دروس في علم الأصول - ج ٢

آية الله السيّد محمّد باقر الصدر

دروس في علم الأصول - ج ٢

المؤلف:

آية الله السيّد محمّد باقر الصدر


المحقق: لجنة التحقيق التابعة للمؤتمر العالمي للإمام الشهيد الصدر
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مركز الأبحاث والدراسات التخصصية للشهيد الصدر
الطبعة: ١
الصفحات: ٦٠٨
الجزء ١ الجزء ٢

[تمهيد]

الدليل العقلي : كلّ قضيةٍ يدركها العقل ويمكن أن يستنبط منها حكم شرعي.

والبحث عن القضايا العقلية : تارةً يقع صغروياً في إدراك العقل وعدمه ، واخرى كبروياً في حجّية الإدراك العقلي.

ولا شكّ في أنّ البحث الكبروي اصولي ، وأمّا البحث الصغروي فهو كذلك إذا كانت القضية العقلية المبحوث عنها تشكِّل عنصراً مشتركاً في عملية الاستنباط. وأما القضايا العقلية التي ترتبط باستنباط أحكامٍ معيّنةٍ ولا تشكِّل عنصراً مشتركاً فليس البحث عنها اصولياً.

ثمّ إنّ القضايا العقلية التي يتناولها علم الاصول : إمّا أن تكون قضايا فعلية ، وإمّا أن تكون قضايا شرطية. فالقضية الفعلية من قبيل إدراك العقل استحالة تكليف العاجز. والقضية الشرطية من قبيل إدراك العقل «أنّ وجوب شيءٍ يستلزم وجوب مقدمته» ، فإنّ مردَّ هذا إلى إدراكه لقضيةٍ شرطيةٍ مؤدّاها : «إذا وجب شيء وجبت مقدمته». ومن قبيل إدراك العقل «أنّ قبح فعلٍ يستلزم حرمته» ، فإنّ مردّه إلى قضيةٍ شرطيّةٍ مؤدّاها : «إذا قبح فعلٌ حرُم».

والقضايا الفعلية : إمّا أن تكون تحليلية ، أو تركيبية.

٢٢١

والمراد بالتحليلية : ما يكون البحث فيها عن تفسير ظاهرةٍ من الظواهر وتحليلها ، كالبحث عن حقيقة الوجوب التخييري ، أو عن حقيقة علاقة الحكم بموضوعه.

والمراد بالتركيبية : ما يكون البحث فيها عن استحالة شيءٍ بعد الفراغ عن تصوره وتحديد معناه ، من قبيل البحث عن استحالة الحكم الذي يؤخذ العلم به في موضوعه مثلاً.

والقضايا الشرطية : إمّا أن يكون الشرط فيها مقدمةً شرعية ، من قبيل المثال الأول لها. وإمّا أن لا يكون كذلك ، من قبيل المثال الثاني لها.

وكلّ القضايا الشرطية التي يكون شرطها مقدمةً شرعيةً تسمّى بالدليل العقلي غير المستقلّ ؛ لاحتياجها في مقام استنباط الحكم منها إلى إثبات تلك المقدمة من قبل الشارع.

وكلّ القضايا الشرطية التي يكون شرطها مقدمةً غير شرعيةٍ تسمّى بالدليل العقلي المستقلّ ؛ لعدم احتياجها إلى ضمِّ إثباتٍ شرعي.

وكذلك تعتبر القضايا العقلية الفعلية التركيبية كلّها أدلّةً عقليةً مستقلّة ؛ لعدم احتياجها إلى ضمِّ مقدمةٍ شرعيةٍ في الاستنباط منها ؛ لأنّ مفادها استحالة أنواعٍ خاصّةٍ من الأحكام ، فتبرهن على نفيها بلا توقّفٍ على شيءٍ أصلاً. ونفي الحكم كثبوته ممّا يطلب استنباطه من القاعدةالاصولية.

وأمّا القضايا الفعليه التحليلية فهي تقع في طريق الاستنباط عادةً عن طريق صيرورتها وسيلةً لإثبات قضيةٍ عقليةٍ تركيبيةٍ والبرهنة عليها ، أو عن طريق مساعدتها على تحديد كيفية تطبيق القاعدة الاصولية.

ومثال الأول : تحليل الحكم المجعول على نحو القضيةالحقيقية ، فإنّه يشكِّل برهاناً على القضية العقلية التركيبية القائلة باستحالة أخذ العلم بالحكم في

٢٢٢

موضوع نفسه.

ومثال الثاني : تحليل حقيقة الوجوب التخييري بإرجاعه إلى وجوبين مشروطين ، أو وجوبٍ واحدٍ على الجامع مثلاً ، فإنّ ذلك قد يتدخّل في تحديد كيفية إجراء الأصل العملي عند الشكّ ، ودوران أمر الواجب بين كونه تعيينياً لا عِدل له ، أو تخييرياً ذا عِدل.

وسوف نلاحظ أنّ القضايا العقلية متفاعلة فيما بينها ومترابطة في بحوثها.

فقد نتناول قضيةً تحليليةً بالتفسير والتحليل فتحصل من خلال الاتّجاهات المتعدّدة في تفسيرها قضايا عقلية تركيبية ، إذ قد يدّعي بعضٌ صيغةً تشريعية معيّنةً في تفسيرها ، فيدّعي الآخر استحالة تلك الصيغة ويبرهن على ذلك فتحصل بهذه الاستحالة قضية تركيبية.

أو قد نطرح قضيةً تحليليةً للتفسير ، فيضطرّنا تفسيرها إلى تناول قضايا تحليليةٍ اخرى تساعد على تفسير تلك القضية. وفي مثل ذلك تدرس تلك القضايا الاخرى عادةً ضمن إطار تلك القضية إذا كان دورها المطلوب مرتبطاً بما لها من دخلٍ في تحليل تلك القضية وتفسيرها.

وسنتناول في ما يلي مجموعةً من القضايا العقلية التي تشكِّل عناصر مشتركةً في عملية الاستنباط ، ثمّ نتكلّم بعد ذلك عن حجّية الدليل العقلي.

٢٢٣
٢٢٤

١ ـ إثبات القضايا العقليّة

قاعدة استحالة التكليف بغير المقدور

شرطية القدرة ومحلّها :

في التكليف مراتب متعدّدة ، وهي : الملاك ، والإرادة ، والجعل ، والإدانة.

فالملاك هو المصلحة الداعية إلى الإيجاب.

والإرادة هي الشوق الناشئ من إدراك تلك المصلحة.

والجعل هو اعتبار الوجوب مثلاً ، وهذا الاعتبار تارةً يكون لمجرّد إبراز الملاك والإرادة. واخرى يكون بداعي البعث والتحريك ، كما هو ظاهر الدليل الذي يتكفّل بإثبات الجعل.

والإدانة هي مرحلة المسؤولية والتنجّز واستحقاق العقاب.

ولا شكّ في أنّ القدرة شرط في مرحلة الإدانة ؛ لأنّ الفعل إذا لم يكن مقدوراً فلا يدخل في حقّ الطاعة للمولى عقلاً. كما أنّ مرتبتي الملاك والشوق غير آبيتين عن دخالة القدرة كشرطٍ فيهما بحيث لا ملاك في الفعل ولا شوق إلى صدوره من العاجز ، وعن عدم دخالتها كذلك بحيث يكون الفعل واجداً للمصلحة ومحطّاً للشوق حتى من العاجز ، وقد تسمّى القدرة في الحالة الاولى بالقدرة الشرعية ، وفي الحالة الثانية بالقدرة العقلية.

وأمّا في مرتبة جعل الحكم فإذا لوحظت هذه المرتبة بصورةٍ مجرّدةٍ لم نجد

٢٢٥

مانعاً عقلياً عن شمولها للعاجز ؛ لأنّها اعتبار للوجوب ، والاعتبار سهل المؤونة ، وقد يوجّه إلى المكلّف على الإطلاق لإبراز أنّ المبادئ ثابتة في حقّ الجميع.

ولكن قد نفترض جعل الحكم بداعي البعث والتحريك المولوي. ومن الواضح هنا أنّ التحريك المولوي إنّما هو بسبب الإدانة وحكم العقل بالمسؤولية ، ومع العجز لا إدانة ولا مسؤولية ـ كما تقدم ـ فيستحيل التحريك المولوي ، وبهذا يمتنع جعل الحكم بداعي التحريك المولوي.

وحيث إنّ مفاد الدليل عرفاً هو جعل الحكم بهذا الداعي فيختصّ لا محالة بالقادر ، وتكون القدرة شرطاً في الحكم المجعول بهذا الداعي. والقدرة إنّما تتحقّق في موردٍ يكون الفعل فيه تحت اختيار المكلف ، فإذا كان خارجاً عن اختياره فلا يمكن التكليف به لا إيجاباً ولا تحريماً ، سواء كان ضروريّ الوقوع تكويناً ، أو ضروريّ الترك كذلك ، أو كان ممّا قد يقع وقد لا يقع ولكن بدون دخالةٍ لاختيار المكلّف في ذلك كنبع الماء من جوف الأرض ، فإنّه في كلّ ذلك لا تكون القدرة محقّقة.

وثمرة دخل القدرة في الإدانة واضحة ، وأمّا ثمرة دخلها في جعل الحكم الذي هو مفاد الدليل فتظهر بلحاظ وجوب القضاء ، وذلك في حالتين :

الاولى : أن يعجز المكلف عن أداء الواجب في وقته ونفترض أنّ وجوب القضاء يدور إثباتاً ونفياً مدار كون هذا العجز مفوِّتاً للملاك على المكلف وعدم كونه كذلك ، فإنّه إذا لم نقل باشتراط القدرة في مرتبة جعل الحكم الذي هو مفاد الدليل أمكن التمسّك بإطلاق الدليل لإثبات الوجوب على العاجز ـ وإن لم تكن هناك إدانة ـ ونثبت حينئذٍ بالدلالة الالتزامية شمول الملاك ومبادئ الحكم له ، وبهذا نعرف أنّ العاجز قد فوَّت العجز عليه الملاك فيجب عليه القضاء ، وخلافاً لذلك ما إذا قلنا بالاشتراط فإنّ الدليل حينئذٍ يسقط إطلاقه عن الصلاحية لإثبات

٢٢٦

الوجوب على العاجز ، وتبعاً لذلك تسقط دلالته الالتزامية على المبادئ ، فلا يبقى كاشف عن الفوت المستتبع لوجوب القضاء.

الثانية : أن يكون الفعل خارجاً عن اختيار المكلف ، ولكنّه صدر منه بدون اختيارٍ على سبيل الصدفة. ففي هذه الحالة إذا قيل بعدم الاشتراط تمسّكنا بإطلاق الدليل لإثبات الوجوب بمبادئه على هذا المكلف ، ويعتبر ما صدر منه صدفةً حينئذٍ مصداقاً للواجب فلا معنى لوجوب القضاء عليه لحصول الاستيفاء. وخلافاً لذلك ما إذا قلنا بالاشتراط ، فإنّ ما أتى به لا يتعيّن بدليل [الأداء] أنّه مسقط لوجوب القضاء ونافٍ له ، بل لابدّ من طلب حاله من قاعدةٍ اخرى من دليلٍ أو أصل.

حالات ارتفاع القدرة :

ثمّ إنّ القدرة التي هي شرط في الإدانة ، وفي التكليف قد تكون موجودةً حين توجُّه التكليف ، ثمّ تزول بعد ذلك وزوالها يرجع إلى أحد أسباب :

الأول : العصيان ، فإنّ الإنسان قد يعصي ، ويؤخّر الصلاة حتى لا يبقى من الوقت ما يُتاح له أن يصلّي فيه.

الثاني : التعجيز وذلك بأن يعجِّز المكلّف نفسه عن أداء الواجب ، بأن يكلِّفه المولى بالوضوء ، والماء موجود أمامه فيريقه ، ويصبح عاجزاً.

الثالث : العجز الطارئ لسببٍ خارجٍ عن اختيار المكلف.

وواضح أنّ الإدانة ثابتة في حالات السببين : الأول والثاني ؛ لأنّ القدرة حدوثاً على الامتثال كافية لإدخال التكليف في دائرة حقّ الطاعة ، وأمّا في الحالة الثالثة فالمكلّف إذا فوجئ بالسبب المعجِّز فلا إدانة. وإذا كان عالماً بأ نّه سيطرأ وتماهل في الامتثال حتى طرأ فهو مُدان أيضاً.

٢٢٧

وعلى ضوء ما تقدم يقال عادةً : «إنّ الاضطرار بسوء الاختيار لا ينافي الاختيار عقاباً» ، أي أنّه لا ينفي القدرة بالقدر المعتبر شرطاً في الإدانة والعقاب.

ويراد بالاضطرار بسوء الاختيار ما نشأ عن العصيان ، أو التعجيز.

وأمّا التكليف فقد يقال إنّه يسقط بطروِّ العجز مطلقاً ، سواء كان هذا العجز منافياً للعقاب والإدانة ، أوْ لا ؛ لأنّه على أيّ حال تكليف بغير المقدور وهو مستحيل. ومن هنا يكون العجز الناشئ من العصيان والتعجيز مسقطاً للتكليف وإن كان لا يسقط العقاب. وعلى هذا الأساس يُردَف ما تقدّم من أنّ الاضطرار بسوء الاختيار لا ينافي الاختيار عقاباً ، بقولهم : «إنّه ينافيه خطاباً». ومقصودهم بذلك سقوط التكليف.

والصحيح أنّهم إن قصدوا بسقوط التكليف سقوط فاعليته ومحرّكيته فهذا واضح إذ لا يعقل محرّكيته مع العجز الفعلي ولو كان هذا العجز ناشئاً من العصيان ، وإن قصدوا سقوط فعليته. فيرد عليهم : أنّ الوجوب المجعول إنّما يرتفع إذا كان مشروطاً بالقدرة ما دام ثابتاً ، فحيث لا قدرة بقاءً لا وجوب كذلك.

وأمّا إذا كان مشروطاً بالقدرة بالقدر الذي يحقِّق الإدانة والمسؤولية فهذا حاصل بنفس حدوث القدرة في أول الأمر فلا يكون الوجوب في بقائه منوطاً ببقائها.

والبرهان على اشتراط القدرة في التكليف لا يقتضي أكثر من ذلك وهو أنّ التكليف قد جعل بداعي التحريك المولوي ، ولا تحريك مولوي إلاّمع الإدانة ، ولا إدانة إلاّمع القدرة حدوثاً ، فما هو شرط التكليف إذن بموجب هذا البرهان هو القدرة حدوثاً.

ومن هنا صحّ أن يقال : إنّ الاضطرار بسوء الاختيار لا ينافي إطلاق الخطاب والوجوب المجعول أيضاً ؛ تبعاً لعدم منافاته للعقاب والإدانة. نعم ، لا أثر عملياً لهذا الإطلاق ، إذ سواء قلنا به أوْ لا فروح التكليف محفوظة على

٢٢٨

كلّ حال ، وفاعليته ساقطة على كلّ حال ، والإدانة مسجّلة على المكلّف عقلاً بلا إشكال.

الجامع بين المقدور وغيره :

ما تقدّم حتى الآن كان يعني أنّ التكليف مشروط بالقدرة على متعلقه. فإذا كان متعلقه بكل حصصه غير مقدورٍ انطبقت عليه قاعدة استحالة التكليف بغير المقدور ، وأمّا إذا كان متعلقه جامعاً بين حصّتين : إحداهما مقدورة ، والاخرى غير مقدورة ، فلا شكّ ايضاً في استحالة تعلّق التكليف بالجامع على نحو الإطلاق الشمولي ، وأمّا تعلقه بالجامع على نحو الإطلاق البدلي ففي انطباق القاعدة المذكورة عليه كلام بين الأعلام. وقد ذهب المحقّق النائيني (١) رحمه‌الله إلى أنّ التكليف إذا تعلّق بهذا الجامع فيختصّ لا محالة بالحصّة المقدورة منه ، ولا يمكن أن يكون للمتعلّق إطلاق للحصّة الاخرى ؛ لأنّ التكليف بداعي البعث والتحريك وهو لا يمكن إلاّبالنسبة إلى الحصّة المقدورة خاصّة فنفس كونه بهذا الداعي يوجب اختصاص التكليف بتلك الحصّة. وذهب المحقّق الثاني (٢) ووافقه جماعة من الأعلام (٣) إلى إمكان تعلق التكليف بالجامع بين المقدور وغيره على نحوٍ يكون للواجب إطلاق بدلي يشمل الحصّة غير المقدورة ؛ وذلك لأنّ الجامع بين المقدور وغير المقدور مقدور ، ويكفي ذلك في إمكان التحريك نحوه ، وهذا هو الصحيح.

__________________

(١) أجود التقريرات ١ : ٣٦٧.

(٢) حكاه عنه المحقّق النائيني في أجود التقريرات ١ : ٣٦٧ ، وانظر جامع المقاصد ٥ : ١٣ ـ ١٤.

(٣) راجع مطارح الأنظار : ١١٩.

٢٢٩

وثمرة هذا البحث تظهر فيما إذا وقعت الحصّة غير المقدورة من الفعل الواجب صدفةً وبدون اختيار المكلّف ، فإنّه على قول المحقّق النائيني يحكم بعدم إجزائها ووجوب إتيان الجامع في ضمن حصّةٍ اخرى ؛ لأنّه يفترض اختصاص الوجوب بالحصّة المقدورة ، فما وقع ليس مصداقاً للواجب ، وإجزاء غير الواجب عن الواجب يحتاج إلى دليل.

وعلى قول المحقّق الثاني نتمسّك بإطلاق دليل الواجب لإثبات أنّ الوجوب متعلّق بالجامع بين الحصّتين ، فيكون المأتيّ به فرداً من الواجب فيحكم بإجزائه وعدم وجوب الإعادة.

٢٣٠

شرطية القدرة بالمعنى الأعمّ

تقدم (١) أنّ العقل يحكم بتقيّد التكليف واشتراطه بالقدرة على متعلّقه ؛ لاستحالة التحريك المولوي نحو غير المقدور ، ولكن هل يكفي هذا المقدار من التقييد ، أوْ لابدّ من تعميقه؟

ومن أجل الجواب على هذا السؤال نلاحظ أنّ المكلف إذا كان قادراً على الصلاة تكويناً ، ولكنّه مأمور فعلاً بانقاذ غريقٍ تفوت بإنقاذه الصلاة ، للتضادّ بين عمليّتي الإنقاذ والصلاة وعدم قدرة المكلّف على الجمع بينهما ، فهل يمكن أن يؤمَر هذا المكلف بالصلاة والحالة هذه فيجتمع عليه تكليفان بكلا الفعلين؟

والجواب بالنفي ؛ لأنّ المكلّف وإن كان قادراً على الصلاة فعلاً قدرةً تكوينيةً ، ولكنّه غير قادرٍ على الجمع بينها وبين إنقاذ الغريق ، فلا يمكن أن يكلّف بالجمع ، ولا فرق في استحالة تكليفه بالجمع بين أن يكون ذلك بإيجابٍ واحدٍ أو بإيجابين يستدعيان بمجموعهما الجمع بين الضدين ، وعلى هذا فلا يمكن أن يؤمر بالصلاة مَن هو مكلّف فعلاً بالإنقاذ في هذا المثال وإن كان قادراً عليها تكويناً. وذلك يعني وجود قيدٍ آخر للأمر بالصلاة ـ ولكلّ أمرٍ ـ إضافةً إلى القدرة التكوينية ، وهو أن لا يكون مبتلىً بالأمر بالضدّ فعلاً ، فالقيد إذن مجموع أمرين :

القدرة التكوينية وعدم الابتلاء بالأمر بالضدّ. وهذا ما نسمّيه بالقدرة التكوينية بالمعنى الأعمّ ولا إشكال في ذلك ، وإنّما الإشكال في معنى عدم الابتلاء الذي يتعيّن عقلاً أخذه شرطاً في التكليف فهل هو بمعنى أن لا يكون مأموراً بالضدّ ، أو

__________________

(١) في البحث السابق ، تحت عنوان : شرطيّة القدرة ومحلّها.

٢٣١

بمعنى أن لا يكون مشغولاً بامتثال الأمر بالضدّ؟

والأول يعني أنّ كلّ مكلّفٍ بأحد الضدّين لا يكون مأموراً بضدّه ، سواء كان بصدد امتثال ذلك التكليف أوْ لا.

والثاني يعني سقوط الأمر بالصلاة عمّن كلِّف بالإنقاذ ، لكن لا بمجرّد التكليف ، بل باشتغاله بامتثاله ، فمع بنائه على العصيان وعدم الإنقاذ يتوجّه إليه الأمر بالصلاة ، وهذا ما يسمّى بثبوت الأمرين بالضدّين على نحو الترتّب.

وقد ذهب صاحب الكفاية رحمه‌الله إلى الأول (١) مدّعياً استحالة الوجه الثاني ؛ لأ نّه يستلزم في حالة كون المكلّف بصدد عصيان التكليف بالإنقاذ أن يكون كلا التكليفين فعلياً بالنسبة إليه. أمّا التكليف بالإنقاذ فواضح ؛ لأنّ مجرّد كونه بصدد عصيانه لا يعني سقوطه ، وأمّا الأمر بالصلاة فلأنّ قيده محقّق بكلا جزءيه ؛ لتوفّر القدرة التكوينية ، وعدم الابتلاء بالضدّ بالمعنى الذي يفترضه الوجه الثاني ، وفعلية الأمر بالضدين معاً مستحيلة ، فلابدّ إذن من الالتزام بالوجه الأوّل فيكون التكليف بأحد الضدّين بنفس ثبوته نافياً للتكليف بالضدّ الآخر.

وذهب المحقّق النائينيّ رحمه‌الله إلى الثاني (٢) ، وهذا هو الصحيح وتوضيحه ضمن النقاط الثلاث التالية :

النقطة الاولى : أنّ الأمرين بالضدين ليسا متضادّين بلحاظ عالم المبادئ ، إذ لا محذور في افتراض مصلحةٍ ملزمةٍ في كلٍّ منهما وشوقٍ أكيدٍ لهما معاً ، ولا بلحاظ عالم الجعل ، كما هو واضح ، وإنّما ينشأ التضادّ بينهما بلحاظ التنافي ، والتزاحم بينهما في عالم الامتثال ؛ لأنّ كلاًّ منهما بقدر ما يحرّك نحو امتثال نفسه

__________________

(١) كفاية الاصول : ١٦٦ ـ ١٦٧.

(٢) فوائد الاصول ١ : ٣٣٦.

٢٣٢

يبعِّد عن امتثال الآخر.

النقطة الثانية : أنّ وجوب أحد الضدّين إذا كان مقيّداً بعدم امتثال التكليف بالضدّ الآخر ، أو بالبناء على عصيانه فهو وجوب مشروط على هذا النحو ، ويستحيل أن يكون هذا الوجوب المشروط منافياً في فاعليته ومحرّكيته للتكليف بالضدّ الآخر ، إذ يمتنع أن يستند إليه عدم امتثال التكليف بالضدّ الآخر ؛ لأنّ هذا العدم مقدمة وجوبٍ بالنسبة إليه ، وكلّ وجوبٍ مشروط بمقدمةٍ وجوبيةٍ لا يمكن أن يكون محرّكاً نحوها وداعياً إليها ، كما تقدم مبرهَناً في الحلقة السابقة (١).

وإذا امتنع استناد عدم امتثال التكليف بالضد الآخر إلى هذا الوجوب المشروط تبرهن أنّ هذا الوجوب لا يصلح للمانعية والمزاحمة في عالم التحريك والامتثال.

النقطة الثالثة : أنّ التكليف بالضدِّ الآخر إمّا أن يكون مشروطاً بدوره أيضاً بعدم امتثال هذا الوجوب المشروط ، وإمّا أن يكون مطلقاً من هذه الناحية. فعلى الأول يستحيل أن يكون منافياً للوجوب المشروط في مقام التحريك بنفس البيان السابق. وعلى الثاني يستحيل ذلك أيضاً ؛ لأنّ التكليف بالضدِّ الآخر مع فرض إطلاقه وإن كان يبعِّد عن امتثال الوجوب المشروط ، ويصلح أن يستند إليه عدم وقوع الواجب بذلك الوجوب المشروط ، ولكنّه إنّما يبعِّد عن امتثال الوجوب المشروط بتقريب المكلّف نحو امتثال نفسه الذي يساوق إفناء شرط الوجوب المشروط ونفي موضوعه ، وهذا يعني أنّه يقتضي نفي امتثال الوجوب المشروط بنفي أصل الوجوب المشروط وإعدام شرطه ، لا نفيه مع حفظ الوجوب المشروط

__________________

(١) في بحث الدليل العقلي ، ضمن الحديث عن قاعدة تنوّع القيود وأحكامها ، تحت عنوان : أحكام القيود المتنوّعة.

٢٣٣

وحفظ شرطه ، والوجوب المشروط إنّما يأبى عن نفي امتثال نفسه مع حفظ ذاته وشرطه ، ولا يأبى عن نفي ذلك بنفي ذاته وشرطه رأساً ، إذ يستحيل أن يكون حافظاً لشرطه ، ومقتضياً لوجوده.

وبهذا يتبرهن أنّ الأمرين بالضدّين إذا كان أحدهما على الأقلّ مشروطاً بعدم امتثال الآخر كفى ذلك في إمكان ثبوتهما معاً بدون تنافٍ بينهما.

وهكذا نعرف أنّ العقل يحكم بأنّ كلَّ وجوبٍ مشروط ـ إضافةً إلى القدرة التكوينية ـ بعدم الابتلاء بالتكليف بالضدّ الآخر ، بمعنى عدم الاشتغال بامتثاله ، ولكن لا أيّ تكليفٍ آخر ، بل التكليف الذي لا يقلّ في ملاكه أهمّيةً عن ذلك الوجوب ، سواء ساواه ، أو كان أهمَّ منه.

وأمّا إذا كان التكليف الآخر أقلّ أهميّةً من ناحية الملاك ، فلا يكون الاشتغال بامتثاله مبرِّراً شرعاً لرفع اليد عن الوجوب الأهمّ ، بل يكون الوجوب الأهمّ مطلقاً من هذه الناحية ، كما تفرضه أهمّيته.

ومن هنا نصل إلى صيغةٍ عامةٍ للتقييد يفرضها العقل على كلّ تكليف ، وهي تقييده بعدم الاشتغال بامتثال واجبٍ آخر لا يقلّ عنه أهمّية ، وعلى هذا الأساس إذا وقع التضادّ بين واجبين ـ كالصلاة وإنقاذ الغريق ، أو الصلاة وإزالة النجاسة عن المسجد ـ فالتعرّف على أنّ أيَّهما وجوبه مطلق ، وأيّهما وجوبه مقيّد بعدم الاشتغال بالآخر يرتبط بمعرفة النسبة بين الملاكين ، فإن كانا متساويَين كان الاشتغال بكلٍّ منهما مصداقاً لِمَا حكم العقل بأخذ عدمه قيداً في كلّ تكليف ، وهذا يعني أنّ كلاًّ من الوجوبين مشروط بعدم امتثال الآخر ، ويسمّى بالترتّب من الجانبين.

وإن كان أحد الملاكين أهمَّ كان الاشتغال بالأهمِّ مصداقاً لِمَا حكم العقل بأخذ عدمه قيداً في وجوب المهمّ ، ولكنّ الاشتغال بالمهمّ لا يكون مصداقاً لِمَا

٢٣٤

حكم العقل بأخذ عدمه قيداً في وجوب الأهمّ ، وينتج هذا أنّ الأمر بالأهمّ مطلق ، والأمر بالمهمّ مقيّد ، وأنّ المكلّف لا بدّ له من الاشتغال بالأهمّ لكي لا يبتلى بمعصية شيءٍ من الأمرين ، ولو اشتغل بالمهمّ لابتُلي بمعصية الأمر بالأهمّ.

[أحكام التزاحم :]

ويترتّب على ما ذكرناه من كون القدرة التكوينية بالمعنى الأعمّ شرطاً عاماً في التكليف بحكم العقل عدّة ثمراتٍ مهمّة :

منها : أنّه كلّما وقع التضادّ بين واجبين بسبب عجز المكلّف عن الجمع بينهما ، كالصلاة والإزالة ـ وتسمّى بحالات التزاحم ـ فلا ينشأ من ذلك تعارض بين دليلَي وجوب الصلاة ووجوب الإزالة ؛ لأنّ الدليل مفاده جعل الحكم على موضوعه الكلّي وضمن قيوده المقدّرة الوجود ، كما مرّ بنا في الحلقة السابقة (١) ، ومن جملة تلك القيود : القدرة التكوينية بالمعنى الأعمّ المتقدم. ولا يحصل تعارض بين الدليلين إلاّفي حالة وجود تنافٍ بين الجعلين ، وحيث لا تنافيَ بين جعل وجوب الصلاة المقيّد بالقدرة التكوينية بالمعنى الأعمّ ، وجعل وجوب الإزالة المقيّد كذلك فلا تعارض بين الدليلين.

فإن قيل : كيف لا يوجد تعارض بين دليلَي «صلِّ» و «أزل» مع أنّ الأول يقتضي بإطلاقه إيجاب الصلاة ، سواء أزال أوْ لا ، والثاني يقتضي بإطلاقه إيجاب الإزالة ، سواء صلّى أوْ لا ، ونتيجة ذلك أن يكون الجمع بين الضدّين مطلوباً؟

كان الجواب على ذلك : أنّ كلاًّ من الدليلين لا إطلاق فيه بحدّ ذاته لحالة الاشتغال بضدٍّ لا يقلّ عنه أهمّية ؛ لأنّه مقيّد عقلاً بعدم ذلك ، كما تقدم. فإن كان

__________________

(١) في بحث التعارض ، تحت عنوان : التعارض بين الأدلّة المحرزة.

٢٣٥

الواجبان المتزاحمان متساويَين في الأهمّية فلا إطلاق في كلٍّ منهما لحالة الاشتغال بالآخر ، وإن كان أحدهما أهمّ فلا إطلاق في غير الأهمّ لذلك. وعلى كلّ حالٍ فلا يوجد إطلاقان ـ كما ذكر ـ ليقع التعارض بينهما ، وهذا ما يقال من أنّ باب التزاحم مغاير لباب التعارض ، ولا يدخل ضمنه ولا تطبَّق عليه قواعده.

وكما يكون التزاحم بين واجبين يعجز المكلّف عن الجمع بينهما ، كذلك يكون بين واجبٍ وحرامٍ يعجز المكلّف عن الجمع بين إيجاد الواجب منهما وترك الحرام ، كما إذا ضاقت قدرة المكلّف في موردٍ مّا عن إتيان الواجب وترك الحرام معاً.

ومنها : أنّ القانون الذي تعالج به حالات التزاحم هو تقديم الأهمّ ملاكاً على غيره ؛ لأنّ الاشتغال بالأهمّ ينفي موضوع المهمّ ، دون العكس ، هذا إذا كان هناك أهمّ. وأمّا مع التساوي فالمكلّف مخيَّر عقلاً ؛ لأنّ الاشتغال بكلّ واحدٍ من المتزاحمين ينفي موضوع الآخر. وإذا ترك المكلّف الواجبين المتزاحمين معاً ، استحقّ عقابين ؛ لفعلية كلا الوجوبين في هذه الحالة.

ومنها : أنّ تقديم أحد الواجبين في حالات التزاحم بقانون الأهمّية لا يعني سقوط الواجب الآخر رأساً ، كما هي الحالة في تقديم أحد المتعارضين على الآخر ، بل يبقى الآخر واجباً وجوباً منوطاً بعدم الاشتغال بالأهمّ ، وهذا ما يسمّى بالوجوب الترتّبي. ولا يحتاج إثبات هذا الوجوب الترتّبي إلى دليلٍ خاصّ ، بل يكفيه نفس الدليل العام ؛ لأنّ مفاده ـ كما عرفنا ـ وجوب متعلقه مشروطاً بعدم الاشتغال بواجبٍ لا يقلّ عنه أهمّية. والوجوب الترتّبي هو تعبير آخر عن ذلك بعد افتراض أهمّية المزاحم الآخر.

ومن نتائج هذه الثمرة : أنّ الصلاة إذا زاحمت إنقاذ الغريق الواجب الأهمّ واشتغل المكلّف بالصلاة بدلاً عن الإنقاذ صحّت صلاته ، على ما تقدم ؛ لأنّها

٢٣٦

مأمور بها بالأمر الترتّبي ، وهو أمر محقَّق فعلاً في حقّ من لا يمارس فعلاً امتثال الأهمّ.

وأمّا إذا أخذنا بوجهة نظر صاحب الكفاية رحمه‌الله القائل بأنّ الأمرين بالضدّين لا يجتمعان ولو على وجه الترتّب فمن الصعب تصحيح الصلاة المذكورة ؛ لأنّ صحّتها فرع ثبوت أمرٍ بها ، ولا أمر بها ولو على وجه الترتّب بناءً على وجهة النظر المذكورة.

فإن قيل : يكفي في صحّتها وفاؤها بالملاك وإن لم يكن هناك أمر.

كان الجواب : أنّ الكاشف عن الملاك هو الأمر ، فحيث لا أمر لا دليل على وجود الملاك.

ما هو الضدّ؟

عرفنا أنّ الأمر بشيءٍ مقيّد عقلاً بعدم الاشتغال بضدّه الذي لا يقلّ عنه أهمّية ، وانتهينا من ذلك إلى أنّ وقوع التضادّ بين واجبين بسبب عجز المكلّف عن الجمع بينهما لا يؤدِّي إلى التعارض بين دليليهما. والآن نتساءل : ماذا نريد بهذا التضاد؟

والجواب : أنّنا نريد بذلك حالات عدم إمكان الاجتماع الناشئة من ضيق قدرة المكلف ، ولكن لا ينطبق هذا على كلّ ضدٍّ فهو :

أولاً : لا ينطبق على الضدّ العام ؛ أي النقيض ؛ وذلك لأنّ الأمر بأحد النقيضين يستحيل أن يكون مقيداً بعدم الاشتغال بنقيضه ؛ لأنّ فرض عدم الاشتغال بالنقيض يساوق ثبوت نقيضه ، ويكون الأمر به حينئذٍ تحصيلاً للحاصل ، وهو محال.

ومن هنا نعرف أنّ النقيضين لا يعقل جعل أمرٍ بكلٍّ منهما لا مطلقاً ولا مقيّداً

٢٣٧

بعدم الاشتغال بالآخر. أمّا الأول فلأ نّه تكليف بالجمع بين نقيضين. وأمّا الثاني فلأ نّه تحصيل للحاصل. وهذا يعني أنّه إذا دلّ دليل على وجوب فعلٍ ، ودلّ دليل آخر على وجوب [تركه] أو حرمة فعله ، كان الدليلان متعارضين ؛ لأنّ التنافي بين الجعلين ذاتَيهما.

وثانياً : لا ينطبق على الضدِّ الخاصِّ في حالة الضدّين اللذَين لا ثالث لهما ؛ لنفس السبب السابق ، حيث إنّ عدم الاشتغال بأحدهما يساوق وجود الآخر حينئذٍ ، والحال هنا كالحال في النقيضين.

وعلى هذا فعجز المكلّف عن الجمع بين واجبين إنّما يحقِّق التزاحم لا التعارض فيما إذا لم يكونا من قبيل النقيضين أو الضدّين اللذَين لا ثالث لهما ، وإلاّ دخلت المسألة في باب التعارض. ويمكننا أن نستنتج من ذلك أنّ ثبوت التزاحم وانتفاء التعارض مرهون بإمكان الترتب الذي يعني كون كلٍّ من الأمرين مشروطاً بعدم الاشتغال بمتعلّق الآخر. فكلّما أمكن ذلك صحّ التزاحم ، وكلّما امتنع الترتّب ـ كما في الحالتين المشار اليهما ـ وقع التعارض.

إطلاق الواجب لحالة المزاحمة :

قد تكون المزاحمة قائمةً بين متعلَّقَي أمرين على نحوٍ يدور الأمر بين امتثال هذا أو ذاك ، كما إذا كان وقت الصلاة ضيّقاً وابتلي المكلّف بنجاسةٍ في المسجد تفوت مع إزالتها الصلاة رأساً. وقد لا تكون هناك مزاحمة على هذا النحو ، وإنّما تكون بين أحد الواجبين وحصّةٍ معيّنةٍ من حصص الواجب الآخر.

ومثاله : أن يكون وقت الصلاة موسَّعاً ، وتكون الإزالة مزاحمةً للصلاة في أول الوقت ، وبإمكان المكلّف أن يزيل ثمّ يصلّي. ونحن كنّا نتكلّم عن الحالة الاولى من المزاحمة. وأمّا الحالة الثانية فقد يقال إنّه لا مزاحمة بين الأمرين ؛ لإمكان

٢٣٨

امتثالهما معاً ، فإنّ الأمر بالصلاة متعلّق بالجامع بين الحصّة المزاحمة وغيرها ، والمكلَّف قادر على إيجاد الجامع مع الإزالة ، فلا تضادّ بين الواجبين ، وهذا يعني أنّ كلاًّ من الأمرين يلائم الآخر ، فإذا ترك المكلّف الإزالة وصلّى كان قد أتى بفردٍ من الواجب المأمور به فعلاً.

وقد يقال : إنّ المزاحمة واقعة بين الأمر بالإزالة وإطلاق الأمر بالصلاة للحصّة المزاحمة ، فلا يمكن أن يتلائم الأمر بالإزالة مع هذا الإطلاق في وقتٍ واحد.

والصحيح أن يقال : إنّ لهذه المسألة ارتباطاً بمسألةٍ متقدمة ، وهي : أنّه هل يمكن التكليف بالجامع بين المقدور وغير المقدور.

فإن أخذنا في تلك المسألة بوجهة نظر المحقّق النائيني القائل بامتناع ذلك ، وأخذنا القدرة التكوينية بالمعنى الأعمّ المشتمل على عدم الاشتغال بامتثال واجبٍ مزاحمٍ لا يقلّ عنه أهمّيةً كان معنى ذلك أنّ التكليف بالجامع بين الحصّة المبتلاةِ بمزاحمٍ وغيرها ممتنع أيضاً ، فيقوم التزاحم بين الأمر بالجامع والأمر بالإزالة ، وحينئذٍ يطبَّق قانون باب التزاحم ، وهو التقديم بالأهمّية.

ولا شكّ في انّ الأمر بالإزالة أهمّ ؛ لأنّ استيفاءه ينحصر بذلك الزمان ، بينما استيفاء الأمر بالجامع يتأتّى بحصّةٍ اخرى ، وهذا يعني ـ وفقاً لما تقدم (١) ـ أنّ الأمر بالجامع يكون منوطاً بعدم الابتلاء بالإزالة الواجبة ، فإن فسّرنا عدم الابتلاء بعدم الأمر ـ كما عليه صاحب الكفاية ـ كان معنى ذلك أنّ الحصّة المزاحمة من الصلاة لا أمر بها ، فلا تقع صحيحةً إذا آثرها المكلّف على الإزالة.

وإن فسّرنا عدم الابتلاء بعدم الاشتغال بامتثال المزاحم ـ كما عليه

__________________

(١) في صدر هذا البحث ، تحت عنوان : شرطيّة القدرة بالمعنى الأعمّ.

٢٣٩

النائيني ـ كان معنى ذلك أنّ الأمر بالجامع ثابت على وجه الترتّب ، فلو أتى المكلّف بالحصّة المزاحمة من الصلاة وقعت منه صحيحة.

[وإن أخذنا في تلك المسألة بوجهة نظر المحقّق الثاني القائل بإمكان تعلّق التكليف بالجامع بين المقدور وغير المقدور ، فلا مانع حينئذٍ عن تعلّق التكليف بالجامع بين الحصّة المبتلاة بمزاحم وغيرها ، فيكون الأمر بالجامع ثابتاً في عرض الأمر بالإزالة ، فلو أتى المكلّف بالحصّة المزاحمة من الصلاة وقعت منه صحيحةً من دون فرض الترتّب بين الأمرين] (١).

التقييد بعدم المانع الشرعي :

قلنا : إنّ القانون المتَّبع في حالات التزاحم هو قانون ترجيح الأهمّ ملاكاً ، ولكن هذا فيما إذا لم يفرض تقييد زائد على ما استقلّ به العقل من اشتراطٍ. فقد عرفنا أنّ العقل يستقلّ باشتراط مفاد كلٍّ من الدليلين بالقدرة التكوينية بالمعنى الأعمّ ، فإذا فرضنا أنّ مفاد أحدهما كان مشروطاً من قبل الشارع ـ إضافةً إلى ذلك ـ بعدم المانع الشرعي ـ أي بعدم وجود حكمٍ على الخلاف ـ دون الدليل الآخر ، قُدِّم الآخر عليه ولم ينظر إلى الأهمّية في الملاك.

ومثاله : وجوب الوفاء بالشرط إذا تزاحم مع وجوب الحجّ ، كما إذا اشترط

__________________

(١) ما بين المعقوفتين لم يرد في الطبعة الاولى ، وإنّما هو مضمون عبارة كتبها المؤلّف قدس‌سره في حياته على نسخةٍ معيّنة من تلك الطبعة بحضور أحد تلامذته الفضلاء على أمل إضافتها في الطبعات القادمة ، إلاّأ نّه مع شديد الأسف قد فقدت تلك النسخة ـ ضمن ما فقد بظلم الظالمين ـ وقد تفضّل هذا التلميذ الوفيّ بصبّ ذلك المضمون بهذه العبارة عسى أن تكون وافيةً بمراد السيّد الشهيد رحمه‌الله.

٢٤٠