دروس في علم الأصول - ج ٢

آية الله السيّد محمّد باقر الصدر

دروس في علم الأصول - ج ٢

المؤلف:

آية الله السيّد محمّد باقر الصدر


المحقق: لجنة التحقيق التابعة للمؤتمر العالمي للإمام الشهيد الصدر
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مركز الأبحاث والدراسات التخصصية للشهيد الصدر
الطبعة: ١
الصفحات: ٦٠٨
الجزء ١ الجزء ٢

يتوقّف على حجّية تلك العمومات في العموم ، وهذه الحجّية تتوقّف على عدم وجود مخصِّصٍ لها ، وعدم وجود مخصِّصٍ يتوقّف على كونها رادعةً عن السيرة ، وإِلاّ لكانت مخصَّصةً بالسيرة ولسقطت حجّيتها في العموم.

والجواب على ذلك : أنّ توقف الردع بالعمومات على حجّيتها في العموم صحيح ، غير أنّ حجّيتها كذلك لا تتوقّف على عدم وجود مخصِّص لها ، بل على عدم إحراز المخصِّص ، وعدم إحراز المخصِّص حاصل فعلاً مادامت السيرة لم يعلم بإمضائها ، فلا دور.

الجواب الثالث : ما ذكره المحقّق الإصفهاني (١) من : أنّ ظهور العمومات المدّعى ردعها لا دليل على حجّيته ؛ لأنّ الدليل على حجّية الظهور هو السيرة العقلائية ، ومع انعقادها على العمل بخبر الثقة لا يمكن انعقادها على العمل بالظهور المانع عن ذلك ؛ لأنّ العمل بالمتناقضين غير معقول.

وهذا الجواب غريب ؛ لأنّ انعقاد السيرة على العمل بالظهور معناه انعقادها على اكتشاف مراد المولى بالظهور وتنجّزه بذلك ، وهذا لا ينافي استقرار عملٍ آخر لهم على خلاف ما تنجَّز بالظهور ، فالعمل العقلائيّ بخبر الثقة ينافي مدلول الظهور في العمومات الناهية ، ولا ينافي نفس بنائهم على العمل بهذا الظهور وجعله كاشفاً وحجّة.

فالصحيح في الجواب أن يقال : إنّه إن ادُّعي كون العمومات رادعةً عن سيرة المتشرِّعة المعاصرين للمعصومين من صحابةٍ ومحدِّثين فهذا خلاف الواقع ؛ لأ نّنا أثبتنا في التقريب الأول أنّ هذه السيرة كانت قائمةً فعلاً على الرغم من تلك العمومات ، وهذا يعني أنّها لم تكن كافيةً للردع وإقامة الحجّة.

__________________

(١) نهاية الدراية ٣ : ٢٥٣ ـ ٢٥٤.

١٨١

وإن ادُّعي كونها رادعةً عن السيرة العقلائية بالتقريب الثاني فقد يكون له وجه. ولكنّ الصحيح مع هذا عدم صلاحيتها لذلك أيضاً ؛ لأنّ مثل هذا الأمر المهمّ لا يكتفى في الردع عنه عادةً بإطلاق دليلٍ من هذا القبيل.

٣ ـ دلالة العقل على حجّية الخبر

وأمّا دليل العقل فله شكلان :

أ ـ الشكل الأول : ويتلخّص في الاستدلال على حجّية الروايات الواصلة إلينا عن طريق الثقات من الرواة بالعلم الإجمالي.

وبيانه : أنّا نعلم إجمالاً بصدور عددٍ كبيرٍ من هذه الروايات عن المعصومين عليهم‌السلام ، والعلم الإجماليّ منجِّز بحكم العقل كالعلم التفصيلي ؛ على ما تقدّم في حلقةٍ سابقة (١) ، فتجب موافقته القطعية ، وذلك بالعمل بكلّ تلك الروايات التي يعلم إجمالاً بصدور قسطٍ وافرٍ منها.

وقد اعترض على هذا الدليل باعتراضين :

الأول : نقضيّ ، وحاصله : أنّه لو تمّ هذا لأمكن بنفس الطريقة إثبات حجّية كلّ خبرٍ حتّى أخبار الضعاف ؛ لأنّنا إذا لاحظنا مجموع الأخبار بما فيها الأخبار الموثّقة وغيرها نجد أنّا نعلم إجمالاً أيضاً بصدور عددٍ كبيرٍ منها ، فهل يلتزم بوجوب العمل بكلّ تلك الأخبار تطبيقاً لقانون منجِّزية العلم الإجمالي؟

والجواب على هذا النقض : ما ذكره صاحب الكفاية (٢) من انحلال أحد

__________________

(١) تجد ذلك في الحلقة الثانية بل في هذه الحلقة أيضاً في بحث حجّية القطع ، تحت عنوان : العلم الإجمالي.

(٢) كفاية الاصول : ٣٥٠.

١٨٢

العلمين الإجماليّين بالآخر ؛ وفقاً لقاعدة انحلال العلم الإجماليّ الكبير بالعلم الإجماليّ الصغير ـ المتقدّمة في الحلقة السابقة (١) ـ إذ يوجد لدينا علمان إجماليّان :

الأول : العلم الذي ابرز من خلال هذا النقض ، وأطرافه كلّ الأخبار.

والثاني : العلم المستدلّ به ، وأطرافه أخبار الثقات.

ولانحلال علمٍ إجماليٍّ بعلمٍ إجماليٍّ ثانٍ وفقاً للقاعدة التي أشرنا اليها شرطان ، كما تقدَّم (٢) في محلّه :

أحدهما : أن تكون أطراف الثاني بعض أطراف الأول.

والآخر : أن لا يزيد المعلوم بالأول عن المعلوم بالثاني ، وكلا الشرطين منطبقان في المقام ، فإنّ العلم الإجماليّ الثاني في المقام ـ أي العلم المستدلّ به على الحجّية ـ أطرافه بعض أطراف العلم الأول الذي ابرز في النقض ، والمعلوم في الأول لا يزيد على المعلوم فيه ، فينحلّ الأول بالثاني وفقاً للقاعدة المذكورة.

الثاني : جواب حَلِّي ، وحاصله : أنّ تطبيق قانون تنجيز العلم الإجماليّ لا يحقِّق الحجّية بالمعنى المطلوب في المقام ، وذلك :

أوّلاً : لأنّ هذا العلم لا يوجب لزوم العمل بالأخبار المتكفِّلة للأحكام الترخيصية ؛ لأنّ العلم الإجماليّ إنّما يكون منجِّزاً وملزماً في حالة كونه علماً إجمالياً بالتكليف لا بالترخيص ، بينما الحجّية المطلوبة هي حجّية خبرالثقة ،

__________________

(١) في بحث الاصول العمليّة ، ضمن الحديث عن قاعدة منجّزية العلم الإجمالي ، تحت عنوان : تحديد أركان هذه القاعدة.

(٢) الحلقة الثانية ، في نفس البحث وتحت نفس العنوان.

١٨٣

بمعنى كونه منجِّزاً إذا أنبأ عن التكليف ، ومعذِّراً إذا أنبأ عن الترخيص.

وثانياً : لأنّ العمل بأخبار الثقات على أساس العلم الإجماليّ إنّما هو من أجل الاحتياط للتكاليف المعلومة بالإجمال. ومن الواضح أنّ الاحتياط لا يسوِّغ أن يجعل خبر الثقة مخصِّصاً لعامٍّ أو مقيِّداً لمطلقٍ في دليلٍ قطعيِّ الصدور ، فإنّ التخصيص والتقييد معناه رفع اليد عن عموم العام ، أو إطلاق المطلق في دليلٍ قطعيِّ الصدور ومعلوم الحجّية.

ومن الواضح أنّه لا يجوز رفع اليد عمّا هو معلوم الحجّية إلاّبحجّيةٍ اخرى تخصيصاً أو تقييداً ، فما لم تثبت حجّية خبر الثقة لا يمكن التخصيص بها أو التقييد. فإذا ورد مطلق قطعيّ الصدور يدلّ على الترخيص في اللحوم مثلاً ، وورد خبر ثقةٍ على حرمة لحم الأرنب لم يكن بالإمكان الالتزام بتقييد ذلك المطلق بهذا الخبر مالم تثبت حجّيته بدليلٍ شرعي.

اللهمّ إلاّأن يقال : إنّ مجموعة العمومات والمطلقات الترخيصية في الأدلّة القطعية الصدور يعلم إجمالاً بطروّ التخصيص والتقييد عليها ، فإذا لم تثبت حجّية خبر الثقة بدليلٍ خاصٍّ فسوف لن نستطيع أن نعيِّن مواطن التخصيص والتقييد ، وهذا يجعلنا لا نعمل بها جميعاً ؛ تنفيذاً لقانون تنجيز العلم الإجمالي. وبهذا ننتهي إلى طرح إطلاق ما دلّ على حلّية اللحوم في المثال ، والتقيّد احتياطاً بما دلّ على حرمة لحم الأرنب مثلاً. وهذه نتيجة مشابهة للنتيجة التي ينتهى اليها عن طريق التخصيص والتقييد.

ب ـ الشكل الثاني للدليل العقلي : ما يسمّى بدليل الانسداد ، وهو ـ لو تمّ ـ يثبت حجّية الظنّ بدون اختصاصٍ بالظنّ الناشئ من الخبر ، فيكون دليلاً على حجّية مطلق الأمارات الظنّية ، بما في ذلك أخبار الثقات ، وقد بُيِّن ضمن مقدمات :

١٨٤

الاولى : أنّا نعلم إجمالاً بتكاليف شرعيةٍ كثيرةٍ في مجموع الشبهات ، ولابدّ من التعرّض لامتثالها بحكم تنجيز العلم الإجمالي.

الثانية : أنّه لا يوجد طريق معتبر ـ لا قطعيّ وجدانيّ ولا تعبّديّ قام الدليل الشرعيّ الخاصّ على حجّيته ـ يمكن التعويل عليه في تعيين مواطن تلك التكاليف ومحالّها ، وهذا ما يعبَّر عنه بانسداد باب العلم والعلمي.

الثالثة : أنّ الاحتياط بالموافقة القطعية للعلم الإجماليِّ المذكور في المقدّمة الاولى غير واجب ؛ لأنّه يؤدِّي إلى العسر والحرج ؛ نظراً إلى كثرة أطراف العلم الإجمالي.

الرابعة : أنّه لا يجوز الرجوع إلى الاصول العملية في كلّ شبهةٍ بإجراء البراءة ونحوها ؛ لأنّ ذلك على خلاف قانون تنجيز العلم الإجمالي.

الخامسة : أنّه ما دام لا يجوز إهمال العلم الإجمالي ، ولا يتيسّر تعيين المعلوم الإجماليّ بالعلم والعلمي ، ولا يراد منّا الاحتياط في كلّ واقعة ، ولا يسمح لنا بالرجوع إلى الاصول العملية فنحن إذن بين أمرين :

إمّا أن نأخذ بما نظنّه من التكاليف ونترك غيرها ، وإمّا أن نأخذ بغيرها ونترك المظنونات. والثاني ترجيح للمرجوح على الراجح ، فيتعيّن الأول. وبهذا يثبت حجّية الظنّ بما في ذلك أخبار الثقات.

ونلاحظ على هذا الدليل :

أولاً : أنّه يتوقّف على عدم قيام دليلٍ شرعيٍّ خاصٍّ على حجّية خبر الثقة ، وإلاّ كان باب العلميِّ مفتوحاً وأمكن بأخبار الثقات تعيين التكاليف المعلومة بالإجمال ، فكأنّ دليل الانسداد يُنتهى اليه حيث لا يحصل الفقيه على أيّ دليلٍ شرعيٍّ خاصّ يدلّ على حجّية بعض الأمارات الشائعة.

وثانياً : أنّ العلم الإجماليَّ المذكور في المقدمة الاولى منحلّ بالعلم

١٨٥

الإجماليِّ في دائرة الروايات الواصلة إلينا عن طريق الثقات ، كما تقدّم (١). والاحتياط التامّ في حدود هذا العلم الإجماليِّ ليس فيه عسر ومشقّه.

وثالثاً : أنّا إذا سلَّمنا عدم وجوب الاحتياط التامّ ـ لأنّه يؤدّي إلى العسر والحرج ـ فهذا إنّما يقتضي رفع اليد عن المرتبة العليا من الاحتياط بالقدر الذي يندفع به العسر والحرج ، مع الالتزام بوجوب سائر مراتبه ؛ لأنّ الضرورات تُقدَّر بقدرها ، فيكون الأخذ بالمظنونات حينئذٍ باعتباره مرتبةً من مراتب الاحتياط الواجبة ، وأين هذا من حجّية الظن؟

اللهمَّ إلاّأن يُدّعى قيام الإجماع على أنّ الشارع لا يرضى بابتناء التعامل مع الشريعة على أساس الاحتياط ، فاذا ضُمَّت هذه الدعوى أمكن أن نستكشف حينئذٍ أنّه جعل الحجّية للظنّ.

وقد تلخّص من استعراض أدلّة الحجّية : أنّ الاستدلال بآية النبأ تامّ ، وكذلك بالسنّة الثابتة بطريقٍ قطعي ، كسيرة المتشرِّعة والسيرة العقلائية.

__________________

(١) في الشكل الأوّل من الدليل العقلي على حجّية خبر الواحد.

١٨٦

المرحلة الثانية

في تحديد دائرة حجّية الأخبار

ونأتي الآن إلى المرحلة الثانية في تحديد دائرة هذه الحجِّية وشروطها.

والتحقيق في ذلك : أنّ مدرك حجِّية الخبر إن كان مختصّاً بآية النبأ فهو لا يثبت سوى حجّية خبر العادل خاصّة ، ولا يشمل خبر الثقة غير العادل. وأمّا إذا لم يكن المدرك مختصّاً بذلك وفرض الاستدلال بالسيرة والروايات أيضاً ـ على ما تقدم ـ فلا شكّ في وفاء السيرة والروايات بإثبات الحجِّية لخبر الثقة ؛ ولو لم يكن عادلاً.

ومن هنا قد توقع المعارضة بالعموم من وجهٍ بين ما دلّ على حجِّية خبر الثقة الشامل بإطلاقه للثقة الفاسق ، ومنطوق آية النبأ الدالّ بإطلاقه على عدم حجّية خبر الفاسق ولو كان ثقة.

وقد يقال حينئذٍ بالتعارض والتساقط والرجوع إلى أصالة عدم حجّية خبر الثقة الفاسق ، إذ لم يتمَّ الدليل على حجّيته.

ولكنّ الصحيح : أنّه لا إطلاق في منطوق الآية الكريمة لخبر الثقة الفاسق ؛ لأنّ التعليل بالجهالة يوجب اختصاصه بموارد يكون العمل فيها بخبر الفاسق سفاهةً ، وهذا يختصّ بخبر غير الثقة ، فلا تعارض إذن ، وبذلك يثبت حجّية خبر الثقة دون غيره.

وهل يسقط خبر الثقة عن الحجِّية إذا وجدت أمارة ظنّية نوعية على كذبه؟ وهل يرتفع خبر غير الثقة إلى مستوى الحجّية إذا توفّرت أمارة من هذا القبيل على صدقه؟ فيه بحث وكلام ، وقد تقدّم موجز عن تحقيق ذلك

١٨٧

في الحلقة السابقة (١).

ولا شكّ في أنّ أدلّة حجِّية خبر الثقة والعادل لا تشمل الخبر الحدسيّ المبنيّ على النظر والاستنباط ، وإنّما تختصّ بالخبر الحسِّيِّ المستند إلى الإحساس بالمدلول ، كالإخبار عن نزول المطر ، أو الإحساس بآثاره ولوازمه العرفية ، كالإخبار عن العدالة.

وعلى هذا فقول المفتي ليس حجّةً على المفتي الآخر بلحاظ أدلّة حجِّية خبر الثقة ؛ لأنّ إخباره بالحكم الشرعيِّ ليس حسّياً ، بل حدسياً واجتهادياً. نعم ، هو حجّة على مقلّديه بدليل حجِّية قول أهل الخبرة والذكر.

ومن أجل ذلك يقال بأنّ الشخص إذا اكتشف بحدسه واجتهاده قول المعصوم عن طريق اتّفاق عددٍ معيّنٍ من العلماء على الفتوى ، فأخبر بقول المعصوم استناداً إلى اتّفاق ذلك العدد لم يكن إخباره حجّةً في إثبات قول المعصوم ؛ لأنّه ليس إخباراً حسّياً عنه ، وإنّما يكون حجّةً في إثبات اتّفاق ذلك العدد من العلماء على الفتوى ـ إذا لم يعلم منه التسامح عادةً في مثل ذلك ـ لأنّ إخباره عن اتّفاق هذا العدد حسّي ، فإن كان اتّفاق هذا العدد يكشف في رأينا عن قول المعصوم استكشفناه ، وإلاّ فلا.

وعلى هذا الأساس نعرف الحال في الإجماعات المنقولة ، فإنّه كان يقال عادةً : إنّ نقل الإجماع حجّة في إثبات الحكم الشرعي ؛ لأنّه نقل بالمعنى لقول المعصوم وإخبار عنه.

وقد اعترض على ذلك المحقِّقون المتأخِّرون : بأ نّه ليس نقلاً حسّياً لقول المعصوم ، بل هو نقل حدسيّ مبنيّ على ما يراه الناقل من كشف اتّفاق الفتاوى

__________________

(١) في بحث وسائل الإثبات التعبّدي ، تحت عنوان : تحديد دائرة الحجّية.

١٨٨

التي لاحظها عن قول المعصوم ، فلا يكون حجّةً في إثبات قول المعصوم ، بل في إثبات تلك الفتاوى فقط.

حجّية الخبر مع الواسطة :

ولا شكّ في أنّ حجّية الخبر تتقوّم بركنين :

أحدهما : بمثابة الموضوع لها ، وهو نفس الخبر.

والآخر : بمثابة الشرط ، وهو وجود أثرٍ شرعيٍّ لمدلول الخبر ؛ لوضوح أنّه إذا لم يكن لمدلوله أثر كذلك فلا معنى للتعبّد به وجعل الحجّية له.

والحجِّية متأخِّرة رتبةً عن الخبر تأخّر الحكم عن موضوعه ، وعن افتراض أثرٍ شرعيٍّ لمدلول الخبر تأخّر المشروط عن شرطه.

وعلى هذا الأساس قد يستشكل في شمول دليل الحجِّية للخبر مع الواسطة وتوضيح ذلك : أنّا إذا سمعنا زرارة ينقل عن الإمام أنّ السورة واجبة أمكننا التمسّك بدليل الحجِّية بدون شكّ ؛ لأنّ كلا الركنين ثابت ، فإنّ خبر زرارة ثابت لدينا وجداناً بحسب الفرض ، ومدلوله ذو أثرٍ شرعي ؛ لأنّه يتحدّث عن وجوب السورة ، وأمّا إذا نقل شخص عن زرارة الكلام المذكور فقد يتبادر إلى الذهن أنّنا نتمسّك بدليل الحجّية أيضاً ؛ وذلك بتطبيقه على الشخص الناقل عن زرارة أوّلاً ، فإنّ إخباره ثابت لنا وجداناً ، وعن طريق حجِّيته يثبت لدينا خبر زرارة ، كما لو كنّا سمعنا منه ، وحينئذٍ نطبِّق دليل الحجِّية على خبر زرارة لإثبات كلام الإمام.

ولكن قد استشكل في ذلك ، وقيل بأنّ تطبيق دليل الحجّية على هذا الترتيب مستحيل ، وبيان الاستحالة بتقريبين :

الأول : أنّه يلزم منه إثبات الحكم لموضوعه ، مع أنّ الحكم متأخّر رتبةً عن

١٨٩

موضوعه ؛ وذلك لأنّ خبر زرارة لم يثبت إلاّبلحاظ دليل الحجِّية ، مع أنّه موضوع للحجِّية المستفادة من ذلك الدليل ، وهذا معنى إثبات الحكم لموضوعه.

الثاني : أنّه يلزم منه اتّحاد الحكم مع شروطه على الرغم من تأخّر الحكم رتبةً عن شرطه ؛ وذلك لأنّ حجِّية خبر الناقل عن زرارة مشروطة بوجود أثرٍ شرعيٍّ لما ينقله هذا الناقل ، وهو إنّما ينقل خبر زرارة ، ولا أثر شرعياً لخبر زرارة إلاّ الحجِّية ، فقد صارت الحجية محقِّقةً لشرط نفسها.

وجواب كلا التقريبين : أنّ حجّية الخبر مجعولة على نهج القضية الحقيقية على موضوعها وشرطها المقدَّر الوجود ، وفعلية الحجِّية المجعولة بفعلية الموضوع والشرط المقدَّر ، وتعدّد الحجِّية الفعلية بتعدّدهما ، كما هو الشأن في سائر الأحكام المجعولة على هذا النحو.

وعليه فنقول : إنّه توجد في المقام حجّيتان : الاولى حجِّية خبر الناقل عن زرارة ، والثانية حجِّية خبر زرارة. وما هو الموضوع للحجِّية الثانية ـ وهو خبر زرارة ـ لم يثبت بالحجِّية الثانية ، بل بالحجِّية الاولى ، فلا يلزم المحذور المذكور في التقريب الأول. كما أنّ الشرط المصحِّح للحجِّية الاولى ـ وهو الأثر الشرعي ـ يتمثّل في الحجِّية الثانية لا في الحجِّية الاولى ، فلا يلزم المحذور المذكور في التقريب الثاني.

قاعدة التسامح في أدلّة السنن :

ذكرنا : أنّ موضوع الحجِّية ليس مطلق الخبر ، بل خبر الثقة على تفصيلاتٍ متقدمة ، ولكن قد يقال في خصوص باب المستحبّات ، أو الأحكام غير الإلزامية عموماً : إنّ موضوع الحجِّية مطلق الخبر ولو كان ضعيفاً ؛ استناداً إلى رواياتٍ دلّت على أنّ من بلغه عن النبيّ ثواب على عمل فعمله كان له مثل ذلك وإن كان النبيّ

١٩٠

لم يقله ، كصحيحة هشام بن سالم ، عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : «من سمع شيئاً من الثواب على شيءٍ فصنعه كان له أجره وإن لم يكن على ما بلغه» (١).

بدعوى أنّ هذه الروايات تجعل الحجِّية لمطلق البلوغ في موارد المستحبّات.

والتحقيق : أنّ هذه الروايات فيها ـ بدواً ـ أربعة احتمالات :

الأول : أن تكون في مقام جعل الحجِّية لمطلق البلوغ.

الثاني : أن تكون في مقام إنشاء استحبابٍ واقعيٍّ نفسيٍّ على طبق البلوغ بوصفه عنواناً ثانوياً.

الثالث : أن تكون إرشاداً إلى حكم العقل بحسن الاحتياط واستحقاق المحتاط للثواب.

الرابع : أن تكون وعداً مولوياً لمصلحةٍ في نفس الوعد ، ولو كانت هذه المصلحة هي الترغيب في الاحتياط باعتبار حسنه عقلاً.

والفارق بين هذه الاحتمالات الأربعة من الناحية النظرية واضح ، فالاحتمال الثالث يختلف عن الباقي في عدم تضمّنه إعمال المولوية بوجه ، والاحتمالان الأخيران يختلفان عن الأوّلَين في عدم تضمّنهما جعل الحكم ، ويختلف الأول عن الثاني ـ مع اشتراكهما في جعل الحكم ـ في أنّ الحكم المجعول على الأول ظاهري ، وعلى الثاني واقعي.

وأمّا الأثر العمليّ لهذه الاحتمالات فهو واضح أيضاً ، إذ لا يبرِّر الاحتمالان الأخيران الإفتاء بالاستحباب ، بينما يبرِّر الاحتمالان الأوّلَان ذلك.

__________________

(١) وسائل الشيعة ١ : ٨٢ ، الباب ١٨ من أبواب مقدمة العبادات ، الحديث ٦.

١٩١

ولكن قد يقال ـ كما عن السيّد الاستاذ (١) ـ : إنّه لا ثمرة عملية يختلف بموجبها الاحتمالان الأوّلَان ؛ لأنّهما معاً يسوِّغان الفتوى بالاستحباب ، ولا فرق بينهما في الآثار.

ولكنّ التحقيق : وجود ثمراتٍ عمليةٍ يختلف بموجبها الاحتمال الأول عن الاحتمال الثاني ، خلافاً لِمَا أفاده ـ دام ظلّه ـ ونذكر في ما يلي جملةً من الثمرات :

الثمرة الاولى : أن يدلّ خبر ضعيف على استحباب فعلٍ وخبر ثقةٍ على نفي استحبابه ، فإذا بني على الاحتمال الأول وقع التعارض بين الخبرين ؛ لحجّية كلٍّ منهما ـ بحسب الفرض ـ ونظرهما معاً إلى حكمٍ واقعيٍّ واحدٍ إثباتاً ونفياً. وإذا بني على الاحتمال الثاني فلا تعارض ؛ لأنّ الخبر الضعيف الحاكي عن الاستحباب لا يثبت مؤدّاه ليعارض الخبر النافي له ، بل هو بنفسه يكون موضوعاً لاستحبابٍ واقعيٍّ مترتّبٍ على عنوان البلوغ ، والبلوغ محقَّق ، وكونه معارضاً لا ينافي صدق عنوان البلوغ ، فيثبت الاستحباب.

الثمرة الثانية : أن يدلّ خبر ضعيف على وجوب شيء ، فعلى الاحتمال الثاني لا شكّ في ثبوت الاستحباب ؛ لأنّه مصداق لبلوغ الثواب على عمل ، وأمّا على الاحتمال الأول فلا يثبت شيء ؛ لأنّ إثبات الوجوب بالخبر الضعيف متعذّر لعدم حجّيته في إثبات الأحكام الإلزامية ، وإثبات الاستحباب به متعذّر أيضاً لأنّه لا يدلّ عليه فكيف يكون طريقاً وحجّةً لإثبات غير مدلوله؟ وإثبات الجامع بين الوجوب والاستحباب به متعذِّر أيضاً ؛ لأنّه مدلول تحليليّ للخبر ، فلا يكون حجّة لإثباته عند من يرى ـ كالسيد الاستاذ (٢) ـ أنّ حجِّية الخبر في المدلول التحليليِ

__________________

(١) الدراسات في علم الاصول ٣ : ٣٠٢.

(٢) مصباح الاصول ٣ : ٣٦٨.

١٩٢

متوقّفة على حجِّيته في المدلول المطابقيِّ بكامله.

الثمرة الثالثة : أن يدلّ خبر ضعيف على استحباب الجلوس في المسجد إلى طلوع الشمس ـ مثلاً ـ على نحوٍ لا يفهم منه أنّ الجلوس بعد ذلك مستحبّ ، أوْ لا.

فعلى الاحتمال الأول يجري استصحاب بقاء الاستحباب ، وعلى الثاني لا يجري ؛ لأ نّه مجعول بعنوان ما بلغه ثواب عليه ، وهذا مقطوع الارتفاع ؛ لاختصاص البلوغ بفترة ما قبل الطلوع.

ومهما يكن فلا شكّ في أنّ الاحتمال الأول مخالف لظاهر الدليل كما تقدم في الحلقة السابقة (١) ، فلا يمكن الالتزام بتوسعة دائرة حجِّية الخبر في باب المستحبّات.

__________________

(١) في بحث وسائل الإثبات التعبّدي ، ضمن الحديث عن تحديد دائرة حجّية خبر الواحد ، تحت عنوان : قاعدة التسامح في أدلّة السنن.

١٩٣
١٩٤

٣ ـ الدليل الشرعي

حجّية الظهور

أقسام الدلالة.

دليل حجّية الظهور.

تشخيص موضوع الحجّية.

التفصيلات في الحجّية.

١٩٥
١٩٦

أقسام الدلالة :

الدليل الشرعيّ قد يكون مدلوله مردّداً بين أمرين أو امور ، وكلّها متكافئة في نسبتها إليه ، وهذا هو المجمل.

وقد يكون مدلوله متعيِّناً في أمرٍ محدّدٍ ولا يحتمل مدلولاً آخر بدلاً عنه ، وهذا هو النصّ.

وقد يكون قابلاً لأحد مدلولين ، ولكنّ واحداً منهما هو الظاهر عرفاً والمنسبق إلى ذهن الإنسان العرفي ، وهذا هو الدليل الظاهر.

أمّا المجمل فيكون حجّةً في إثبات الجامع بين المحتملات إذا كان له على إجماله أثر قابل للتنجيز ما لم يحصل سبب من الخارج يبطل هذا التنجيز ، إمّا بتعيين المراد من المجمل مباشرةً ، وإمّا بنفي أحد المحتملين ، فإنّه بضمِّه إلى المجمل يثبت كون المراد منه المحتمل الآخر ، وإمّا بمجملٍ آخر مردّدٍ بين محتملين ويعلم بأنّ المراد بالمجملين معاً معنىً واحد وليس هناك إلاّمعنىً واحد قابل لهما معاً فيحملان عليه ، وإمّا بقيام دليلٍ على إثبات أحد محتملي المجمل ، فإنّه وإن كان لا يكفي لتعيين المراد من المجمل في حالة عدم التنافي بين المحتملين ، ولكنّه يوجب سقوط حجّية المجمل في إثبات الجامع وعدم تنجّزه ؛

١٩٧

لأنّ تنجّز الجامع بالمجمل إنّما هو لقاعدة منجِّزية العلم الإجمالي ، وهذه القاعدة لها أركان أربعة ، وفي مثل الفرض المذكور يختل ركنها الثالث ـ كما أوضحنا ذلك في الحلقة السابقة (١) ـ حيث إنّ أحد المحتملين إذا ثبت بدليلٍ فلا يبقى محذور في نفي المحتمل الآخر بالأصل العملي المؤمِّن.

وأمّا النصّ فلا شكّ في لزوم العمل به ، ولا يحتاج إلى التعبّد بحجّية الجانب الدلاليِّ منه إذا كان نصّاً في المدلول التصوري والمدلول التصديقي معاً.

دليل حجّية الظهور :

وأمّا الظاهر فظهوره حجّة ، وهذه الحجّية هي التي تسمّى بأصالة الظهور ، ويمكن الاستدلال عليها بوجوه :

الوجه الأول : الاستدلال بالسنّة المستكشَفة من سيرة المتشرِّعين من الصحابة وأصحاب الأئمّة عليهم‌السلام ؛ حيث كان عملهم على الاستناد إلى ظواهر الأدلّة الشرعية في تعيين مفادها ، وقد تقدم في الحلقة السابقة (٢) توضيح الطريق لإثبات هذه السيرة.

الوجه الثاني : الاستدلال بالسيرة العقلائية على العمل بظواهر الكلام ، وثبوت هذه السيرة عقلائياً ممّا لا شكّ فيه ؛ لأنّه محسوس بالوجدان ، ويعلم بعدم كونها سيرةً حادثةً بعد عصر المعصومين ، إذ لم يعهد لها بديل في مجتمعٍ من

__________________

(١) في بحث الاصول العمليّة ، ضمن الحديث عن قاعدة منجّزية العلم الإجمالي ، تحت عنوان : تحديد أركان هذه القاعدة.

(٢) في بحث إثبات حجّية الدلالة في الدليل الشرعي ، تحت عنوان : الاستدلال على حجّيةالظهور.

١٩٨

المجتمعات ، ومع عدم الردع الكاشف عن التقرير والإمضاء شرعاً تكون هذه السيرة دليلاً على حجّية الظهور.

الوجه الثالث : التمسّك بما دلّ على لزوم التمسّك بالكتاب والسنّة والعمل بهما ، بتقريب أنّ العمل بظاهر الآية أو الحديث مصداق عرفاً لما هو المأمور به في تلك الأدلّة ، فيكون واجباً ، ومرجع هذا الوجوب إلى الحجِّية.

وبين هذه الوجوه فوارق. فالوجه الثالث ـ مثلاً ـ بحاجةٍ إلى تمامية دليلٍ على حجِّية الظهور ولو في الجملة ، دونهما ؛ لأنّ مرجعه إلى الاستدلال بظهور الأحاديث الآمرة بالتمسّك وإطلاقها ، فلابدّ من فرض حجِّية هذا الظهور في الرتبة السابقة.

كما أنّ الوجهين الأوّلَين يجب أن لا يدخل في تتميمهما التمسّك بظهور حال المولى لإثبات الإمضاء ؛ لأنّ الكلام الآن في حجِّيته ، كما أشرنا إلى ذلك في الحلقة السابقة (١).

وقد يلاحظ على الوجه الأول : أنّ سيرة المتشرِّعة وإن كان من المعلوم انعقادها في أيام النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والأئمّة عليهم‌السلام على العمل بظواهر الدليل الشرعي ، ولكنّ الشواهد التأريخية إنّما تثبت ذلك على سبيل الإجمال ، ولا يمكن التأكّد من استقرار سيرتهم على العمل بالظواهر في جميع الموارد ، فهناك حالات تكون حجِّية الظهور أخفى من غيرها ، كحالة احتمال اتصّال الظهور بقرينةٍ متّصلة ، فقد بنى المشهور على حجِّية الظهور في هذه الحالة ، خلافاً لما اخترناه في حلقةٍ سابقة (٢).

__________________

(١) في نفس البحث وتحت نفس العنوان.

(٢) في بحث إثبات حجّية الدلالة في الدليل الشرعي ، تحت عنوان : موضوع الحجّية.

١٩٩

وهنا نقول : إنّ مدرك الحجِّية إذا كان هو سيرة المتشرِّعة المعاصرين للمعصومين فكيف نستطيع أن نتأكّد أنّها جرت فعلاً على العمل بالظهور في هذه الحالة بالذات؟

وأمّا إذا كان مدرك الحجية السيرة العقلائية ، فيمكن للقائلين بالحجِّية أن يدَّعوا شمول الوجدان العقلائيّ لهذه الحالة أيضاً.

وقد يلاحظ على الوجه الثاني ـ وهو الاستدلال بالسيرة العقلائية ـ أمران :

أحدهما : أنّه قاصر عن الشمول لموارد وجود أمارةٍ معتبرةٍ عقلائياً على خلاف الظهور ولو لم تكن معتبرةً شرعاً ، كالقياس مثلاً ـ لو قيل بأنّ العقلاء يعتمدون عليه في رفع اليد عن الظهور ـ فلا يمكن إثبات حجِّية الظهور المبتلى بهذه الأمارة على الخلاف بالسيرة العقلائية ، إذ لا سيرة من العقلاء على العمل بمثل هذا الظهور فعلاً ، اللهمّ إلاّإذا استفيد من دليل إسقاطها عن الحجِّية تنزيلها منزلة العدم بلحاظ تمام الآثار.

ولكنّ الصحيح : أنّ هذا الكلام إنّما يتّجه لو قيل بأنّ الإمضاء يتحدّد بحدود العمل الصامت للعقلاء ، غير أنّك عرفت في الحلقة السابقة (١) أنّ الإمضاء يتّجه إلى النكتة المرتكزة التي هي أساس العمل ، وهي في المقام الحجِّية الاقتضائية للظهور مطلقاً. وكلّ حجّةٍ كذلك لا يرفع اليد عنها إلاّبحجّة ، والمفروض عدم حجّية الأمارة على الخلاف شرعاً فيتعيّن العمل بالظهور.

والأمر الآخر الذي يلاحظ على الوجه الثاني : أنّ السيرة العقلائية إنّما انعقدت على العمل بالظهور ، واتّخاذه أساساً لاكتشاف المراد في المتكلّم الاعتياديّ الذي يندر اعتماده على القرائن المنفصلة عادةً ، والشارع ليس من هذا

__________________

(١) في بحث تحديد دلالات الدليل الشرعي غير اللفظي ، تحت عنوان : السيرة.

٢٠٠