دروس في علم الأصول - ج ٢

آية الله السيّد محمّد باقر الصدر

دروس في علم الأصول - ج ٢

المؤلف:

آية الله السيّد محمّد باقر الصدر


المحقق: لجنة التحقيق التابعة للمؤتمر العالمي للإمام الشهيد الصدر
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مركز الأبحاث والدراسات التخصصية للشهيد الصدر
الطبعة: ١
الصفحات: ٦٠٨
الجزء ١ الجزء ٢

الحكم المعلّق.

وقد يجاب على ذلك بجوابين :

أحدهما : أنّا نستصحب سببية الغليان للحرمة ، وهي حكم وضعيّ فعليّ معلوم حدوثاً ومشكوك بقاءً.

والردّ على هذا الجواب : أنّه إن اريد باستصحاب السببية إثبات الحرمة فعلاً فهو غير ممكن ؛ لأنّ الحرمة ليست من الآثار الشرعية للسببية ، بل من الآثار الشرعية لذات السبب الذي رتّب الشارع عليه الحرمة. وإن اريد بذلك الاقتصار على التعبّد بالسببية فهو لغو ؛ لأنّها بعنوانها لا تصلح للمنجّزية والمعذّرية.

والجواب الآخر : لمدرسة المحقّق العراقي (١) ، وهو يقول : إنّ الاعتراض المذكور يقوم على أساس أنّ المجعول لا يكون فعلياً إلاّبوجود تمام أجزاء الموضوع خارجاً ، فإنّه حينئذٍ يتعذّر استصحاب المجعول في المقام ، إذ لم يصبح فعلياً ليستصحب. ولكن الصحيح : أنّ المجعول ثابت بثبوت الجعل ، لأنّه منوط بالوجود اللحاظي للموضوع ، لا بوجوده الخارجي ، فهو فعليّ قبل تحقق الموضوع خارجاً.

وقد أردف المحقّق العراقي ناقضاً على المحقّق النائينى : بأ نّه أليس المجتهد يجري الاستصحاب في المجعول الكلّي قبل أن يتحقّق الموضوع خارجاً؟

ونلاحظ على الجواب المذكور : أنّ المجعول إذا لوحظ بما هو أمر ذهني فهو نفس الجعل المنوط بالوجود اللحاظي للشرط وللموضوع على ما تقدم (٢) في

__________________

(١) مقالات الاصول ٢ : ٤٠٠.

(٢) في بحث الدليل العقلي من الجزء الأوّل للحلقة الثالثة ، تحت عنوان : قاعدة إمكان الوجوب المشروط.

٥٠١

الواجب المشروط ، إلاّأنّ المجعول حينئذٍ لا يجري فيه استصحاب الحكم بهذا اللحاظ ، إذ لا شكّ في البقاء ، وإنمّا الشكّ في حدوث الجعل الزائد على ما عرفت سابقاً (١).

وإذا لوحظ المجعول بما هو صفة للموضوع الخارجي فهو منوط في هذا اللحاظ بالخارج ، فما لم يوجد الموضوع بالكامل ولو تقديراً وافتراضاً لا يرى للمجعول فعلية لكي يستصحَب.

ومن ذلك يعرف حال النقض المذكور ، فإنّ المجتهد يفترض تحقّق الموضوع بالكامل فيشكّ في البقاء مبنيّاً على هذا الفرض ، وأين هذا من إجراء استصحاب الحكم بمجرّد افتراض جزء الموضوع؟

وبكلمةٍ اخرى : أنّ كفاية ثبوت المجعول بتقدير وجود موضوعه في تصحيح استصحابه شيء ، وكفاية الثبوت التقديري لنفس المجعول في تصحيح استصحابه دون تواجد تمام الموضوع لا خارجاً ولا تقديراً شيء آخر.

والتحقيق : أنّ إناطة الحكم بالخصوصية الثانية في مقام الجعل تارةً تكون في عرض إناطته بالخصوصية الاولى ، بأن قيل : «العنب المغليّ حرام». واخرى تكون على نحوٍ مترتّبٍ وطولي ، بمعنى أنّ الحكم يقيّد بالخصوصية الثانية ، وبما هو مقيد بها يناط بالخصوصية الاولى ، بأن قيل : «العنب إذا غلى حرم» ، فإنّ العنب هنا يكون موضوعاً للحرمة المنوطة بالغليان ، خلافاً للفرضية الاولى التي كان العنب المغليّ بما هو كذلك موضوعاً للحرمة.

ففي الحالة الاولى يتّجه الاعتراض المذكور ، ولا يجري الاستصحاب في

__________________

(١) في بيان كيفيّة جريان الاستصحاب في المجعول ، ضمن البحث عن التفصيل بين الشبهة الحكميّة والشبهة الموضوعيّة ، تحت عنوان : عموم جريان الاستصحاب.

٥٠٢

القضية الشرطية ؛ لأنّها أمر منتزع عن الجعل وليست هي الحكم المجعول.

وأمّا في الحالة الثانية فلا بأس بجريان الاستصحاب في نفس القضية الشرطية التي وقع العنب موضوعاً لها ؛ لأنّها مجعولة من قبل الشارع بما هي شرطية ومرتّبة على عنوان العنب ، فالعنب موضوع للقضية الشرطية حدوثاً يقيناً ويشكّ في استمرار ذلك بقاءً فتستصحب.

الاعتراض الثاني : أنّا اذا سلّمنا تواجد ركنَي الاستصحاب في القضية الشرطية فلا نسلّم جريان الاستصحاب مع ذلك ؛ لأنّه إنّما يثبت الحكم المشروط وهو لا يقبل التنجّز. وأمّا ما يقبل التنجّز فهو الحكم الفعلي ، فما لم يكن المجعول فعلياً لا يتنجّز الحكم ، وإثبات فعلية المجعول عند وجود الشرط باستصحاب الحكم المشروط متعذّر ؛ لانّ ترتّب فعلية المجعول عند وجود الشرط على ثبوت الحكم المشروط عقليّ وليس شرعياً.

ونلاحظ على ذلك :

أوّلاً : أنّه يكفي في التنجيز إيصال الحكم المشروط مع إحراز الشرط ؛ لأنّ وصول الكبرى والصغرى معاً كافٍ لحكم العقل بوجوب الامتثال.

وثانياً : أنّ دليل الاستصحاب إذا بنينا على تكفّله لجعل الحكم المماثل كان مفاده في المقام ثبوت حكمٍ مشروطٍ ظاهري ، وتحوّل هذا الحكم الظاهري إلى فعليٍّ عند وجود الشرط لازم عقليّ لنفس الحكم الاستصحابي المذكور ، لا للمستصحَب ، وقد مرّ بنا سابقاً (١) أنّ اللوازم العقلية لنفس الاستصحاب تترتّب عليه بلا إشكال.

الاعتراض الثالث : أنّ استصحاب الحكم المعلّق معارض باستصحاب

__________________

(١) في نهاية البحث الوارد تحت عنوان : مقدار ما يثبت بالاستصحاب.

٥٠٣

الحكم المنجّز ، ففي مثال العنب كما يعلم بالحرمة المعلّقة على الغليان سابقاً كذلك يعلم بالحلّية الفعلية المنجّزة قبل الغليان فتستصحب ، ويتعارض الاستصحابان.

وقد يجاب على ذلك بجوابين :

أحدهما : ما ذكره صاحب الكفاية (١) من أنّه لا معارضة بين الاستصحابين ، إذ كما أنّ الحرمة كانت معلّقةً فتستصحب بما هي معلّقة كذلك الحلّية كانت في العنب مغيّاةً بالغليان فتستصحب بما هي مغيّاة ، ولا تنافي بين حلّيةٍ مغيّاةٍ وحرمةٍ معلّقةٍ على الغاية.

ونلاحظ على ذلك : أنّ الحلية التي نريد استصحابها هي الحلّية الثابتة بعد الجفاف وقبل الغليان ، ولا علم بأنّها مغيّاة ؛ لاحتمال عدم الحرمة بالغليان بعد الجفاف ، فنستصحب ذات هذه الحلّية.

فإن قيل : إنّ الحلّية الثابتة قبل الجفاف نعلم بأ نّها مغيّاة ، ونشكّ في تبدّلها إلى الحلّية غير المغيّاة بالجفاف ، فنستصحب تلك الحلّية المغيّاة المعلومة قبل الجفاف.

كان الجواب : أنّ استصحابها لا يعيِّن حال الحلّية المعلومة بعد الجفاف ، ولا يثبت أنّها مغيّاة إلاّبالملازمة ؛ للعلم بعدم إمكان وجود حلّيتين ، وما دامت الحلّية المعلومة بعد الجفاف لامثبت لكونها مغيّاةً فبالإمكان استصحاب ذاتها إلى ما بعد الغليان.

والجواب الآخر : ما ذكره الشيخ الأنصاري (٢) والمحقّق النائيني (٣) من أنّ

__________________

(١) كفاية الاصول : ٤٦٨ ـ ٤٦٩.

(٢) فرائد الاصول ٣ : ٢٢٣.

(٣) فوائد الاصول ٤ : ٤٧٣.

٥٠٤

الاستصحاب التعليقي حاكم على الاستصحاب التنجيزي.

ويمكن أن يقال في توجيه ذلك : أنّ استصحاب القضية الشرطية للحكم إمّا أن يثبت فعلية الحكم عند تحقّق الشرط ، وإمّا أن لا يثبت ذلك. فإن لم يثبت لم يجرِ في نفسه ، إذ أيّ أثرٍ لإثبات حكمٍ مشروطٍ لا ينتهي إلى الفعلية. وإن أثبت ذلك تمّ الملاك لتقديم استصحاب الحكم المعلّق على استصحاب الحكم المنجّز وحكومته عليه ؛ وفقاً للقاعدة المتقدمة في الحلقة السابقة (١) القائلة : إنّه كلّما كان أحد الأصلين يعالج مورد الأصل الثاني دون العكس قُدِّم الأصل الأول على الثاني ، فإنّ مورد الاستصحاب التنجيزي مرحلة الحكم الفعلي ، ومورد استصحاب المعلّق مرحلة الثبوت التقديري للحكم ، والمفروض أنّ استصحاب المعلّق يثبت حرمةً فعلية ، وهو معنى نفي الحلّية الفعلية. وأما استصحاب الحلّية الفعلية فلا ينفي الحرمة المعلّقة ، ولا يتعرّض إلى الثبوت التقديري.

ونلاحظ على ذلك : أنّ هذا لا يتمّ عند من لا يثبت الفعلية باستصحاب القضية المشروطة ويرى كفاية وصول الكبرى والصغرى في حكم العقل بوجوب الامتثال ، فإنّ استصحاب الحكم المعلّق على هذا الأساس لا يعالج مورد الاستصحاب الآخر ليكون حاكماً عليه.

٢ ـ استصحاب عدم النسخ :

تقدّم في الحلقة السابقة (٢) أنّ النسخ بمعناه الحقيقي مستحيل بالنسبة إلى

__________________

(١) في النقطة الخامسة من بحث التطبيقات في الاستصحاب ، تحت عنوان : الاستصحاب في حالات الشكّ السببي والمسبّبي.

(٢) في بحث الدليل العقلي ، تحت عنوان : إمكان النسخ وتصويره.

٥٠٥

مبادئ الحكم ، ومعقول بالنسبة إلى الحكم في عالم الجعل ، وعليه فالشكّ في النسخ بالنسبة إلى عالم الجعل يتصور على نحوين :

الأول : أن يشكّ في بقاء نفس الجعل وعدمه ، بمعنى احتمال إلغاء المولى له.

الثاني : أن يشكّ في سعة المجعول وشموله من الناحية الزمانية ، بمعنى احتمال أنّ الجعل تعلّق بالحكم المقيّد بزمانٍ قد انتهى أمده.

فإذا كان الشكّ من النحو الأول فلا شكّ في إمكان إجراء الاستصحاب ؛ لتمامية أركانه ، غير أنّ هنا شبهة قد تمنع عن جريانه على أساس أنّ ترتّب المجعول على الجعل ليس شرعياً ، بل عقلياً فإثباته باستصحاب الجعل غير ممكن.

والجواب : أنّا لسنا بحاجةٍ إلى إثبات شيءٍ وراء الجعل في مقام التنجيز ؛ لِمَا تقدّم من كفاية وصول الكبرى والصغرى ، وعليه فالاستصحاب يجري خلافاً للأصل اللفظي بمعنى إطلاق الدليل ، فإنّه لا يمكن التمسّك به لنفي النسخ بهذا المعنى.

وإذا كان الشكّ من النحو الثاني فلا شكّ في إمكان التمسّك بإطلاق الدليل لنفيه ، ولكنّ جريان الاستصحاب موضع بحث ؛ وذلك لإمكان دعوى أنّ المتيقّن ثبوت الحكم على المكلفين في الزمان الأول ، والمشكوك ثبوته على أفرادٍ آخرين ، وهم المكلَّفون الذين يعيشون في الزمان الثاني ، فمعروض الحكم متعدّد إلاّ بالنسبة إلى شخصٍ عاش كلا الزمانين بشخصه.

وعلاج ذلك : أنّ الحكم المشكوك في نسخه ليس مجعولاً على نحو القضية الخارجية التي تنصبّ على الأفراد المحقّقة خارجاً مباشرةً ، بل على نحو القضية الحقيقية التي ينصبّ فيها الحكم على الموضوع الكلّي المقدّر الوجود ، وفي هذه

٥٠٦

المرحلة لا فارق بين القضية المتيقّنة والقضية المشكوكة موضوعاً إلاّمن ناحية الزمان وتأخّر الموضوع للقضية المشكوكة زماناً عن الموضوع للقضية المتيقنة ، وهذا يكفي لانتزاع عنوانَي الحدوث والبقاء عرفاً على نحوٍ يعتبر الشكّ المفروض شكّاً في بقاء ما كان فيجري الاستصحاب.

والاستصحاب على هذا الضوء استصحاب تنجزي مفاده التعبّد ببقاء المجعول الكلّي الملحوظ بما هو صفة لطبيعيّ المكلف ، وبالإمكان التعويض عنه باستصحاب الحكم المعلّق ، بأن يشار إلى الفرد المكلف المتأخّر زماناً ويقال : إنّ هذا كان حكمه كذا على تقدير وجوده ولا يزال كما كان ، وبذلك يتمّ التخلّص عن مشكلة تعدّد معروض الحكم.

ولكن توجد مشكلة اخرى يواجهها الاستصحاب في المقام ، سواء اجري بصيغته التنجيزية أو التعليقية ، وهي : أنّه معارض باستصحاب العدم المنجّز الثابت لآحاد المكلفين الذين يعيشون في الزمان المحتمل وقوع النسخ فيه ، وهذا يشبه الاعتراض على الاستصحاب التعليقي عموماً بمعارضته بالاستصحاب التنجيزي.

٣ ـ استصحاب الكلِّي :

استصحاب الكلّي هو التعبّد ببقاء الجامع بين فردين من الحكم أو الجامع بين شيئين خارجيّين إذا كان له أثر شرعي. والكلام فيه يقع في جهتين :

الجهة الاولى : في أصل إجراء استصحاب الكلّي ، إذ قد يعترض على ذلك في باب الأحكام تارةً ، وفي باب الموضوعات اخرى.

أما في باب الأحكام فالاعتراض ينشأ من المبنى القائل بأنّ المجعول في دليل الاستصحاب هو الحكم المماثل للمستصحب ، فيقال حينئذٍ : إنّ المستصحَب إذا كان هو الجامع بين الوجوب والاستحباب أو بين وجوبين اقتضى ذلك جعل

٥٠٧

المماثل له بدليل الاستصحاب ، وهو باطل ؛ لأنّ الجامع بحدِّه لا يعقل جعله ، إذ يستحيل وجود الجامع إلاّفي ضمن فرده ، والجامع في ضمن أحد فرديه بالخصوص ليس محطّاً للاستصحاب ليكون مصبّاً للتعبّد الاستصحابي.

وهذا الاعتراض يتوقّف على قبول المبنى المشار اليه ، أمّا إذا أنكرناه وفرضنا أنّ مفاد دليل الاستصحاب إبقاء اليقين بمعنىً من المعاني فيمكن افتراض إبقائه بقدر الجامع ، فيكون بمثابة العلم الإجمالي المتعلّق بالجامع.

وأمّا في باب الموضوعات فالاعتراض ينشأ من أنّ الأثر الشرعي مترتّب على أفراد الجامع ، لا على الجامع بعنوانه ، فلا يترتّب على استصحابه أثر.

والجواب : أنّه إن اريد أنّ الحكم الشرعي في لسان دليله مترتّب على العنوانين التفصيلّيين للفردين فيرد عليه : أنّا نفرض الحكم فيما إذا رتّب في لسان الدليل على عنوان الجامع بين الفردين ، كحرمة المسِّ المرتّبة على جامع الحدث.

وإن سلم ترتّب الحكم في دليله على الجامع وادُّعي أنّ الجامع إنمّا يؤخذ موضوعاً بما هو معبِّر عن الخارج لا بما هو مفهوم ذهني ـ فلابدّ من إجراء الاستصحاب فيما اخذ الجامع معبِّراً عنه ومراةً له ، وهو الخارج ، وليس في الخارج إلاّالفرد ـ فيرد عليه : أنّ موضوع الحكم وإن كان هو الجامع والمفهوم بما هو مرآة للخارج لا باعتباره أمراً ذهنياً إلاّأنّ الاستصحاب يجري في الجامع بما هو مرآة للخارج أيضاً ، ولا معنى لجريانه في الخارج ابتداءً بلا توسّط عنوانٍ من العناوين ؛ لأنّ الاستصحاب حكم شرعيّ ولابدّ أن ينصبَّ التعبّد فيه على عنوان. وكما أنّ العنوان التفصيلي يجري فيه الاستصحاب بما هو مرآة للخارج كذلك العنوان الإجمالي الكلّي.

وبما ذكرناه ظهر الفارق الحقيقي بين استصحاب الفرد واستصحاب الكلّي ، مع أنّ التوجّه في كلٍّ منهما إلى إثبات واقعٍ خارجيٍّ واحد ، حيث إنّ الكلّي موجود

٥٠٨

بعين وجود الفرد ، وهذا الفارق هو : أنّ الاستصحاب باعتباره حكماً منجّزاً وموصلاً للواقع فهو إنمّا يتعلّق به بتوسّط عنوانٍ من عناوينه وصورةٍ من صوره ، فإن كان مصبّ التعبّد هو الواقع المرئيّ بعنوانٍ تفصيليٍّ مشيرٍ اليه فهذا استصحاب الفرد ، وإن كان مصبُّه الواقع المرئيّ بعنوانٍ جامعٍ مشيرٍ اليه فهذا هو استصحاب الكلّي ، على الرغم من وحدة الواقع المشار اليه بكلا العنوانين. والذي يحدِّد إجراء الاستصحاب بهذا النحو أو بذاك كيفية أخذ الأثر الشرعي في لسان دليله.

وعلى هذا الضوء يتّضح أنّ التفرقة بين استصحاب الفرد واستصحاب الكلّي لا تتوقّف على دعوى التعدّد في الواقع الخارجي وأنّ للكلّي واقعاً وسيعاً منحازاً عن واقعيات الأفراد ـ على طريقة الرجل الهمداني في تصور الكلّي الطبيعي ـ وهي دعوى باطلة ؛ لِما ثبت في محلّه من أنّ الكلّي موجود بعين وجود الأفراد.

كما أنّه لا موجب لإرجاع الكلّي في مقام التفرقة المذكورة إلى الحصّة ، ودعوى أنّ كلّ فردٍ يشتمل على حصّهٍ من الكلّي ومشخّصات عرضية ، واستصحاب الكلّي عبارة عن استصحاب ذات الحصّة ، واستصحاب الفرد عبارة عن استصحاب الحصّة مع المشخّصات ، بل الصحيح في التفرقة ما ذكرناه.

الجهة الثانية : في أقسام استصحاب الكلّي.

يمكن تقسيم الشكّ في بقاء الكلّي إلى قسمين :

أحدهما : الشكّ في بقاء الكلّي غير الناشئ من الشكّ في حدوث الفرد.

والآخر : الشكّ في بقائه الناشي من الشكّ في حدوث الفرد.

ومثال الأول : أن يعلم بدخول الإنسان ضمن زيدٍ في المسجد ويشكّ في خروجه.

ومثال الثاني : أن يعلم بحدثٍ مردّدٍ بين الأصغر والأكبر ويشكّ في ارتفاعه بعد الوضوء ، فإنّ الشكّ مسبّب عن الشكّ في حدوث الأكبر.

٥٠٩

أمّا القسم الأول فله حالتان :

الاولى : أن يكون الكلّي معلوماً تفصيلاً ويشكّ في بقائه ، كما في المثال المذكور حيث يعلم بوجود زيدٍ تفصيلاً. وهنا إذا كان الأثر الشرعي مترتّباً على الجامع جرى استصحاب الكلّي.

واستصحاب الكلّي في هذه الحالة جارٍ على كلّ حال ، سواء فسّرنا استصحاب الكلّي وفرّقنا بينه وبين استصحاب الفرد على أساس كون المستصحَب الوجود السِعيّ للكلّي على طريقة الرجل الهمداني ، أو الحصّة ، أو الخارج بمقدار مرآتية العنوان الكلّي ، على ما تقدم في الجهة السابقة ، إذ على كلّ هذه الوجوه تعتبر أركان الاستصحاب تامة.

الثانية : أن يكون الكلّي معلوماً إجمالاً ويشكّ في بقائه على كلا تقديريه ، كما إذا علم بوجود زيدٍ أو خالدٍ في المسجد ويشكّ في بقائه ـ سواء كان زيداً أو خالداً ـ فيجري استصحاب الجامع إذا كان الأثر الشرعي مترتّباً عليه. ولا إشكال في ذلك بناءً على إرجاع استصحاب الكلّي إلى استصحاب الوجود السعي له على طريقة الرجل الهمداني ، وبناءً على المختار من إرجاعه إلى استصحاب الواقع بمقدار مرآتية العنوان الإجمالي.

وأمّا بناءً على إرجاعه إلى استصحاب الحصّة فقد يستشكل : بأ نّه لا يقين بحدوث أيِّ واحدةٍ من الحصّتين فكيف يجري استصحابها؟ اللهمّ إلاّأن تُلغى ركنية اليقين وتستبدل بركنية الحدوث.

ويسمّى هذا القسم في كلماتهم بكلتا حالتيه بالقسم الأول من استصحاب الكلّي.

وأمّا القسم الثاني فله حالتان أيضاً :

الاولى : أن يكون الشكّ في حدوث الفرد المسبِّب للشكّ في بقاء الكلّي

٥١٠

مقروناً بالعلم الإجمالي ، كما في المثال المتقدم لهذا القسم ، فإنّ الشكّ في الحدث الأكبر مقرون بالعلم الإجمالي بأحد الحدثين. والصحيح : جريان الاستصحاب في هذه الحالة إذا كان للجامع أثر شرعي ، ويسمّى في كلماتهم بالقسم الثاني من استصحاب الكلّي.

وقد يعترض على جريان هذا الاستصحاب بوجوه :

منها : أنّه لا يقين بالحدوث ، وهو اعتراض مبنيّ على إرجاع استصحاب الكلّي إلى استصحاب الحّصة ، وحيث لا علم بالحصّة حدوثاً فلا يجري الاستصحاب ؛ لعدم اليقين بالحدوث ، بل لعدم الشكّ في البقاء ، إذ لا شكّ في الحصّة بقاءً ، بل إحدى الحصّتين معلومة الانتفاء والاخرى معلومة البقاء.

وقد تقدم أنّ استصحاب الكلّي ليس بمعنى استصحاب الحصّة ، بل هو استصحاب للواقع بمقدار ما يرى بالعنوان الإجمالي للجامع ، وهذا معلوم بالعلم الإجمالي حدوثاً.

ومنها : أنّه لا شكّ في البقاء ؛ لأنّ الشكّ ينبغي أن يتعلّق بنفس ما تعلّق به اليقين ، ولمَّا كان اليقين هنا علماً إجمالياً والعلم الإجمالي يتعلق بالمردّد فلابدّ أن يتعلّق الشكّ بالواقع على ترديده أيضاً ، وهذا إنمّا يتواجد فيما إذا كان الواقع مشكوك البقاء على كلّ تقدير ، مع أنّه ليس كذلك ؛ لأنّ الفرد القصير من الجامع لا شكّ في بقائه.

والجواب : أنّ العلم الإجمالي لا يتعلّق بالواقع المردّد ، بل بالجامع وهو مشكوك ، إذ يكفي في الشكّ في بقاء الجامع التردّد في كيفية حدوثه.

ومنها : أنّ الوجود القصير للكلّي لا يحتمل بقاؤه ، والوجود الطويل له لا يحتمل ارتفاعه ، وليس هناك في مقابلهما إلاّالمفهوم الذهني الذي لا معنى لاستصحابه.

٥١١

والجواب : أنّ الشكّ واليقين إنّما يعرضان [على] الواقع الخارجي بتوسّط العناوين الحاكية عنه ، فلا محذور في أن يكون الواقع بتوسّط العنوان التفصيلي مقطوع البقاء أو الانتفاء ، وبتوسّط العنوان الإجمالي مشكوك البقاء ، ومصبّ التعبّد الاستصحابي دائماً العنوان بما هو حاكٍ عن الواقع تبعاً لأخذه موضوعاً للأثر الشرعي بما هو كذلك.

نعم ، إذا أرجعنا استصحاب الكلّي إلى استصحاب الحصّة أمكن المنع عن جريانه في المقام ؛ لأنّه يكون من استصحاب الفرد المردّد نظراً إلى أنّ إحدى الحصّتين مقطوعة الانتفاء فعلاً.

ومنها : أنّ استصحاب الكلّي يحكم عليه استصحاب عدم حدوث الفرد الطويل الأمد ؛ لأنّ الشكّ في بقاء الكلّي مسبَّب عن الشكّ في حدوث هذا الفرد.

والجواب : أنّ التلازم بين حدوث الفرد الطويل الأمد وبقاء الكلّي عقلي ، وليس شرعياً ، فلا يثبت باستصحاب عدم الأول نفي بقاء الثاني.

ومنها : أنّ استصحاب الكلّي معارض باستصحاب عدم الفرد الطويل إلى ظرف الشكّ في بقاء الكلّي ؛ لأنّ عدم الكلّي عبارة عن عدم كلا فرديه ، والفرد القصير الأمد معلوم الانتفاء فعلاً بالوجدان ، والفرد الطويل الأمد محرز الانتفاء فعلاً باستصحاب عدمه ، فهذا الاستصحاب بضمِّه إلى الوجدان المذكور حجّة على عدم الكلّي فعلاً ، فيعارض الحجّة على بقائه المتمثّلة في استصحاب الكلّي.

والتحقيق : أنّه تارةً يكون وجود الكلّي ـ بما هو وجود له ـ كافياً في ترتّب الأثر على نحوٍ لو فرض ـ ولو محالاً ـ وجود الكلّي لا في ضمن حصّةٍ خاصّةٍ لترتّب عليه الأثر. واخرى لا يكون الأثر مترتّباً على وجود الكلّي إلاّبما هو وجود لهذه الحصّة ولتلك الحصّة على نحوٍ تكون كلّ حصّةٍ موضوعاً للأثر

٥١٢

الشرعي بعنوانها.

فعلى الأول يجري استصحاب الكلّي لإثبات موضوع الأثر ، ولا يمكن نفي صرف الوجود للكلّي باستصحاب عدم الفرد الطويل مع ضمّه إلى الوجدان ؛ لأنّ انتفاء صرف الوجود للكلّي بانتفاء هذه الحصّة وتلك عقلي ، وليس شرعياً.

وعلى الثاني لا يجري استصحاب الكلّي في نفسه ؛ لأنّه لا ينقِّح موضوع الأثر ، بل بالإمكان نفي هذا الموضوع باستصحاب عدم الفرد الطويل الأمد مع ضمّه إلى الواجدان القاضي بعدم الفرد الآخر ؛ لانّ الأثر أثر للحصص فيُنفى بإحراز عدمها ولو بالتلفيق من التعبّد والوجدان.

وأمّا الحالة الثانية من القسم الثاني فهي : أن يكون الشكّ في حدوث الفرد المسبِّب للشكّ في بقاء الكلّي شكّاً بدوياً ، ومثاله : أن يعلم بوجود الكلّي ضمن فرد ، ويعلم بارتفاعه تفصيلاً ، ويشكّ في انحفاظ وجود الكلّي في ضمن فردٍ آخر يحتمل حدوثه حين ارتفاع الفرد الأول أو قبل ذلك. ويسمّى هذا في كلماتهم بالقسم الثالث من استصحاب الكلّي.

وقد يُتخيَّل جريانه على أساس تواجد أركانه في العنوان الكلّي وإن لم تكن متواجدةً في كلٍّ من الفردين بالخصوص.

ولكن يندفع هذا التخيّل : بأنّ العنوان الكلّي وإن كان هو مصبّ الاستصحاب ولكن بما هو مرآة للواقع فلابدّ أن يكون متيقّن الحدوث مشكوك البقاء بما هو فانٍ في واقعه ومرآةً للوجود الخارجي ، ومن الواضح أنّه بما هو كذلك ليس جامعاً للأركان ، إذ ليس هناك واقع خارجيّ يمكن أن نشير اليه بهذا العنوان الكلّي ونقول بأ نّه متيقّن الحدوث مشكوك البقاء لنستصحبه بتوسّط العنوان الحاكي عنه وبمقدار حكايته ، خلافاً للحالة السابقة التي كانت تشتمل على واقعٍ من هذا القبيل.

٥١٣

٤ ـ الاستصحاب في الموضوعات المركّبة :

إذا كان الموضوع للحكم الشرعي بسيطاً وتمّت فيه أركان الاستصحاب جرى استصحابه بلا إشكال. وأمّا إذا كان الموضوع مركّباً من عناصر متعدّدةٍ : فتارةً نفترض أنّ هذه العناصر لوحظت بنحو التقيّد ، أو انتزع منها عنوان بسيط وجعل موضوعاً للحكم ، كعنوان «المجموع» ، أو «اقتران هذا بذاك» ، ونحو ذلك. واخرى نفترض أنّ هذه العناصر بذواتها اخذت موضوعاً للحكم الشرعي بدون أن يدخل في الموضوع أيّ عنوانٍ انتزاعيٍّ من ذلك القبيل.

ففي الحالة الاولى لا مجال لإجراء الاستصحاب في ذوات الأجزاء ، لأنّه إن اريد به إثبات الحكم مباشرةً فهو متعذّر ؛ لترتّبه على العنوان البسيط المتحصّل.

وإن اريد به إثبات الحكم بإثبات ذلك العنوان المتحصّل فهو غير ممكن ؛ لأنّ عنوان الاجتماع والاقتران ونحوه لازم عقليّ لثبوت ذوات الأجزاء فلا يثبت باستصحابها. فالاستصحاب في هذه الحالة يجري في نفس العنوان البسيط المتحصّل ، فمتى شكّ في حصوله جرى استصحاب عدمه ؛ حتّى ولو كان أحد الجزءين محرزاً وجداناً والآخر معلوم الثبوت سابقاً ومشكوك البقاء فعلاً.

وأمّا في الحالة الثانية فلا بأس بجريان الاستصحاب في الجزء ثبوتاً أو عدماً إذا تواجد فيه اليقين بالحالة السابقة والشكّ في بقائها.

ومن هنا يعلم بأنّ الاستصحاب يجري في أجزاء الموضوع المركّب وعناصره بشرط ترتّب الحكم على ذوات الأجزاء أوّلاً ، وتوفّر اليقين بالحدوث والشكّ في البقاء ثانياً.

هذا على نحو الإجمال. وأمّا تحقيق المسألة على وجهٍ كاملٍ فبالبحث في ثلاث نقاط :

إحداها : في أصل هذه الكبرى القائلة بجريان الاستصحاب في أجزاء

٥١٤

الموضوع ضمن الشرطين.

والنقطة الثانية : في تحقيق صغرى الشرط الأوّل ، وأ نّه متى يكون الحكم مترتّباً على ذوات الأجزاء؟

والنقطة الثالثة : في تحقيق صغرى الشرط الثاني ، وأ نّه متى يكون الشكّ في البقاء محفوظاً؟

[جريان الاستصحاب في أجزاء الموضوع :]

أمّا النقطة الاولى فالمعروف بين المحقّقين أنّه متى كان الموضوع مركّباً وافترضنا أنّ أحد جزءيه محرز بالوجدان أو بتعبّدٍ ما فبالإمكان إجراء الاستصحاب في الجزء الآخر ؛ لانّه ينتهي إلى أثرٍ عملي ، وهو تنجيز الحكم المترتّب على الموضوع المركّب.

وقد يواجه ذلك باعتراض ، وهو : أنّ دليل الاستصحاب مفاده جعل الحكم المماثل للمستصحَب ، والمستصحَب هنا ـ وهو الجزء ـ ليس له حكم ليجعل في دليل الاستصحاب مماثله ، وما له حكم ـ وهو المركّب ـ ليس مصبّاً للاستصحاب.

وهذا الاعتراض يقوم على الأساس القائل بجعل الحكم المماثل للمستصحَب في دليل الاستصحاب ، ولا موضع له على الأساس القائل بأنّه يكفي في تنجيز الحكم وصول كبراه (الجعل) وصغراه (الموضوع) كما عرفت سابقاً ، إذ على هذا لا نحتاج في جعل استصحاب الجزء ذا أثرٍ عمليٍّ إلى التعبّد بالحكم المماثل ، بل مجرّد وصول أحد الجزءين تعبّداً مع وصول الجزء الآخر بالوجدان كافٍ في تنجيز الحكم الواصلة كبراه ؛ لأنّ إحراز الموضوع بنفسه منجّز لا بما هو طريق إلى إثبات فعليّة الحكم المترتّب عليه ، وبهذا نجيب على

٥١٥

الاعتراض المذكور.

وأمّا إذا أخذنا بفكرة جعل الحكم المماثل في دليل الاستصحاب فقد يصعب التخلّص الفنّي من الاعتراض المذكور ، وهناك ثلاثة أجوبةٍ على هذا الأساس :

الجواب الأول : أنّ الحكم بعد وجود أحد جزءي موضوعه وجداناً لا يكون موقوفاً شرعاً إلاّعلى الجزء الآخر ، فيكون حكماً له ، ويثبت باستصحاب هذا الجزء ما يماثل حكمه ظاهراً.

ونلاحظ على ذلك : أنّ مجرّد تحقّق أحد الجزءين وجداناً لا يخرجه عن الموضوعية وإناطة الحكم به شرعاً ؛ لأنّ وجود الشرط للحكم لا يعني بطلان الشرطية ، فلا ينقلب الحكم إلى كونه حكماً للجزء الآخر خاصّة.

الجواب الثاني : أنّ الحكم المترتّب على الموضوع المركّب ينحلّ تبعاً لأجزاء موضوعه ، فينال كلّ جزءٍ مرتبةً وحصّةً من وجود الحكم ، واستصحاب الجزء يقتضي جعل المماثل لتلك المرتبة التي ينالها ذلك الجزء بالتحليل.

ونلاحظ على ذلك : أنّ هذا التقسيط تبعاً لأجزاء الموضوع غير معقول ؛ لوضوح أنّ الحكم ليس له إلاّوجود واحد لا يتحقّق إلاّعند تواجد تلك الأجزاء جميعاً.

الجواب الثالث : أنّ كلّ جزءٍ موضوع لحكمٍ مشروط ، وهو الحكم بالوجوب ـ مثلاً ـ على تقدير تحقّق الجزء الآخر ، فاستصحاب الجزء يتكفّل جعل الحكم المماثل لهذا الحكم المشروط.

ونلاحظ على ذلك : أنّ هذا الحكم المشروط ليس مجعولاً من قبل الشارع ، وإنمّا هو منتزع عن جعل الحكم على الموضوع المركّب ، فيواجه نفس الاعتراض الذي واجهه الاستصحاب في الأحكام المعلّقة.

٥١٦

[ترتّب الحكم على ذوات الأجزاء :]

وأمّا النقطة الثانية : فقد ذكر المحقّق النائيني (١) رحمه‌الله : أنّ الموضوع تارةً يكون مركّباً من العرض ومحلّه ، كالإنسان العادل. واخرى مركّباً من عدم العرض ومحلّه ، كعدم القرشية والمرأة. وثالثةً مركّباً على نحوٍ آخر ، كالعرضين لمحلٍّ واحدٍ مثل الاجتهاد والعدالة في المفتي ، أو العرضين لمحلّين كموت الأب وإسلام الابن.

ففي الحالة الاولى يكون التقيّد مأخوذاً ؛ لأنّ العرض يلحظ بما هو وصف لمحلّه ومعروضه وحالة قائمة به ، فالاستصحاب يجري في نفس التقيّد إذا كان له حالة سابقة.

وفي الحالة الثانية يكون تقيّد المحلّ بعدم العرض مأخوذاً في الموضوع ؛ لأنّ عدم العرض إذا اخذ مع موضوع ذلك العرض لوحظ بما هو نعت ووصف له ، وهو ما يسمّى بالعدم النعتي تمييزاً له عن العدم المحمولي الذي يلاحظ فيه العدم بما هو.

ويترتّب على ذلك أنّ الاستصحاب إنمّا يجري في نفس التقيّد والعدم النعتي ؛ لأنّه الدخيل في موضوع الحكم ، فإذا لم يكن العدم النعتي واجداً لركني اليقين والشكّ وكان الركنان متوفّرَين في العدم المحمولي لم يجرِ استصحابه ؛ لأنّ العدم المحمولي لا أثرَ شرعيٌّ له بحسب الفرض.

ومن هنا ذهب المحقّق النائيني (٢) إلى عدم جريان استصحاب عدم العرض المتيقّن قبل وجود الموضوع ، ويسمّى باستصحاب العدم الأزلي ، فإذا شكّ في

__________________

(١) فوائد الاصول ٤ : ٥٠٤ ـ ٥٠٥.

(٢) المصدر السابق : ٥٠٧.

٥١٧

نسب المرأة وقرشيّتها لم يجرِ استصحاب عدم قرشيّتها الثابت قبل وجودها ؛ لأنّ هذا عدم محموليّ وليس عدماً نعتياً ، إذ أنّ العدم النعتي وصف ؛ والوصف لا يثبت إلاّعند ثبوت الموصوف ، فإذا اريد إجراء استصحاب العدم المحمولي لترتيب الحكم عليه مباشرةً فهو متعذّر ؛ لأنّ الحكم مترتّب ـ بحسب الفرض ـ على العدم النعتي ، لا المحمولي. واذا اريد بذلك إثبات العدم النعتي ـ لأنّ استمرار العدم المحمولي بعد وجود المرأة ملازم للعدم النعتي ـ فهذا أصل مثبت.

وأمّا في الحالة الثالثة فلا موجب لافتراض أخذ التقيّد واتّصاف أحد جزءي الموضوع بالآخر ؛ لأنّ أحدهما ليس محلاًّ وموضوعاً للآخر ، بل بالإمكان أن يفرض ترتّب الحكم على ذات الجزءين ، وفي مثل ذلك يجري استصحاب الجزء لتوفّر الشرط الأول.

هذا موجز عمّا أفاده المحقّق النائيني رحمه‌الله نكتفي به على مستوى هذه الحلقة ، تاركين التفاصيل والمناقشات إلى مستوىً أعلى من الدراسة.

[توفّر الشكّ في البقاء :]

وأمّا النقطة الثالثة فتوضيح الحال فيها : أنّ الجزء الذي يراد إجراء الاستصحاب فيه تارةً يكون معلوم الثبوت سابقاً ويشكّ في بقائه إلى حين إجراء الاستصحاب. واخرى يكون معلوم الثبوت سابقاً ويعلم بارتفاعه فعلاً ، ولكن يشكّ في بقائه في فترةٍ سابقةٍ هي فترة تواجد الجزء الآخر من الموضوع. ومثاله : الحكم بانفعال الماء فإنّ موضوعه مركّب من ملاقاة النجس للماء وعدم كرّيته ، فنفترض أنّ الماء كان مسبوقاً بعدم الكرّية ويعلم الآن بتبدّل هذا العدم وصيرورته كرّاً ، ولكن يحتمل بقاء عدم الكرّية في فترةٍ سابقةٍ هي فترة حصول ملاقاة النجس

٥١٨

لذلك الماء.

ففي الحالة الاولى لا شكّ في توفّر اليقين بالحدوث والشكّ في البقاء ، فيجري الاستصحاب.

وأمّا في الحالة الثانية فقد يستشكل في جريان الاستصحاب في الجزء بدعوى عدم توفّر الركن الثاني وهو الشكّ في البقاء ؛ لأنّه معلوم الارتفاع فعلاً بحسب الفرض فكيف يجري استصحابه؟

وقد اتّجه المحقّقون في دفع هذا الاستشكال إلى التمييز بين الزمان في نفسه والزمان النسبي ، أي زمان الجزء الآخر ، فيقال : إنّ الجزء المراد استصحابه إذا لوحظ حاله في عمود الزمان المتّصل إلى الآن فهو غير محتمل البقاء ؛ للعلم بارتفاعه فعلاً. وإذا لوحظ حاله بالنسبة إلى زمان الجزء الآخر فقد يكون مشكوك البقاء إلى ذلك الزمان ، مثلاً : عدم الكرّية في المثال المذكور لا يحتمل بقاؤه إلى الآن ، ولكن يشكّ في بقائه إلى حين وقوع الملاقاة ، فيجري استصحابه إلى زمان وقوعها.

وتفصيل الكلام في ذلك : أنّه إذا كان زمان ارتفاع الجزء المراد استصحابه ـ وهو عدم الكرِّية في المثال ـ معلوماً ، وكان زمان تواجد الجزء الآخر ـ وهو الملاقاة في المثال ـ معلوماً أيضاً ، فلا شكّ لكي يجري الاستصحاب ، ولهذا لابدّ أن يفرض الجهل بكلا الزمانين ، أو بزمان ارتفاع الجزء المراد استصحابه خاصّة ، أو بزمان تواجد الجزء الآخر خاصّة. فهذه ثلاث صور ، وقد اختلف المحقّقون في حكمها.

فذهب جماعة من المحقّقين منهم السيّد الاستاذ (١) إلى جريان

__________________

(١) مصباح الاصول ٣ : ١٧٧.

٥١٩

الاستصحاب في الصور الثلاث ، وإذا وجد له معارض سقط بالمعارضة.

وذهب بعض المحقّقين (١) إلى جريان الاستصحاب في صورتين ، وهما : صورة الجهل بالزمانين أو الجهل بزمان ارتفاع الجزء المراد استصحابه ، وعدم جريانه في صورة العلم بزمان الارتفاع.

وذهب صاحب الكفاية (٢) إلى جريان الاستصحاب في صورة واحدةٍ ، وهي صورة الجهل بزمان الارتفاع مع العلم بزمان تواجد الجزء الآخر ، وأمّا في صورتَي الجهل بكلا الزمانين أو العلم بزمان الارتفاع فلا يجري الاستصحاب.

فهذه أقوال ثلاثة :

أمّا القول الأول فقد علّله أصحابه بما أشرنا اليه آنفاً من : أنّ بقاء الجزء المراد استصحابه إلى زمان تواجد الجزء الآخر مشكوك حتّى لو لم يكن هناك شكّ في بقائه إذا لوحظت قطعات الزمان بما هي ، كما إذا كان زمان الارتفاع معلوماً ، ويكفي في جريان الاستصحاب تحقّق الشكّ في البقاء بلحاظ الزمان النسبي ؛ لأنّ الأثر الشرعي مترتّب على وجوده في زمان وجود الجزء الآخر ، لا على وجوده في ساعة كذا بعنوانها.

ونلاحظ على هذا القول : أنّ زمان ارتفاع عدم الكرّية في المثال إذا كان معلوماً فلا يمكن أن يجري استصحاب عدم الكرّية إلى زمان الملاقاة ؛ لأنّ الحكم الشرعي إمّا أن يكون مترتّباً على عدم الكرّية في زمان الملاقاة بما هو زمان الملاقاة ، أو على عدم الكرّية في واقع زمان الملاقاة ، بمعنى أنّ كلا الجزءين

__________________

(١) منهم المحقّق النائيني في فوائد الاصول ٤ : ٥٠٨ ـ ٥١٠.

(٢) كفاية الاصول : ٤٧٧ ـ ٤٧٨.

٥٢٠