دروس في علم الأصول - ج ٢

آية الله السيّد محمّد باقر الصدر

دروس في علم الأصول - ج ٢

المؤلف:

آية الله السيّد محمّد باقر الصدر


المحقق: لجنة التحقيق التابعة للمؤتمر العالمي للإمام الشهيد الصدر
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مركز الأبحاث والدراسات التخصصية للشهيد الصدر
الطبعة: ١
الصفحات: ٦٠٨
الجزء ١ الجزء ٢

كما هو الحال في «أكرم العادل» و «أكرم الفقير» ، فإنّهما يتأكّدان في العادل الفقير.

ولكنّ هذا الجواب ليس صحيحاً ؛ لأنّ التأكّد على نحو التوحّد إنّما يكون في مثلَين لا طوليّة وترتّب بينهما ، كما في المثال ، لا في المقام ، حيث إنّ أحدهما متأخّر رتبةً عن الآخر ، لترتّبه على القطع به ، فلا يمكن أن يرتفع محذور اجتماع المثلَين بالتأكّد.

٢٦١

الواجب التوصّليّ والتعبّدي

لا شكّ في وجود واجباتٍ لا يخرج المكلّف عن عهدتها إلاّإذا أتى بها بقصد القربة والامتثال ، وفي مقابلها واجبات يتحقّق الخروج عن عهدتها بمجرّد الإتيان بالفعل بأيّ داعٍ كان.

والقسم الأول يسمّى بالتعبّدي ، والثاني يسمّى بالتوصّلي. والكلام يقع في تحليل الفرق بين القسمين ؛ فهل الاختلاف بينهما مردّه إلى عالم الحكم والوجوب؟ بمعنى أنّ قصد القربة والامتثال يكون مأخوذاً قيداً أو جزءاً في متعلق الوجوب التعبّدي ولا يكون كذلك في الوجوب التوصلي ، أو أنّ مردّ الاختلاف إلى عالم الملاك دون عالم الحكم؟ بمعنى أنّ الوجوب في كلٍّ من القسمين متعلّق بذات الفعل ، ولكنّه في القسم الأول ناشئ عن ملاكٍ لا يستوفى إلاّ بضمِّ قصد القربة ، وفي القسم الثاني ناشئ عن ملاكٍ يستوفى بمجرّد الإتيان بالفعل.

ومنشأ هذا الكلام هو احتمال استحالة أخذ قصد امتثال الأمر في متعلّق الأمر. فإن ثبتت هذه الاستحالة تعيّن تفسير الاختلاف بين التعبّدي والتوصّلي بالوجه الثاني ، وإلاّ تعيّن تفسيره بالوجه الأوّل.

ومن هنا يتّجه البحث إلى تحقيق حال هذه الاستحالة ؛ وقد بُرهِن عليها بوجوه :

الأول : أنّ قصد امتثال الأمر متأخِّر رتبةً عن الأمر ؛ لتفرّعه عليه ، فلو اخذ قيداً أو جزءاً في متعلّق الأمر والوجوب لكان داخلاً في معروض الأمر ضمناً ، ومتقدِّماً على الأمر تقدّم المعروض على عارضه ، فيلزم كون الشيء الواحد

٢٦٢

متقدِّماً ومتأخّراً.

والجواب : أنّ ما هو متأخّر عن الأمر ومتفرِّع على ثبوته قصد الامتثال من المكلّف خارجاً ، لا عنوانه وتصوّر مفهومه في ذهن المولى ، وما يكون متقدّماً على الأمر تقدّم المعروض على عارضه هو عنوان المتعلق وتصوره في ذهن المولى ؛ لأنّه ما لم يتصور الشيء لا يمكنه أن يأمر به. وأمّا الوجود الخارجي للمتعلق فليس متقدماً على الأمر ، بل هو من نتائجه دائماً ، فلا محذور.

وكأنّ صاحب هذا البرهان اشتبه عليه المتعلق بالموضوع. فقد عرفنا سابقاً (١) أنّ فعلية الوجوب المجعول تابعة لوجود الموضوع خارجاً ، وحيث اختلط على هذا المبرهن المتعلق والموضوع ، فخُيِّل له أنّ قصد الامتثال إذا كان داخلاً في المتعلق فهو داخل في الموضوع ويكون الوجوب الفعلي تابعاً لوجوده ، بينما وجوده متفرّع على الوجوب.

ونحن قد ميَّزنا سابقاً بين المتعلق والموضوع (٢) ، وميَّزنا بين الجعل والمجعول (٣). وعرفنا أنّ المجعول تابع في فعليته لوجود الموضوع خارجاً ، لا لوجود المتعلق. وأنّ الجعل منوط بالوجود الذهني لأطرافه من المتعلق والموضوع ؛ لا الخارجي ، فلا تنطوي علينا المغالطة المذكورة.

الثاني : أنّ قصد امتثال الأمر عبارة عن محرّكية الأمر. والأمر لا يحرِّك إلاّ نحو متعلقه ، فلو كان نفس القصد المذكور داخلاً في المتعلق لأدّى إلى أنّ الأمر

__________________

(١) تحت عنوان : قاعدة إمكان الوجوب المشروط.

(٢) في بحث الدليل العقلي من الحلقة الاولى ، تحت عنوان : العلاقات القائمة بين الحكم ومتعلّقه.

(٣) في بحث الدليل العقلي من هذه الحلقة ، تحت عنوان : قاعدة إمكان الوجوب المشروط.

٢٦٣

يحرِّك نحو نفس هذه المحرِّكية ، وهذا مستحيل.

وببيانٍ آخر : أنّ المكلّف لا يمكنه أن يقصد امتثال الأمر إلاّبالإتيان بما تعلَّق به ذلك الأمر ، فإن كان القصد المذكور دخيلاً في المتعلق ، فهذا يعني أنّ الأمر لم يتعلّق بذات الفعل ، فلا يمكن للمكلّف أن يقصد الامتثال بذات الفعل.

وإن شئت قلت : إنّ قصد امتثال الأمر بفعلٍ يتوقّف على أن يكون مصداقاً لمتعلّق الأمر ، وكونه كذلك ـ على فرض أخذ القصد في المتعلق ـ يتوقّف على انضمام القصد المذكور إليه ، وهذا يؤدِّي إلى توقّف الشيء على نفسه ؛ واستحالة الامتثال.

وقد اجيب على ذلك : بأنّ القصد إذا كان داخلاً في المتعلّق انحلّ الأمر إلى أمرين ضمنيّين ، لكلٍّ منهما محرِّكية نحو متعلقه : أحدهما الأمر بذات الفعل ، والآخر الأمر بقصد امتثال الأمر الأول وجعله محرِّكاً.

فيندفع البيان الأول في البرهان المذكور : بأنّ الأمر الثاني يحرِّك نحو محرِّكية الأمر الأول ، لا نحو محرِّكية نفسه.

ويندفع البيان الثاني : بأنّ ذات الفعل متعلق للأمر ؛ وهو الأمر الضمني الأول.

الثالث : أنّ قصد امتثال الأمر إذا اخذ في متعلق الأمر كان نفس الأمر قيداً من قيود الواجب ، وحيث إنّه قيد غير اختياريٍّ فلابدّ من أخذه قيداً في موضوع الوجوب. وهذا يعني أخذ الأمر في موضوع نفسه ، وهو محال. وقد مرّ بنا هذا البرهان في الحلقة السابقة (١).

وقد يعترض عليه : بأنّ القيد غير الاختياري للواجب إنمّا يلزم أن يؤخذ

__________________

(١) في بحث الدليل العقلي ، تحت عنوان : أخذ قصد امتثال الأمر في متعلّقه.

٢٦٤

قيداً في موضوع الوجوب ؛ لأنّه لو لم يؤخذ كذلك لكان الأمر محرِّكاً نحو المقيّد ، وهو يساوق التحريك نحو القيد ، مع أنّه غير اختياري ، فلابدّ من أخذه في الموضوع ؛ ليكون وجود الأمر ومحرِّكيته بعد افتراض وجود القيد. وفي هذه الحالة لا يحرِّك إلاّإلى التقيّد وذات المقيّد.

وهذا البيان إنّما يبرهن على أخذ القيد غير الاختياري للواجب قيداً في موضوع الوجوب إذا لم يكن مضمون الوجود بنفس جعل هذا الوجوب ، وأمّا إذا كان مضموناً كذلك فلن يحرِّكَ الأمر حينئذٍ نحو القيد ؛ لأنّه موجود بنفس وجوده ، بل يتّجه في تحريكه دائماً نحو التقيّد وذات المقّيد. والمقام مصداق لذلك ؛ لأنّ الأمر يتحقّق بنفس الجعل الشرعي ، فأيّ حاجةٍ إلى أخذه قيداً في الموضوع؟

هذه أهمّ براهين الاستحالة مع بعض التعليق عليها.

وثمرة هذا البحث : أنّ الاختلاف بين القسمين إذا كان مردّه إلى عالم الحكم فبالإمكان عند الشكّ في كون الواجب تعبّدياً أو توصّلياً التمسّك بإطلاق دليل الواجب لنفي دخل قصد الامتثال في متعلق الوجوب كما هو الحال في كلّ القيود المحتملة ، فتثبت التوصّلية.

وأمّا إذا كان مردّه إلى عالم الملاك بسبب استحالة أخذ القصد المذكور في متعلق الأمر ، فلا يمكن التمسّك بالإطلاق المذكور لإثبات التوصّلية ؛ لأنّ التوصّلية لا تثبت حينئذٍ إلاّبإثبات عدم دخل قصد الامتثال في الملاك ، وهذا ما لا يمكن إثباته بدليل الأمر ، لا مباشرةً ؛ لأنّ مفاد الدليل هو الأمر لا الملاك ، ولا بصورةٍ غير مباشرةٍ عن طريق إثبات الإطلاق في متعلق الأمر ؛ لأنّ الإطلاق في متعلّق الأمر إنّما يكشف عن الإطلاق في متعلق الملاك إذا كان بإمكان المولى أن يأمر بالمقيّد فلم يفعل ، والمفروض هنا عدم الإمكان.

٢٦٥

وقد تذكر ثمرة اخرى في مجال الأصل العملي عند الشكّ في التعبّدية وعدم قيام الدليل ، وهي : أنّ هذا الشكّ مجرى للبراءة إذا كان قصد الامتثال ممّا يؤخذ في الواجب على تقدير اعتباره ، إذ يدخل في كبرى دوران الواجب بين الأقلّ والأكثر. ومجرى لأصالة الاشتغال إذا كان قصد الامتثال ممّا لا يؤخذ كذلك ، إذ لا شكّ في وجوب شيءٍ شرعاً ، وإنّما الشكّ في سقوط الواجب المفروغ عن ثبوته.

٢٦٦

التخيير في الواجب

التخيير تارةً يكون عقلياً ، واخرى شرعياً. فإن كانت البدائل مذكورةً على نحو التردّد متعلّقاً للأمر في لسان الدليل ، فالتخيير شرعي ، وإلاّ فهو عقلي.

وقد وقع الكلام في تحليل واقع الوجوب في موارد التخيير ، وكيفية تعلّقه.

وفي ذلك عدّة اتّجاهات :

الاتّجاه الأول : أنّ الوجوب في موارد التخيير العقلي متعلّق بالجامع ، وفي موارد التخيير الشرعي متعلّق بكلّ واحدٍ من البدائل ؛ ولكن مشروطاً بترك البدائل الاخرى.

وقد يلاحظ عليه : بأنّ الوجوبات المشروطة تستلزم اموراً لا تناسب الوجوب التخييري ، كما تقدّم في الحلقة السابقة (١) ، من قبيل تعدّد العقاب بترك الجميع.

الاتّجاه الثاني : إرجاع التخيير الشرعي إلى التخيير العقلي ، فيلتزم بأنّ الوجوب يتعلّق بالجامع دائماً ، إمّا ببرهان استحالة الوجوبات المشروطة ـ كما اشير اليه ـ فيتعيّن هذا. وإمّا ببرهان أنّ الوجوب التخييري له ملاك واحد ، والواحد لا يصدر إلاّمن واحد ، فلابدّ من فرض جامعٍ بين البدائل يكون هو علّة تحصيل ذلك الملاك.

الاتّجاه الثالث : التسليم بأنّ الوجوب في موارد التخيير يتعلّق بالجامع

__________________

(١) في بحث الدليل العقلي ، تحت عنوان : التخيير الشرعي في الواجب.

٢٦٧

دائماً ، ولكن يقال : إنّ وجوب الجامع يستلزم الوجوبات المشروطة للحصص والأفراد ، أي وجوب كلّ واحدةٍ منها بشرط انتفاء الحصص الاخرى. وهذه الوجوبات بمجموعها لمَّا كانت روحاً نفس ذلك الوجوب المتعلّق بالجامع فليس من ناحيتها إلاّعقاب واحد في فرض ترك الجميع.

والفرق بين هذا الاتّجاه وسابقه : أنّ هذا يقول بسراية الوجوب إلى الحصّة بالنحو المذكور ، وأمّا ذاك الاتّجاه فلا يلتزم بالسِراية ، وعليه لا تكون الحصّة معروضةً للوجوب ، بل مصداقاً لمعروض الوجوب. فالوجوب بالنسبة إلى الحصّة في موارد التخيير كالنوعية بالنسبة إلى أفراد الإنسان ، فإنّ هذا الفرد أو ذاك مصداق لمعروض النوعية لا معروض لها.

وقد يعترض على الاتّجاه الثالث : بأنّ الوجوب فعلٌ اختياريّ للشارع يجعله حيثما أراد ، فاذا جعله على الجامع لا يعقل أن يسري بنفسه إلى غير الجامع. فإن اريد بالوجوبات المشروطة سريان نفس ذلك الوجوب فهو مستحيل. وإن اريد أنّ الشارع يجعل وجوباتٍ اخرى مشروطةً فهو بلا موجب ، فيكون لغواً.

ويمكن أن يجاب على ذلك : بأنّ هذا إنمّا يتمّ في مرحلة جعل الحكم والإيجاب ، لا في مرحلة الشوق والإرادة ، إذ لا مانع من دعوى الملازمة في هذه المرحلة بين حبّ الجامع وأنحاءٍ من الحبّ المشروط للحصص ، ولا يأتي الاعتراض باللّغوية ؛ لأنّ الكلام هنا عن المبادئ التكوينية للحكم. وهذه الملازمة لا برهان عليها ، ولكنّها مطابقة للوجدان.

وهذا التحليل للوجوب التخييري له ثمرات :

منها : ما سوف يظهر في مسألة اجتماع الأمر والنهي.

ومنها : ما قد يقال من أنّه إذا شكّ في واجبٍ أنّه تخييريّ أو تعيينيّ فعلى

٢٦٨

القول برجوع التخيير الشرعي إلى إيجاب الجامع يكون المقام من موارد دوران الأمر بين التعيين والتخيير ، فإن قيل هناك بالبراءة قيل بها هنا بإجرائها عن التعيين ، وإلاّ فلا.

وعلى القول برجوع التخيير الشرعي إلى الوجوبات المشروطة ـ كما يقرِّره الاتّجاه الأول ـ فالشكّ مرجعه إلى الشكّ في إطلاق الوجوب واشتراطه ، أي في ثبوته في حال الإتيان بما يحتمل كونه بديلاً وعدلاً ، وهذا شكّ في الوجوب الزائد بلا إشكال ؛ فتجري البراءة.

٢٦٩

الوجوب الغيري لمقدّمات الوَاجب

تعريف الواجب الغيري :

اتّضح ممّا تقدم (١) أنّ المكلّف مسؤول عن مقدمات الواجب من قبل نفس الوجوب المتعلّق به ؛ لأنّه يحرِّك نحوها تبعاً لتحريكه نحو متعلّقه. وهذه المسؤولية في حدودها العقلية متّفق عليها باعتبارها من شؤون حكم العقل بلزوم الامتثال ، وإنّما وقع الكلام في دعوى الوجوب الشرعي للمقدمة :

فالمشهور بين الاصوليّين هو : أنّ إيجاب الشيء يستلزم إيجاب مقدمته فتتّصف المقدّمة بوجوبٍ شرعي ، غير أنّه تبعي ؛ إمّا بمعنى أنّه معلول لوجوب ذي المقدمة ، أو بمعنى أنّ الوجوبين معاً معلولان للملاك القائم بذي المقدمة ، فهذا الملاك بنفسه يؤدّي إلى إيجاب ذي المقدمة نفسيّاً ، وبضمّ مقدّمية المقدّمة يؤدّي إلى إيجابها غيريّاً ، وعلى كلا الوجهين فالتلازم بين الوجوبين محفوظ.

ويعرِّف هؤلاء القائلون بالملازمةالواجب الغيري بأ نّه : ما وجب لغيره ، أو ما وجب لواجبٍ آخر. والواجب النفسيّ بأ نّه : ما وجب لنفسه ، أو ما وجب لا لواجبٍ آخر. وعلى هذا الأساس يصنِّفون الواجبات في الشريعة إلى قسمين : فالصلاة ، والصيام ، والحجّ ونحوها واجبات نفسية. والوضوء ، والغسل ، وطيّ المسافة واجبات غيرية.

وقد لوحظ عليهم : أنّ الصلاة ونحوها من الواجبات لم يوجبها الشارع إلاّ لِمَا يترتّب عليها من الفوائد والمصالح ، وهي مغايرة وجوداً لتلك الفوائد

__________________

(١) تحت عنوان : المسؤوليّة تجاه القيود والمقدّمات.

٢٧٠

والمصالح ، فيصدق عليها أنّها وجبت للغير ، وهذا يعني أنّ كلَّ هذه الواجبات تصبح غيريةً ؛ ولا يبقى في نطاق الواجب النفسي إلاّما كانت مصلحته ذاتيةً له ، كالإيمان بالله سبحانه وتعالى.

وأجاب هؤلاء على الملاحظة المذكورة : بأنّ الصلاة وإن كانت واجبةً من أجل المصلحة المترتِّبة عليها إلاّأنّ هذا لا يدرجها في تعريف الواجب الغيري ؛ لأنّ الواجب الغيري ليس كلّ ما وجب لغيره ، بل ما وجب لواجبٍ آخر ، والمصلحة الملحوظة في إيجاب الصلاة ليست متعلقاً للوجوب بنفسها ، فلا يصدق على الصلاة أنّها وجبت لواجبٍ آخر.

فإن سألت : كيف لا تكون تلك المصلحة واجبةً مع أنّ الصلاة الواجبة إنّما اوجبت من أجلها؟

كان الجواب : أنّ الإيجاب مرجعه إلى الاعتبار والجعل الذي هو العنصر الثالث من عناصر تكوين الحكم في مقام الثبوت ، وغاية الواجب إنّما يجب أن تكون مشاركةً للواجب بدرجةٍ أقوى في عالم الحبّ والإرادة ؛ لأنّ حبَّه إنّما هو لأجلها ، لا في عالم الجعل والاعتبار ؛ لأنّ الجعل قد يحدِّد به المولى مركز حقّ الطاعة على نحوٍ يكون مغايراً لمركز حبّ الأصيل ؛ لِمَا تقدم في بداية هذه الحلقة (١) من أنّ المولى له أن يحدِّد مركز حقّ الطاعة في مقدمات مراده الأصيل بجعل الإيجاب عليها ، لا عليه ، فتكون هي الواجبة في عالم الجعل دونه.

وعلى هذا فاذا جعل الشارع الإيجاب على الصلاة ابتداءً وحدّدها مركزاً لحقّ الطاعة ، ولم يدخل المصلحة المنظورة له في العهدة ، كانت الصلاة واجباً نفسياً لا غيرياً ؛ لأنّها لم تجب لواجبٍ آخر وإن وجبت لمصلحةٍ مترتّبةٍ عليها.

__________________

(١) في البحث عن الحكم الشرعي وتقسيماته ، تحت عنوان : الحكم الواقعي والظاهري.

٢٧١

وخلافاً لذلك الوضوء فإنّه وجب من أجل الصلاة الواجبة ، فينطبق عليه تعريف الواجب الغيري.

خصائص الوجوب الغيري :

ولا شكّ لدى الجميع في أنّ الوجوب الغيري للمقدمة ـ إذا كان ثابتاً ـ فهو لا يتمتّع بجملةٍ من خصائص الوجوب النفسي ، ويمكن تلخيص أحوال الوجوب الغيري في ما يلي :

أولاً : أنّه ليس صالحاً للتحريك المولوي بصورةٍ مستقلّةٍ ومنفصلةٍ عن الوجوب النفسي ، بمعنى أنّ من لا يكون بصدد التحرّك عن الوجوب النفسي للحجّ لا يمكن أن يتحرّك بروحية الطاعة والإخلاص للمولى عن الوجوب الغيري لطيِ المسافة ؛ لأنّ إرادة العبد المنقاد التكوينية يجب أن تتطابق مع إرادة المولى التشريعية ، ولمَّا كانت إرادة المولى للمقدمة في إطار مطلوبية ذيها ومن أجل التوصّل إليه ، فلا بدّ أن تكون إرادة العبد المنقاد لها في إطار امتثال ذيها.

وثانياً : أنّ امتثال الوجوب الغيري لا يستتبع ثواباً بما هو امتثال له ؛ وذلك لأنّ المكلّف إن أتى بالمقدمة بداعي امتثال الواجب النفسي كان عمله بدايةً في امتثال الوجوب النفسي ، ويستحقّ الثواب عندئذٍ من قبل هذا الوجوب. وإن أتى بالمقدمة وهو منصرفٌ عن امتثال الواجب النفسي فلن يكون بإمكانه أن يقصد بذلك امتثال الوجوب الغيري ؛ لِمَا تقدّم من عدم صلاحية الوجوب الغيري للتحريك المولوي.

وثالثاً : أنّ مخالفة الوجوب الغيري بترك المقدمة ليست موضوعاً مستقلًّا لاستحقاق العقاب إضافةً إلى مايستحقّ من عقابٍ على مخالفة الوجوب النفسي ؛

٢٧٢

وذلك لأنّ استحقاق العقاب على مخالفة الواجب إنّما هو بلحاظ ما يعبِّر عنه الواجب من مبادئ وملاكاتٍ تفوت بذلك ، ومن الواضح أنّ الواجب الغيري ليس له مبادئ وملاكات سوى ماللواجب النفسي من ملاك ، فلا معنى لتعدّد استحقاق العقاب.

ورابعاً : أنّ الوجوب الغيري ملاكه المقدّميّة ، وهذا يفرض تعلّقه بواقع المقدمة دون أن يؤخذ فيه أيّ شيءٍ إضافيٍّ لا دخل له في حصول ذي المقدمة.

ومن هنا كان قصد التوصّل بالمقدمة إلى امتثال المولى والتقرّب بها نحوه تعالى خارجاً عن دائرة الواجب الغيري ؛ لعدم دخل ذلك في حصول الواجب النفسي.

فطيّ المسافة إلى الميقات كيفما وقع وبأيّ داعٍ اتّفق يحقِّق الواجب الغيري ، ولا يتوقّف الحجّ على وقوع هذا الطيّ بقصدٍ قربي. وهذا معنى ما يقال من أنّ الواجبات الغيرية توصّلية.

مقدمات غير الواجب :

كما تتّصف مقدمات الواجب بالوجوب الغيري عند القائلين بالملازمة ، كذلك تتّصف مقدمات المستحبّ بالاستحباب الغيري لنفس السبب. وأمّا مقدمات الحرام فهي على قسمين :

أحدهما : مالا ينفكّ عنه الحرام ، ويعتبر بمثابة العلّة التامة أو الجزء الأخير من العلّة التامة له ، كإلقاء الورقة في النار الذي يترتّب عليه الاحتراق.

والقسم الآخر : ما ينفكّ عنه الحرام ، وبالإمكان أن يوجد ومع هذا يترك الحرام.

فالقسم الأول من المقدمات يتّصف بالحرمة الغيرية ، دون القسم الثاني ؛ لأنّ المطلوب في المحرّمات ترك الحرام وهو يتوقّف على ترك القسم الأول من

٢٧٣

المقدمات ، ولا يتوقّف على ترك القسم الثاني.

ومقدمات المكروه كمقدمات الحرام.

الثمرة الفقهية للنزاع في الوجوب الغيري :

ومسألة الملازمة بين وجوب الشيء ووجوب مقدمته على الرغم من كونها من المسائل الاصولية العريقة في علم الاصول قد وقع شيء من التحيّر لدى باحثيها في ثمرتها الفقهية. وقد يبدو لأوّل نظرةٍ أنّ ثمرتها إثبات الوجوب الغيري ، وهو حكم شرعيّ نستنبطه من الملازمة المذكورة.

ولكنّ الصحيح عدم صواب هذه النظرة ؛ لأنّ الحكم الشرعي الذي يبحثه علم الفقه ـ ويطلب من علم الاصول ذكر القواعد التي يستنبط منها ـ إنّما هو الحكم القابل للتحريك المولوي الذي تقع مخالفته موضوعاً لاستحقاق العقاب. وقد عرفت أنّ الوجوب الغيري ـ على تقدير ثبوته ـ ليس كذلك ، فهو لا يصلح أن يكون بنفسه ثمرةً لهذه المسألة الاصولية.

وأفضل ما يمكن أن يقال بهذا الصدد تصوير الثمرة كما يلي :

أولاً : أنّه إذا اتّفق أن أصبح واجبٌ علّةً تامةً لحرامٍ ، وكان الواجب أهمّ ملاكاً من الحرام : فتارةً ننكر الملازمة ، واخرى نقبلها :

فعلى الأول يكون الفرض من حالات التزاحم بين ترك الحرام وفعل الواجب ، فنرجع إلى قانون باب التزاحم ، وهو تقديم الأهمّ ملاكاً ، ولا يسوغ تطبيق قواعد باب التعارض ، كما عرفنا سابقاً.

وعلى الثاني يكون دليل الحرمة ودليل الوجوب متعارضين ؛ لأنّ الحرمة تقتضي تعلّق الحرمة الغيرية بنفس الواجب ، ويستحيل ثبوت الوجوب والحرمة على فعلٍ واحد ، وهذا يعني أنّ التنافي بين الجعلين ، وكلّما كان التنافي بين

٢٧٤

الجعلين دخل الدليلان في باب التعارض وطُبِّقت عليه قواعده بدلا عن قانون باب التزاحم.

ثانياً : أنّه إذا اتّفق عكس ما تقدّم في الثمرة السابقة فأصبح الواجب صدفةً متوقّفاً على مقدمةٍ محرّمة ، كإنقاذ الغريق إذا توقّف على اجتياز الأرض المغصوبة ، فلا شكّ في أنّ المكلّف إذا اجتاز الأرض المغصوبة وأنقذ الغريق لم يرتكب حراماً ؛ لأنّ الحرمة تسقط في هذه الحالة رعايةً للواجب الأهمّ.

وأمّا إذا اجتاز الأرض المغصوبة ولم ينقذ الغريق فقد ارتكب حراماً إذا أنكرنا الملازمة ، وكذلك إذا قلنا بأنّ الوجوب الغيري يختصّ بالحصّة الموصلة من المقدمة. ولم يرتكب حراماً إذا قلنا بالملازمة وأنّ الوجوب الغيري لا يختصّ بالحصّة الموصلة. أمّا أنّه ارتكب حراماً على الأوّلَين فلأنّ اجتياز الأرض المغصوبة حرام في نفسه ، ولا يوجد ما يحول دون اتّصافه ـ في حالة عدم التوصّل به إلى الإنقاذ ـ بالحرمة. وأمّا أنّه لم يرتكب حراماً على الأخير فلأنّ الوجوب الغيري يحول دون اتّصافه بالحرمة.

شمول الوجوب الغيري :

قام القائلون بالملازمة بعدّة تقسيماتٍ للمقدمة ، وبحثوا في أنّ الوجوب الغيري هل يشمل كلّ تلك الأقسام ، أوْ لا؟ ونذكر في مايلي أهمَّ تلك التقسيمات :

التقسيم الأول : تقسيم المقدمة إلى داخليةٍ وخارجية ، ويراد بالداخلية جزء الواجب ، وبالخارجية ما توقّف عليه الواجب من أشياء سوى أجزائه.

وقد وقع البحث بينهم في أنّ الوجوب الغيري هل يعمّ المقدّمات الداخلية أو يختصّ بالمقدمات الخارجية؟

فقد يقال بالتعميم ؛ لأنّ ملاكه التوقّف ، والواجب كما يتوقّف على المقدمة

٢٧٥

الخارجية يتوقّف أيضاً على وجود جزئه ، إذ لا يوجد مركّب إلاّإذا وجدت أجزاؤه.

ويقال في مقابل ذلك بالاختصاص ونفي الوجوب الغيري عن الجزء ، إمّا لعدم المقتضي له ، أو لوجود المانع.

وبيان عدم المقتضي أن يقال : إنّ التوقّف والمقدّمية يستبطن المغايرة بين المتوقِّف والمتوقَّف عليه ؛ لاستحالة توقّف الشيء على نفسه ، والجزء ليس مغايراً للمركّب في الوجود الخارجي ، فلا معنى لاتّصافه بالوجوب الغيري.

وبيان المانع بعد افتراض المقتضي أن يقال : إنّ الجزء متّصف بالوجوب النفسي الضمني ، فلو اتّصف بالوجوب الغيري لزم اجتماع المثلين.

فإن قيل : يمكن أن يفترض تأكّدهما وتوحّدهما من خلال ذلك في وجوبٍ واحد ، فلا يلزم محذور.

كان الجواب : أنّ التأكّد والتوحّد هنا مستحيل ؛ لأنّ الوجوب الغيري إذا كان معلولاً للوجوب النفسي ـ كما يقال ـ فيستحيل أن يتّحد معه وجوداً ؛ لاستحالة الوحدة بين العلّة والمعلول في الوجود.

التقسيم الثاني : تقسيم المقدمة إلى مقدمة واجبٍ ومقدمة وجوب. ولا شكّ في أنّ المقدمة الوجوبيّة كما لا يكون المكلّف مسؤولاً عنها من قِبل ذلك الوجوب ـ على ما تقدم (١) ـ كذلك لا يتعلّق الوجوب الغيري بها ؛ لأنّه إمّا معلول للوجوب النفسي ، أو [ملازم] معه ، فلا يعقل ثبوته إلاّفي فرض ثبوت الوجوب النفسي ، وفرض ثبوت الوجوب النفسي يعني أنّ مقدمات الوجوب قد تمّت ووجدت ، فلا معنى لإيجابها.

__________________

(١) تحت عنوان : المسؤوليّة تجاه القيود والمقدّمات.

٢٧٦

التقسيم الثالث : تقسيم المقدمة إلى شرعيةٍ وعقليةٍ وعلمية.

والمقدمة الشرعية : ما أخذها الشارع قيداً في الواجب. والمقدمة العقلية : ما يتوقّف عليها ذات الواجب تكويناً. والمقدمة العلمية هي : ما يتوقّف عليها تحصيل العلم بالإتيان بالواجب ، كالجمع بين أطراف العلم الإجمالي.

ولا شكّ في أنّ الوجوب الغيري لا يتعلّق بالمقدمة العلمية ؛ لأنّها ممّا لا يتوقّف عليها نفس الواجب ، بل إحرازه. كما لا شكّ في تعلّقه بالمقدمة العقلية إذا ثبتت الملازمة. وإنّما الكلام في تعلقه بالمقدمة الشرعية ، إذ ذهب بعض الأعلام كالمحقّق النائيني (١) رحمه‌الله إلى أنّ المقدمة الشرعية كالجزء تتّصف بالوجوب النفسي الضمني ، وعلى هذا الأساس أنكر وجوبها الغيري.

ودعوى الوجوب النفسي للمقدمة الشرعية تقوم على افتراض أنّ مقدّميتها بأخذ الشارع لها في الواجب النفسي ، ومع أخذها في الواجب ينبسط عليها الوجوب.

ونردّ على هذه الدعوى بما تقدّم (٢) من أنّ أخذها قيداً يعني تحصيص الواجب بها وجعل الأمر متعلقاً بالتقيّد ، فيكون تقيّد الفعل بمقدمته الشرعية واجباً نفسياً ضمنياً لا القيد نفسه.

فإن قيل : إنّ التقيّد منتزع عن القيد ، فالأمر به أمر بالقيد.

كان الجواب : أنّ القيد وإن كان دخيلاً في حصول التقيّد ؛ لأنّه طرف له ، لكنّ هذا لا يعني كونه عينه ، بل التقيّد بما هو معنىً حرفيّ له حظّ من الوجود والواقعية مغاير لوجود طرفيه ، وذلك هو متعلق الأمر النفسي ضمناً. فالمقدمة

__________________

(١) فوائد الاصول ١ : ٢٦٥.

(٢) تحت عنوان : المسؤوليّة تجاه القيود والمقدّمات.

٢٧٧

الشرعية إذن تتّصف بالوجوب الغيري كالمقدمة العقلية إذا تمّت الملازمة.

تحقيق حال الملازمة :

والصحيح إنكار الوجوب الغيري في مرحلة الجعل والإيجاب ، مع التسليم بالشوق الغيري في مرحلة الإرادة.

أمّا الأول فلأنّ الوجوب الغيري إن اريد به الوجوب المترشّح بصورةٍ قهريّة من قبل الوجوب النفسي ، فهذا غير معقول ؛ لأنّ الوجوب جعل واعتبار ، والجعل فعل اختياري للجاعل ولا يمكن ترشّحه بصورةٍ قهرية.

وإن اريد به وجوب يجعل بصورةٍ اختياريةٍ من قبل المولى ، فهذا يحتاج إلى مبرِّرٍ ومصحِّحٍ لجعله ، مع أنّ الوجوب الغيري لا مصحِّح لجعله ؛ لأنّ المصحِّح للجعل ـ كما تقدّم في محلّه ـ إمّا إبراز الملاك بهذا اللسان التشريعي ، وإمّا تحديد مركز حقّ الطاعة والإدانة ، وكلا الأمرين لا معنى له في المقام ؛ لأنّ الملاك مبرَز بنفس الوجوب النفسي ، والوجوب الغيري لا يستتبع إدانةً ولا يصلح للتحريك ـ كما مرّ بنا ـ فيلغوا جعله.

وأمّا الثاني : فمن أجل التلازم بين حبّ شيءٍ وحبّ مقدّمته ، وهو تلازم لا برهان عليه ، وإنمّا نؤمن به لشهادة الوجدان ، وبذلك صحّ افتراض الحبّ في جُلِّ الواجبات النفسية التي تكون محبوبةً بما هي مقدمات لمصالحها وفوائدها المترتّبة عليها. ولو أنكرنا الملازمة بين حبّ الشيء وحبّ مقدمته لما أمكن التسليم بمحبوبية هذه الواجبات النفسية.

حدود الواجب الغيري :

وفي حالة التسليم بالواجب الغيري في مرحلتي الجعل والحبّ معاً ، أو في إحدى المرحلتين على الأقلّ ، يقع الكلام في أنّ متعلق الوجوب الغيري هل هو

٢٧٨

الحصّة الموصلة من المقدمة أو طبيعيّ المقدمة؟

قد يقال : بأنّ المسألة مبنيّة على تعيين الملاك والغرض من الواجب الغيري ، فإن كان الغرض هو التمكّن من الواجب النفسي فمن الواضح أنّ هذا الغرض يحصل بطبيعيّ المقدمة ، ولا يختصّ بالحصّة الموصلة ، فيتعيّن أن يكون الوجوب الغيري تبعاً لغرضه متعلقاً بالطبيعي أيضاً. وإن كان الغرض حصول الواجب النفسي فهو يختص بالمقدمة الموصلة ؛ ويثبت حينئذٍ اختصاص الوجوب بها أيضاً تبعاً للغرض.

وفي المسألة قولان : فقد ذهب صاحب الكفاية (١) وجماعة (٢) إلى الأول ، وذهب صاحب الفصول (٣) وجماعة إلى الثاني.

ويمكن أن يبرهن على الأول : بأنّ الوجوب الغيري لو كان متعلقاً بالحصّة الموصلة إلى الواجب النفسي خاصّةً لزم أن يكون الواجب النفسي قيداً في متعلق الوجوب الغيري والقيد مقدمة للمقيّد ، وهذا يؤدِّي إلى أن يصبح الواجب النفسي مقدمةً للواجب الغيري.

ويمكن أن يبرهن على الثاني : بأنّ غرض الوجوب الغيري ليس هو التمكّن ، بل نفس حصول الواجب النفسي ؛ لأنّ دعوى أنّ الغرض هو التمكّن إن اريد بها أنّ التمكّن غرض نفسي فهو باطل بداهةً وخلف أيضاً ؛ لأنّه يجعل المقدّمة موصلةً دائماً ؛ لعدم انفكاكها عن التمكّن الذي هو غرض نفسي ، مع أنّنا نتكلّم عن المقدمة التي تنفكّ خارجاً عن الغرض النفسي.

__________________

(١) كفاية الاصول : ١٤٢.

(٢) منهم المحقّق النائيني في فوائد الاصول ١ : ٢٨٦ ، وأجود التقريرات ١ : ٢٣٧.

(٣) الفصول الغرويّة : ٨٦.

٢٧٩

وإن اريد بها أنّ التمكّن غرض غيري فهو بدوره طريق إلى غرضٍ نفسيٍّ لا محالة ، إذ وراء كلّ غرضٍ غيريٍّ غرض نفسي ، فإن كان الغرض النفسي منه حصول الواجب النفسي ثبت أنّ هذا هو الغرض الأساسي من الواجبات الغيرية ، وإلاّ تسلسل الكلام حتى يعود إليه لا محالة.

فالصحيح إذن : اختصاص الوجوب بالحصّة الموصلة ، ولكن لا بمعنى أخذ الواجب النفسي قيداً في متعلق الوجوب الغيري كما توهّم في البرهان على القول الأول ، بل بمعنى أنّ الوجوب الغيري متعلق بمجموعة المقدمات التي متى ما وجدت كان وجود الواجب بعدها مضموناً.

مشاكل تطبيقية :

استعرضنا في ما سبق (١) أربع خصائص وحالاتٍ للوجوب الغيري ، وتنصّ الثانية منها على أنّ امتثال الوجوب الغيري لا يستتبع ثواباً ، وتنصّ الرابعة منها على أنّ الواجب الغيري توصّلي. وقد لوحظ أنّ ما ثبت من ترتّب الثواب على جملةٍ من المقدمات ـ كما دلّت عليه الروايات ـ ينافي الحالة الثانية للوجوب الغيري ، وأنّ ما ثبت من عبادية الوضوء والغسل والتيمّم واعتبار قصد القربة فيها ينافي الحالة الرابعة له.

والجواب : أمّا فيما يتّصل بالحالة الثانية فهو : أنّها تنفي استتباع امتثال الوجوب الغيري بما هو امتثال له للثواب ، ولا تنفي ترتّب الثواب على المقدمة بما هي شروع في امتثال الوجوب النفسي ، وذلك فيما إذا أتى بها بقصد التوصّل بها إلى امتثاله. وما ثبت بالروايات من الثواب على المقدمات يمكن تطبيقه على

__________________

(١) تحت عنوان : خصائص الوجوب الغيري.

٢٨٠