دروس في علم الأصول - ج ٢

آية الله السيّد محمّد باقر الصدر

دروس في علم الأصول - ج ٢

المؤلف:

آية الله السيّد محمّد باقر الصدر


المحقق: لجنة التحقيق التابعة للمؤتمر العالمي للإمام الشهيد الصدر
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مركز الأبحاث والدراسات التخصصية للشهيد الصدر
الطبعة: ١
الصفحات: ٦٠٨
الجزء ١ الجزء ٢

وقد اعترض المحقّق النائينيّ (١) ـ قدّس الله روحه ـ على ذلك : بأنّ حجِّية الأمارة معناها جعلها عِلماً ؛ لأنّه بنى على مسلك جعل الطريقية ، فمع الشكّ في الحجِّية يشكّ في كونها علماً ، فلا يمكن التمسّك بدليل النهي عن العمل بغير العلم حينئذٍ ؛ لأنّ موضوعه غير محرز.

وجواب هذا الاعتراض : أنّ النهي عن العمل بالظنّ ليس نهياً تحريميّاً ، وإنّما هو إرشاد إلى عدم حجِّيته ، إذ من الواضح أنّ العمل بالظنّ ليس من المحرَّمات النفسية ، وإنّما محذوره احتمال التورّط في مخالفة الواقع ، فيكون مفاده عدم الحجّية ، فإذا كانت الحجّية بمعنى اعتبار الأمارة عِلماً فهذا يعني أنّ مطلقات النهي تدلّ على نفي اعتبارها علماً ، فيكون مفادها في رتبة مفاد حجِّية الأمارة ، وبهذا تصلح لنفي الحجِّية المشكوكة.

مقدار ما يثبت بدليل الحجِّية :

وكلّما كان الطريق حجّةً ثبت به مدلوله المطابقي ، وأمّا المدلول الالتزاميّ فيثبت في حالتين بدون شكٍّ ، وهما :

أوّلاً : فيما إذا كان الدليل قطعياً.

وثانياً : فيما إذا كان الدليل على الحجّية يرتِّب الحجِّية على عنوانٍ ينطبق على الدلالة المطابقية والدلالة الالتزامية على السواء ، كما إذا قام الدليل على حجِّية عنوان (الخبر) وقلنا : إنّ كلاًّ من الدلالة المطابقية والدلالة الالتزامية مصداق لهذا العنوان.

وأمّا في غير هاتين الحالتين فقد يقع الإشكال ، كما في الظهور العرفيّ

__________________

(١) أجود التقريرات ٢ : ٨٧.

٦١

الذي قام الدليل على حجِّيته فإنّه ليس قطعياً ، كما أنّ دلالته الالتزامية ليست ظهوراً عرفياً ، فقد يقال : إنّ أمثال دليل حجِّية الظهور لا تقتضي بنفسها إلاّإثبات المدلول المطابقيّ ما لم تقم قرينة خاصّة على إسراء الحجِّية إلى الدلالات الالتزامية أيضاً.

ولكنّ المعروف بين العلماء التفصيل بين الأمارات والاصول ، فكلّ ما قام دليل على حجِّيته من باب الأماريّة ثبتت به مدلولاته الالتزامية أيضاً ، ويقال حينئذٍ : إنّ مثبتاته حجَّة. وكلّ ما قام دليل على حجِّيته بوصفه أصلاً عملياً فلا تكون مثبَتاته حجَّة ، بل لا يتعدّى فيه من إثبات المدلول المطابقي ؛ إلاّإذا قامت قرينة خاصّة في دليل الحجِّية على ذلك.

وقد فسّر المحقّق النائينيّ (١) ذلك ـ على ما تبنّاه من مسلك جعل الطريقيَّة في الأمارات ـ بأنّ دليل الحجِّية يجعل الأمارة علماً ، فيترتّب على ذلك كلّ آثار العلم. ومن الواضح أنّ من شؤون العلم بشيءٍ العلم بلوازمه ، ولكنّ أدلّة الحجِّية في باب الاصول ليس مفادها إلاّالتعبّد بالجري العمليّ على وفق الأصل ، فيتحدّد الجري بمقدار مؤدّى الأصل ، ولا يشمل الجري العمليّ على طبق اللوازم إلاّمع قيام قرينة.

واعترض السيّد الاستاذ (٢) على ذلك : بأنّ دليل الحجِّية في باب الأمارات وإن كان يجعل الأمارة عِلماً ولكنّه علم تعبّديّ جعلي ، والعلم الجعليّ يتقدَّر بمقدار الجعل. فدعوى أنّ العلم بالمؤدّى يستدعي العلم بلوازمه إنّما تصدق على العلم الوجداني ، لا العلم الجعلي.

__________________

(١) فوائد الاصول ٤ : ٤٨٧.

(٢) مصباح الاصول ٣ : ١٥٤.

٦٢

ومن هنا ذهب إلى أنّ الأصل في الأمارات أيضاً عدم حجّية مثبتاتها ومدلولاتها الالتزامية ، وأنّ مجرّد جعل شيءٍ حجَّةً من باب الأماريّة لا يكفي لإثبات حجِّيته في المدلول الالتزامي.

والصحيح ما عليه المشهور من : أنّ دليل الحجِّية في باب الأمارات يقتضي حجِّية الأمارة في مدلولالتها الالتزامية أيضاً ، ولكن ليس ذلك على أساس ما ذكره المحقّق النائينيّ من تفسير ، فإنّه فسَّر ذلك بنحوٍ يتناسب مع مبناه في التمييز بين الأمارات والاصول ، وقد مرّ بنا سابقاً (١) أنّه ـ قدس الله روحه ـ يميِّز بين الأمارات والاصول بنوع المجعول والمنشأ في أدلّة حجِّيتها ، فضابط الأمارة عنده كون مفاد دليل حجِّيتها جعل الطريقية والعلمية ، وضابط الأصل كون دليله خالياً من هذا المفاد ، وعلى هذا الأساس أراد أن يفسِّر حجِّية مثبتات الأمارات بنفس النكتة التي تُميِّزها عنده عن الاصول ، أي نكتة جعل الطريقية.

مع أنّنا عرفنا سابقاً (٢) أنّ هذا ليس هو جوهر الفرق بين الأمارات والاصول ، وإنّما هو فرق في مقام الصياغة والإنشاء ، ويكون تعبيراً عن فرقٍ جوهريٍّ أعمق ، وهو أنّ جعل الحكم الظاهريّ على طبق الأمارة بملاك الأهمّية الناشئة من قوة الاحتمال ، وجعل الحكم الظاهري على طبق الأصل بملاك الأهمّية الناشئة من قوة المحتمل ، فكلّما جعل الشارع شيئاً حجَّةً بملاك الأهمّية الناشئة من قوة الاحتمال كان أمارة ، سواء كان جعله حجّةً بلسان أنّه علم ، أو بلسان الأمر بالجري على وفقه.

__________________

(١) تحت عنوان : الأمارات والاصول.

(٢) تحت العنوان المذكور.

٦٣

وإذا اتّضحت النكتة الحقيقية التي تُميِّز الأمارة أمكننا أن نستنتج أنّ مثبتاتها ومدلولاتها الالتزامية حجّة على القاعدة ؛ لأنّ ملاك الحجِّية فيها حيثيّة الكشف التكوينيّ في الأمارة الموجبة لتعيين الأهمّية وفقاً لها ، وهذه الحيثية نسبتها إلى المدلول المطابقيّ والمداليل الالتزامية نسبة واحدة ، فلا يمكن التفكيك بين المداليل في الحجِّية ما دامت الحيثية المذكورة هي تمام الملاك في جعل الحجِّية كما هو معنى الأماريّة ، وهذا يعني أنّا كلّما استظهرنا الأماريّة من دليل الحجِّية كفى ذلك في البناء على حجِّية مثبتاتها بلا حاجةٍ إلى قرينةٍ خاصّة.

تبعية الدلالة الالتزامية للدلالة المطابقية :

إذا كان اللازم المدلول عليه من قبل الأمارة بالدلالة الالتزامية من قبيل اللازم الأعمِّ ، فهو محتمل الثبوت حتى مع عدم ثبوت المدلول المطابقي ، وحينئذٍ إذا سقطت الأمارة عن الحجِّية في المدلول المطابقيّ لوجود معارضٍ أو للعلم بخطئها فيه فهل تسقط حجّيتها في المدلول الالتزامي أيضاً ، أوْ لا؟

قد يقال : إنّ مجرّد تفرّع الدلالة الالتزامية على الدلالة المطابقية وجوداً لا يبرِّر تفرّعها عليها في الحجِّية أيضاً.

وقد يقرَّب التفرّع في الحجّية بأحد الوجهين التاليين :

الأوّل : ما ذكره السيّد الاستاذ (١) من أنّ المدلول الالتزاميّ مساوٍ دائماً للمدلول المطابقي ، وليس أعمّ منه. فكلّ ما يوجب إبطال المدلول المطابقيّ أو المعارضة معه يوجب ذلك بشأن المدلول الالتزاميّ أيضاً. والوجه في المساواة ـ مع أنّ ذات اللازم قد يكون أعمّ من ملزومه ـ أنّ اللازم الأعمّ له حصّتان :

__________________

(١) مصباح الاصول ٣ : ٣٦٩ ـ ٣٧٠.

٦٤

إحداهما مقارنة مع الملزوم الأخصّ ، والاخرى غير مقارنة ، والأمارة الدالّة مطابقةً على ذلك الملزوم إنّما تدلّ بالالتزام على الحصّة الاولى من اللازم ، وهي مساوية دائماً.

ونلاحظ على هذا الوجه : أنّ المدلول الالتزاميّ هو طرف الملازمة ، فإن كان طرف الملازمة هو الحصّة كانت هي المدلول الالتزامي ، وإن كان طرفها الطبيعيّ وكانت مقارنته للملزوم المحصّصة له من شؤون الملازمة وتفرّعاتها كان المدلول الالتزاميّ ذات الطبيعي.

ومثال الأوّل : اللازم الأعمّ المعلول بالنسبة إلى إحدى عِلله ، كالموت بالاحتراق بالنسبة إلى دخول زيدٍ في النار ، فإذا أخبر مخبر بدخول زيدٍ في النار فالمدلول الالتزاميّ له حصّة خاصّة من الموت ، وهي الموت بالاحتراق ؛ لأنّ هذا هو طرف الملازمة للدخول في النار.

ومثال الثاني : الملازم الأعمّ بالنسبة إلى ملازمه ، كعدم أحد الأضداد بالنسبة إلى وجود ضدٍّ معيّنٍ من أضداده ، فإذا أخبر مخبر بصفرة ورقةٍ فالمدلول الالتزاميّ له عدم سوادها ، لا حصّةً خاصّةً من عدم السواد وهي العدم المقارن للصفرة ؛ لأنّ طرف الملازمة لوجود أحد الأضداد ذات عدم ضدّه ، لا العدم المقيّد بوجود ذاك ، وإنّما هذا التقيّد يحصل بحكم الملازمة نفسها ومن تبعاتها ، لا أنّه مأخوذ في طرف الملازمة وتطرأ الملازمة عليه.

الثاني : أنّ الكشفين في الدلالتين قائمان دائماً على أساس نكتةٍ واحدة ، من قبيل نكتة استبعاد خطأ الثقة في إدراكه الحسّيّ للواقعة ، فإذا أخبر الثقة عن دخول شخصٍ للنار ثبت دخوله واحتراقه وموته بذلك بنكتة استبعاد اشتباهه في رؤية دخول الشخص إلى النار ، فإذا عُلم بعدم دخوله وأنّ المخبر اشتبه في ذلك فلا يكون افتراض أنّ الشخص لم يمت أصلاً متضمِّناً لاشتباهٍ أزيد

٦٥

ممّا ثبت. وبذلك يختلف المقام عن خبرين عرضيّين عن الحريق من شخصين إذا علم باشتباه أحدهما في رؤية الحريق ، فإنّ ذلك لا يبرِّر سقوط الخبر الآخر عن الحجّية ؛ لأنَّ افتراض عدم صحة الخبر يتضمّن اشتباهاً وراء الاشتباه الذي علم.

فالصحيح : أنّ الدلالة الالتزاميّة مرتبطة بالدلالة المطابقية في الحجِّية. وأمّا الدلالة التضمّنية فالمعروف بينهم أنّها غير تابعةٍ للدلالة المطابقية في الحجِّية.

وفاء الدليل بدور القطع الطريقي والموضوعي :

إذا كان الدليل قطعياً فلا شكّ في وفائه بدور القطع الطريقيّ والموضوعيّ معاً ؛ لأنّه يحقّق القطع حقيقةً.

وأمّا إذا لم يكن الدليل قطعياً وكان حجّةً بحكم الشارع فهناك بحثان :

الأوّل : بحث نظريّ في تصوير قيامه مقام القطع الطريقي ؛ مع الاتّفاق عملياً على قيامه مقامه في المنجِّزية والمعذِّرية.

والثاني : بحث واقعيّ في أنّ دليل حجِّية الأمارة هل يستفاد منه قيامها مقام القطع الموضوعي ، أوْ لا؟

أمّا البحث الأوّل : فقد يستشكل تارةً في إمكان قيام غير القطع مقام القطع في المنجِّزية والمعذِّرية ، بدعوى أنّه على خلاف قاعدة قبح العقاب بلا بيان. ويستشكل اخرى في كيفية صياغة ذلك تشريعاً وما هو الحكم الذي يحقِّق ذلك.

أمّا الاستشكال الأوّل فجوابه :

أولاً : أنّنا ننكر قاعدة قبح العقاب بلا بيانٍ رأساً.

وثانياً : أنّه لو سلّمنا بالقاعدة فهي مختصّة بالأحكام المشكوكة التي لا يعلم

٦٦

بأهمّيتها على تقدير ثبوتها ، وأمّا المشكوك الذي يعلم بأ نّه على تقدير ثبوته ممّا يهتمّ المولى بحفظه ولا يرضى بتضييعه فليس مشمولاً للقاعدة من أوّل الأمر ، والخطاب الظاهريّ ـ أيّ خطابٍ ظاهريّ ـ يبرز اهتمام المولى بالتكاليف الواقعية في مورده على تقدير ثبوتها ، وبذلك يخرجها عن دائرة قاعدة قبح العقاب بلا بيان.

وأمّا الاستشكال الثاني فينشأ من أنّ الذي ينساق إليه النظر ابتداءً أنّ إقامة الأمارة مقام القطع الطريقيّ في المنجِّزية والمعذِّرية تحصل بعملية تنزيلٍ لها منزلته ، من قبيل تنزيل الطواف منزلة الصلاة.

ومن هنا يعترض عليه : بأنّ التنزيل من الشارع إنّما يصحّ فيما إذا كان للمنزَّل عليه أثر شرعيّ بيد المولى توسيعه وجعله على المنزَّل ، كما في مثال الطواف والصلاة ، وفي المقام القطع الطريقيّ ليس له أثر شرعيّ بل عقلي ـ وهو حكم العقل بالمنجِّزية والمعذِّرية ـ فكيف يمكن التنزيل؟

وقد تخلّص بعض المحققين (١) عن الاعتراض برفض فكرة التنزيل واستبدالها بفكرة جعل الحكم التكليفيِّ على طبق المؤدّى ، فإذا دلّ الخبر على وجوب السورة حكم الشارع بوجوبها ظاهراً ، وبذلك يتنجَّز الوجوب ، وهذا هو الذي يطلق عليه مسلك (جعل الحكم المماثل).

وتخلّص المحقّق النائينيّ (٢) بمسلك (جعل الطريقية) قائلاً : إنّ إقامة الأمارة مقام القطع الطريقيّ لا تتمثّل في عملية تنزيلٍ لكي يرد الاعتراض السابق ، بل في اعتبار الظنّ علماً ، كما يعتبر الرجل الشجاع أسداً على طريقة

__________________

(١) منهم المحقّق الأصفهاني في نهاية الدراية ٣ : ٥٩.

(٢) فوائد الاصول ٣ : ٢١.

٦٧

المجاز العقلي ؛ والمنجِّزية والمعذِّرية ثابتتان عقلاً للقطع الجامع بين الوجود الحقيقيّ والاعتباري.

والصحيح : أنّ قيام الأمارة مقام القطع الطريقيّ في التنجيز وإخراج مؤدّاها عن قاعدة قبح العقاب بلا بيانٍ ـ على تقدير القول بها ـ إنّما هو بابراز اهتمام المولى بالتكليف المشكوك على نحوٍ لا يرضى بتفويته على تقدير ثبوته ، كما تقدم. وعليه فالمهمّ في جعل الخطاب الظاهريّ أن يكون مبرزاً لهذا الاهتمام من المولى ؛ لأنّ هذا هو جوهر المسألة ، وأمّا لسان هذا الإبراز وصياغته وكون ذلك بصيغة (تنزيل الظنّ منزلة العلم) ، أو (جعل الحكم المماثل للمؤدّى) ، أو (جعل الطريقية) فلا دخل لذلك في الملاك الحقيقي ، وإنّما هو مسألة تعبيرٍ فحسب ، وكلّ التعبيرات صحيحة ما دامت وافيةً بإبراز الاهتمام المولويّ المذكور ؛ لأنّ هذا هو المنجِّز في الحقيقة.

وأمّا البحث الثاني : فإن كان القطع مأخوذاً موضوعاً لحكمٍ شرعيٍّ بوصفه منجِّزاً ومعذِّراً فلا شك في قيام الأمارة المعتبرة شرعاً مقامه ؛ لأنّها تكتسب من دليل الحجِّية صفة المنجِّزية والمعذِّرية فتكون فرداً من الموضوع ، ويعتبر دليل الحجِّية في هذه الحالة وارداً على دليل ذلك الحكم الشرعيّ المرتَّب على القطع ؛ لأ نّه يحقِّق مصداقاً حقيقياً لموضوعه.

وأمّا إذا كان القطع مأخوذاً بما هو كاشف تامّ فلا يكفي مجرّد اكتساب الأمارة صفة المنجِّزية والمعذِّرية من دليل الحجِّية لقيامها مقام القطع الموضوعي ، فلابدّ من عنايةٍ إضافيةٍ في دليل الحجِّية ، وقد التزم المحقّق النائينيّ (١) قدس‌سره بوجود هذه العناية بناءً على ما تبنّاه من مسلك جعل الطريقية.

__________________

(١) فوائد الاصول ٣ : ٢٥.

٦٨

فهو يقول : إنّ مفاد دليل الحجِّية جعل الأمارة علماً ، وبهذا يكون حاكماً على دليل الحكم الشرعيّ المرتّب على القطع ؛ لأنّه يوجد فرداً جعلياً وتعبّدياً لموضوعه ، فيسري حكمه إليه.

غير أنّك عرفت في بحث التعارض من الحلقة السابقة (١) أنّ الدليل الحاكم إنّما يكون حاكماً إذا كان ناظراً إلى الدليل المحكوم ، ودليل الحجِّية لم يثبت كونه ناظراً إلى أحكام القطع الموضوعي ، وإنّما المعلوم فيه نظره إلى تنجيز الأحكام الواقعية المشكوكة خاصّةً إذا كان دليل الحجِّية للأمارة هو السيرة العقلائية ، إذ لا انتشار للقطع الموضوعيّ في حياة العقلاء لكي تكون سيرتهم على حجِّية الأمارة ناظرةً إلى القطع الموضوعيّ والطريقيّ معاً.

إثبات الأمارة لجواز الإسناد :

يحرم إسناد ما لم يصدر من الشارع إليه ؛ لأنّه كذب ، ويحرم أيضاً إسناد ما لا يعلم صدوره منه إليه وإن كان صادراً في الواقع ، وهذا يعني أنّ القطع بصدور الحكم من الشارع طريق لنفي موضوع الحرمة الاولى ، فهو [من هذه الناحية] قطع طريقي. وموضوع لنفي الحرمة الثانية ، فهو من هذه الناحية قطع موضوعي.

وعليه فإذا كان الدليل قطعياً انتفت كلتا الحرمتين ؛ لحصول القطع ، وهو طريق إلى أحد النفيين وموضوع للآخر. وإذا لم يكن الدليل قطعياً بل أمارةً معتبرةً شرعاً فلا ريب في جواز إسناد نفس الحكم الظاهريّ إلى الشارع ؛ لأنّه مقطوع به.

__________________

(١) تحت عنوان : (الحكم الأوّل : قاعدة الجمع العرفي).

٦٩

وأمّا إسناد المؤدّى فالحرمة الاولى تنتفي بدليل حجِّية الأمارة ؛ لأنّ القطع بالنسبة اليها طريقي ، ولا شكّ في قيام الأمارة مقام القطع الطريقي ، غير أنّ انتفاء الحرمة الاولى كذلك مرتبط بحجّية مثبتات الأمارات ؛ لأنّ موضوع هذه الحرمة عنوان الكذب وهو مخالفة الخبر للواقع ، وانتفاء هذه المخالفة مدلول التزاميّ للأمارة الدالّة على ثبوت الحكم ؛ لأنّ كلّ ما يدلّ على شيءٍ مطابقةً يدلّ التزاماً على أنّ الإخبار عنه ليس كذباً.

وأمّا الحرمة الثانية فموضوعها ـ وهو عدم العلم ـ ثابت وجداناً ، فانتفاؤها يتوقّف : إمّا على استفادة قيام الأمارة مقام القطع الموضوعيّ من دليل حجِّيتها ، أو على إثبات مخصِّصٍ لِمَا دلّ على عدم جواز الإسناد بلا علم ، من إجماعٍ أو سيرةٍ يخرج موارد قيام الحجّة الشرعيّة.

إبطال طريقيّة الدليل :

كلّ نوعٍ من أنواع الدليل حتّى لو كان قطعياً يمكن للشارع التدخّل في إبطال حجِّيته ، وذلك عن طريق تحويله من الطريقية إلى الموضوعية ، بأن يأخذ عدم قيام الدليل الخاصّ على الجعل الشرعيِّ في موضوع الحكم المجعول في ذلك الجعل ، فيكون عدم قيام دليلٍ خاصٍّ على الجعل الشرعيّ قيداً في الحكم المجعول ، فإذا قام هذا الدليل الخاصّ على الجعل الشرعيِّ انتفى المجعول بانتفاء قيده ، وما دام المجعول منتفياً فلا منجِّزية ولا معذِّرية.

وليس ذلك من سلب المنجِّزية عن القطع بالحكم الشرعي ، بل من الحيلولة دون وجود هذا القطع ؛ لأنّ القطع المنجِّز هو القطع بفعلية المجعول ، لا القطع بمجرّد الجعل ، ولا قطع في المقام بالمجعول وإن كان القطع بالجعل ثابتاً ، غير أنّ هذا القطع الخاصّ بالجعل بنفسه يكون نافياً لفعلية المجعول نتيجةً لتقيّد المجعول

٧٠

بعدمه. وقد سبق في أبحاث الدليل العقليّ في الحلقة السابقة (١) أنّه لا مانع من أخذ علمٍ مخصوصٍ بالجعل شرطاً في المجعول ، أو أخذ عدمه قيداً في المجعول ، ولا يلزم من كلّ ذلك دور.

وقد ذهب جملة من العلماء (٢) إلى أنّ العلم المستند إلى الدليل العقليّ فقط ليس بحجّة. وقيل في التعقيب على ذلك : إنّه إن اريد بهذا تحويله من طريقيٍّ إلى موضوعيٍّ بالطريقة التي ذكرناها بأن يكون عدم العلم العقليّ بالجعل قد اخذ قيداً في المجعول فهو ممكن ثبوتاً ولكنّه لا دليل على هذا التقييد إثباتاً. وإن اريد بهذا سلب الحجّية عن العلم العقليِّ بدون التحويل المذكور فهو مستحيل ؛ لأنّ القطع الطريقيَّ لا يمكن تجريده عن المنجِّزية والمعذِّرية. وسيأتي الكلام عن ذلك في مباحث الدليل العقليِ (٣) إن شاء الله تعالى.

تقسيم البحث في الأدلّة المحرزة :

وسنقسِّم البحث في الأدلّة المحرزة وفقاً لِمَا تقدّم في الحلقة السابقة إلى قسمين :

أحدهما : في الدليل الشرعي.

والآخر : في الدليل العقلي.

كما أنّ القسم الأوّل نوعان :

أحدهما : الدليل الشرعيّ اللفظي.

__________________

(١) تحت عنوان : حجّية الدليل العقلي.

(٢) نقل الشيخ الأعظم رحمه‌الله نسبة ذلك إلى بعض الأخباريّين في فرائد الاصول ١ : ٥١.

(٣) تحت عنوان : أخذ العلم بالحكم في موضوع نفسه.

٧١

والآخر : الدليل الشرعيّ غير اللفظي.

والبحث في الدليل الشرعيّ : تارةً في تحديد ضوابط عامّةٍ لدلالته وظهوره ، واخرى في ثبوت صغراه ـ أي في حيثية الصدور ـ وثالثةً في حجِّية ظهوره.

وعلى هذا المنوال تجري البحوث في هذه الحلقة.

٧٢

١ ـ الأدلة المحرزة

الدليل الشرعي

تحديد دلالات الدليل الشرعي.

إثبات صغرى الدليل الشرعي.

حجّية الظهور.

٧٣
٧٤

١ ـ الدليل الشرعي

تحديد

دلالات الدليل الشرعي

١ ـ الدليل الشرعيّ اللفظيّ.

٢ ـ الدليل الشرعيّ غير اللفظيّ.

٧٥
٧٦

١ ـ الدليل الشرعيّ اللفظي

الدلالات الخاصّة والمشتركة

هناك في الألفاظ دلالات خاصّة لا تشكِّل عناصر مشتركةً في عملية الاستنباط تتولاّها علوم اللغة ولا تدخل في علم الاصول. وهناك دلالات عامّة تصلح للدخول في استنباط مسائل مختلفة ، وهذه يبحث عنها علم الاصول بوصفها عناصر مشتركةً في عملية الاستنباط ، كدلالة صيغة (إفعل) على الوجوب ، ودلالة اسم الجنس الخالي من القيد على إرادة المطلق ، ونحو ذلك.

وقد يقال : إنّ غرض الاصوليّ إنّما هو تعيين ما يدلّ عليه اللفظ من معنى أو ما هو المعنى الظاهر للَّفظ عند تعدّد معانيه لغةً ، وإثبات هذا الغرض إنّما يكون عادةً بنقل أهل اللغة ، أو بالتبادر الذي هو عملية عَفْوية يمارسها كلّ إنسانٍ بلا حاجةٍ إلى تعمُّلٍ ومزيد عناية ، فأيّ مجالٍ يبقى للبحث العلميّ ولإعمال الصناعة والتدقيق في هذه المسائل لكي يتولّى ذلك علم الاصول؟

والتحقيق : أنّ البحوث اللفظية التي يتناولها علم الاصول على قسمين :

أحدهما : البحوث اللغويّة.

والآخر : البحوث التحليلية.

أمّا البحوث اللغوية فهي بحوث يراد بها اكتشاف دلالة اللفظ على معنىً معيّن ، من قبيل البحث عن دلالة صيغة الأمر على الوجوب ، ودلالة الجملة الشرطية على المفهوم.

٧٧

وأمّا البحوث التحليلية فيفترض فيها مسبقاً أنّ معنى الكلام معلوم ودلالة الكلام عليه واضحة ، غير أنّ هذا المعنى مستفاد من مجموع أجزاء الكلام على طريقة تعدّد الدالّ والمدلول ، فكلّ جزءٍ من المعنى يقابله جزء في الكلام ، ومن هنا قد يكون ما يقابل بعض أجزاء الكلام من أجزاء المعنى واضحاً ولكن ما يقابل بعضها الآخر غير واضح ، فيبحث بحثاً تحليلياً عن تعيين المقابل.

ومثال ذلك : البحث عن مدلول الحرف والمعاني الحرفية ، فإنَّنا حين نقول : (زيد في الدار) نفهم معنى الكلام بوضوح ، ونستطيع بسهولةٍ أن ندرك ما يقابل كلمة (زيدٍ) وما يقابل كلمة (دار) ، وأمّا ما يقابل كلمة (في) فلا يخلو من غموض ، ومن أجل ذلك يقع البحث في معنى الحرف ، وهو ليس بحثاً لغويّاً ، إذ لا يوجد في من يفهم العربية من لا يتصوّر معنى (في) ضمن تصوّره لمدلول جملة (زيد في الدار) ، وإنّما هو بحث تحليليّ بالمعنى الذي ذكرناه.

ومن الواضح أنّ البحث التحليليّ بهذا المعنى لا يرجع فيه إلى مجرّد التبادر أو نصّ علماء اللغة ، بل هو بحث علميّ تولاّه علم الاصول في حدود ما يترتّب عليه أثر في عملية الاستنباط ، على ما يأتي إن شاء الله تعالى (١).

وأمّا البحوث اللغوية فهي يمكن أن تقع موضعاً للبحث العلميّ في إحدى الحالات التالية :

الحالة الاولى : أن تكون هناك دلالة كلّيّة ، كقرينة الحكمة ، ويراد إثبات ظهور الكلام في معنىً كتطبيقٍ لتلك القرينة الكلّيّة.

ومثال ذلك : أن يقال بأنّ ظاهر الأمر هو الطلب النفسيّ لا الغيري ، والتعيينيّ لا التخييري ؛ تمسّكاً بالإطلاق وتطبيقاً لقرينة الحكمة عن طريق إثبات أنّ الطلب الغيريّ والتخييريّ طلب مقيّد ، فينفى بتلك القرينة ، كما تقدّم في الحلقة

__________________

(١) في نهاية بحث المعاني الحرفيّة ، تحت عنوان : الثمرة.

٧٨

السابقة (١) ، فإنّ هذا بحث في التطبيق يستدعي النظر العلميّ في حقيقة الطلب الغيريّ والطلب التخييري ، وإثبات أنّهما من الطلب المقيّد.

الحالة الثانية : أن يكون المعنى متبادراً ومفروغاً عن فهمه من اللفظ ، وإنّما يقع البحث العلميّ في تفسير هذه الدلالة ؛ وهل هي تنشأ من الوضع ، أو من قرينة الحكمة ، أو من منشأٍ ثالث؟

ومثال ذلك : أنّه لا إشكال في تبادر المطلق من اسم الجنس مع عدم ذكر القيد ، ولكن يبحث في علم الاصول أنّ هذا هل هو من أجل وضع اللفظ للمطلق ، أو من أجل دالٍّ آخر كقرينة الحكمة؟ وهذا بحث لا يكفي فيه مجرّد الإحساس بالتبادر الساذج ، بل لابدّ من جمع ظواهر عديدةٍ ليستكشف من خلالها ملاك الدلالة.

الحالة الثالثة : أن يكون المعنى متبادراً ، ولكن يواجه ذلك شبهة تُعيق الاصوليّ عن الأخذ بتبادره ما لم يجد حلاًّ فنّياً لتلك الشبهة.

ومثال ذلك : أنّ الجملة الشرطية تدلّ بالتبادر العرفيّ على المفهوم ، ولكن في مقابل ذلك نحسّ أيضاً بأنّ الشرط فيها إذا لم يكن علّةً وحيدةً ومنحصرةً للجزاء لا يكون استعمال أداة الشرط مجازاً ، كاستعمال لفظ (الأسد) في الرجل الشجاع ، ومن هنا يتحيّر الإنسان في كيفية التوفيق بين هذين الوجدانين ، ويؤدّي ذلك إلى الشكّ في الدلالة على المفهوم ما لم يتوصّل إلى تفسيرٍ يوفِّق فيه بين الوجدانين.

وهناك أيضاً بعض الحالات الاخرى التي يجدي فيها البحث التحقيقي.

وعلى هذا الأساس وبما ذكرنا من المنهجة والاسلوب يتناول علم الاصول دراسة الدلالات المشتركة الآتية ، ويبحثها لغوياً أو تحليلياً.

__________________

(١) في بحث الإطلاق ، تحت عنوان : بعض التطبيقات لقرينة الحكمة.

٧٩

المعاني الحرفيّة

المعنى الحرفيّ مصطلح اصوليّ تقدّم توضيحه في الحلقة السابقة (١) ، وقد وقع البحث في تحديد المعاني الحرفية ، إذ لوحظ منذ البدء أنّ الحرف يختلف عن الاسم المناظر له ، كما مرّ بنا سابقاً ، ففي تخريج ذلك وتحديد المعنى الحرفيّ وجد اتّجاهان :

الاتّجاه الأوّل : ما ذهب إليه صاحب الكفاية (٢) رحمه‌الله من : أنّ معنى الحرف هو نفس معنى الاسم الموازي له ذاتاً ، وإنّما يختلف عنه اختلافاً طارئاً وعرضياً ، ف (مِن) و (الابتداء) يدلاّن على مفهومٍ واحد ، وهذا المفهوم إذا لوحظ وجوده في الخارج فهو دائماً مرتبط بالمبتدئ والمبتدأ منه ، إذ لا يمكن وقوع ابتداءٍ في الخارج إلاّوهو قائم ومرتبط بهذين الطرفين. وإذا لوحظ وجوده في الذهن فله نحوان من الوجود : فتارةً يلحظ بما هو ، ويسمّى باللحاظ الاستقلالي ، واخرى يلحظ بما هو حالة قائمة بالطرفين مطابقاً لواقعه الخارجي ، ويسمّى باللحاظ الآلي ، وكلمة (ابتداء) تدلّ عليه ملحوظاً بالنحو الأوّل ، و (مِن) تدلّ عليه ملحوظاً باللحاظ الثاني.

فالفارق بين مدلولي الكلمتين في نوع اللحاظ مع وحدة ذات المعنى الملحوظ فيهما معاً. إلاّأنّ هذا لا يعني أنّ اللحاظ الاستقلاليّ أو الآليّ مقوِّم للمعنى الموضوع له أو المستعمل فيه وقيد فيه ؛ لأنّ ذلك يجعل المعنى أمراً ذهنياً

__________________

(١) ضمن التمهيد لبحث الدليل الشرعي اللفظي ، تحت عنوان : تصنيف اللغة.

(٢) كفاية الاصول : ٢٦.

٨٠