصر بالمخالفة الواقعية للمولى ، فتكون البراءة المستفادة من الآية الكريمة منوطةً بعدم بيان الواقع. وإن اريد به ما يُتّقى ولو بعنوانٍ ثانويٍّ ظاهريٍّ كعنوان المخالفة الاحتمالية كان دليل وجوب الاحتياط وارداً على هذه البراءة ؛ لأنّه بيان لما يُتّقى بهذا المعنى.

أدلّة البراءة من السنّة :

واستُدلّ من السنّة بروايات :

منها : ما روي عن الصادق عليه‌السلام من قوله : «كل شيءٍ مطلق حتّى يرد فيه نهي» (٣). وفي الرواية نقطتان لابدّ من بحثهما :

الاولى : أنّ الورود هل هو بمعنى الوصول ليكون مفاد الرواية البراءة بالمعنى المقصود ، أو الصدور لئلاّ يفيد في حالة احتمال صدور البيان من الشارع

__________________

(١) التوبة : ١١٤.

(٢) في بحث الاصول العمليّة ، تحت عنوان : القاعدة العمليّة الثانويّة في حالة الشكّ.

(٣) من لا يحضره الفقيه ١ : ٣١٧ ، الحديث ٩٣٧.

٣٤١

مع عدم وصوله؟

الثانية : أنّ النهي الذي جعل غايةً هل يشمل النهي الظاهري المستفاد من أدلّة وجوب الاحتياط ، أوْ لا؟

فعلى الأول تكون البراءة المستفادة ثابتةً بدرجةٍ يصلح دليل وجوب الاحتياط للورود عليها. وعلى الثاني تكون بنفسها نافيةً لوجوب الاحتياط.

أمّا النقطة الاولى فقد يقال بتردّد الورود بين الصدور والوصول ، وهو موجب للإجمال الكافي لإسقاط الاستدلال. وقد تُعيَّن إرادة الوصول بأحد وجهين :

الأوّل : ما ذكره السيّد الاستاذ (١) من أنّ المغيّى حكم ظاهري ، فيتعيّن أن تكون الغاية هي الوصول لا الصدور ؛ لأنّ كون الصدور غايةً يعني أنّ الإباحة لا تثبت إلاّمع عدم الصدور واقعاً ، ولا يمكن إحرازها إلاّبإحراز عدم الصدور ، ومع إحرازه لا شكّ فلا مجال للحكم الظاهري.

فإن قيل : لماذا لا يفترض كون المغيّى إباحةً واقعية؟

كان الجواب منه : أنّ الإباحة الواقعية والنهي الواقعي الذي جعل غايةً متضادّان ، فإن اريد تعليق الاولى على عدم الثاني حقيقةً فهو محال ؛ لاستحالة مقدّمية عدم أحد الضدين للضدّ الآخر. وإن اريد مجرّد بيان أنّ هذا الضد ثابت حيث لا يكون ضده ثابتاً فهذا لغو من البيان ؛ لوضوحه.

ويرد على هذا الوجه : أنّ النهي عبارة عن الخطاب الشرعي الكاشف عن التحريم ، وليس هو التحريم نفسه. والتضادّ نفسه لا يقتضي تعليق أحد الضدّين على عدم الضد الآخر ، ولا على عدم الكاشف عن الضد الآخر ، ولكن لا محذور

__________________

(١) مصباح الاصول ٢ : ٢٨٠.

٣٤٢

في أن توجد نكتة أحياناً تقتضي إناطة حكمٍ بعدم الكاشف عن الحكم المضادّ له ، ومرجع ذلك في المقام إلى أن تكون فعلية الحرمة بمبادئها منوطةً بصدور الخطاب الشرعي الدالِّ عليها ، نظير ما قيل من أنّ العلم بالحكم من طريقٍ مخصوصٍ يؤخذ في موضوعه.

الثاني : أنّ الورود يستبطن دائماً حيثية الوصول ، ولهذا لا يتصوّر بدون مورودٍ عليه. ولكنّ هذا المقدار لا يكفي أيضاً ، إذ يكفي لإشباع هذه الحيثية ملاحظة نفس المتعلّق موروداً عليه ، فالاستدلال بالرواية إذن غير تام ، وعليه فلا أثر للحديث عن النقطة الثانية.

ومنها : حديث الرفع المرويّ عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ونصّه : «رفع عن امّتي تسعة : الخطأ ، والنسيان ، وما اكرهوا عليه ، وما لا يعلمون ، وما لا يطيقون ، وما اضطرّوا اليه ، والحسد ، والطَيرة ، والتفكّر في الوسوسة في الخلق مالم ينطق بشفة» (١).

والبحث حول هذا الحديث يقع على ثلاث مراحل :

المرحلة الاولى : في فقه الحديث على وجه الإجمال. والنقطة المهمّة في هذه المرحلة تصوير الرفع الوارد فيه فإنّه لا يخلو عن إشكال ؛ لوضوح أنّ كثيراً ممّا فرض رفعه في الحديث امور تكوينيّة ثابتة وجداناً. ومن هنا كان لابدّ من بذل عنايةٍ في تصحيح هذا الرفع.

وذلك : إمّا بالتقدير بحيث يكون المرفوع أمراً مقدَّراً قابلاً للرفع حقيقةً ، كالمؤاخذة مثلاً.

وإمّا بجعل الرفع منصبَّاً على نفس الأشياء المذكورة ؛ ولكن بلحاظ

__________________

(١) وسائل الشيعة ١٥ : ٣٦٩ ، الباب ٥٦ من أبواب جهاد النفس ، الحديث الأوّل وفيه بدل «الخلق» : «الخلوة» وبدل «ما لم ينطق» : «ما لم ينطقوا».

٣٤٣

وجودها في عالم التشريع بالنحو المناسب من الوجود لموضوع الحكم ومتعلّقه في هذا العالم ، فشرب الخمر المضطرّ اليه يرفع وجوده التشريعي بما هو متعلَّق للحرمة ، وروح ذلك رفع الحكم.

وإمّا بصبِّ الرفع على نفس الأشياء المذكورة بوجوداتها التكوينية ، ولكن يفترض أنّ الرفع تنزيلي وليس حقيقياً ، فالشرب المذكور نُزِّل منزلة العدم خارجاً ، فلا حرمة ولا حدّ.

ولا شكّ في أنّ دليل الرفع على الاحتمالات الثلاثة جميعاً يعتبر حاكماً على أدلّة الأحكام الأوّلية باعتبار نظره اليها ، وهذا النظر : إمّا أن يكون إلى جانب الموضوع من تلك الأدلّة ، كما هو الحال على الاحتمال الثالث ، فيكون على وزان «لا ربا بين الوالد وولده».

أو يكون إلى جانب المحمول ـ أي الحكم ـ مباشرة ، كما هو الحال على الاحتمال الأول إذا قدّرنا الحكم ، فيكون على وزان «لا ضرر».

أو يكون إلى جانب المحمول ولكن منظوراً إليه بنظرٍ عنائي ، كما هو الحال على الاحتمال الثاني ؛ لأنّ النظر فيه إلى الثبوت التشريعي للموضوع ، وهو عين الثبوت التشريعي للحكم ، فيكون على وزان «لا رهبانية في الإسلام» (١).

والظاهر أنّ أبعد الاحتمالات الثلاثة الاحتمال الأول ؛ لأنّه منفيّ بأصالة عدم التقدير.

فإن قيل : كما أنّ التقدير عناية كذلك توجيه الرفع إلى الوجود التشريعي مثلاً.

كان الجواب : أنّ هذه عناية يقتضيها نفس ظهور حال الشارع في أنّ الرفع

__________________

(١) بحار الأنوار ٦٨ : ٣١٩ ، عن نهاية ابن الأثير ٢ : ٢٨٠.

٣٤٤

صادر منه بما هو شارع وبما هو انشاء لا إخبار ، بخلاف عناية التقدير فإنّها خلاف الأصل حتى في كلام الشارع بما هو مستعمل.

كما أنّ الظاهر أنّ الاحتمال الثاني أقرب من الثالث ؛ لأنّ بعض المرفوعات ممّا ليس له وجود خارجيّ ليتعقّل في شأنه رفعه بمعنى تنزيل وجوده الخارجي منزلة العدم ، كما في «ما لا يطيقون». فالمتعيّن إذن هو الاحتمال الثاني.

وتترتّب بعض الثمرات على هذه الاحتمالات الثلاثة :

فعلى الأول يكون المقدّر غير معلوم ، ولابدّ من الاقتصار فيه على القدر المتيقّن من الآثار ، خلافاً للآخَرَين ، إذ يتمسّك بناءً عليهما بإطلاق الرفع لنفي تمام الآثار.

كما أنّه على الثالث قد يستشكل في شمول حديث الرفع لِمَا إذا اضطرّ إلى الترك مثلاً ؛ لأنّ نفي الترك خارجاً عبارة عن وضع الفعل ، وحديث الرفع يتكفّل الرفع لا الوضع.

وخلافاً لذلك ما إذا أخذنا بالاحتمال الثاني ، إذ لا محذور حينئذٍ في تطبيق الحديث على الترك المضطرّ إليه ؛ لأنّ المرفوع ثبوته التشريعي فيما إذا كان موضوعاً أو متعلقاً لحكم ، ورفع هذا النحو من ثبوته ليس عبارةً عن وضع الفعل ، إذ ليس معناه إلاّعدم كونه موضوعاً أو متعلّقاً للحكم ، وهذا لا يعني جعل الفعل موضوعاً ، كما هو واضح.

وعلى أيّ حالٍ فحديث الرفع يدلّ على أنّ الانسان إذا شرب المسكر إضطراراً أو اكره على ذلك فلا حرمة ولا وجوب للحدّ. كما أنّه إذا اكره على معاملةٍ فلا يترتّب عليها مضمونها.

نعم ، يختصّ الرفع بما إذا كان في الرفع إمتنان على العباد ؛ لأنّ الحديث مسوق مساق الامتنان ، ومن أجل ذلك لا يمكن تطبيق الحديث على البيع

٣٤٥

المضطرّ إليه لإبطاله ؛ لأنّ إبطاله يعني إيقاع المضطرّ في المحذور ، وهو خلاف الامتنان ، بخلاف تطبيقه على البيع المكره عليه فإنّ إبطاله يعني تعجيز المكرِه عن التوصّل إلى غرضه بالإكراه.

المرحلة الثانية : في فقرة الاستدلال ، وهي : «رفع مالا يعلمون» وكيفية الاستدلال بها.

وتوضيح الحال في ذلك : أنّ الرفع هنا إمّا واقعي ، وإمّا ظاهري ، وقد يقال : إنّ الاستدلال على المطلوب تامّ على التقديرين ؛ لأنّ المطلوب إثبات إطلاق العنان وإيجاد معارضٍ لدليل وجوب الاحتياط لو تمَّ ، وكلا الأمرين يحصل بإثبات الرفع الواقعي أيضاً ، كما يحصل بالظاهري.

ولكنّ الصحيح : عدم اطّراد المطلوب على تقدير حمل الرفع على الواقعي ، إذ كثيراً ما يتّفق العلم أو قيام دليلٍ على عدم اختصاص التكليف المشكوك ـ على تقدير ثبوته ـ بالعالم ، ففي مثل ذلك يجب الالتزام بتخصيص حديث الرفع مع الحمل على الواقعية ، خلافاً لِمَا إذا حمل على الرفع الظاهري.

نعم ، يكفي للمطلوب عدم ظهور الحديث في الرفع الواقعي ، إذ حتّى مع الإجمال يصحّ الرجوع إلى حديث الرفع في الفرض المذكور ؛ لعدم إحراز وجود المعارض أو المخصِّص لحديث الرفع حينئذٍ.

وعلى أيّ حالٍ فقد يقال : إنّ ظاهر الرفع كونه واقعياً ؛ لأنّ الحمل على الظاهري يحتاج إلى عنايةٍ : إمّا بجعل المرفوع وجوب الاحتياط تجاه مالا يعلم ـ لا نفسه ـ وهو خلاف الظاهر جدّاً. وإمّا بتطعيم الظاهرية في نفس الرفع ، بأن يفترض أنّ التكليف له وضعان ورفعان : واقعي ، وظاهري ، فوجوب الاحتياط وضع ظاهريّ للتكليف الواقعي ، ونفي هذا الوجوب رفع ظاهريّ له. وكلّ ذلك عناية ، فيتعيّن الحمل على الرفع الواقعي.

والجواب على ذلك بوجهين :

٣٤٦

الوجه الأول : ما عن المحقّق العراقي (١) ـ قدّس الله روحه ـ من : أنّ الحديث لمَّا كان امتنانياً ، والامتنان يرتبط برفع التكليف الواقعي المشكوك ببعض مراتبه ـ أي برفع وجوب الاحتياط من ناحيته ، سواء رفعت المراتب الاخرى أوْ لا ـ فلا يكون الرفع في الحديث شاملاً لتلك المراتب ، فالامتنان قرينة محدِّدة للمقدار المرفوع.

ويمكن الاعتراض على هذا الوجه : بأنّ الامتنان وإن كان يحصل بنفي إيجاب الاحتياط ولا يتوقّف على نفي الواقع ولكن لمّا كان نفي إيجاب الاحتياط بنفسه قد يكون بنفي الواقع رأساً أمكن أن تكون التوسعة الممتنّ بها مترتّبةً على نفي الواقع ولو بالواسطة ، ولا يقتضي ظهور الحديث في الامتنان سوى كون مفاده منشأً للتوسعة والامتنان ولو بالواسطة.

الوجه الثاني : أنّ الرفع اذا كان واقعياً فهذا يعني أخذ العلم بالتكليف فيه ، فإن كان بمعنى أخذ العلم بالتكليف المجعول قيداً فيه فهو مستحيل ثبوتاً ، كما تقدم. وإن كان بمعنى أخذ العلم بالجعل قيداً في المجعول فهو ممكن ثبوتاً ، ولكنّه خلاف ظاهر الدليل جدّاً ؛ لأنّ لازم ذلك أن يكون المرفوع غير المعلوم ؛ لأنّ الأول هو المجعول ، والثاني هو الجعل ، مع ظهور الحديث في أنّ العلم والرفع يتبادلان على مصبٍّ واحد ، وهذا بنفسه كافٍ لجعل الحديث ظاهراً في الرفع الظاهري ، وبذلك يثبت المطلوب.

المرحلة الثالثة : في شمول فقرة الاستدلال للشبهات الموضوعية والحكمية ، إذ قد يتراءى أنّه لا يتأتّى ذلك ، لأنّ المشكوك في الشبهة الحكمية هو التكليف ، والمشكوك في الشبهة الموضوعية الموضوع ، فليس المشكوك فيهما من سنخ واحد ليشملهما دليل واحد.

__________________

(١) مقالات الاصول ٢ : ١٦٢ ـ ١٦٣ ، ونهاية الأفكار ٣ : ٢١٣.

٣٤٧

والتحقيق : أنّ الشمول يتوقّف على أمرين :

أحدهما : تصوير جامعٍ مناسبٍ بين المشكوكين في الشبهتين ليكون مصبّاً للرفع.

والآخر : عدم وجود قرينةٍ في الحديث على الاختصاص.

أمّا الأمر الأول فقد قدّم المحقّقون تصويرين للجامع :

التصوير الأول : أنّ الجامع هو الشيء باعتباره عنواناً ينطبق على التكليف المشكوك في الشبهة الحكمية والموضوع المشكوك في الشبهة الموضوعية.

وقد اعترض صاحب الكفاية (١) على ذلك : بأنّ إسناد الرفع إلى التكليف حقيقي ، وإسناده إلى الموضوع مجازي ، ولا يمكن الجمع بين الإسنادين الحقيقي والمجازي.

وحاول المحقّق الأصفهاني (٢) أن يدفع هذا الاعتراض : بأنّ من الممكن أن يجتمع وصفا الحقيقية والمجازية في إسنادٍ واحدٍ باعتبارين ، فبما هو إسناد للرفع إلى هذه الحصّة من الجامع حقيقي ، وبما هو إسناد له إلى الاخرى مجازي.

وهذه المحاولة ليست صحيحة ، إذ ليس المحذور في مجرّد اجتماع هذين الوصفين في إسنادٍ واحد ، بل يُدّعى أنّ نسبة الشيء إلى ماهو له مغايرة ذاتاً لنسبة الشيء إلى غير ما هو له ، فإن كان الإسناد في الكلام مستعملاً لإفادة إحدى النسبتين اختصّ بما يناسبها. وإن كان مستعملاً لإفادتهما معاً فهو استعمال لهيئة الإسناد في معنيين ، ولا جامعَ حقيقيّ بين النسب لتكون الهيئة مستعملةً فيه.

والصحيح أن يقال : إنّ إسناد الرفع مجازيّ حتّى إلى التكليف ؛ لأنّ رفعه ظاهريّ عنائي ، وليس واقعياً.

__________________

(١) حاشية فرائد الاصول : ١٩٠.

(٢) نهاية الدراية ٤ : ٤٩.

٣٤٨

التصوير الثاني : أنّ الجامع هو التكليف ، وهو يشمل الجعل بوصفه تكليفاً للموضوع الكلّيّ المقدّر الوجود ، ويشمل المجعول بوصفه تكليفاً للفرد المحقَّق الوجود. وفي الشبهة الحكمية يشكّ في التكليف بمعنى الجعل ، وفي الشبهة الموضوعية يشكّ في التكليف بمعنى المجعول. وهذا تصوير معقول أيضاً بعد الإيمان بثبوت جعلٍ ومجعول ، كما عرفت سابقاً.

وأمّا الأمر الثاني : فقد يقال بوجود قرينةٍ على الاختصاص بالشبهة الموضوعية من ناحية وحدة السياق ، كما قد يدّعى العكس. وقد تقدم الكلام عن ذلك في الحلقة السابقة (١) واتّضح أنّه لا قرينة على الاختصاص ، فالإطلاق تام.

وهناك روايات اخرى استدلّ بها للبراءة ، تقدّم الكلام عن جملةٍ منها في الحلقة السابقة (٢) ، وعن قصور دلالتها ، أو عدم شمولها للشبهات الحكمية ، فلاحظ.

كما يمكن التعويض عن البراءة بالاستصحاب ، وذلك بإجراء استصحاب عدم جعل التكليف ، أو استصحاب عدم فعلية التكليف المجعول. وزمان الحالة السابقة بلحاظ الاستصحاب الأول بداية الشريعة ، وبلحاظ الاستصحاب الثاني زمان ما قبل البلوغ مثلاً ، بل قد يكون زمان ما بعد البلوغ أيضاً ، كما إذا كان المشكوك تكليفاً مشروطاً وتحقّق الشرط (٣) بعد البلوغ فبالإمكان استصحاب عدمه الثابت قبل ذلك.

__________________

(١) في بحث الاصول العمليّة ، تحت عنوان : القاعدة العمليّة الثانويّة في حالة الشكّ.

(٢) في نفس البحث وتحت نفس العنوان.

(٣) حصل في بعض الطبعات تصرّف في هذه العبارة بتبديل جملة «وتحقّق الشرط» بتعبير «وشكّ في الشرط» والصحيح ما أثبتناه طبقاً للطبعة الاولى وللنسخة الخطيّة الواصلة إلينا ، وهو المناسب للمعنى المراد أيضاً ، فلا تغفل.

٣٤٩

٢ ـ الاعتراضات العامّة

ويعترض على أدلّة البراءة المتقدمة باعتراضين أساسيّين :

أحدهما : أنّها معارَضة بأدلّةٍ تدلّ على وجوب الاحتياط ، بل هذه الأدلّة حاكمة عليها ؛ لأنّها بيان للوجوب ، وتلك تتكفّل جعل البراءة في حالة عدم البيان.

والاعتراض الآخر : أنّ أدلّة البراءة تختصّ بموارد الشكّ البدوي ، والشبهات الحكمية ليست مشكوكاتٍ بدوية ، بل هي مقرونة بالعلم الإجمالي بثبوت تكاليف غير معيّنةٍ في مجموع تلك الشبهات.

أمّا الاعتراض الأول فنلاحظ عليه عدّة نقاط :

الاولى : أنّ ما استُدلّ به على وجوب الاحتياط ليس تاماً ، كما يظهر باستعراض الروايات التي ادُّعيت دلالتها على ذلك. وقد تقدّم في الحلقة السابقة (١) استعراض عددٍ مهمٍّ منها مع مناقشة دلالتها.

نعم ، جملة منها تدلّ على الترغيب في الاحتياط والحثّ عليه ، ولا كلام في ذلك.

الثانية : أنّ أدلّة وجوب الاحتياط المدّعاة ليست حاكمةً على أدلّة البراءة المتقدّمة ؛ لِمَا اتّضح سابقاً من أنّ جملةً منها تثبت البراءة المنوطة بعدم وصول الواقع ، فلا يكون وصول وجوب الاحتياط رافعاً لموضوعها ، بل يحصل التعارض حينئذٍ بين الطائفتين من الأدلّة.

__________________

(١) في بحث الاصول العملية ، تحت عنوان : الاعتراضات على أدلّة البراءة.

٣٥٠

الثالثة : إذا حصل التعارض بين الطائفتين فقد يقال بتقديم أدلّة وجوب الاحتياط ؛ لأنّ ما يعارضها من أدلّة البراءة القرآنية الآية الاولى ، على أساس الإطلاق في اسم الموصول فيها للتكليف ، وهذا الإطلاق يقيَّد بأدلّة وجوب الاحتياط. وما يعارضها من أدلّة البراءة في الروايات حديث الرفع ، وهي أخصّ منه أيضاً ؛ لورودها في الشبهات الحكمية ، وشموله للشبهات الحكمية والموضوعية ، فيقيّد بها.

ولكنّ التحقيق : أنّ النسبة بين أدلّة وجوب الاحتياط والآية الكريمة هي العموم من وجه ؛ لشمول تلك الأدلّة موارد عدم الفحص ، واختصاص الآية بموارد الفحص ، كما تقدم عند الكلام عن دلالتها (١) ، فهي كما تعتبر أعمَّ بلحاظ شمولها للفعل والمال كذلك تعتبر أخصَّ بلحاظ ما ذكرناه ، ومع التعارض بالعموم من وجهٍ يقدَّم الدليل القرآني لكونه قطعياً.

كما أنَّ النسبة بين أدلّة وجوب الاحتياط وحديث الرفع العموم من وجهٍ أيضاً ؛ لعدم شموله مواردالعلم الإجمالي ، وشمول تلك الأدلّة لها ، ويقدَّم حديث الرفع في مادة الاجتماع والتعارض ؛ لكونه موافقاً لإطلاق الكتاب ومخالفه معارض له.

ولو تنزّلنا عمّا ذكرناه ممّا يوجب ترجيح دليل البراءة وافترضنا التعارض والتساقط أمكن الرجوع إلى البراءة العقلية على مسلك قاعدة قبح العقاب بلا بيان ، وأمكن الرجوع إلى دليل الاستصحاب ، كما أوضحنا ذلك في الحلقة السابقة (٢).

__________________

(١) ضمن استعراض أدلّة البراءة الشرعيّة ، تحت عنوان : أدلّة البراءة من الكتاب.

(٢) في نهاية ما جاء تحت عنوان : الاعتراضات على أدلّة البراءة.

٣٥١

وأمّا الاعتراض الثاني بوجود العلم الإجمالي فقد اجيب عليه بجوابين :

الجواب الأول : أنّ العلم الإجمالي المذكور منحلّ بالعلم الإجمالي بوجود التكاليف في دائرة أخبار الثقات ؛ وفقاً لقاعدة انحلال العلم الإجمالي الكبير بالعلم الإجمالي الصغير ؛ لتوفّر كلا شرطَي القاعدة فيها ، فإنّ أطراف العلم الصغير بعض أطراف الكبير ، ولا يزيد عدد المعلوم بالعلم الكبير على عدد المعلوم بالعلم الصغير ؛ ومع الانحلال تكون الشبهة خارج نطاق العلم الصغير بدوية ، فتجري البراءة في كلّ شبهةٍ لم يقم على ثبوت التكليف فيها أمارة معتبرة من أخبار الثقات ونحوها ، وهذا هو المطلوب.

وهذا الجواب ليس تامّاً ، إذ كما يوجد علم إجماليّ صغير بوجود التكاليف في نطاق الأمارات المعتبرة من أخبار الثقات ونحوها كذلك يوجد علم إجماليّ صغير بوجود التكاليف في نطاق الأمارات غير المعتبرة ، إذ لا يحتمل ـ عادةً وبحساب الاحتمالات ـ كذبها جميعاً. فهناك إذن علمان إجماليان صغيران والنطاقان وإن كانا متداخلين جزئياً ـ لأنّ الأمارات المعتبرة وغير المعتبرة قد تجتمع ـ ولكن مع هذا يتعذّر الانحلال ؛ لأنّ المعلومين بالعِلمين الإجماليّين الصغيرين إن لم يكن من المحتمل تطابقهما المطلق فهذا يعني أنّ عدد المعلوم من التكاليف في مجموع الشبهات أكبر من عدد المعلوم بالعلم الإجمالي الصغير

المفترض في دائرة أخبار الثقات ، وبذلك يختلّ الشرط الثاني من الشرطين المتقدمين لقاعدة انحلال العلم الإجمالي الكبير بالصغير.

وإن كان من المحتمل تطابقهما المطلق فشرطا القاعدة متوفّران بالنسبة إلى كلٍّ من العِلمين الإجماليّين الصغيرين في نفسه ، فافتراض أنّ أحدهما يوجب الانحلال دون الآخر بلا موجب.

الجواب الثاني : أنّ العلم الإجمالي الذي تضمّ أطرافه كلّ الشبهات يسقط عن المنجِّزية باختلال الركن الثالث من الأركان الأربعة التي يتوقّف عليها

٣٥٢

تنجيزه ، وقد تقدّم شرحها في الحلقة السابقة (١) ؛ وذلك لأنّ جملةً من أطرافه قد تنجّزت فيها التكاليف بالأمارات والحجج الشرعية المعتبرة من ظهور آيةٍ وخبر ثقةٍ واستصحابٍ مثبتٍ للتكليف ، وفي كلّ حالة من هذا القبيل تجري البراءة في بقية الأطراف ، ويسمّى ذلك بالانحلال الحكمي ، كما تقدّم.

وقد قيل في تقريب فكرة الانحلال الحكمي في المقام ـ كما عن السيّد الاستاذ (٢) ـ بأنّ العلم الإجمالي متقوّم بالعلم بالجامع والشكّ في كلّ طرف ، ودليل حجّية الأمارةالمثبتة للتكليف في بعض الأطراف لمّا كان مفاده جعل الطريقية فهو يلغي الشكّ في ذلك الطرف ويتعبّد بعدمه ، وهذا بنفسه إلغاء تعبّديّ للعلم الإجمالي.

ويرد على هذا التقريب : أنّ الملاك في وجوب الموافقة القطعية للعلم الإجمالي هو التعارض بين الاصول في أطرافه ، كما تقدم (٣) ، وليس هو العلم الإجمالي بعنوانه ، فلا أثر للتعبّد بإلغاء هذا العنوان ، وإنّما يكون تأثيره عن طريق رفع التعارض ، وذلك بإخراج موارد الأمارات المثبتة للتكليف عن كونها مورداً لأصالة البراءة ؛ لأنّ الأمارة حاكمة على الأصل ، فتبقى الموارد الاخرى مجرىً لأصل البراءة بدون معارض ، وبذلك يختلّ الركن الثالث ويتحقّق الانحلال الحكمي ، من دون فرقٍ بين أن نقول بمسلك جعل الطريقية وإلغاء الشكّ بدليل الحجّية ، أوْ لا.

__________________

(١) في بحث العلم الإجمالي من أبحاث الاصول العمليّة تحت عنوان : تحديد أركان هذه القاعدة.

(٢) مصباح الاصول ٢ : ٣٠٦ ـ ٣٠٧.

(٣) في بحث العلم الإجمالي من أبحاث الاصول العمليّة من الحلقة الثانية ، تحت عنوان : تحديد أركان هذه القاعدة.

٣٥٣

٣ ـ تحديد مفاد البراءة

وبعد أن اتَّضح أنّ البراءة تجري عند الشكّ ؛ لوجود الدليل عليها وعدم المانع ، يجب أن نعرف أنّ الضابط في جريانهاأن يكون الشكّ في التكليف ؛ لأنّ هذا هو موضوع دليل البراءة. وامّا إذا كان التكليف معلوماً والشكّ في الامتثال فلا تجري البراءة ، وإنّما تجري أصالة الاشتغال ؛ لأنّ الشغل اليقيني يستدعي الفراغ اليقيني.

وهذا واضح على مسلكنا المتقدم (١) القائل بأنّ الامتثال والعصيان ليسا من مسقطات التكليف ، بل من أسباب انتهاء فاعليته ، إذ على هذا المسلك لا يكون الشكّ في الامتثال شكّاً في فعلية التكليف ، فلا موضوع لدليل البراءة بوجه.

وأمّا إذا قيل بأنّ الامتثال من مسقطات التكليف فالشكّ فيه شكّ في التكليف لا محالة. ومن هنا قد يتوهّم تحقّق موضوع البراءة وإطلاق أدلتها لمثل ذلك ، ولا بدّ للتخلّص من ذلك : إمّا من دعوى انصراف أدلّة البراءة إلى الشكّ الناشئ من غير ناحية الامتثال ، أو التمسّك بأصلٍ موضوعيٍّ حاكم ، وهو استصحاب عدم الامتثال.

ثمّ بعد الفراغ عن الفرق بين الشكّ في التكليف والشكّ في الامتثال ـ أي المكلَّف به ـ باتّخاذ الأول ضابطاً للبراءة والثاني ضابطاً لأصالة الاشتغال يقع الكلام في ميزان التمييز الذي به يعرف كون الشكّ في التكليف لكي تجري البراءة.

__________________

(١) في بحث الدليل العقلي من الحلقة الثانية ، تحت عنوان : مسقطات الحكم.

٣٥٤

وهذا الميزان إنما يراد في الشبهات الموضوعية التي قد يحتاج التمييز فيها إلى دقّة ، دون الشبهات الحكمية التي يكون الشكّ فيها عادةً شكّاً في التكليف ، كما هو واضح.

وتوضيح الحال في المقام : أنّ الشبهة الموضوعية تستبطن دائماً الشكّ في أحد أطراف الحكم الشرعي ، إذ لو كانت كلّها معلومةً فلا يتصور شكّ إلاّفي (١) أصل حكم الشارع ؛ وتكون الشبهة حينئذٍ حكمية.

وهذه الأطراف هي : عبارة عن قيد التكليف ، ومتعلّقه ، ومتعلّق المتعلّق له المسمّى بالموضوع الخارجي ، فحرمة شرب الخمر المشروطة بالبلوغ قيدها «البلوغ» ، ومتعلّقها «الشرب» ، ومتعلّق متعلّقها «الخمر». وخطاب «أكرم عالماً اذا جاء العيد» قيد الوجوب فيه «مجيء العيد» ، ومتعلّقه «الإكرام» ، ومتعلّق متعلّقه «العالم».

فإن كان الشكّ في صدور المتعلّق مع إحراز القيود والموضوع الخارجي فهذا شكّ في الامتثال بلا إشكالٍ وتجري أصالة الاشتغال ؛ لأنّ التكليف معلوم ولا شكّ فيه ؛ لبداهة أنّ فعلية التكليف غير منوطةٍ بوجود متعلّقه خارجاً ، وإنّما الشكّ في الخروج عن عهدته ، فلا مجال للبراءة.

وأمّا إذا كان الشكّ في الموضوع الخارجي ، كما إذا لم يحرز كون فردٍ ما مصداقاً للموضوع الخارجي : فإن كان إطلاق التكليف بالنسبة اليه شمولياً جرت البراءة ؛ لأنّ الشكّ حينئذٍ يستبطن الشكّ في التكليف الزائد ، كما اذا قيل : «لا تشرب الخمر» و «أكرم الفقراء» وشكّ في أنّ هذا خمر وفي أنّ ذاك فقير.

__________________

(١) في الطبعة الاولى : (من) بدلاً عن (في) والصحيح ما أثبتناه طبقاً لما ورد في النسخةالخطيّة الواصلة إلينا.

٣٥٥

وإن كان إطلاق التكليف بالنسبة اليه بدلياً لم تجرِ البراءة ، كما اذا ورد «أكرم فقيراً» وشُكّ في أنّ زيداً فقير فلا يجوز الاكتفاء بإكرامه ؛ لأنّ الشكّ المذكور لا يستبطن الشكّ في تكليفٍ زائد ، بل في سعة دائرة البدائل الممكن امتثال التكليف المعلوم ضمنها.

[وأمّا إذا كان الشكّ في قيود التكليف فتجري فيه البراءة لأنّ مردّه إلى الشكّ في فعليّة التكليف] (١).

وعلى هذا الضوء يعرف أنّ لجريان البراءة إذن ميزانان :

أحدهما : أن يكون المشكوك من قيود التكليف الدخيلة في فعليته.

والآخر : أن يكون إطلاق التكليف بالنسبة اليه شمولياً لا بدلياً.

فإن قيل : إنّ مردّ الشكّ في الموضوع الخارجي إلى الشكّ في قيد التكليف ؛ لأنّ الموضوع قيد فيه ؛ فحرمة شرب الخمر مقيّدة بوجود الخمر خارجاً ، فمع الشكّ في خمرية المائع يشكّ في فعلية التكليف المقيّد وتجري البراءة. وبهذا يمكن الاقتصار على الميزان الأول فقط ، كما يظهر من كلمات المحقّق النائيني قدّس الله روحه (٢).

كان الجواب : أنّه ليس من الضروري دائماً أن يكون متعلَّق المتعلَّق

__________________

(١) ما بين المعقوفتين لم يرد في الطبعة الاولى ولا في النسخة الخطّية الواصلة إلينا ، وإنّما هو مضمون عبارة كتبها المؤلّف قدس‌سره في حياته على نسخة معيّنة من تلك الطبعة بحضور أحد تلامذته الفضلاء على أمل إضافتها في الطبعات القادمة. إلاّأ نّه مع شديد الأسف قد فقدت تلك النسخة ـ ضمن ما فقد بظلم الظالمين ـ وقد تفضّل هذا التلميذ الوفيّ بصبّ ذلك المضمون بهذه العبارة عسى أن تكون وافيةً بمراد السيّد الشهيد رحمه‌الله.

(٢) فوائد الاصول ٣ : ٣٩١ ـ ٣٩٤.

٣٥٦

مأخوذاً قيداً في التكليف ، سواء كان إيجاباً أو تحريماً ، وإنّما قد تتّفق ضرورة ذلك فيما إذا كان أمراً غير اختياري ، كالقبلة مثلاً. وعليه فإذا افترضنا أنّ حرمة شرب الخمر لم يؤخذ وجود الخمر خارجاً قيداً فيها على نحوٍ كانت الحرمة فعليةً حتى قبل وجود الخمر خارجاً صحّ مع ذلك إجراء البراءة عند الشكّ في الموضوع الخارجي ؛ لأنّ إطلاق التكليف بالنسبة إلى المشكوك شمولي.

ولكن بتدقيقٍ أعمق نستطيع أن نردّ الشكّ في خمرية المائع إلى الشكّ في قيد التكليف ، لا عن طريق افتراض تقيّد الحرمة بوجود الخمر خارجاً ، بل بتقريب أنّ خطاب «لا تشرب الخمر» مرجعه إلى قضيةٍ شرطيةٍ مفادها : كلّما كان مائع مّا خمراً فلا تشربه ، فحرمة الشرب مقيّدة بأن يكون المائع خمراً ، سواء وجد خارجاً أوْ لا ، فإذا شك في أنّ الفقاع خمر أوْ لا ـ مثلاً ـ جرت البراءة عن الحرمة فيه.

وبهذا صحّ القول بأنّ البراءة تجري كلّما كان الشكّ في قيود التكليف ، وأنّ قيود التكليف تارةً تكون على وزان مفاد كان التامة ، بمعنى إناطته بوجود شيءٍ خارجاً ، فيكون الوجود الخارجي قيداً. واخرى يكون على وزان مفاد كان الناقصة ، بمعنى إناطته باتّصاف شيءٍ بعنوانٍ فيكون الاتّصاف قيداً ، فإذا شكّ في الوجود الخارجي على الأوّل أو في الاتّصاف على الثاني جرت البراءة ، وإلاّ فلا.

وعلى هذا الضوء نستطيع أن نعمِّم فكرة قيود التكليف التي هي على وزان مفاد كان الناقصة على عنوان الموضوع وعنوان المتعلّق معاً ، فكما أنّ حرمة الشرب مقيّدة بأن يكون المائع خمراً كذلك الحال في حرمة الكذب ، فإنّ ثبوتها لكلامٍ مقيَّدٌ بأن يكون الكلام كذباً ، فإذا شكّ في كون كلامٍ كذباً كان ذلك شكّاً في قيد التكليف.

٣٥٧

وهكذا نستخلص : أنّ الميزان الأساسي لجريان البراءة هو الشكّ في قيود التكليف ، وهي تارةً على وزان مفاد كان التامة كالشكّ في وقوع الزلزلة التي هي قيد لوجوب صلاة الآيات. واخرى على وزان مفاد كان الناقصة بالنسبة إلى عنوان الموضوع ، كالشكّ في خمرية المائع. وثالثةً على وزان كان الناقصة بالنسبة إلى عنوان المتعلق ، كالشكّ في كون الكلام الفلاني كذباً.

استحباب الاحتياط :

عرفنا سابقاً (١) عدم وجوب الاحتياط ، ولكنّ ذلك لا يحول دون القول بمطلوبيته شرعاً واستحبابه ؛ لِما ورد في الروايات (٢) من الترغيب فيه ، والكلام في ذلك يقع في نقطتين :

الاولى : في إمكان جعل الاستحباب المولوي على الاحتياط ثبوتاً ، إذ قد يقال بعدم إمكانه ، فيتعيّن حمل الأمر بالاحتياط على الإرشاد إلى حسنه عقلاً ، وذلك لوجهين :

الأول : أنّه لغو ؛ لأنّه إن اريد باستحباب الاحتياط الإلزام به فهو غير معقول. وإن اريد إيجاد محرِّكٍ غير إلزاميٍّ نحوه فهذا حاصل بدون جعل الاستحباب ، إذ يكفي فيه نفس التكليف الواقعي المشكوك بضمّ استقلال العقل بحسن الاحتياط واستحقاق الثواب عليه فإنّه محرِّك بمرتبةٍ غير إلزامية.

الثاني : أنّ حسن الاحتياط كحسن الطاعة ، وقبح المعصية واقع في مرحلةٍ

__________________

(١) ضمن أدلّة البراءة من الكتاب والسنّة.

(٢) وسائل الشيعة ٢٧ : ١٥٤ ، الباب ١٢ من أبواب صفات القاضي.

٣٥٨

متأخّرةٍ عن الحكم الشرعي. وقد تقدّم (١) المسلك القائل بأنّ الحسن والقبح الواقعين في هذه المرحلة لا يستتبعان حكماً شرعياً.

وكلا الوجهين غير صحيح :

أمّا الأول فلأنّ الاستحباب المولوي للاحتياط إمّا أن يكون نفسياً لملاكٍ وراء ملاكات الأحكام المحتاط بلحاظها ، وإمّا أن يكون طريقياً بملاك التحفّظ على تلك الأحكام. وعلى كلا التقديرين لا لغوية ؛ أمّا على النفسية فلأنّ محرّكيّته مغايرة سنخاً لمحرّكيّة الواقع المشكوك ، فتتأكّد إحداهما بالاخرى. وأمّا على الطريقية فلأنّ مرجعه حينئذٍ إلى إبراز مرتبةٍ من اهتمام المولى بالتحفّظ على الملاكات الواقعية في مقابل إبراز نفي هذه المرتبة من الاهتمام أيضاً ، ومن الواضح أنّ درجة محرّكيّة الواقع المشكوك تابعة لِمَا يحتمل أو يحرز من مراتب اهتمام المولى به.

وأمّا الوجه الثاني : فلو سلِّم المسلك المشار اليه فيه لا ينفع في المقام ، إذ ليس المقصود استكشاف الاستحباب الشرعي بقانون الملازمة واستتباع الحسن العقلي للطلب الشرعي ليرد ما قيل ، بل هو ثابت بدليله ، وإنمّا الكلام عن المحذور المانع عن ثبوته. ولهذا فإنّ متعلّق الاستحباب عبارة عن تجنّب مخالفة الواقع المشكوك ولو لم يكن بقصدٍ قربي ، والعقل إنمّا يستقلّ بحسن التجنّب الانقيادي والقربي خاصّة.

النقطة الثانية : أنّ الاحتياط متى ما أمكن فهو مستحبّ ، كما عرفت ، ولكن قد يقع البحث في إمكانه في بعض الموارد.

__________________

(١) في بحث الدليل العقلي من الحلقة الثانية ، تحت عنوان : الملازمة بين الحسن والقبح والأمر والنهي.

٣٥٩

وتوضيح ذلك : أنّه إذا احتمل كون فعلٍ ما واجباً عبادياً ؛ فإن كانت أصل مطلوبيته معلومةً أمكن الاحتياط بالإتيان به بقصد الأمر المعلوم تعلّقه به ، وإن لم يعلم كونه وجوباً أو استحباباً فإنّ هذا يكفي في وقوع الفعل عبادياً وقربياً. وأمّا إذا كانت أصل مطلوبيته غير معلومةٍ فقد يستشكل في إمكان الاحتياط حينئذٍ ؛ لأ نّه إن أتى به بلا قصدٍ قربيٍّ فهو لغو جزماً. وإن أتى به بقصد امتثال الأمر فهذا يستبطن افتراض الأمر والبناء على وجوده ، مع أنّ المكلّف شاكّ فيه ، وهو تشريع محرَّم ، فلا يقع الفعل عبادةً لتحصل به موافقة التكليف الواقعي المشكوك.

وقد يجاب على ذلك بوجود أمرٍ معلومٍ وهو نفس الأمر الشرعي الاستحبابي بالاحتياط ، فيقصد المكلف إمتثال هذا الأمر ، وكون الأمر بالاحتياط توصّلياً (لا تتوقّف موافقته على قصد امتثاله) لا ينافي ذلك ؛ لأنّ ضرورة قصد امتثاله في باب العبادات لم تنشأ من ناحية عبادية نفس الأمر بالاحتياط ، بل من عبادية ما يحتاط فيه.

ولكنّ التحقيق عدم الحاجة إلى هذا الجواب ؛ لأنّ التحرّك عن احتمال الأمر بنفسه قربيّ كالتحرّك عن الأمر المعلوم ، فلا يتوقّف وقوع الفعل عبادةً على افتراض أمرٍ معلوم ، بل يكفي الإتيان به رجاءً.

٣٦٠