دروس في علم الأصول - ج ٢

آية الله السيّد محمّد باقر الصدر

دروس في علم الأصول - ج ٢

المؤلف:

آية الله السيّد محمّد باقر الصدر


المحقق: لجنة التحقيق التابعة للمؤتمر العالمي للإمام الشهيد الصدر
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مركز الأبحاث والدراسات التخصصية للشهيد الصدر
الطبعة: ١
الصفحات: ٦٠٨
الجزء ١ الجزء ٢

الطهارة في الطرف الأول تعارض استصحاب الطهارة في الطرف الثاني ، ولا تدخل أصالة الطهارة للطرف الثاني في هذا التعارض ؛ لأنّها متأخّرة رتبةً عن الاستصحاب ومتوقّفة على عدمه فكيف تقع طرفاً للمعارضة في مرتبته؟!

وبكلمةٍ اخرى : أنّ المقتضي لها إثباتاً لا يتمّ إلاّبعد سقوط الأصل الحاكم وهو الاستصحاب ، والسقوط نتيجة المعارضة بينه وبين أصاله الطهارة في الطرف الأول ، وإذا كان الأصل متفرّعاً في اقتضائه للجريان على المعارضة فكيف يكون طرفاً فيها؟ وإذا استحال أن يكون طرفاً في تلك المعارضة سقط المتعارضان أولاً وجرى الأصل الطولي بلا معارض.

ومنها : ما إذا كان دليل الأصل شاملاً لكلا طرفي العلم الإجمالي بذاته ، وتوفّر دليل أصلٍ آخر لا يشمل إلاّأحد الطرفين.

ومثال ذلك : أن يكون كلّ من الطرفين مورداً للاستصحاب المؤمِّن ، وكان أحدهما خاصّةً مورداً لأصالة الطهارة ، ففي مثل ذلك يتعارض الاستصحابان ويتساقطان وتجري أصالة الطهارة بدون معارض ، سواء قلنا بالطولية بين الاستصحاب وأصالة الطهارة أو بالعرضية ؛ وذلك لأنّ أصالة الطهارة في طرفها لا يوجد ما يصلح لمعارضتها ، لا من دليل أصالة الطهارة نفسها ، ولا من دليل الاستصحاب.

أمّا الأول فلأنّ دليل أصالة الطهارة لا يشمل الطرف الآخر ـ بحسب الفرض ـ ليتعارض الأصلان.

وأمّا الثاني فلأنّ دليل الاستصحاب مبتلىً بالتعارض في داخله بين استصحابين ، والتعارض الداخلي في الدليل يوجب إجماله ، والمجمل لا يصلح أن يعارض غيره.

ومنها : أن يكون الأصل المؤمِّن في أحد الطرفين مبتلىً في نفس مورده

٣٨١

بأصلٍ معارضٍ منجّزٍ دون الأصل في الطرف الآخر.

ومثاله : أن يعلم إجمالاً بنجاسة أحد إناءين وكلّ منهما مجرىً لاستصحاب الطهارة في نفسه ، غير أنّ أحدهما مجرىً لاستصحاب النجاسة أيضاً ؛ لتوارد الحالتين عليه مع عدم العلم بالمتقدِّم والمتأخِّر منهما ، فقد يقال حينئذٍ بجريان استصحاب الطهارة في الطرف الآخر بلا معارض ؛ لأنّ استصحاب الطهارة الآخر ساقط بالمعارضة في نفس مورده باستصحاب النجاسة.

وقد يقال في مقابل ذلك : بأنّ التعارض يكون ثلاثياً ، فاستصحاب الطهارة المبتلى يعارض استصحابين في وقتٍ واحد. وتحقيق الحال متروك الى مستوىً أعمق من البحث.

وإذا صحّ جريان الأصل بلا معارضٍ في هذه الحالات كان ذلك تعبيراً عملياً عن الثمرة بين القول بالعلِّية والقول بالاقتضاء.

وقد تلخّص ممّا تقدم : أنّ العلم الإجمالي يستدعي حرمة المخالفة القطعية ، وأ نّه كلّما تعارضت الاصول الشرعية المؤمِّنة في أطرافه وتساقطت حكم العقل بوجوب الموافقة القطعية ؛ لتنجّز الاحتمال في كلّ شبهةٍ بعد بقائها بلا مؤمِّنٍ شرعيٍّ وفقاً لمسلك حقّ الطاعة. وحيث إنّ تعارض الاصول يستند الى العلم الإجمالي فيعتبر تنجّز جميع الأطراف من آثار نفس العلم الإجمالي.

ولافرق في منجِّزية العلم الإجمالي بين أن يكون المعلوم تكليفاً من نوعٍ واحدٍ أو تكليفاً من نوعين ، كما إذا علم بوجوب شيءٍ أو حرمة الآخر.

كما لا فرق أيضاً بين أن يكون المعلوم نفس التكليف أو موضوع التكليف ؛ لأنّ العلم بموضوع التكليف إجمالاً يساوق العلم الإجمالي بالتكليف ، ولكن على شرط أن يكون المعلوم بالإجمال تمام الموضوع للتكليف الشرعي ، وأمّا إذا كان جزء الموضوع للتكليف على كلّ تقديرٍ أو على بعض التقادير فلا يكون العلم

٣٨٢

منجّزاً ؛ لأنّه لا يساوق حينئذٍ العلم الإجمالي بالتكليف.

ومن هنا لا يكون العلم الإجمالي بنجاسة إحدى قطعتين من الحديد منجّزاً ، خلافاً للعلم الإجمالي بنجاسة أحد ماءين أو ثوبين.

أمّا الأول فلأنّ نجاسة قطعة الحديد ليست تمام الموضوع لتكليفٍ شرعي ، بل هي جزء موضوعٍ لوجوب الاجتناب عن الماء ـ مثلاً ـ والجزء الآخر ملاقاة الماء للقطعة الحديدية ، والمفروض عدم العلم بالجزء الآخر. وأمّا الثاني فلأنّ نجاسة الماء تمام الموضوع لحرمة شربه.

ومثل الأوّل العلم الإجمالي بنجاسة قطعةٍ حديديةٍ أو نجاسة الماء ؛ لأنّ المعلوم هنا جزء الموضوع على أحد التقديرين.

والضابط العامّ للتنجيز : أن يكون العلم الإجمالي مساوقاً للعلم الإجمالي بالتكليف الفعلي ، وكلّما لم يكن العلم الإجمالي كذلك فلا ينجّز ، وتجري الاصول المؤمِّنة في مورده بقدر الحاجة ، ففي مثال العلم بنجاسة قطعة الحديد أو الماء تجري أصالة الطهارة في الماء ، ولا تعارضها أصالة الطهارة في الحديد ، إذ لا أثرَ عمليٌّ لنجاسته فعلاً.

٣٨٣

٢ ـ أركان منجّزيّة العلم الإجمالي

نستطيع أن نستخلص ممّا تقدّم : أنّ قاعدة منجّزية العلم الإجمالي لها عدّة أركان :

١ وجود العلم بالجامع :

الركن الأول : وجود العلم بالجامع ، إذ لولا العلم بالجامع لكانت الشبهة في كلِّ طرفٍ بدويةً وتجري فيها البراءة الشرعية.

ولاشكّ في وفاء العلم بالجامع بالتنجيز فيما إذا كان علماً وجدانياً ، وأمّا إذا كان ما يعبَّر عنه بالعلم التعبّدي فلا بدّ من بحثٍ فيه.

ومثاله : أن تقوم البيّنة ـ مثلاً ـ على نجاسة أحد الإناءين ، فهل يطبَّق على ذلك قاعدة منجَّزية العلم الإجمالي أيضاً؟ وجهان :

فقد يقال بالتطبيق على أساس أنّ دليل الحجّية يجعل الأمارة علماً ، فيترتّب عليه آثار العلم الطريقي التي منها منجّزية العلم الإجمالي.

وقد يقال : بعدمه على أساس أنّ الاصول إنّما تتعارض إذا أدّى جريانها في كلّ الأطراف إلى الترخيص في المخالفة القطعية للتكليف الواقعي ، ولا يلزم ذلك في مورد البحث ؛ لعدم العلم بمصادفة البيّنة للتكليف الواقعي.

وكلا هذين الوجهين غير صحيح.

وتحقيق الحال في ذلك : أنّ البيّنة تارةً يفترض قيامها ابتداءً على الجامع ، واخرى يفترض قيامها على الفرد ثمّ تردّد موردها بين طرفين.

أمّا في الحالة الاولى فنواجه دليلين : أحدهما دليل حجّية الأمارة الذي

٣٨٤

ينجِّز مؤدّاها ، والآخر دليل الأصل الجاري في كلٍّ من الطرفين في نفسه ، وهما دليلان متعارضان ؛ لعدم إمكان العمل بهما معاً. والوجه الأول يفترض [الفراغ عن] تماميّة الدليل الأول ، ويرتِّب على ذلك عدم إمكان إجراء الاصول. والوجه الثاني لا يفترض الفراغ عن ذلك ، فيقول : لا محذور في جريانها.

والاتجّاه الصحيح هو حلّ التعارض القائم بين الدليلين.

فإن قيل : أليس دليل حجية الأمارة حاكماً على دليل الأصل؟!

كان الجواب : أنّ هذه الحكومة إنّما هي فيما إذا اتّحد موردهما ، لا في مثل المقام ، إذ تُلغي الأمارة تعبّداً الشكَّ بلحاظ الجامع. وموضوع الأصل في كلٍّ من الطرفين الشكّ فيه بالخصوص ، فلا حكومة ، بل لا بدّ من الاستناد إلى ميزانٍ آخر لتقديم دليل الحجّية على دليل الأصل ، من قبيل الأخصّية ، أو نحو ذلك ، وبعد افتراض التقديم نرتِّب عليه آثار العلم الإجمالي.

وأمّا في الحالة الثانية فالأصل ساقط في مورد الأمارة ؛ للتنافي بينهما وحكومة الأمارة عليه. ولمَّا كان موردها غير معيّنٍ ومردّداً بين طرفين فلا يمكن إجراء الأصل في كلٍّ من الطرفين ؛ للعلم بوجود الحاكم المسقط للأصل في أحدهما ، ولا مسوِّغ لإجرائه في أحدهما خاصّة ، وبهذا يتنجّز الطرفان معاً.

٢ ـ وقوف العلم على الجامع :

الركن الثاني : وقوف العلم على الجامع وعدم سرايته الى الفرد ، إذ لو كان الجامع معلوماً في ضمن فردٍ معيّن لكان علماً تفصيلياً لا إجمالياً ، ولمَا كان منجّزاً إلاّ بالنسبة الى ذلك الفرد بالخصوص. وحيثما يحصل علم بالجامع ثمّ يسري العلم الى الفرد يسمّى ذلك بانحلال العلم الإجمالي بالعلم بالفرد. وتعلّق العلم بالفرد له عدّة أنحاء :

٣٨٥

أحدها : أن يكون العلم المتعلّق بالفرد معيِّناً لنفس المعلوم بالإجمال ، بمعنى العلم بأنّ هذا الفرد هو نفس المعلوم الإجمالي المردّد. ولا شكّ حينئذٍ في سراية العلم من الجامع الى الفرد وفي حصول الانحلال.

ثانيها : أن لا يكون العلم بالفرد ناظراً إلى تعيين المعلوم الإجمالي مباشرة ، غير أنّ المعلوم الإجمالي ليس له أيّ علامةٍ أو خصوصيةٍ يحتمل أن تحول دون انطباقه على هذا الفرد ، كما إذا علم بوجود إنسانٍ في المسجد ثمّ علم بوجود زيد.

والصحيح هنا : سراية العلم من الجامع الى الفرد وحصول الانحلال أيضاً ، إذ يعود العِلمان معاً الى علمٍ تفصيليٍّ بزيدٍ وشكٍّ بدويٍّ في إنسانٍ آخر.

ثالثها : أن لا يكون العلم بالفرد ناظراً الى تعيين المعلوم الإجمالي ، ويكون للمعلوم الإجمالي علامة في نظر العالم غير محرزة التواجد في ذلك الفرد ، كما إذا علم بوجود إنسانٍ طويلٍ في المسجد ، ثمّ علم بوجود زيدٍ وهو لا يعلم أنّه طويل أوْ لا.

والصحيح هنا : عدم الانحلال ؛ لعدم إحراز كون المعلوم بالعلم الثاني مصداقاً للمعلوم بالعلم الأول بحيث يصحّ أن ينطبق عليه ، فلا يسري العلم من الجامع الإجمالي الى تحصُّصه ضمن الفرد.

رابعها : أن يكون العلم الساري الى الفرد تعبّدياً ، بأن قامت أمارة على ذلك بنحوٍ لو كانت علماً وجدانياً لحصل الانحلال.

وقد يتوهّم في مثل ذلك الانحلال التعبّدي بدعوى : أنّ دليل الحجّية يرتِّب كلّ آثار العلم على الأمارة تعبّداً ، ومن جملتها الانحلال.

ولكنّه توهّم باطل ؛ لأنّ مفاد دليل الحجّية إن كان هو تنزيل الأمارة منزلة العلم فمن الواضح أنّ التنزيل لا يمكن أن يكون ناظراً الى الانحلال ؛ لأنّه أثر تكوينيّ للعلم وليس بيد المولى توسيعه. وإن كان مفاد دليل الحجّية اعتبار الأمارة

٣٨٦

علماً على طريقةالمجاز العقلي فمن المعلوم أنّ هذا الاعتبار لا يترتّب عليه آثار العلم الحقيقي التي منها الانحلال ، وإنّما يترتّب عليه آثار العلم الاعتباري.

فإن قيل : نحن لا نريد بدليل الحجّية أن نثبت الانحلال الحقيقي بالتعّبد لكي يقال بأ نّه أثر تكويني تابع لعلّته ولا يحصل بالتعبّد تنزيلاً أو اعتباراً ، بل نريد استفادة التعبّد بالانحلال من دليل الحجّية ؛ لأنّ مفاده التعبّد بإلغاء الشكّ والعلم بمؤدَّى الأمارة ، وهذا بنفسه تعبّد بالانحلال ، فهو انحلال تعبّدي.

كان الجواب على ذلك : أنّ التعبّد المذكور ليس تعبّداً بالانحلال ، بل بما هو علّة للانحلال ، والتعبّد بالعلّة لا يساوق التعبّد بمعلولها.

أضف الى ذلك : أنّ التعبّد بالانحلال لا معنى له ولا أثر ؛ لأنّه إن اريد به التأمين بالنسبة الى الفرد الآخر بلاحاجةٍ الى إجراء أصلٍ مؤمِّنٍ فيه فهذا غير صحيح ؛ لأنّ التأمين عن كلّ شبهةٍ بحاجةٍ الى أصلٍ مؤمِّنٍ حتى ولو كانت بدوية ، وإن اريد بذلك التمكين من إجراء ذلك الأصل في الفرد الآخر فهذا يحصل بدون حاجةٍ إلى التعبّد بالانحلال ، وملاكه زوال المعارضة بسبب خروج مورد الأمارة عن كونه مورداً للأصل المؤمِّن ، سواء انشئ التعبّد بعنوان الانحلال ، أوْ لا.

٣ ـ شمول الأصل المؤمّن لجميع الأطراف :

الركن الثالث : أن يكون كلّ من الطرفين مشمولاً في نفسه وبقطع النظر عن التعارض الناشئ من العلم الاجمالي لدليل الأصل المؤمِّن ، إذ لو كان أحدهما ـ مثلاً ـ غير مشمولٍ لدليل الأصل المؤمِّن لسببٍ آخر لجرى الأصل المؤمِّن في الطرف الآخر بدون محذور.

وهذه الصياغة إنّما تلائم إنكار القول بعلِّية العلم الإجمالي لوجوب الموافقة القطعية ، إذ بناءً على هذا الإنكار يتوقّف تنجّز وجوب الموافقة القطعية على

٣٨٧

التعارض بين الاصول المؤمِّنة.

وأمّا على القول بالعلّية ـ كما هو مذهب المحقّق العراقي (١) ـ فلا تصحّ الصياغة المذكورة ؛ لأنّ مجرّد كون الأصل في أحد الطرفين لا معارض له لا يكفي لجريانه ؛ لأنّه ينافي علّية العلم الإجمالي لوجوب الموافقة القطعية ، فلا بدّ من افتراض نكتةٍ في الرتبة السابقة تعطِّل العلم الإجمالي عن التنجيز ، ليُتاحَ للأصل المؤمِّن أن يجري.

ومن هنا صاغ المحقّق المذكور الركن الثالث صياغةً اخرى ، وحاصلها : أنّ تنجيز العلم الإجمالي يتوقّف على صلاحيّته لتنجيز معلومه على جميع تقاديره ، فإذا لم يكن صالحاً لذلك فلا يكون منجِّزاً. وعلى هذا فكلّما كان المعلوم الإجمالي على أحد التقديرين غير صالحٍ للتنجّز بالعلم الإجمالي لم يكن العلم الإجمالي منجّزاً ؛ لأنّه لا يصلح للتنجيز إلاّعلى بعض تقادير معلومه ، وهذا التقدير غير معلوم ، فلا أثر عقلاً لمثل هذا العلم الإجمالي.

ويترتّب على ذلك : أنّ العلم الإجمالي لا يكون منجّزاً إذا كان أحد طرفيه منجّزاً بمنجّزٍ آخر غير العلم الإجمالي من أمارةٍ أو أصلٍ منجّز ، وذلك لأنّ العلم الإجمالي في هذه الحالة لا يصلح لتنجيز معلومه على تقدير انطباقه على مورد الأمارة أو الأصل ؛ لأنّ هذا المورد منجّز في نفسه ، والمنجّز يستحيل أن يتنجّز بمنجّزٍ آخر ؛ لاستحالة اجتماع علّتين مستقلّتين على أثرٍ واحد. وهذا يعني أنّ العلم الإجمالي غير صالحٍ لتنجيز معلومه على كلّ حال ، فلا يكون له أثر.

والفرق العملي بين هاتين الصياغتين يظهر في حالة عدم تواجد أصلٍ مؤمِّنٍ في أحد الطرفين ، وعدم ثبوت منجّز فيه ايضاً سوى العلم الإجمالي ، فإنّ

__________________

(١) وقد مضى تحت عنوان : جريان الاصول في بعض الأطراف وعدمه.

٣٨٨

الركن الثالث حسب الصياغة الاولى لا يكون ثابتاً ، ولكنّه حسب الصياغة الثانية ثابت. والصحيح هو الصياغة الاولى.

٤ ـ إمكان وقوع المخالفة القطعيّة بسبب البراءة :

الركن الرابع : أن يكون جريان البراءة في كلٍّ من الطرفين مؤدِّياً الى الترخيص في المخالفة القطعية وإمكان وقوعها خارجاً على وجهٍ مأذونٍ فيه ، إذ لو كانت المخالفة القطعية ممتنعةً على المكلف حتى مع الإذن والترخيص لقصورٍ في قدرته فلا محذور في إجراء البراءة في كلٍّ من الطرفين.

وركنيّة هذا الركن مبنيّة على إنكار علّية العلم الإجمالي لوجوب الموافقة القطعية ، وأمّا بناءً على العلّية فلا دخل لذلك في التنجيز ، إذ يكفي في امتناع جريان الاصول حينئذٍ كونها مؤدِّيةً للترخيص ولو في بعض الأطراف.

وهناك صياغة اخرى لهذا الركن تبنّاها السيد الاستاذ ، وهي : أن يكون جريان الاصول مؤدِّياً الى الترخيص القطعي في المخالفة الواقعية ولو لم يلزم الترخيص في المخالفة القطعية ، وقد تقدّم الحديث عن ذلك بالقدر المناسب (١).

كما أنّ الصياغة المطروحة فعلاً لهذا الركن سيأتي مزيد تحقيقٍ وتعديلٍ بالنسبة اليها في مبحث الشبهة غير المحصورة إن شاء الله تعالى.

__________________

(١) ضمن الردّ على شبهة جريان الترخيصات المشروطة في أطراف العلم الإجمالي ، تحت عنوان : جريان الاصول في بعض الأطراف وعدمه.

٣٨٩

٣ ـ تطبيقات منجّزيّة العلم الإجمالي

عرفنا في ضوء ما تقدّم الأركان الأربعة لتنجيز العلم الإجمالي ، فكلّما انهدم واحد منها بطلت منجِّزيته. وكلّ الحالات التي قد يدّعى سقوط العلم الإجمالي فيها عن المنجِّزية لا بدّ من افتراض انهدام أحد الأركان فيها ، وإلاّ فلا مبرِّر للسقوط.

وفي مايلي نستعرض عدداً مهمّاً من هذه الحالات لدراستها من خلال ذلك :

١ ـ زوال العلم بالجامع :

الحالة الاولى : أن يزول العلم بالجامع رأساً ولذلك صور :

الصورة الاولى : أن يظهر للعالم خطؤه في علمه ، وأنّ الإناءين اللذَين اعتقد بنجاسة أحدهما ـ مثلاً ـ طاهران ، ولا شكّ هنا في السقوط عن المنجِّزية ؛ لانهدام (١) الركن الأول من الأركان المتقدمة.

الصورة الثانية : أن يتشكّك العالم فيما كان قد علم به ، فيتحوّل علمه بالجامع الى الشكّ البدوي ، والأمر فيه كذلك أيضاً.

ولكن قد يتوهّم بقاء الأطراف على منجِّزيتها ؛ لأنّ الاصول المؤمِّنة تعارضت فيها في حال وجود العلم الإجمالي ، وهو وإن زال ولكنّها بعد تعارضها وتساقطها لا موجب لعودها ، فتظلّ الشبهة في كلّ طرفٍ بلا أصلٍ مؤمِّنٍ فتتنجَّز.

__________________

(١) كذا في النسخة الخطيّة الواصلة إلينا. وفي الطبعة الاولى : لانعدام.

٣٩٠

وقد يجاب على هذا التوهّم : بأنّ الشكّ الذي سقط أصله بالمعارضة هو الشكّ في انطباق المعلوم بالإجمال ، وهذا الشكّ زال بزوال العلم الإجمالي ووجد بدلاً عنه الشكّ البدوي ، وهو فرد جديد من موضوع دليل الأصل ، ولم يقع الأصل المؤمِّن عنه طرفاً للمعارضة ، فيجري بدون إشكال.

وفي كلٍّ من هاتين الصورتين يزول العلم بحدوث الجامع رأساً.

الصورة الثالثة : أن يزول العلم بالجامع بقاءً وإن كان العلم بحدوثه لا يزال مستمرّاً ، وهذه الصورة تتحقّق على أنحاء :

النحو الأول : أن يكون للجامع المعلوم أمد محدَّد بحيث يرتفع متى ما استوفاه ، فإذا استوفى أمده لم يعدْ هناك علم بالجامع بقاء ، بل يعلم بارتفاعه وإن كان العلم بحدوثه ثابتاً.

النحو الثاني : أن يكون الجامع على كلّ تقديرٍ متيقّناً الى فترة ومشكوك البقاء بعد ذلك ، وفي مثل ذلك يزول أيضاً العلم بالجامع بقاءً ولكن يجري استصحاب الجامع المعلوم ، ويكون الاستصحاب حينئذٍ بمثابة العلم الإجمالي.

النحو الثالث : أن يكون الجامع المعلوم مردّداً بين تكليفين ، غير أنّ أحدهما على تقدير تحقّقه يكون أطول مكثاً في عمود الزمان من الآخر ، كما إذا علم بحرمة الشرب من هذا الإناء الى الظهر أو بحرمة الشرب من الإناء الآخر إلى المغرب ، فبعد الظهر لا علم بحرمة أحد الإناءين فعلاً ، فهل يجوز الشرب من الإناء الآخر حينئدٍ لزوال العلم الإجمالي؟

والجواب بالنفي ؛ وذلك لعدم زوال العلم الإجمالي ، وعدم خروج الطرف الآخر عن كونه طرفاً له ، فإنّ الجامع المردّد بين التكليف القصير والتكليف الطويل الأمد لا يزال معلوماً حتى الآن كما كان ، فالتكليف الطويل في الإناء الآخر بكلِّ ما يضمّ من تكاليف انحلالية بعدد الآنات الى المغرب طرف للعلم الإجمالي.

٣٩١

ونسمّي مثل ذلك بالعلم الإجمالي المردّد بين القصير والطويل ، وحكمه أنّه ينجِّز الطويل على امتداده.

النحو الرابع : أن يكون التكليف في أحد طرفي العلم الإجمالي مشكوك البقاء على تقدير حدوثه ، وقد يقال في مثل ذلك بسقوط المنجزية ؛ لأنّ فترة البقاء المشكوكة من ذلك التكليف لا موجب لتنجّزها بالعلم الإجمالي ؛ لأنّها ليست طرفاً للعلم الإجمالي ، ولا بالاستصحاب ؛ إذ لا يقين بالحدوث ليجري الاستصحاب.

وقد يجاب على ذلك : بأنّ الاستصحاب يجري على تقدير الحدوث بناءً على أنّه متقوّم بالحالة السابقة لا باليقين بها ، ومعه يحصل العلم الإجمالي إمّا بثبوت الاستصحاب في هذا الطرف ، أو ثبوت التكليف الواقعي في الطرف الآخر ، وهو كافٍ للتنجيز.

٢ ـ الاضطرار إلى بعض الأطراف :

الحالة الثانية : أن يعلم إجمالاً بنجاسة أحد الطعامين ويكون مضطرّاً فعلاً إلى تناول أحدهما ، ولا شكّ في أنّ المكلف يسمح له بتناول ما يضطرّ اليه ، وإنّما نريد أن نعرف أنّ العلم الإجمالي هل يكون منجِّزاً لوجوب الاجتناب عن الطعام الآخر ، أوْ لا؟

وهذه الحالة لها صورتان :

إحداهما : أن يكون الاضطرار متعلّقاً بطعامٍ معيَّن.

والاخرى : أن يكون بالإمكان دفعه بأيِّ واحدٍ من الطعامين.

أمّا الصورة الاولى فالعلم الإجمالي فيها يسقط عن المنجِّزية ؛ لزوال الركن الأول ، حيث لا يوجد علم إجمالي بجامع التكليف.

٣٩٢

والسبب في ذلك : أنّ نجاسة الطعام المعلومة إجمالاً جزء الموضوع للحرمة ، والجزء الآخر عدم الاضطرار ، وحيث إنّ المكلف يحتمل أنّ النجس المعلوم هو الطعام المضطرّ اليه بالذات فلا علم له بالتكليف الفعلي ، فتجري البراءة عن حرمة الطعام غير المضطرّ اليه وغيرها من الاصول المؤمِّنة بدون معارض ؛ لأنّ حرمة الطعام المضطرّ اليه غير محتملةٍ ليحتاج الى الأصل بشأنها ، ولكن هذا على شرط أن لا يكون الاضطرار متأخّراً عن العلم الإجمالي ، وإلاّ بقي على المنجِّزية ؛ لانّه يكون من حالات العلم الإجمالي المردّد بين الطويل والقصير ، إذ يعلم المكلف بتكليفٍ فعليٍّ في هذا الطرف قبل حدوث الاضطرار ، أو في الطرف الآخر حتّى الآن.

وقد يفترض الاضطرار قبل العلم ولكنّه متأخّر عن زمان النجاسة المعلومة ، كما إذا اضطرّ ظهراً الى تناول أحد الطعامين ، ثمّ علم ـ قبل أن يتناول ـ أنّ أحدهما تنجّس صباحاً ، وهنا العلم بجامع التكليف الفعلي موجود ، فالركن الأول محفوظ ولكنّ الركن الثالث غير محفوظ ؛ لأنّ التكليف على تقدير انطباقه على مورد الاضطرار فقد انتهى أمده ، ولا أثر لجريان البراءة عنه فعلاً ، فتجري البراءة في الطرف الآخر بلا معارض.

ويطَّرد ما ذكرناه في غير الاضطرار ايضاً من مسقطات التكليف ، كتلف بعض الأطراف أو تطهيرها ، كما إذا علم إجمالاً بنجاسة أحد إناءين ، ثمّ تلف أحدهما أو غسل بالماء ، فإنّ العلم الإجمالي لا يسقط عن المنجِّزية بطروّ المسقطات المذكورة بعده ، ويسقط عن المنجِّزية بطروّها مقارنةً للعلم الإجمالي أو قبله.

وأمّا الصورة الثانية فلا شكّ في سقوط وجوب الموافقة القطعية بسبب الاضطرار المفروض. وإنّما الكلام في جواز المخالفة القطعية ، فقد يقال بجوازها ،

٣٩٣

كما هو ظاهر المحقّق الخراساني (١) رحمه‌الله. وبرهان ذلك يتكوَّن ممّا يلي :

أولاً : أنّ العلم الإجمالي بالتكليف علّة تامّة لوجوب الموافقة القطعية.

ثانياً : أنّ المعلول هنا ساقط.

ثالثاً : يستحيل سقوط المعلول بدون سقوط العلّة.

فينتج : أنّه لابدّ من الالتزام بسقوط العلم الإجمالي بالتكليف ، وذلك بارتفاع التكليف ، فلا تكليف مع الاضطرار المفروض ، وبعد ارتفاعه وإن كان التكليف محتملاً في الطرف الآخر ولكنّه حينئذٍ احتمال بدويّ مؤمَّن عنه بالأصل.

والجواب عن ذلك :

أولاً : بمنع علِّية العلم الإجمالي بالتكليف لوجوب الموافقة القطعية.

ثانياً : بأنّ ارتفاع وجوب الموافقة القطعية الناشئ من العجز والاضطرار لا ينافي العلّية المذكورة ؛ لأنّ المقصود منها عدم إمكان جعل الشكّ مؤمِّناً ؛ لأنّ الوصول بالعلم تامّ ، ولا ينافي ذلك وجود مؤمِّنٍ آخر وهو العجز ، كما هو المفروض في حالة الاضطرار.

ثالثاً : لو سلَّمنا فقرات البرهان الثلاث فهي إنّما تُنتج لزوم التصرّف في التكليف المعلوم على نحوٍ لا يكون الترخيص في تناول أحد الطعامين لدفع الاضطرار إذناً في ترك الموافقة القطعية له ، وذلك يحصل برفع اليد عن إطلاق التكليف لحالةٍ واحدة ، وهي حالة تناول الطعام المحرَّم وحده من قبل المكلف المضطرِّ مع ثبوته في حالة تناول كلا الطعامين معاً ، فمع هذا الافتراض إذا تناول المكلف المضطرّ العالم إجمالاً أحد الطعامين فقط لم يكن قد ارتكب مخالفةً احتماليةً على الإطلاق ، واذا تناول كلا الطعامين فقد ارتكب مخالفةً قطعيةً

__________________

(١) كفاية الاصول : ٤٠٩.

٣٩٤

للتكليف المعلوم فلا يجوز.

٣ ـ انحلال العلم الإجمالي بالتفصيلي :

لكلّ علمٍ إجماليٍّ سبب ، والسبب تارةً يكون مختصّاً في الواقع بطرفٍ معيَّنٍ من أطراف العلم الإجمالي ، واخرى تكون نسبته الى الطرفين أو الأطراف على نحوٍ واحد.

ومثال الأول : أن تَرى قطرة دمٍ تقع في أحد الإناءين ولا تميِّز الإناء بالضبط ، فتعلم إجمالاً بنجاسة أحد الإناءين ؛ والسبب هو قطرة الدم ، وهي في الواقع مختصّة بأحد الطرفين. ويمكن أن تؤخذ قيداً في المعلوم بأن تقول : إنّي أعلم إجمالاً بنجاسةٍ ناشئةٍ من قطرة الدم التي رأيتها ، لا بنجاسةٍ كيفما اتّفقت.

ويترتّب على ذلك : أنّه إذا حصل علم تفصيلي بنجاسة إناءٍ معيّنٍ من الإناءين : فإن كان هذا العلم التفصيلي بنفس سبب العلم الإجمالي ، بأن علمت تفصيلاً بأنّ القطرة قد سقطت هنا انحلّ العلم الإجمالي بالعلم التفصيلي وانهدم الركن الثاني ، إذ يكون من النحو الأول من الأنحاء الأربعة المتقدمة عند الحديث عن ذلك الركن.

وإن كان هذا العلم التفصيلي بسببٍ آخر ، كما إذا رأيتَ قطرةً اخرى من الدم تسقط في الإناء المعيّن لم ينحلّ العلم الإجمالي بالعلم التفصيلي ؛ لأنّ المعلوم التفصيلي ليس مصداقاً للمعلوم الإجمالي لينطبق عليه ويسري العلم من الجامع الى الفرد بخصوصه. وكذلك الأمر إذا شكّ في أنّ سبب العلم التفصيلي هو نفس تلك القطرة أو غيرها ، حيث لا يحرز حينئذٍ كون المعلوم التفصيلي مصداقاً للمعلوم الإجمالي ، ويدخل في النحو الثالث من الأنحاء الأربعة المتقدمة عند الحديث عن الركن الثاني.

٣٩٥

ومثال الثاني ـ أي ما كانت نسبة سبب العلم الإجمالي فيه الى الأطراف متساوية ـ أن يحصل علم إجمالي بنجاسة أحد الإناءات التي هي في معرض استعمال الكافر أو الكلب لمجرّد استبعاد أن يمرّ زمان طويل بدون أن يستعمل بعضها ، فإنّ هذا الاستبعاد نسبته الى الأطراف على نحوٍ واحد ، ويترتّب على ذلك : أنّه لا يصلح أن يكون قيداً محصّصاً (١) للمعلوم الإجمالي. وعليه فإذا حصل العلم التفصيلي بنجاسة إناءٍ معيَّنٍ انحلّ العلم الإجمالي حتماً ؛ لانهدام الركن الثاني ؛ وذلك لأنّ المعلوم التفصيلي مصداق للمعلوم الإجمالي جزماً ، حيث لم يتحصّص (٢) المعلوم الإجمالي بقيدٍ زائد ، ومعه يسري العلم من الجامع الى الفرد ، ويدخل في النحو الثاني من الأنحاء الأربعة المتقدمة ، عند الحديث عن الركن الثاني.

وفي كلّ حالةٍ يثبت فيها الانحلال يجب أن يكون المعلوم التفصيلي والمعلوم الإجمالي متّحدين في الزمان ، وأمّا إذا كان المعلوم التفصيلي متأخّراً زماناً فلا انحلال للعلم الإجمالي حقيقة ؛ لعدم كون المعلوم التفصيلي حينئذٍ مصداقاً للمعلوم الإجمالي.

ولا يشترط في الانحلال الحقيقي وانهدام الركن الثاني التعاصر بين نفس العلمين ، فإنّ العلم التفصيلي المتأخّر زماناً يوجب الانحلال أيضاً إذا احرز كون معلومه مصداقاً للمعلوم بالإجمال ؛ لأنّ مجرّد تأخّر العلم التفصيلي مع إحراز المصداقية لا يمنع عن سراية العلم قهراً من الجامع الى الخصوصية ، وهو معنى الانحلال.

__________________

(١) كذا في النسخة الخطّية الواصلة إلينا. وفي الطبعة الاولى : «مخصّصاً» بالخاء المعجمة.

(٢) كذا أيضاً في النسخة الخطّية. وفي الطبعة الاولى : «يتخصّص» بالخاء المعجمة.

٣٩٦

٤ ـ الانحلال الحكمي بالأمارات والاصول :

اذا جرت في حقّ المكلف أمارات أو اصول شرعية منجِّزة للتكليف في بعض أطراف العلم الإجمالي فلا انحلال حقيقي ولا تعبّدي ، كما تقدم (١) ، ولكن ينهدم الركن الثالث بإحدى صيغتيه المتقدمتين اذا توفّرت شروط :

أحدها : أن لا يقلّ البعض المنجَّز بالأمارة أو الأصل الشرعي عن عدد المعلوم بالإجمال من التكاليف.

ثانيها : أن لا يكون المنجِّز الشرعي من أمارةٍ أو أصلٍ ناظراً الى تكليفٍ مغايرٍ لما هو المعلوم إجمالاً ، كما إذا علم إجمالاً بحرمة أحد الإناءين بسبب نجاسته وقامت البيّنة على حرمة أحدهما المعيَّن بسبب الغصب.

ثالثها : أن لا يكون وجود المنجِّز الشرعي متأخِّراً عن حدوث العلم الإجمالي.

فكلّما توفّرت هذه الشروط الثلاثة انهدم الركن الثالث ؛ لجريان الأصل المؤمِّن في غير مورد المنجِّز الشرعي بلا معارضٍ وفقاً للصيغة الاولى ، ولعدم صلاحية العلم الإجمالي للاستقلال في تنجيز معلومه على كلّ تقديرٍ وفقاً للصيغة الثانية. ويسمّى السقوط عن المنجِّزية في هذه الحالة بالانحلال الحكمي تمييزاً له عن الانحلال الحقيقي والانحلال التعبّدي.

وأمّا إذا اختلّ الشرط الأول فالعلم الإجمالي منجِّز للعدد الزائد ، والاصول بلحاظه متعارضة.

وإذا اختلّ الشرط الثاني فالأمر كذلك ؛ لأنّ ما ينجِّزه العلم في مورد الأمارة غير ما تنجِّزه الأمارة نفسها.

__________________

(١) في بيان الركن الثاني من أركان منجّزية العلم الإجمالي.

٣٩٧

وإذا اختلّ الشرط الثالث كان العلم الإجمالي منجِّزاً والركن الثالث محفوظاً ؛ لأنّ الاصول المؤمِّنة في غير مورد الأمارة والأصل الشرعي المنجِّز معارضة بالاصول المؤمِّنة التي كانت تجري في موردهما قبل ثبوتهما.

وبكلمةٍ اخرى : إذا أخذنا من مورد المنجِّز الشرعي فترة ما قبل ثبوت هذا المنجِّز ومن غيره الفترة الزمنية على امتدادها حصلنا على علمٍ إجماليٍّ تامّ الأركان فينجِّز.

ومن هنا يعرف أنّ انهدام الركن الثالث بالمنجِّز الشرعي مرهون بعدم تأخّر نفس المنجِّز عن العلم ، ولا يكفي عدم تأخّر مؤدّى الأمارة ـ مثلاً ـ مع تأخّر قيامها ؛ وذلك لأنّ سقوط العلم الإجمالي عن التنجيز في حالات قيام المنجِّز الشرعي في بعض أطرافه إنّما هو بسبب المنجِّزية الشرعية بإحدى الصيغتين السابقتين ، والمنجِّزية لا تبدأ إلاّمن حين قيام الأمارة أو جريان الأصل ، سواء كان المؤدّى مقارناً لقيامها أو سابقاً على ذلك.

وبالمقارنة بين الانحلال الحكمي ـ كما شرحناه هنا ـ والانحلال الحقيقي ـ كما شرحناه آنفاً (١) ـ يظهر أنّهما يختلفان في هذه النقطة ، فبينما العبرة في الانحلال الحكمي بعدم تأخّر نفس المنجِّز الشرعي عن العلم الإجمالي نلاحظ أنّ العبرة في الانحلال الحقيقي كانت بملاحظة جانب المعلوم التفصيلي وعدم تأخّره عن زمان المعلوم الإجمالي ؛ وذلك لأنّ ميزانه سراية العلم من الجامع الى الفرد ، وهي لازم قهريّ لانطباق المعلوم الإجمالي على المعلوم التفصيلي ومصداقية هذا لذاك ، ولا دخل لتأريخ العلمين في ذلك ، فمتى ما اجتمع العلمان ـ ولو بقاءً ـ وحصل الانطباق المذكور حصل الانحلال الحقيقي.

__________________

(١) تحت عنوان انحلال العلم الإجمالي بالتفصيلي.

٣٩٨

٥ ـ اشتراك علمين إجماليّين في طرف :

قد يفترض أنّ أحد طرفي العلم الإجمالي طرف في علمٍ اجماليٍّ آخر ، فإن كان العلمان متعاصرين فلا شكّ في تنجيزهما معاً وتلقّي الطرف المشترك التنجّز منهما معاً ؛ لأنّ مرجع العلمين الى العلم بثبوت تكليفٍ واحدٍ في الطرف المشترك ، أو تكليفين في الطرفين الآخرين.

وأمّا إذا كان أحدهما سابقاً على الآخر فقد يقال : إنّ العلم المتأخّر يسقط عن المنجّزية ؛ لاختلال الركن الثالث : إمّا بصيغته الاولى ، وذلك بتقريب أنّ الطرف المشترك قد سقط عنه الأصل المؤمِّن سابقاً بتعارض الاصول الناشئ من العلم الإجمالي السابق ، فالأصل في الطرف المختصّ بالعلم الإجمالي المتأخّر يجري بلا معارض. وإِمّا بصيغته الثانية ، وذلك بتقريب أنّ الطرف المشترك قد تنجِّز بالعلم السابق ، فلا يكون العلم المتأخّر صالحاً لمنجِّزيته ، فهو إذن لا يصلح لمنجِّزية معلومه على كلّ تقدير.

ولكنّ الصحيح : عدم السقوط عن المنجّزية وبطلان التقريبين السابقين ؛ وذلك لأنّ العلم الإجمالي الأول لا يوجب التنجيز في كلّ زمانٍ وتعارض الاصول في الأطراف كذلك إلاّبوجوده الفعلي في ذلك الزمان ، لا بمجرّد حدوثه ولو في زمانٍ سابق ، وعليه فتنجّز الطرف المشترك بالعلم الاجمالي السابق في زمان حدوث العلم المتأخر انما يكون بسبب بقاء ذلك العلم السابق الى ذلك الحين لا بمجرّد حدوثه ، وهذا يعني أنّ تنجّز الطرف المشترك فعلاً له سببان ، أحدهما :

بقاء العلم السابق. والآخر : حدوث العلم المتأخر ، واختصاص أحد السببين بالتأثير دون الآخر ترجيح بلامرجح فينجَّزان معاً ، وبذلك يبطل التقريب الثاني.

كما أنّ الأصل المؤمِّن في الطرف المشترك يقتضي الجريان في كلّ آن ،

٣٩٩

وهذا الاقتضاء يؤثّر مع عدم المعارض ، ومن الواضح أنّ جريان الأصل المؤمِّن في الطرف المشترك في الفترة الزمنية السابقة على حدوث العلم الإجمالي المتأخّر كان معارضاً بأصلٍ واحد ـ وهو الأصل في الطرف المختصّ بالعلم السابق ـ غير أنّ جريانه في الفترة الزمنية اللاحقة يوجد له معارضان ، وهما الأصلان الجاريان في الطرفين المختصّين معاً ، وبذلك يبطل التقريب الأول ، فالعلمان الإجماليان منجِّزان معاً.

٦ ـ حكم ملاقي أحد الأطراف :

إذا علم المكلف إجمالاً بنجاسة أحد المائعين ولاقى الثوب أحدهما المعيَّن حصل علم إجمالي آخر بنجاسة الثوب أو المائع الآخر ، وهذا ما يسمّى بملاقي أحد أطراف الشبهة. وفي مثل ذلك قد يقال بعدم تنجيز العلم الإجمالي الآخر ، فلا يجب الاجتناب عن الثوب وإن وجب الاجتناب عن المائعين ، وذلك لأحد تقريبين :

الأول : تطبيق فرضية العلمين الإجماليّين ـ المتقدِّم والمتأخِّر ـ في المقام ، بأن يقال : إنّه يوجد لدى المكلف علمان إجماليان بينهما طرف مشترك وهو المائع الآخر ، فينجّز السابق منهما دون المتأخّر.

وهذا التقريب إذا تمّ يختصّ بفرض تأخّر الملاقاة أو العلم بها على الأقلّ عن العلم بنجاسة أحد المائعين ، ولكنّه غير تامّ ، كما تقدم.

الثاني : أنّ الركن الثالث منهدم ؛ لأنّ أصل الطهارة يجري في الثوب بدون معارض ؛ وذلك لأنّه أصل طوليّ بالنسبة الى أصل الطهارة في المائع الذي لاقاه الثوب ـ ولنسمِّه المائع الأول ـ فأصالة الطهارة في المائع الأول تعارض أصالة الطهارة في المائع الآخر ، ولا تدخل أصالة الطهارة للثوب في هذا التعارض ؛

٤٠٠