دروس في علم الأصول - ج ٢

آية الله السيّد محمّد باقر الصدر

دروس في علم الأصول - ج ٢

المؤلف:

آية الله السيّد محمّد باقر الصدر


المحقق: لجنة التحقيق التابعة للمؤتمر العالمي للإمام الشهيد الصدر
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مركز الأبحاث والدراسات التخصصية للشهيد الصدر
الطبعة: ١
الصفحات: ٦٠٨
الجزء ١ الجزء ٢

[الحجيّة التخييريّة للدليلين المتعارضين :]

وأمّا الشقّ الثالث ـ وهو إثبات الحجّية التخييرية ـ فقد ابطل بأنّ مفاد الدليل هو كون الفرد مركزاً للحجّية ، لا الجامع.

ويلاحظ أنّ الحجّية التخييرية لا ينحصر أمرها بحجّية الجامع ليقال بأنّ ذلك خلاف مفاد الدليل ، بل يمكن تصويرها بحجّيتين مشروطتين ، بأن يلتزم بحجّية كلٍّ من الدليلين لكن لا مطلقاً ، بل شريطة أن لا يكون الآخر صادقاً ، فمركز كلٍّ من الحجّيتين الفرد لا الجامع ، ولكن نرفع اليد عن إطلاق الحجّية لأجل التعارض. ولا تنافي بين حجّيتين مشروطتين من هذا القبيل ، ولا محذور في ثبوتهما إذا لم يكن كذب كلٍّ من الدليلين مستلزماً لصدق الآخر ، وإلاّ رجعنا إلى إناطة حجّية كلٍّ منهما بصدق نفسه ، وهو غير معقول.

فإن قيل : ما دمنا لا نعلم الكاذب من الصادق فلا نستطيع أن نميّز أنّ أيّ الحجّيتين المشروطتين تحقّق شرطها لنعمل على أساسها ، فأيّ فائدةٍ في جعلهما؟

كان الجواب : أنّ الفائدة نفي احتمالٍ ثالث ؛ لأنّنا نعلم بأنّ أحد الدليلين كاذب ، وهذا يعني العلم بأنّ إحدى الحجّيتين المشروطتين فعلية ، وهذا يكفي لنفي الاحتمال الثالث.

وعلى ضوء ما تقدم يتّضح :

أولاً : أنّ دليل الحجّية يقتضي الشمول لأحدهما المعيَّن إذا كان ملاك الحجّية على تقدير ثبوته أقوى فيه ، أو محتمل الأقوائية دون احتمال مماثلٍ في الآخر.

ثانياً : أنّه في غير ذلك لا يشمل كلاًّ من المتعارضَين شمولاً منجّزاً.

ثالثاً : أنّه مع ذلك يشمل كلاًّ منهما شمولاً مشروطاً بكذب الآخر لأجل نفي الثالث ، وذلك فيما اذا لم يكن كذب أحدهما مساوقاً لصدق الآخر.

هذه هي النظرية العامة للتعارض المستقرِّ على مقتضى القاعدة.

٥٦١

تنبيهات النظرية العامّة للتعارض المستقرّ :

ومن أجل تكميل الصورة عن النظرية العامة للتعارض المستقرِّ يجب أن نشير إلى عدّة امور :

[الحالات المختلفة لدليل الحجّية :]

الأول : أنّ دليل الحجّية الذي يعالج حكم التعارض المستقرّ على ضوئه تارةً يكون دليلاً واحداً ، واخرى يكون دليلين ، وتوضيح ذلك باستعراض الحالات التالية :

الاولى : اذا افترضنا دليلين لفظيّين قطعيّين صدوراً ظنّيين دلالةً تعارضا معارضةً مستقرّةً فالتنافي بينهما يسري إلى دليل الحجّية ، كما تقدم (١) ، وهو هنا دليل واحد وهو دليل حجّية الظهور.

الثانية : إذا افترضنا دليلين لفظّيين قطعيّين دلالةً ظنيّين سنداً تعارضا معارضةً مستقرّةً فالتنافي بينهما يسري إلى دليل الحجّية ، كما تقدم (٢) ، وهو هنا دليل واحد وهو دليل حجّية السند.

الثالثة : إذا افترضنا دليلين لفظّيين ظنّيين دلالةً وسنداً فلا شكّ في سراية التنافي إلى دليل حجّية الظهور ، ولكن هل يسري إلى دليل حجّية السند أيضاً؟

قد يقال بعدم السريان ، إذ لا محذور في التعبّد بكلا السندين ، وإنمّا المحذور في التعبّد بالمفادين.

ولكنّ الصحيح هو السريان ؛ لأنّ حجّية الدلالة وحجّية السند مرتبطتان إحداهما بالاخرى ، بمعنى أنّ دليل حجّية السند مفاده هو التعبّد بمفاد الكلام

__________________

(١) و (٢) في تمهيد بحث التعارض ، تحت عنوان : ما هو التعارض المصطلح؟.

٥٦٢

المنقول ، لا مجرّد التعبّد بصدور الكلام بقطع النظر عن مفاده.

الرابعة : إذا افترضنا دليلين لفظيّين : أحدهما ظنّي سنداً قطعي دلالةً ، والآخر بالعكس ولم يكن بالإمكان الجمع العرفي بين الدلالتين فالتنافي الذي يسري هنا لا يسري إلى دليل حجّية الظهور بمفرده ، ولا إلى دليل حجّية السند كذلك ، إذ لا توجد دلالتان ظنّيتان ولا سندان ظنّيان ، وإنمّا يسري إلى مجموع الدليلين ، بمعنى وقوع التعارض بين دليل حجّية السند في أحدهما ودليل حجّية الظهور في الآخر ، فاذا لم يكن هناك مرجِّح لتقديم أحد الدليلين على الآخر طبِّقت النظرية السابقة.

الخامسة : إذا افترضنا دليلاً ظنّياً دلالةً وسنداً معارضاً لدليلٍ قطعيٍّ دلالةً وظنّيٍّ سنداً وتعذّر الجمع العرفي سرى التنافي ، بمعنى وقوع التعارض بين دليل حجّية الظهور في ظنّيّ الدلالة ودليل السند في الآخر ، ويؤدّي ذلك إلى دخول دليل السند لظنّيّ الدلالة في التعارض أيضاً ؛ لِمَا عرفت من الترابط. والمحصّل النهائي لذلك : أنّ دليل السند في أحدهما يعارض كلاًّ من دليل حجّية الظهور ودليل السند في الآخر.

السادسة : إذا افترضنا دليلاً ظنّياً دلالةً وسنداً معارضاً لدليلٍ ظنّيٍّ دلالةً وقطعيٍّ سنداً سرى التنافي إلى دليل حجّية الظهور ؛ لوجود ظهورين متعارضين.

ودخل دليل التعبّد بالسند الظنّي في المعارضة لمكان الترابط المشار اليه.

[حالة التعارض غير المستوعب :]

الثاني : أنّ التعارض المستقرّ تارةً يستوعب تمام مدلول الدليل ، كما في الدليلين المتعارضين الواردين على موضوعٍ واحد. واخرى يشمل جزءاً من المدلول ، كما في العامَّين من وجه. وما تقدّم من نظرية التعارض كما ينطبق على

٥٦٣

التعارض المستوعب كذلك ينطبق على التعارض غير المستوعب ، ولكن يختلف هذان القسمان في نقطة ، وهي : أنّه في حالات التعارض المستوعب بين دليلين ظنّيين دلالةً وسنداً يسري التنافي إلى دليل حجّية الظهور ، وبالتالي إلى دليل التعبّد بالسند. وأمّا في حالات التعارض غير المستوعب بينهما فالتنافي يسري إلى دليل حجّية الظهور ، ولكن لا يمتدّ إلى دليل التعبّد بالسند ، بمعنى أنّه لا موجب لرفع اليد عن سند كلٍّ من العامَّين من وجهٍ رأساً.

فإن قيل : إنّ التنافي في دليل حجّية الظهور يتوقّف على افتراض ظهورين متعارضين ، ونحن لا نحرز ذلك في المقام إلاّبدليل التعبّد بالسند ، فالتنافي في الحقيقة نشأ من دليل التعبّد بالسند.

كان الجواب : أنّ هذا صحيح ، ولكنّه لا يعني طرح السند رأساً ، فإنّ مفاد دليل التعبّد بالسند ثبوت الكلام المنقول بلحاظ تمام ما لَه من آثار ، ومن آثاره حجّية عمومه في مادة الاجتماع وحجّية عمومه في مادة الافتراق ، فإذا تعذّر ثبوت الأثر الأول للتعارض ثبت الأثر الثاني ، وهو معنى عدم سقوط السند رأساً.

وأمّا حين يتعذّر ثبوت كلِّ ماللكلام المنقول من آثار ـ كما في حالات التعارض المستوعب ـ فيقوم التعارض بين السندين لا محالة.

ومن هنا نستطيع أن نعرف أنّه في كلّ حالات التعارض بين مدلولَي دليلين ظنّيين سنداً يقع التعارض ابتداءً في دليل التعبّد بالسند ، لا في دليل حجّية الظهور ؛ لأنّنا لا نحرز وجود ظهورين متعارضين إلاّمن ناحية التعبّد بالسند ، فإن كان التعارض مستوعباً سقط التعبّد بالسند رأساً في كلٍّ منهما ، وإلاّ سقط بمقداره.

وأمّا ما كنّا نقوله من أنّ التنافي يسري إلى دليل حجّية الظهور ويمتدّ منه إلى دليل التعبّد بالسند فهو بقصد تبسيط الفكرة ، حيث إنّ التنافي بين السندين في مقام التعبّد متفرّع على التنافي بين الظهورين في مقام الحجّية على تقدير ثبوتهما ، فكأنّ التنافي سرى من دليل حجّية الظهور إلى دليل التعبّد بالسند. وأمّا من الناحية

٥٦٤

الواقعية وبقدر ما نمسك بأيدينا فالتعارض منصبّ ابتداءً على دليل التعبّد بالسند ؛ لأنّنا لا نمسك بأيدينا سوى السندين.

[نفي الاحتمال الثالث بالدليلين المتعارضين :]

الثالث : وقع البحث في أنّ المتعارضين بعد عجز كلٍّ منهما عن إثبات مدلوله الخاصِّ هل يمكن نفي الاحتمال الثالث بهما؟

وقد يقرَّب ذلك بوجوه :

أولها : التمسّك بالدلالة الالتزامية في كلٍّ منهما لنفي الثالث ، فإنّها غير معارضةٍ فتبقى حجّة. وهذا مبنيّ على إنكار تبعية الدلالة الالتزامية للدلالة المطابقية في الحجّية.

ثانيها : التمسّك بدليل الحجّية لإثبات حجّية غير ما علم إجمالاً بكذبه ، فإنّ المتعذّر تطبيق دليل الحجّية على هذا بعينه أو ذاك بعينه للمعارضة ، وأمّا تطبيقه على عنوان (غير معلوم الكذب) إجمالاً فلا محذور فيه ؛ لأنّه غير معارضٍ لا بتطبيقه على عنوان (معلوم الكذب) لوضوح أنّ جعل الحجّية لهذا العنوان غير معقول ، ولا بتطبيقه على عنوانٍ تفصيليٍّ كهذا أو ذاك ؛ لعدم إحراز مغايرة العنوان التفصيلي لعنوان غير المعلوم.

ونلاحظ على ذلك : أنّ الخبرين المتعارضين إمّا أن يحتمل كذبهما معاً ، أوْ لا ، فإن احتمل ففي حالة كذبهما معاً لا تعيّن للمعلوم بالإجمال ، ولا لغير المعلوم بالإجمال لتجعل الحجّية له ، وإن لم يحتمل كذبهما معاً فهذا بنفسه ينفي احتمال الثالث بلا حاجةٍ إلى التمسّك بدليل الحجّية.

ثالثها : وهو تعميق للوجه الثاني ، وحاصله : الالتزام بحجّية كلٍّ من المتعارضين ولكن على نحوٍ مشروطٍ بكذب الآخر ، وحيث يعلم بكذب أحدهما فيعلم بحجّية أحدهما فعلاً ، وهذا يكفي لنفي الثالث ، وقد تقدمت الإشارة إلى ذلك.

٥٦٥

[مدى تأثير كون دليل الحجّية لبّياً :]

الرابع : ينبغي أن يعلم أنّا في تنقيح القاعدة على ضوء دليل الحجّية كنّا نستبطن افتراضاً ، وهو التعامل مع أدلّة الحجّية بوصفها أدلّةً لفظيةً لا ترفع اليد عن إطلاقها إلاّبقدر الضرورة ، إلاّأنّ هذا الافتراض لا ينطبق على الواقع ؛ لأنّ دليل الحجّية في الغالب لبّيّ مرجعه إلى السيرة العقلائية ، وسيرة المتشرّعة ، والإجماع.

والأدلة اللفظية إذا تمّت تعتبر إمضائيةً فتنصرف إلى نفس مفاد تلك الأدلّة اللبِّية وتتحدّد بحدودها.

وعلى هذا الأساس سوف تتغيّر نتيجتان من النتائج التي انتهينا اليها سابقاً :

الاولى : ما كنّا نفترضه من التمسّك بإطلاق دليل الحجّية لإثبات حجّيةٍ في كلٍّ من المتعارضين مشروطةٍ بكذب الآخر ، وكنّا نستفيد من ذلك لنفي احتمال الثالث ، فإنّ هذا الافتراض يناسب الدليل اللفظي الذي له إطلاق يشمل المتعارضين بحدّ ذاته. وأمّا إذا كان مدرك الحجّية الأدلّة اللبِّية من السيرة العقلائية وغيرها فلا إطلاق فيها للمتعارضين رأساً ، فلا يمكن أن نثبت بها حجّيتين مشروطتين على النحو المذكور.

الثانية : ما كنّا نفترضه ـ في حالة تعارض الدليل اللفظيّ القطعيّ سنداً مع الدليل اللفظيّ الظنّيّ سنداً وعدم إمكان الجمع العرفي ـ من وقوع التعارض بين دليل حجّية الظهور في الأول ودليل حجّية السند في الثاني ، فإنّ هذا يناسب الإقرار بتمامية كلٍّ من هذين الدليلين في نفسه وصلاحيته لمعارضة الآخر ، مع أنّ الواقع بناءً على أنّ دليل حجّية السند ـ أي حجّية خبر الواحد ـ السيرة قصوره في نفسه عن الشمول لمورد المعارضة المستقرة لظاهر كلامٍ قطعيّ الصدور من الشارع ؛ لعدم انعقاد السيرة في مثل ذلك على التعبّد بنقل المعارض.

٥٦٦

ـ ٣ ـ

حكم التعارض على ضوء الأخبار الخاصّة

الروايات الخاصة الواردة في علاج التعارض على قسمين :

أحدهما : ما يتّصل بحالات التعارض بين الدليل القطعيّ السند والدليل الظنّيّ السند ، إذ قد يقال بوجود ما يدلّ على إلغاء حجّية الدليل الظنّيّ السند في هذه الحالة على نحو نرفع اليد بذلك عمّا قد يكون هو مقتضى القاعدة من تعارض دليل التعبّد بالسند في أحدهما مع دليل التعبّد بالظهور في الآخر وتساقطهما. ونسمّي روايات هذا القسم بروايات العرض على الكتاب ؛ لأنّها تقتضي عرض الأخبار على الكتاب.

والقسم الآخر : ما يتّصل بحالات التعارض بين الدليلين الظنّيين سنداً ، إذ قد يقال بوجود ما يدلّ على عدم التساقط وثبوت الحجّية لأحد المتعارضين تعييناً أو تخييراً على نحوٍ نرفع اليد به عمّا تقتضيه القاعدة من التساقط ، ونسمّي روايات هذا القسم بروايات العلاج.

وسنتكلّم عن هذين القسمين تباعاً :

١ ـ روايات العرض على الكتاب :

ويمكن تصنيف هذه الروايات إلى ثلاث مجاميع :

٥٦٧

المجموعة الاولى : ما ورد بلسان الاستنكار والتحاشي عن صدور ما يخالف الكتاب من المعصومين ، من قبيل رواية أيّوب بن راشد ، عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : «مالم يوافق من الحديث القرآن فهو زخرف» (١).

فإنّ التعبير بزخرفٍ يدلّ على نفي الصدور مع الاستنكار والتحاشي. وهذه الروايات تدلّ على سقوط كلِّ خبرٍ مخالفٍ للكتاب عن الحجّية ، وبهذا تقيِّد دليل حجّية السند على تقدير ثبوت الإطلاق فيه.

وقد يستشكل في ذلك :

تارةً : بأنّ الروايات المذكورة لا تنفي الحجّية ، وليست ناظرةً اليها ، وإنمّا تنفي صدور الكلام المخالف ، فلا تعارض دليل حجّية السند لتقيِّده ، وإنمّا تعارض نفس الروايات الدالّة على صدور الكلام المخالف.

واخرى : بأنّ موضوع هذه الرواية غير الموافق ، لا المخالف ، ولازم ذلك عدم العمل بالروايات التي لا تعرّض في القرآن الكريم لمضمونها.

وثالثةً : بأنّ صدور الكلام المخالف من الأئمّة عليهم‌السلام معلوم وجداناً ، كما في موارد التخصيص والتقييد ، وهذا يكشف عن لزوم تأويل تلك الروايات ولو بحملها على المخالفة في اصول الدين.

والجواب : أمّا على الأول فبأنّ نفي الصدور بروح الاستنكار يدلّ بالالتزام العرفي على نفي الحجّية.

وأمّا على الثاني فبأنّ ظاهر عدم الموافقة عدمها بنحو السالبة بانتفاء المحمول ، لا السالبة بانتفاء الموضوع التي تحصل بعدم تطرّق القرآن للمضمون رأساً.

__________________

(١) وسائل الشيعة ٢٧ : ١١٠ ، الباب ٩ من أبواب صفات القاضي ، الحديث ١٢.

٥٦٨

وأمّا على الثالث فبأنّ نفس الاستنكار والتحاشي قرينة عرفية على تقييد المخالف بما كان يقتضي طرح الدليل القرآني وإلغاءه رأساً ، فلا يشمل المخالف بالتخصيص والتقييد ونحوهما ممّا لااستنكار فيه بعد وضوح بناء البيانات الشرعية على ذلك.

المجموعة الثانية : ما دلّ على إناطة العمل بالرواية بأن يكون موافقاً مع الكتاب وعليه شاهد منه ، من قبيل رواية ابن أبي يعفور ، قال : سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عن اختلاف الحديث يرويه من نثق به ومنهم من لا نثق به ، قال : «إذا ورد عليكم حديث فوجدتم له شاهداً من كتاب الله أو من قول رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وإلاّ فالذي جاء به أولى به» (١).

وهذه الرواية ونظائرها تساوق في الحقيقة إلغاء حجّية خبر الواحد ؛ لأنّها تنهى عن العمل به في حالة عدم تطابقه مع القرآن الكريم ، ولا محصّل عرفاً لجعل الحجّية له في خصوص حالة التطابق ؛ لكفاية الدلالة القرآنية حينئذٍ.

وعليه فيرد على الاستدلال بها : أنّها بنفسها أخبار آحاد ، ولا يمكن الاستدلال بأخبار الآحاد على نفي حجّية خبر الواحد. هذا ، إضافةً إلى أنّنا لو سلّمنا أنّها لا تلغي حجّية خبر الواحد على الإطلاق فلا شكّ في أنّها تسلب الحجّية عن الخبر الذي ليس له موافق من الكتاب الكريم ، ومضمونها نفسه لا يوافق الكتاب الكريم ، بل يخالفه ، بناءً على دلالة الكتاب وغيره من الأدلّة القطعية على حجّية خبر الثقة ، فيلزم من حجّيتها عدم حجّيتها.

المجموعة الثالثة : ما دلّ على نفي الحجّية عمّا يخالف الكتاب الكريم ، من قبيل رواية جميل بن درّاج ، عن أبي عبدالله عليه‌السلام أنّه قال : «الوقوف عند الشبهة

__________________

(١) وسائل الشيعة ٢٧ : ١١٠ ، الباب ٩ من أبواب صفات القاضي ، الحديث ١١.

٥٦٩

خير من الاقتحام في الهلكة ، إنّ على كلِّ حقٍّ حقيقةً ، وعلى كلّ صوابٍ نوراً ، فما وافق كتاب الله فخذوه ، وما خالف كتاب الله فدَعوه» (١).

وتعتبر هذه المجموعة مخصِّصةً لدليل حجّية الخبر ، لا ملغيةً للحجّية رأساً ، ونتيجة ذلك عدم شمول الحجّية للخبر المعارض للكتاب الكريم. وبعد أخذ الكتاب بوصفه مصداقاً لمطلق الدليل القطعي على ضوء مناسبات الحكم والموضوع يثبت أنّ كلّ دليلٍ ظنّيٍّ يخالف دليلاً قطعيّ السند يسقط عن الحجّية ، والمخالفة هنا حيث لم ترد في سياق الاستنكار بل في سياق الوقوف عند الشبهة فلا تختصّ بالمخالفة التي تقتضي طرح الدليل القرآني رأساً كما في المجموعة الاولى ، بل تشمل كلّ حالات التعارض المستقرّ بما في ذلك التباين والعموم من وجه.

وقد يعترض على ذلك باعتراضين :

الأول : أنّ هذه المجموعة لا تختصّ بأخبار الآحاد ، بل تشمل كلّ أمارةٍ تؤدّي إلى مخالفة الكتاب ، فلا تكون أخصّ مطلقاً من دليل حجّية الخبر ، بل قد تكون النسبة هي العموم من وجه.

والجواب : أنّ الصحيح تقديم إطلاق هذه المجموعة ـ عند التعارض ـ على دليل حجّية الخبر باعتبار حكومتها عليه ، إذ هي كأدلّة المانعية والشرطية فُرِض فيها الفراغ عن أصل حجّية بعض الأمارات ليصحّ استثناء بعض الحالات من ذلك ، وهذا معنى النظر المستوجب للحكومة.

أضف إلى ذلك : أنّ خبر الثقة هو القدر المتيقّن منها ، باعتباره الفرد البارز من الأمارات ، والمتعارف والداخل في محلّ الابتلاء وقتئذٍ الذي كان يترقّب

__________________

(١) وسائل الشيعة ٢٧ : ١١٩ ، الباب ٩ من أبواب صفات القاضي ، الحديث ٣٥.

٥٧٠

مخالفته للكتاب تارةً وموافقته اخرى.

الثاني : أنّ هذه المجموعة تدلّ على إسقاط ما يخالف الكتاب عن الحجّية ، والمخالفة كما تشمل التنافي بنحو التباين أو العموم من وجهٍ كذلك تشمل التنافي بنحو التخصيص أو التقييد أو الحكومة ؛ لأنّ ذلك كلّه يصدق عليه المخالفة ، فيكون مقتضى إطلاقها طرح ما يعارض الكتاب الكريم مطلقاً ، سواء كان تعارضاً مستقرّاً أو غير مستقرّ.

وقد اجيب على هذا الاعتراض بوجهين :

أحدهما : أنّ المعارضة بنحو التخصيص أو التقييد ونحوهما ليست بمخالفة ؛ لأنّ الخاصّ والمقيّد والحاكم قرينة على المراد من العامّ والمطلق والمحكوم.

والآخر : أنّنا نعلم إجمالاً بصدور كثيرٍ من المخصِّصات والمقيِّدات للكتاب عن الأئمّة عليهم‌السلام ، وهذا إن لم يشكِّل قرينةً متّصلةً تصرف عنوان المخالفة في هذه الروايات إلى الأنحاء الاخرى من المخالفة ـ أي التعارض المستقرّ ـ فلا أقلّ من سقوط الإطلاقات القرآنية عن الحجّية بالتعارض فيما بينها على أساس العلم الإجمالي ، فتبقى الأخبار المخصّصة على حجّيتها.

ونلاحظ على هذين الوجهين : أنّ المخالفة للقرآن المسقِطة للخبر عن الحجّية : إن اريد بها المخالفة لدلالةٍ قرآنيةٍ ولو لم تكن حجّةً فكلا الجوابين غير صحيح ؛ لأنّ القرينة المنفصلة والتعارض على أساس العلم الإجمالي لا يرفع أصل الدلالة القرآنية ، ولا يُخِرج الخبر عن كونه مخالفاً لها.

وإن اريد بها المخالفة لدلالةٍ قرآنيةٍ حجّةٍ في نفسها وبقطع النظر عن الخبر المخالف لها فالجواب الثاني صحيح ؛ لأنّ الدلالة القرآنية ساقطة عن الحجّية بسبب العلم الإجمالي مالم يدَّع انحلاله. وأمّا الجواب الأول فهو غير صحيح ؛

٥٧١

لأنّ الخاصّ مخالف لدلالة العامّ التي هي حجّة في نفسها وبقطع النظر عن ورود الخاصّ.

وإن اريد بها المخالفة لدلالةٍ قرآنيةٍ واجدةٍ لمقتضى الحجّية حتى بعد ورود الخبر المخالف صحّ كلا الجوابين ؛ لأنّ مقتضى الحجّية في العامِّ غير محفوظٍ بعد ورود القرينة المنفصلة ، واختصّت المخالفة المسقِطة للخبر عن الحجّية بالمخالفة على وجهٍ لا يصلح للقرينية.

وأوجَه هذه الاحتمالات أوسطها.

ويمكن أن يجاب أيضاً ـ بعد الاعتراف بتمامية الاطلاق في روايات هذه المجموعة للمعارضة غير المستقرة ـ : بأنّ هناك مخصّصاً لهذا الإطلاق ، وهو ما ورد في بعض الأخبار العلاجية ممّا يستفاد منه الفراغ عن حجّية الخبر المخالف مع الكتاب في نفسه. ففي رواية عبدالرحمان ابن أبي عبدالله قال : قال الصادق عليه‌السلام : «إذا ورد عليكم حديثان مختلفان فاعرضوهما على كتاب الله ، فما وافق كتاب الله فخذوه ، وما خالف كتاب الله فردّوه ، فإن لم تجدوهما في كتاب الله فاعرضوهما على أخبار العامة ...» (١).

فإنّ الظاهر من قوله : «إذا ورد عليكم حديثان مختلفان» أنّ الإمام عليه‌السلام بصدد علاج مشكلة التعارض بين حديثين معتبرين في نفسيهما لولا التعارض ، فيكون دليلاً على عدم قدح المخالفة مع الكتاب في الحجّية الاقتضائية. نعم ، لا يوجد فيه إطلاق يشمل جميع أقسام الخبر المخالف مع الكتاب ؛ لأنّه ليس في مقام بيان هذه الحيثية ليتمّ فيه الإطلاق ، فلابدّ من الاقتصار على المتيقّن من مفاده وهو مورد القرينية.

__________________

(١) وسائل الشيعة ٢٧ : ١١٨ ، الباب ٩ من أبواب صفات القاضي ، الحديث ٢٩.

٥٧٢

٢ ـ روايات العلاج

ويمكن تصنيف روايات العلاج إلى عدّة مجاميع ، أهمّها : مجموعة التخيير ، ومجموعة الترجيح :

روايات التخيير :

المجموعة الاولى : ما استدلّ به من الروايات على التخيير ، بمعنى جعل كلٍّ منهما حجّةً على سبيل التخيير ، والحديث عن ذلك يقع : تارةً في مقام الثبوت وتصوير إمكان جعل الحجّية التخييرية ، واخرى في مقام الإثبات ومدى دلالة الروايات على ذلك.

أمّا البحث الثبوتي فقد يقال فيه : إنّ الحجّية التخييرية غير معقولة ؛ لأنّه إمّا أن يراد بها جعل حجّيةٍ واحدة ، أو جعل حجّيتين مشروطتين :

أمّا الأوّل فهو ممتنع ؛ لأنّ هذه الحجّية الواحدة إن كانت ثابتةً لأحد الخبرين بالخصوص فهو خلف تخييريّتها.

وإن كانت ثابتةً للجامع بين الخبرين بنحو مطلق الوجود ـ أي الجامع أينما وجد ـ لزم سريان الحجّية إلى كلا الفردين مع تعارضهما.

وإن كانت ثابتةً للجامع بنحو صرف الوجود لم تسرِ إلى كلٍّ من الخبرين ؛ لأنّ ما يتعلّق بصرف الوجود لا يسري إلى الفرد ، ومن الواضح أنّ صرف وجود الجامع بين الخبرين ليس له مدلول ليكون حجّةً في إثباته.

وأمّا الثاني فهو ممتنع أيضاً ؛ لأنّ حجّية كلٍّ من المتعارضين إن كانت مشروطةً بالالتزام به لزم عدم حجّيتهما معاً في حالة ترك الالتزام بشيءٍ منهما ، وإن كانت مشروطةً بترك الالتزام بالآخر لزمت حجّيتهما معاً في الحالة المذكورة.

٥٧٣

والجواب : أنّ بالإمكان تصوير التخيير بالالتزام بحجّية كلٍّ منهما مشروطةً بالالتزام به (١) مع افتراض وجوبٍ طريقيٍّ للالتزام بأحدهما.

وأمّا البحث الإثباتي فهناك روايات عديدة استدلّ بها على التخيير :

منها : رواية عليّ بن مهزيار ، قال : قرأت في كتابٍ لعبدالله بن محمد إلى أبي الحسن عليه‌السلام : اختلف أصحابنا في رواياتهم عن أبي عبدالله عليه‌السلام في ركعتي الفجر في السفر ، فروى بعضهم : أنْ صلّهما في المحمل ، وروى بعضهم : لا تصلّهما إلاّ على الأرض ، فأعلمني كيف تصنع أنت لأقتدي بك في ذلك؟ فوقّع عليه‌السلام : «موسَّع عليك بأيّةٍ عملت» (٢).

وفقرة الاستدلال منها : قوله عليه‌السلام : «موسَّع عليك بأيّةٍ عملت» الواضح في الدلالة على التخيير وإمكان العمل بكلٍّ من الحديثين المتعارضين.

ولكن نلاحظ على ذلك :

أولاً : أنّ الظاهر منها إرادة التوسعة والتخيير الواقعي ، لا التخيير الظاهري بين الحجّيتين ؛ لظهور كلٍّ من سؤال الراوي وجواب الإمام في ذلك.

أمّا ظهور السؤال فلأ نّه مقتضى التنصيص من قبله على الحكم الذي تعارض فيه الخبران الظاهر في استعلامه عن الحكم الواقعي ، على أنّ قوله : «فأعلمني كيف تصنع أنت لأقتدي بك؟» كالصريح في أنّ السؤال عن الحكم الواقعي للمسألة ، فيكون مقتضى التطابق بينه وبين الجواب كون النظر في كلام الإمام عليه‌السلام إلى ذلك أيضاً ، إذ لا وجه لصرف النظر مع تعيين الواقعة عن حكمها الواقعي إلى الحكم الظاهري العام.

__________________

(١) العبارة الواردة في الطبعة الاولى والنسخة الخطيّة الواصلة إلينا : «بشرط ترك الاتزام بالآخر». والصحيح : «مشروطةً بالإلتزام به» كما أثبتناه.

(٢) وسائل الشيعة ٤ : ٣٣٠ ، الباب ١٥ من أبواب القبلة ، الحديث ٨.

٥٧٤

وأمّا ظهور الجواب في التخيير الواقعي فباعتبار أنّه المناسب مع حال الإمام عليه‌السلام ، العارف بالأحكام الواقعية والمتصدّي لبيانها (١) فيما اذا كان السؤال عن واقعةٍ معيّنةٍ بالذات.

وثانياً : لو تنزّلنا وافترضنا أنّ النظر إلى مرحلة الحكم الظاهري والحجّية فلا يمكن أن يستفاد من الرواية التخيير في حالات التعارض المستقرّ ؛ لأنّ موردها التعارض بين مضمونين بينهما جمع عرفي بحمل النهي على الكراهة بقرينة الترخيص ، فقد يراد بالتخيير حينئذٍ التوسعة في مقام العمل بالأخذ بمفاد دليل الترخيص أو دليل النهي ؛ لعدم التنافي بينهما ؛ لكون النهي غير إلزامي ، لاجعل الحجّية التخييرية بالمعنى المدّعى.

ومنها : مكاتبة الحميري عن الحجّة عليه‌السلام ، إذ جاء فيها : يسألني بعض الفقهاء عن المصلّي إذا قام من التشهّد الأول إلى الركعة الثالثة هل يجب عليه أن يكبّر ، فإنّ بعض أصحابنا قال : لا يجب عليه التكبير ويجزيه أن يقول : بحول الله وقوته أقوم وأقعد؟ فكتب عليه‌السلام في الجواب : «إنّ فيه حديثين : أمّا أحدهما فإنّه إذا انتقل من حالةٍ إلى حالةٍ اخرى فعليه التكبير ، وأمّا الآخر فإنّه روي : إذا رفع رأسه من السجدة الثانية وكبّر ثمّ جلس ثمّ قام فليس عليه في القيام بعد القعود تكبير ، وكذلك التشهّد الأول يجري هذا المجرى ، وبأيِّهما أخذت من جهة التسليم كان صواباً» (٢).

وفقرة الاستدلال منها : قوله عليه‌السلام : «وبأيِّهما أخذت من جهة التسليم كان صواباً» ، والاستدلال بها لعلّه أوضح من الاستدلال بالرواية السابقة ، باعتبار كلمة

__________________

(١) كلمة «لبيانها» غير موجودة في الطبعة الاولى ، وقد أثبتناها طبقاً لما جاء في النسخةالخطيّة الواصلة إلينا.

(٢) وسائل الشيعة ٦ : ٣٦٣ ، الباب ١٣ من أبواب السجود ، الحديث ٨.

٥٧٥

«أخذت من جهة التسليم» التي قد يستشعر منها النظر إلى الحجّية والتعبّد بأحد الخبرين.

والصحيح : أنّ الاستدلال بالرواية غير وجيه ؛ لأنّ السائل في هذه الرواية لم يفرض خبرين متعارضين ، وإنمّا سأل عن مسألةٍ اختلف الفقهاء في حكمها الواقعي ، وإنمّا يراد الاستدلال بها على التخيير باعتبار ما في جواب الإمام عليه‌السلام من نقل حديثين متخالفين وترخيصه في التسليم بأيِّهما شاء ، إلاّأنّ هذا الجواب غير دالٍّ على التخيير المدّعى ؛ وذلك لعدّةِ امور :

الأول : ظهور كلام الإمام عليه‌السلام في الرخصة الواقعية ، لا التخيير الظاهري بين الحجّتين ، كما تقدم في الرواية السابقة.

الثاني : أنّ جملة «وكذلك التشهّد الأول يجري هذا المجرى» تارةً تفترض جزءاً من الحديث الثاني ، واخرى تفترض كلاماً مستقلاً يضيفه الإمام إلى الحديثين.

فإذا كانت جزءاً من الحديث ـ ولو بقرينة أنّه مورد لسؤال الراوي الذي قال عنه الإمام : إنّ فيه حديثين ـ كان الحديثان متعارضين ، إلاّأنّهما من التعارض غير المستقرّ الذي فيه جمع عرفي واضح ، لا باعتبار أخصّية الحديث الثاني فحسب ، بل باعتبار كونه ناظراً إلى مدلول الحديث الأول وحاكماً عليه ، وعدم استحكام التعارض بين الحاكم والمحكوم أمر واضح عرفاً ، ومقطوع به فقهياً بحيث لا يحتمل أن يكون للشارع حكم على خلاف الجمع العرفي فيه ، فيكون هذا بنفسه قرينةً على أنّ المقصود من التخيير الترخيص الواقعي.

وإذا كانت جملةً مستقلّةً وكان الحديث الثاني متكفِّلاً لحكم القيام من الجلوس بعد السجدة الثانية ، وأ نّه ليس على المصلّي تكبير فيه فلا تعارض بين الحديثين في مورد سؤال الراوي وهو الانتقال من التشهّد إلى القيام ، فيكون هذا

٥٧٦

بنفسه قرينةً على أنّ المراد هو الترخيص الواقعي.

الثالث : أنّه لو تمّت دلالة الرواية على التخيير الظاهري في الحجّية فموردها الحديثان القطعيان اللّذان نقلهما الإمام بنفسه ، كما يناسبه التعبير عنهما بالحديثين الظاهر في كونهما سنّةً ثابتةً عن آبائه المعصومين ، فلا يمكن التعدّي منه إلى التعارض بين خبرين ظنّيين سنداً ؛ لاحتمال أن يكون مزيد اهتمام الشارع بالقطعيّين موجباً لجعل الحجّية التخييرية في موردهما خاصّة.

ومنها : مرسلة الحسن بن الجهم ، عن الرضا عليه‌السلام ـ في حديثٍ ـ قال : قلت : يجيئنا الرجلان وكلاهما ثقة بحديثين مختلفين فلا نعلم أيّهما الحقّ ، فقال : «إذا لم تعلم فموسّع عليك بأيِّهما أخذت» (١).

وهذه أوضح الروايات في الدلالة على التخيير في الحجّية بالنحو المدّعى ، إلاّ أنّها ساقطة سنداً بالإرسال.

وقد تقدّمت بعض الروايات المستدلِّ بها على التخيير في الحلقة السابقة (٢) مع مناقشة دلالتها.

روايات الترجيح :

المجموعة الثانية : ما استدلّ به من الروايات على ترجيح إحدى الروايتين على الاخرى لمرجِّح يعود إلى صفات الراوي كالأوثقية ، أو صفات الرواية كالشهرة ، أو صفات المضمون كالمطابقة للكتاب الكريم أو المخالفة للعامة ، وهي

__________________

(١) الاحتجاج ٢ : ٢٦٤ ، الحديث ٢٣٣ ، ووسائل الشيعة ٢٧ : ١٢٢ ، الباب ٩ من أبواب صفات القاضي ، الحديث ٤٠.

(٢) في بحث التعارض ، تحت عنوان : الحكم الرابع قاعدة التخيير للروايات الخاصّة.

٥٧٧

روايات عديدة :

فمنها : رواية عبد الرحمان ابن أبي عبد الله التي دلّت على الترجيح أولاً بموافقة الكتاب ، وثانياً بمخالفة العامة ، وقد تقدمت الرواية مع الحديث عنها في الحلقة السابقة (١) ، واتّضح من خلال ذلك أنّها تامّة في دلالتها على المرجِّحين المذكورين.

ومنها : مقبولة عمر بن حنظلة ، قال : سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عن رجلين من أصحابنا بينهما منازعة في دينٍ أو ميراث ، فتحاكما إلى السلطان أو إلى القضاة أيحلّ ذلك؟ قال عليه‌السلام : «من تحاكم اليهم في حقٍّ أو باطل فإنّما تحاكم إلى الطاغوت ...».

قلت : فكيف يصنعان؟

قال : «ينظران من كان منكم ممّن قد روى حديثنا ونظر في حلالنا وحرامنا وعرف أحكامنا فليرضوا به حكماً ، فإنّي قد جعلته عليكم حاكماً ، فإذا حكم بحكمنا فلم يقبل منه فإنّما بحكم الله استخفّ وعلينا ردّ ...».

قلت : فإن كان كلّ واحدٍ اختار رجلاً من أصحابنا فرضيا أن يكونا الناظرين في حقّهما واختلف فيما حكما وكلاهما اختلفا في حديثكم.

قال : «الحكم ما حكم به أعدلهما وأفقههما وأصدقهما في الحديث وأورعهما ، ولا يلتفت إلى ما يحكم به الآخر».

قال : فقلت : فإنّهما عدلان مرضيّان عند أصحابنا لا يفضل واحد منهما على صاحبه.

قال : فقال : «يُنظر إلى ما كان من روايتهما عنّا في ذلك الذي حكما به ،

__________________

(١) في بحث التعارض ، تحت عنوان : الحكم الثالث قاعدة الترجيح للروايات الخاصّة.

٥٧٨

المجمع عليه عند أصحابك فيؤخذ به من حكمنا ويترك الشاذّ الذي ليس بمشهورٍ عند أصحابك ، فإنّ المجمع عليه لاريب فيه ، وإنّما الامور ثلاثة : أمر بيِّن رشده فيُتَّبَع ، وأمر بيِّن غيّه فيجتنب ، وأمر مشكل يُردّ حكمه إلى الله ...».

قال الراوي : قلت : فإن كان الخبران عنكم مشهورين قد رواهما الثقات عنكم؟ قال : «ينظر فما وافق حكمه حكم الكتاب والسنّة وخالف العامّة فيؤخذ به ، ويترك ما خالف حكمه حكم الكتاب والسنّة ووافق العامة ...» ... إلى أن قال الراوي : قلت : فإن وافق حكامهم (اي العامّة) الخبرين جميعاً ، قال : «اذا كان ذلك فأرجئه حتّى تلقى إمامك ، فإنّ الوقوف عند الشبهات خير من الاقتحام في الهلكات» (١).

وهذه الرواية تشتمل على المرجِّحَين السابقَين ، غير أنّها تذكر قبل ذلك ترجيحين آخرين : أحدهما الترجيح بصفات الراوي ، والآخر الترجيح بالشهرة ، فإن تمّت دلالتها على ذلك كانت مقيِّدةً لإطلاق الرواية السابقة ، ودالّةً على أنّ الانتهاء إلى المرجِّحَين السابقَين متوقّف على عدم وجود أحد (٢) هذين الترجيحين.

وقد يعترض على استفادة هذين الترجيحين بالصفات وبالشهرة من المقبولة بوجوه :

الأول : أنّ المقبولة مختصّة مورداً بعصر الحضور والتمكّن من لقاء الإمام عليه‌السلام بقرينة قوله فيها : «أرجئه حتّى تلقى إمامك» ، فلا تدلّ على ثبوت

__________________

(١) وسائل الشيعة ٢٧ : ١٠٦ ، الباب ٩ من أبواب صفات القاضي ، الحديث الأوّل.

(٢) كلمة (أحد) ساقطة عن الطبعة الاولى ، وقد أثبتناها طبقاً لما جاء في النسخة الخطيّةالواصلة إلينا.

٥٧٩

الترجيحين في عصر الغيبة.

ونلاحظ على هذا الوجه : أنّ اختصاص الفقرة الأخيرة التي تأمر بالإرجاء بعصر الحضور لا يوجب تقييد الإطلاق في الفقرات السابقة ، خصوصاً مع ملاحظة أنّ التمكّن من لقاء الإمام ليس من الخصوصيات التي يحتمل العرف دخلها في مرجّحية الصفات ، إذ لا يختلف حال الأوثقية في كاشفيتها وتأكيد موردها بين عصري الحضور والغيبة ، وكذلك الأمر في الشهرة.

الثاني : أنّ الترجيح بالصفات وبالشهرة في المقبولة ترجيح لأحد الحكمين على الآخر ، لا لإحدى الروايتين على الاخرى في مقام التعارض.

وهذا الاعتراض وجيه بالنسبة إلى الترجيح بالصفات ، وليس صحيحاً بالنسبة إلى غيره ممّا ورد في المقبولة ، كالترجيح بالشهرة.

أمّا وجاهته بالنسبة إلى الترجيح بالصفات فلأنّنا نلاحظ إضافة الصفات في المقبولة إلى الحاكمَين ، حيث قال عليه‌السلام : «الحكم ما حكم به أعدلهما وأفقههما في الحديث وأورعهما».

هذا ، مضافاً إلى أنّ الإمام قد طبّق الترجيح بالصفات على أول سلسلة السندين المتعارضين ـ وهما الحاكمان ـ من دون أن يفرض أنّهما راويان مباشران للحديث ، بينما لو كان الترجيح بها ترجيحاً لإحدى الروايتين على الاخرى كان ينبغي تطبيقه على مجموع سلسلة الرواة ، أو على الراوي المباشر ، كما هو عمل المشهور ومقتضى الصناعة أيضاً ؛ لأن الراويَين المباشرَين إذا كان أحدهما أعدل وثبت الترجيح بالصفات فهذا يعني أنّ رواية المفضول عدالةً منهما إنّما تكون حجّةً في حالة عدم معارضتها برواية الأعدل ، وعليه فالناقل لرواية الراوي المباشر الأعدل يكون مخبِراً عن اختلال شرط الحجّية لرواية الراوي المباشر المفضول التي ينقلها الناقل الآخر ، وبهذا يكون حاكماً على نقل الناقل الآخر ،

٥٨٠