دروس في علم الأصول - ج ٢

آية الله السيّد محمّد باقر الصدر

دروس في علم الأصول - ج ٢

المؤلف:

آية الله السيّد محمّد باقر الصدر


المحقق: لجنة التحقيق التابعة للمؤتمر العالمي للإمام الشهيد الصدر
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مركز الأبحاث والدراسات التخصصية للشهيد الصدر
الطبعة: ١
الصفحات: ٦٠٨
الجزء ١ الجزء ٢

على الشخص أن يزور الحسين عليه‌السلام في عرفة كلّ سنةٍ واستطاع بعد ذلك ، فإنّ وجوب الوفاء بالشرط مقيّد في دليله بأن لا يكون هناك حكم على خلافه ، بلسان (أنّ شرط الله قبل شرطكم) (١). وأمّا دليل وجوب الحجّ فلم يقيّد بذلك ، فيقدَّم وجوب الحجّ ، ولا ينظر إلى الأهمّية.

أمّا الأوّل فلأ نّه ينفي بنفسه موضوع الوجوب الآخر ؛ لأنّ وجوب الحجّ ذاته ـ وبقطع النظر عن امتثاله ـ مانع شرعيّ عن الإتيان بمتعلق الآخر ، فهو حكم على الخلاف ، والمفروض اشتراط وجوب الوفاء بعدم ذلك ، فلا موضوع لوجوب الوفاء مع فعلية وجوب الحجّ.

وأمّا الثاني فلأنّ أهمّية أحد الوجوبين ملاكاً إنّما تؤثِّر في التقديم في حالة وجود هذا الملاك الأهمّ ، فإذا كان مفاد أحد الدليلين مشروطاً بعدم المانع الشرعيّ دلّ ذلك على أنّ مفاده حكماً وملاكاً لا يثبت مع وجود المانع الشرعي. وحيث إنّ مفاد الآخر مانع شرعيّ فلا فعلية للأوّل حكماً ولا ملاكاً مع فعلية مفاد الآخر ، وفي هذه الحالة لا معنى لأخذ أهمّية ملاك الأول بعين الاعتبار.

وقد يطلق على الحكم المقيّد بالتقييد الزائد المفروض أنّه مشروط بالقدرة الشرعية ، ويطلق على ما لا يكون مقيّداً بأزيد ممّا يستقلّ به العقل بأ نّه مشروط بالقدرة العقلية. وعلى هذا الأساس يقال : إنّه في حالات التزاحم يقدَّم المشروط بالقدرة العقلية على المشروط بالقدرة الشرعية. فإن كانا معاً مشروطين بالقدرة العقلية جرى قانون الترجيح بالأهمّية. غير أنّ نفس مصطلح المشروط بالقدرة الشرعية وما يقابله قد يطلق على معنىً آخر مرَّ بنا في الحلقة السابقة (٢) ، فلاحظ ، ولا تشتبه.

__________________

(١) وسائل الشيعة ٢١ : ٢٩٧ ، الباب ٣٨ من أبواب المهور ، الحديث الأوّل.

(٢) في بحث الدليل العقلي ، تحت عنوان : قاعدة استحالة التكليف بغير المقدور.

٢٤١

قاعدة إمكانِ الوجوبِ المشروط

للوجوب ثلاث مراحل ، وهي : الملاك ، والإرادة ، وجعل الحكم. وفي كلٍّ من هذه المراحل الثلاث قد تؤخذ قيود معيّنة ، فاستعمال الدواء للمريض واجب مثلاً ، فإذا أخذنا هذا الواجب في مرحلة الملاك نجد أنّ المصلحة القائمة به هي حاجة الجسم إليه ، ليسترجع وضعه الطبيعي ، وهذه الحاجة منوطة بالمرض ، فإنّ الإنسان الصحيح لا حاجة به إلى الدواء ، وبدون المرض لا يتّصف الدواء بأ نّه ذو مصلحة. ومن هنا يعبَّر عن المرض بأ نّه شرط في اتّصاف الفعل بالملاك ، وكلّ ما كان من هذا القبيل يسمّى بشرط الاتّصاف.

ثمّ قد نفرض أنّ الطبيب يأمر بأن يكون استعمال الدواء بعد الطعام ، فالطعام هنا شرط أيضاً ، ولكنّه ليس شرطاً في اتّصاف الفعل بالمصلحة ، إذ من الواضح أنّ المريض مصلحته في استعمال الدواء منذ يمرض ، وإنّما الطعام شرط في ترتّب تلك المصلحة وكيفية استيفائها بعد اتّصاف الفعل بها ، فالطبيب بأمره المذكور يريد أن يوضِّح أنّ المصلحة القائمة بالدواء لا تستوفى إلاّبحصّةٍ خاصّةٍ من الاستعمال ، وهي استعماله بعد الطعام. وكلّ ما كان من هذا القبيل يسمّى بشرط الترتّب تمييزاً له عن شرط الاتّصاف. وشرب الدواء سواء كان مطلوباً تشريعياً من قبل الآمر ، أو مطلوباً تكوينياً لنفس المريض له هذان النحوان من الشروط.

وشروط الاتّصاف تكون شروطاً لنفس الإرادة في المرحلة الثانية ، خلافاً لشروط الترتّب فإنّها شروط للمراد ، لا للإرادة ، من دون فرقٍ في ذلك كلّه بين الإرادة التكوينية والتشريعية.

فالإنسان لا يريد أن يشرب الدواء إلاّإذا رأى نفسه مريضاً ، ولا يريد

٢٤٢

من مأموره أن يشرب الدواء إلاّإذا كان كذلك. ولكنّ إرادة شرب الدواء للمريض أو لمن يوجِّهه فعليّة قبل أن يتناول الطعام. ولهذا فإنّ المريض قد يتناول الطعام لا لشيءٍ إلاّحرصاً منه على أن يشرب الدواء بعده وفقاً لتعليمات الطبيب ، وهذا يوضِّح أنّ تناول الطعام ليس قيداً للإرادة ، بل هو قيد للمراد ، بمعنى أنّ الإرادة فعليّة ومتعلقة بالحصّة الخاصّة ؛ وهي شرب الدواء المقيّد بالطعام ، ومن أجل فعليّتها كانت محرِّكةً نحو إيجاد القيد نفسه.

غير أنّ الإرادة التي ذكرنا أنّها مقيدة بشروط الاتّصاف ليست منوطةً بالوجود الخارجي لهذه الشروط ، بل بوجودها التقديري اللحاظي ؛ لأنّ الإرادة معلولة دائماً لإدراك المصلحة ولحاظ ما له دخل في اتّصاف الفعل بها ، لا لواقع تلك المصلحة مباشرة. وما أكثر المصالح التي لا تؤثِّر في إرادة الانسان لعدم إدراكه ولحاظه لها. فشروط الاتّصاف بوجودها الخارجي دخيلة في الملاك ، وبوجودها التقديري اللحاظي دخيلة في الإرادة فلا مصلحة في الدواء إلاّإذا كان الإنسان مريضاً حقّاً ، ولا إرادة للدواء إلاّإذا لاحظ الإنسان المرض وافترضه في نفسه ، أو فيمن يتولّى توجيهه.

ونفس الفارق بين شروط الاتّصاف وشروط الترتّب ينعكس على المرحلة الثالثة ؛ وهي مرحلة جعل الحكم ، فقد علمنا سابقاً أنّ جعل الحكم عبارة عن إنشائه على موضوعه المقدّر الوجود ، فكلّ شروط الاتّصاف تؤخذ مقدّرة الوجود في موضوع الحكم وتعتبر شروطاً للوجوب المجعول ، وأمّا شروط الترتّب فتكون مأخوذةً قيوداً للواجب.

وإذا لاحظنا المرحلة الثالثة بدقّةٍ ، وميّزنا بين الجعل والمجعول ـ كما مرّ بنا في الحلقة السابقة (١) ـ نجد أنّ الجعل باعتباره أمراً نفسانياً منوطٌ ومرتبطٌ بشروط

__________________

(١) في بحث الدليل العقلي ، تحت عنوان : قاعدة إمكان التكليف المشروط.

٢٤٣

الاتّصاف بوجودها التقديري اللحاظي ـ كالإرادة تماماً ـ لا بوجودها الخارجي ، ولهذا كثيراً ما يتحقّق الجعل قبل أن توجد شروط الاتّصاف خارجاً. وأمّا فعلية المجعول فهي منوطة بفعلية شروط الاتّصاف بوجودها الخارجي ، فما لم توجد خارجاً كلّ القيود المأخوذة في موضوع الحكم لا يكون المجعول فعلياً. وأمّا شروط الترتّب فتؤخذ قيوداً في الواجب تبعاً لأخذها قيوداً في المراد.

وبهذا نعرف أنّ الوجوب المجعول لا ثبوت له قبل وجود شروط الاتّصاف ؛ لأ نّه مشروط بها في عالم الجعل.

وأمّا ما يقال من أنّ الوجوب المشروط غير معقول ؛ لأنّ المولى يجعل الحكم قبل أن تتحقّق الشروط خارجاً ، فكيف يكون مشروطاً؟ فهو مندفع بالتمييز بين الجعل والمجعول ، والالتفات إلى ما ذكرناه من إناطة الجعل بالوجود التقديري للشرط ، وإناطة المجعول بالوجود الخارجي له.

وأمّا ثمرة البحث عن إمكان الوجوب المشروط وامتناعه فتظهر في بحثٍ مقبلٍ (١) إن شاء الله تعالى.

__________________

(١) تحت عنوان : المسؤوليّة عن المقدّمات قبل الوقت.

٢٤٤

المسؤولية تجاه القيود والمقدِّمات

تنقسم المقدمات الدخيلة في الواجب الشرعي إلى ثلاثة أقسام :

الأول : المقدمات التي تتوقّف عليها فعلية الوجوب ، وهي إنّما تكون كذلك بالتقييد الشرعي وأخذها مقدّرة الوجود في مقام جعل الحكم على نهج القضية الحقيقية ؛ لأنّ الوجوب حكم مجعول تابع لجعله ، فما لم يقيّد جعلاً بشيءٍ لا يكون ذلك الشيء دخيلاً في فعليّته. وتسمّى هذه المقدمات بالمقدمات الوجوبية ، كالاستطاعة بالنسبة إلى وجوب الحجّ.

الثاني : المقدمات التي يتوقّف عليها امتثال الأمر الشرعي بسبب أخذ الشارع لها قيداً في الواجب. وتسمّى بالمقدمات الشرعية الوجوديه ، كالوضوء بالنسبة إلى الصلاة.

الثالث : المقدمات التي يتوقّف عليها امتثال الأمر الشرعي بدون أخذها قيداً من قبل الشارع ، كقطع المسافة إلى الميقات بالنسبة إلى الحجّ الواجب على البعيد ، ونصب السُلَّم بالنسبة إلى من وجب عليه المكث في الطابق الأعلى. وتُسمّى بالمقدّمات العقليّة الوجوديّة.

وبالمقارنة بين هذين القسمين من المقدمات الوجودية نلاحظ : أنّه في مورد المقدّمة الشرعية الوجوديّة قد تعلّق الأمر بالمقيّد ، والمقيّد عبارة عن ذات المقيّد والتقيّد ، وأنّ المقدمة المذكورة مقدّمة عقلية للتقيّد ، بينما نجد أنّ المقدّمة العقليّة الوجوديّة هي مقدمة لذات الفعل.

والكلام تارةً يقع في تحديد مسؤولية المكلّف تجاه هذه الأقسام من المقدمات ، واخرى في تحديد الضابط الذي يسير عليه المولى في جعل المقدمة

٢٤٥

من هذا القسم أو ذاك.

أمّا تحديد مسؤولية المكلف تجاه المقدمات فحاصله : أنّ الوجوب وكذلك كلّ طلبٍ لا يكون محرّكاً نحو المقدّمات الوجوبيّة ، ولا مديناً للمكلف بها ؛ لأنّه لا يوجد إلاّبعد تحقّقها فكيف يكون باعثاً على إيجادها؟ وإنّما يكون محرِّكاً نحو المقدمات الوجودية بكلا قسميها ؛ لأنّه فعليّ قبل وجودها ، فيحرِّك لا محالة نحو إيجادها تبعاً لتحريكه نحو متعلقه ، بمعنى أنّ المكلف مسؤول عقلاً من قبل ذلك التكليف عن إيجاد تلك المقدمات. وهذا التحريك يبدأ من حين فعلية التكليف المجعول ، فقبل أن يصبح التكليف فعلياً لا محرّكية له نحو المقدمات تبعاً لعدم محرّكيّته نحو متعلقه ؛ لأنّ المحرّكية من شؤون الفعلية.

وإذا اتّفق أنّ قيداً مّا كان مقدّمةً وجوبيّةً ووجوديّةً معاً امتنع تحريك التكليف نحوه ؛ لتفرّعه على وجوده ، وإنّما يكون محرّكاً ـ بعد وجود ذلك القيد ـ نحو التقيّد وإيقاع الفعل مقيّداً به.

وأمّا تحديد الضابط الذي يسير عليه المولى فهو : أنّ كلّ ما كان من شروط الاتّصاف في مرحلة الملاك فيأخذه قيداً للوجوب ؛ لا للواجب ، فيصبح مقدمةً وجوبية. والوجه في ذلك واضح ؛ لأنّه لمّا كان شرطاً في الاتّصاف فلا يهتمّ المولى بتحصيله ، بينما لو جعله قيداً للواجب وكان الوجوب فعليّاً قبله لأصبح مقدمةً وجودية ، ولكان التكليف محرِّكاً نحو تحصيله ، فيتعيّن جعله مقدمةً وجوبية.

وأمّا ما كان من شروط الترتّب فهو على نحوين :

أحدهما : أن يكون اختيارياً للمكلّف ، وفي هذه الحالة يأخذه المولى قيداً للواجب ؛ لأنّه يهتمّ بتحصيله.

والآخر : أن يكون غير اختياري ، وفي هذه الحالة يتعيّن أخذه قيداً

٢٤٦

للوجوب إضافةً إلى أخذه قيداً للواجب. ولا يمكن الاقتصار على تقييد الواجب به ، إذ مع الاقتصار كذلك يكون التكليف محرِّكاً نحوه ، ومديناً للمكلف به ، وهو غير معقول ؛ لعدم كونه اختيارياً.

وبهذا يتّضح أنّ الضابط في جعل شيءٍ قيداً للوجوب أحد أمرين : إمّا كونه شرط الاتّصاف ، وإمّا كونه شرط الترتّب مع عدم كونه مقدوراً.

٢٤٧

القيود المتأخِّرة زماناً عن المقيّد

القيد ـ سواء كان قيداً للحكم المجعول ، أو للواجب الذي تعلّق به الحكم ـ قد يكون سابقاً زماناً على المقيَّد به ، وقد يكون مقارناً. فالقيد المتقدم للحكم من قبيل هلال شهر رمضان الذي هو قيد لوجوب الصيام ، مع أنّ هذا الوجوب يبدأ عند طلوع الفجر. والقيد المقارن للحكم من قبيل الزوال بالنسبة إلى الصلاة. والقيد المتقدم للواجب من قبيل الوضوء ، بناءً على كون الصلاة مقيّدةً بالوضوء لا بحالةٍ مسبّبةٍ عنه مستمرّة. والقيد المقارن له من قبيل الاستقبال بالنسبة إلى الصلاة.

وقد افترض في الفقه أحياناً كون القيد متأخّراً زماناً عن المقيّد ، ومثاله في قيود الحكم : قيديّة الإجازة لنفوذ عقد الفضولي ، بناءً على القول بالكشف. ومثاله في قيود الواجب : غسل المستحاضة في الليل الدخيل في صحة صيام النهار المتقدّم ، على قول بعض الفقهاء (١).

ومن هنا وقع البحث في إمكان الشرط المتأخِّر وعدمه. ومنشأ الاستشكال هو : أنّ الشرط والقيد بمثابة العلّة أو جزء العلّة للمشروط والمقيّد ، ولا يعقل أن تتأخّر العلّة أو شيء من أجزائها زماناً عن المعلول ، وإلاّ يلزم تأثير المعدوم في الموجود ؛ لأنّ المتأخِّر معدوم في الزمان السابق ، فكيف يوثِّر في وقتٍ سابقٍ على وجوده؟

وقد اجيب على هذا البرهان : أمّا فيما يتعلّق بالشرط المتأخّر للواجب فبأنّ كون شيءٍ قيداً للواجب مرجعه إلى تحصيص الفعل بحصّةٍ خاصّة ، وليس

__________________

(١) منهم الشيخ الطوسي وابن إدريس ، كما في الجواهر ١٦ : ٢٤٧.

٢٤٨

القيد علّةً أو جزءَ العلّة للفعل ، والتحصيص كما يمكن أن يكون بإضافته إلى أمرٍ مقارنٍ أو متقدمٍ ، كذلك يمكن أن يكون بأمرٍ متأخِّر.

وأمّا فيما يتعلّق بالشرط المتأخِّر للحكم فبأنّ الحكم : تارةً يراد به الجعل ، واخرى يراد به المجعول. أمّا الجعل فهو منوط بقيود الحكم بوجودها التقديري اللحاظي ، لا بوجودها الخارجي ـ كما تقدّم (١) ـ ووجودها اللحاظي مقارن للجعل. وأمّا المجعول فهو وإن كان منوطاً بالوجود الخارجي لقيود الحكم ولكنّه مجرّد افتراض ، وليس وجوداً حقيقياً خارجياً ، فلا محذور في إناطته بأمرٍ متأخِّر.

والتحقيق : أنّ هذا الجواب وحده ليس كافياً ؛ وذلك لأنّ كون شرطٍ قيداً للحكم والوجوب أو للواجب ليس جزافاً ، وإنّما هو تابع للضابط المتقدم ، وحاصله : أنّ ما كان دخيلاً وشرطاً في اتّصاف الفعل بكونه ذا مصلحةٍ يؤخذ قيداً للوجوب ، وما كان دخيلاً وشرطاً في ترتّب المصلحة على الفعل يؤخذ قيداً للواجب.

والجواب المذكور إنّما نظر إلى دخل الشرط بحسب عالم الجعل في تحصيص الواجب ، أو في الوجوب المجعول ، وأغفل ما يكشف عنه ذلك من دخل قيد الواجب في ترتّب المصلحة ووجودها ، ودخل قيد الوجوب في اتّصاف الفعل بكونه ذا مصلحة وترتّب المصلحة أمر تكويني ، واتّصاف الفعل بكونه ذا مصلحةٍ أمر تكويني أيضاً ، فكيف يعقل أن يكون الأمر المتأخّر ، كغسل المستحاضة في ليلة الأحد مؤثِّراً في ترتّب المصلحة على الصوم في نهار السبت السابق إذا اخذ قيداً للواجب؟ وكيف يعقل أن يكون الأمر المتأخّر ، كالغسل المذكور ، مؤثِّراً في اتّصاف الصوم في يوم السبت بكونه ذا مصلحةٍ إذا اخذ قيداً للوجوب؟

__________________

(١) تحت عنوان : قاعدة إمكان الوجوب المشروط.

٢٤٩

ومن هنا قد يقال باستحالة الشرط المتأخّر ، ويلتزم بتأويل الموارد التي تُوهِم ذلك بتحويل الشرطية من أمرٍ متأخّرٍ إلى أمرٍ مقارن ، فيقال مثلاً : إنّ الشرط في نفوذ عقد الفضولي على الكشف ليس هو الإجازة المتأخرة ، بل كون العقد ملحوقاً بالإجازة. والشرط في صوم المستحاضة يوم السبت كونه ملحوقاً بالغسل ، وهذه صفة فعلية قائمة بالأمر المتقدم.

وثمرة البحث في الشرط المتأخر ـ إمكاناً وامتناعاً ـ تظهر من ناحيةٍ في إمكان الواجب المعلّق وامتناعه ، فقد تقدم في الحلقة السابقة (١) أنّ إمكان الواجب المعلّق يرتبط بإمكان الشرط المتأخّر.

وتظهر من ناحيةٍ اخرى فيما إذا دلّ الدليل على شرطيّة شيء ، كرضا المالك الذي دلّ الدليل على شرطيّته في نفوذ البيع وتردّد الأمر بين كونه شرطاً متقدماً أو متأخّراً ، فإنّه على القول بامتناع الشرط المتأخّر يتعيّن الالتزام بكونه شرطاً مقارناً ، فيقال في المثال بصحة عقد الفضولي على نحو النقل ؛ لأنّ الحمل على الشرط المتأخّر إن كان بالمعنى الحقيقي للشرط المتأخّر فهو غير معقول ، وإن كان بالتأويل فهو خلاف ظاهر الدليل ؛ لأنّ ظاهره شرطية نفس الرضا ، لا كون العقد ملحوقاً به. وأمّا على الثاني فلابدّ من اتّباع ما يقتضيه ظاهر الأدلّة أيّ شيءٍ كان.

__________________

(١) في بحث الدليل العقلي ، تحت عنوان : زمان الوجوب والواجب.

٢٥٠

زمان الوجوب والواجب

لا شكّ في أنّ زمان الوجوب لا يمكن أن يتقدم بكامله على زمان الواجب ، ولكن وقع الكلام في أنّه هل يمكن أن يبدأ قبله ، أوْ لا؟ ومثاله : أن يفترض أنّ وجوب صيام شهر رمضان يبدأ من حين طلوع هلاله ، غير أنّ زمان الواجب يبدأ بعد ذلك عند طلوع الفجر.

وقد ذهب جملة من الاصوليّين كصاحب الفصول (١) إلى إمكان ذلك ، وسمِّي هذا النحو من الوجوب بالمعلق ؛ تمييزاً له عن الوجوب المشروط. فكلّ منهما ليس ناجزاً بتمام المعنى ، غير أنّ ذلك في المشروط ينشأ من إناطة الوجوب بشرط ، وفي المعلق من عدم مجيء زمان الواجب.

فإن قيل : إذا كان زمان الواجب متأخّراً ولا يبدأ إلاّعند طلوع الفجر ، فما الداعي للمولى إلى جعل الوجوب يبدأ من حين طلوع الهلال ما دام وجوباً معطّلاً عن الامتثال ، أو ليس ذلك لغواً؟!

كان الجواب : أنّ فعلية الوجوب تابعة لفعلية الملاك ، أي لاتّصاف الفعل بكونه ذا مصلحة ، فمتى اتّصف الفعل بذلك استحقّ الوجوب الفعلي. فإذا افترضنا أنّ طلوع الفجر ليس من شروط الاتّصاف بل من شروط الترتب ، وأنّ ما هو من شروط الاتّصاف طلوع هلال الشهر فقط ، فهذا يعني أنّه حين طلوع الهلال يتّصف صوم النهار بكونه ذا مصلحة ، فيكون الوجوب فعلياً وإن كان زمان الواجب مرهوناً بطلوع الفجر ؛ لأنّ طلوع الفجر دخيل في ترتّب المصلحة. ولفعلية

__________________

(١) الفصول : ٧٩.

٢٥١

الوجوب عند طلوع الهلال آثار عملية على الرغم من عدم إمكان امتثاله ؛ وذلك لأ نّه من حين يصبح فعلياً تبدأ محرّكيّته نحو المقدمات ، وتبدأ مسؤولية المكلّف عن تهيئة مقدمات الواجب.

وقد اعترض على امكان الواجب المعلّق باعتراضين :

الأول : أنّ الوجوب حقيقته البعث والتحريك نحو متعلّقه ، ولكن لا بمعنى البعث الفعلي ، وإلاّ لكان الانبعاث والامتثال ملازماً له ؛ لأنّ البعث ملازم للانبعاث ، بل بمعنى البعث الشأني ، أي أنّه حكم قابل للباعثية ، وقابلية البعث تلازم قابلية الانبعاث ، فحيث لا قابلية للانبعاث ، لا قابلية للبعث ، فلا وجوب.

ومن الواضح أنّه في الفترة السابقة على زمان الواجب لا قابلية للانبعاث ، فلا بعث شأني ، وبالتالي لا وجوب.

ويرد عليه : أنّ الوجوب حقيقته في عالم الحكم أمر اعتباري ، وليس متقوّماً بالبعث الفعلي أو الشأني ، وإنّما المستظهر من دليل جعل الوجوب أنّه قد جعل بداعي البعث والتحريك ، والمقدار المستظهر من الدليل ليس بأزيد من أنّ المقصود من جعل الحكم إعداده لكي يكون محرّكاً شأنيّاً خلال ثبوته ، ولا دليل على أنّ المقصود جعله كذلك من بداية ثبوته.

الثاني : أنّ طلوع الفجر إمّا أن يؤخذ قيداً في الواجب فقط ، أو يؤخذ قيداً في الوجوب أيضاً. فعلى الأول يلزم كون الوجوب محرِّكاً نحوه ؛ لِمَا تقدّم من أنّ كلّ قيدٍ يؤخذ في الواجب دون الوجوب يشمله التحريك المولوي الناشئ من ذلك الوجوب ، وهذا غير معقول ؛ لأنّ طلوع الفجر غير اختياري.

وعلى الثاني يصبح طلوع الفجر شرطاً للوجوب ، فإن كان شرطاً مقارناً فهذا معناه عدم تقدم الوجوب على زمان الواجب ، وإن كان شرطاً متأخّراً يلزم محذور الشرط المتأخّر. والشيء نفسه نقوله عن القدرة على الصيام عند طلوع

٢٥٢

الفجر ، فإنّها كطلوع الفجر في الشقوق المذكورة.

ومن هنا كنّا نقول في الحلقة السابقة (١) : إنّ إمكان الوجوب المعلّق يتوقّف على افتراض إمكان الشرط المتأخّر ، وذلك باختيار الشقّ الأخير.

وأمّا ثمرة البحث في إمكان الواجب المعلق فتأتي الإشارة اليها (٢) إن شاء الله تعالى.

__________________

(١) في بحث الدليل العقلي ، تحت عنوان : زمان الوجوب والواجب.

(٢) في البحث القادم ، تحت عنوان : المسؤولية عن المقدّمات قبل الوقت.

٢٥٣

المسؤولية عن المقدّمات قبل الوقت

اتّضح ممّا تقدم (١) أنّ المسؤولية تجاه مقدمات الواجب من قبل الوجوب إنّما تبدأ ببداية فعلية هذا الوجوب ، ويترتّب على ذلك أنّ الواجب إذا كان له زمن متأخّر ، وكان يتوقّف على مقدمة ، ولم يكن بالإمكان توفيرها في حينها ، ولكن كان بالإمكان إيجادها قبل الوقت فلا يجب على المكلف إيجادها قبل الوقت ، إذ لا مسؤولية تجاه مقدمات الواجب إلاّبعد فعلية الوجوب ، وفعلية الوجوب منوطة بالوقت. وتسمّى المقدمة في هذه الحالة بالمقدمة المفوِّتة.

ومثال ذلك : أن يعلم المكلّف قبل الزوال بأ نّه إذا لم يتوضّأ الآن فلن يُتاحَ له الوضوء بعد الزوال ، فيمكنه أن لا يتوضّأ ، ولا يكون بذلك مخالفاً للتكليف بالصلاة بوضوء ؛ لأنّ هذا التكليف ليس فعلياً الآن ، وإنّما يصبح فعلياً عند الزوال ، وفعليته وقتئذٍ منوطة بالقدرة على متعلقه في ذلك الظرف ؛ لاستحالة تكليف العاجز ، والقدرة في ذلك الظرف على الصلاة بوضوءٍ متوقّفة ـ بحسب الفرض ـ على أن يكون المكلف قد توضّأ قبل الزوال. فالوضوء قبل الزوال إذن يكون من مقدمات الوجوب ، وبترك المكلّف له يحول دون تحقّق الوجوب وفعليّته في حينه ، لا أنّه يتورّط في مخالفته.

ولكن يلاحظ أحياناً أنّ الواجب قد يتوقّف على مقدمةٍ تكون دائماً من هذا القبيل. ومثالها : وجوب الحجّ الموقوت بيوم عرفة ، ووجوب الصيام الموقوت بطلوع الفجر ، مع أنّ الحج يتوقّف على السفر إلى الميقات قبل ذلك ، والصيام من

__________________

(١) تحت عنوان : المسؤوليّة تجاه القيود والمقدّمات.

٢٥٤

الجنب يتوقّف على الاغتسال قبل طلوع الفجر. ولا شكّ في أنّ المكلّف مسؤول عن طَيِّ المسافة من قِبل وجوب الحجّ ، وعن الاغتسال قبل الطلوع من قِبل وجوب الصيام. ومن هنا وقع البحث في تفسير ذلك ، وفي تحديد الضوابط التي يلزم المكلّف فيها بإيجاد المقدمات المفوِّتة.

وقد ذُكرت في المقام عدّة تفسيرات :

التفسير الأول : إنكار الوجوب المشروط رأساً ، وافتراض أنّ كلَّ وجوبٍ فعليٌّ قبل تحقّق الشروط والقيود المحدِّدة له في لسان الدليل. وإِذا كان فعلياً كذلك فتبدأ محرّكيته نحو مقدمات الواجب قبل مجيء ظرف الواجب. ومن هنا كان امتناع الوجوب المشروط يعني من الناحية العملية إلزام المكلّف بالمقدمات المفوِّتة للواجب من قبل ذلك الوجوب.

وهذه هي ثمرة البحث في إمكان الوجوب المشروط وامتناعه. وقد تقدم (١) أنّ الصحيح : إمكان الوجوب المشروط ـ خلافاً لِمَا في تقريرات الشيخ الأنصاري (٢) الذي تقدّم ـ بالتفسير المذكور.

التفسير الثاني : وهو يعترف بإمكان الوجوب المشروط ، ولكن يقول بإمكان الوجوب المعلق أيضاً ، ويفترض أنّه في كلّ موردٍ يقوم فيه الدليل على لزوم المقدمة المفوِّتة من قبل وجوب ذيها نستكشف أنّ الوجوب معلَّق ؛ أي أنّه سابق على زمان الواجب. وفي كلّ موردٍ يقوم فيه الدليل على أنّ الوجوب معلَّق نحكم فيه بمسؤولية المكلّف تجاه المقدمات المفوِّتة ، وهذه هي ثمرة البحث عن إمكان الواجب المعلّق وامتناعه.

__________________

(١) تحت عنوان : قاعدة إمكان الوجوب المشروط.

(٢) مطارح الأنظار : ٤٩.

٢٥٥

التفسير الثالث : أنّ القدرة المأخوذة قيداً في الوجوب ، إن كانت عقليةً ، بمعنى أنّها غير دخيلةٍ في ملاكه ، فهذا يعني أنّ المكلّف بتركه للمقدمة المفوِّتة يعجِّز نفسه عن تحصيل الملاك مع فعليته في ظرفه ، وهذا لا يجوز عقلاً ؛ لأنّ تفويت الملاك بالتعجيز كتفويت التكليف بالتعجيز.

وإن كانت القدرة شرعيّةً ، بمعنى أنّها دخيلة في الملاك أيضاً ، فلا ملاك في فرض ترك المكلف للمقدمة المفوِّتة المؤدِّي إلى عجزه في ظرف الواجب ، وفي هذه الحالة لا مانع من ترك المقدمة المفوِّتة.

وعلى هذا ففي كلّ حالةٍ يثبت فيها كون المكلّف مسؤولاً عن المقدمات المفوِّتة نستكشف من ذلك أنّ القدرة في زمان الواجب غير دخيلةٍ في الملاك. كما أنّه في كلّ حالةٍ يدلّ فيها الدليل على أنّ القدرة كذلك يثبت لزوم المقدمات المفوِّتة ، غير أنّ هذا المعنى يحتاج إلى دليلٍ خاصّ ، ولا يكفيه دليل الواجب العام ؛ لأنّ دليل الواجب له مدلول مطابقي وهو الوجوب ، ومدلول التزامي وهو الملاك. ولا شكّ في أنّ المدلول المطابقي مقيّد بالقدرة ، ومع سقوط الإطلاق في الدلالة المطابقية يسقط في الدلالة الالتزامية أيضاً ؛ للتبعيّة ، فلا يمكن أن نثبت به كون الملاك ثابتاً في حالتي القدرة والعجز معاً.

٢٥٦

أخذ القطع بالحكم في موضوعِ الحكم

قد يفترض تارةً أخذ القطع بالحكم في موضوع نفس ذلك الحكم.

واخرى أخذه في موضوع حكمٍ مضادٍّ له.

وثالثةً أخذه في موضوع مثله.

ورابعةً أخذه في موضوع حكم مخالف.

ولا شكّ في إمكان الأخير. وإنمّا وقع الكلام في الافتراضات الثلاثة الاولى :

أخذ العلم بالحكم في موضوع نفسه :

أمّا الافتراض الأول ، فقد يبرهَن على استحالته بأدائه للدور ، إذ يتوقف كلّ من الحكم والعلم به على الآخر.

وقد يجاب : بأ نّه لا دور ؛ لأنّ الحكم وإن كان متوقّفاً على القطع ؛ لأنّه مأخوذ في موضوعه إلاّأنّ القطع بالحكم لا يتوقّف على ثبوت الحكم.

وتحقيق الحال في ذلك : أنّ القطع بالحكم إذا اخذ في موضوع شخص ذلك الحكم : فإمّا أن يكون الحكم المقطوع دخيلاً في الموضوع أيضاً ، وذلك بأن يؤخذ القطع بالحكم بما هو مصيب في الموضوع ، وإمّا أن لا يكون لثبوت ذات المقطوع دخل في الموضوع.

ففي الحالة الاولى تعتبر الاستحالة واضحة ؛ لوضوح الدور وتوقّف الحكم على نفسه عندئذٍ.

وأمّا في الحالة الثانية فلا يجري الدور بالتقريب المذكور ، ولكنّ الافتراض

٢٥٧

مع هذا مستحيل. وقد بُرهِن على استحالته بوجوه :

منها : أنّ الافتراض المذكور يجعل الحكم المقطوع منوطاً بنفس القطع ، وهذا أمر يستحيل أن يسلِّم به القاطع ؛ لأنّه يخالف طبيعة الكاشفية في القطع التي تجعل القاطع دائماً يرى أنّ مقطوعه ثابت بقطع النظر عن قطعه.

ومنها : أنّه يلزم الدور في مرحلة وصول التكليف ؛ لأنّ العلم بكلِّ تكليفٍ يتوقّف على العلم بتحقّق موضوعه ، وموضوعه ـ بحسب الفرض ـ هو العلم به ، فيكون العلم بالتكليف متوقّفاً على العلم بالعلم بالتكليف. والعلم بالعلم نفس العلم ؛ لأنّ العلم لا يعلم بعلمٍ زائد ، بل هو معلوم بالعلم الحضوري ؛ لحضوره لدى النفس مباشرة ، وهذا ينتج توقّف العلم على نفسه.

إلاّ أنّ كلّ هذا إنّما يَرد إذا اخذ العلم بالمجعول في موضوعه ، ولا يتّجه إذا اخذ العلم بالجعل في موضوع المجعول. فبإمكان المولى أن يتوصّل إلى المقصود بتقييد المجعول بالعلم بالجعل ، وأمّا مَن لم يأخذ هذا المخلص بعين الاعتبار كالمحقّق النائيني رحمه‌الله فقد وقع في حيرةٍ من ناحيتين :

الاولى : أنّه كيف يتوصّل الشارع إلى تخصيص الحكم بالعالم به إذا كان التقييد المذكور مستحيلاً؟

الثانية : أنّه إذا استحال التقييد استحال الإطلاق ، بناءً على مختاره من أنّ التقابل بين الإطلاق والتقييد الثبوتيّين تقابل العدم والملكة. وهذا يعني أنّ الجعل الشرعيّ يبقى مهملاً بلا تقييدٍ ولا إطلاق ، فكيف يرفع هذا الإهمال ويتعيّن في المطلق تارةً وفي المقيد اخرى؟

وقد حَلّ رحمه‌الله ذلك بافتراض جعلٍ ثانٍ يتكفّل إثبات نفس الحكم للعالم بالجعل الأول خاصّةً إذا اريد التقييد ، وللمكلف مطلقاً من حيث علمه بالجعل الأول وجهله به إن اريد الإطلاق ، وبذلك تتحقق نتيجة التقييد والإطلاق. وإنّما

٢٥٨

نُعبِّر بالنتيجة ، لابهما ؛ لأنّ ذلك لم يحصل بالجعل الأول المهمل ، وإنمّا عوِّض عن إطلاقه وتقييده بجعلٍ ثانٍ على الوجه المذكور. ولا يلزم من التعويض المذكور محذور التقييد والإطلاق في نفس الجعل الأول ؛ لأنّ العلم بالحكم الأول اخذ قيداً في الحكم الثاني ، لا في نفسه ، فلا دور. ونظراً إلى أنّ الجعلين قد نَشَآ من غرضٍ واحدٍ ولأجل ملاكٍ فاردٍ كان التقييد في الثاني منهما في قوة التقييد في الأول ، ولهذا عبَّر عن الثاني بمتمِّم الجعل الأول (١).

ويرد عليه : أنّه إن أراد تقييد الحكم في الجعل الثاني بالعلم بالجعل الأول فهذا التقييد ممكن في الجعل الأول مباشرة ، كما عرفت.

وإن أراد تقييد الحكم في الجعل الثاني بالعلم بفعلية المجعول في الجعل الأول المهمل ، فهذا غير معقول ؛ لأنّه يفترض أنّ فعلية المجعول بالجعل الثاني فرع العلم بفعلية المجعول بالجعل الأول المهمل. وحينئذٍ نتساءل : أنّ المجعول بالجعل المهمل هل ترتبط فعليته بالعلم به ، أوْ لا؟

فعلى الأول يعود المحذور ، وهو توقّف الشيء على العلم به. وعلى الثاني يلزم الخلف ، وأن يكون الجعل المهمل الذي لا إطلاق فيه مطلقاً ؛ لأنّ ثبوت مجعوله بدون توقّفٍ على القيد هو معنى الإطلاق.

وثمرة هذا البحث تظهر في إمكان التمسّك بإطلاق دليل الحكم لنفي دخل قيد العلم في موضوعه ، فإنّه إن بُني على إمكان التقييد والإطلاق معاً أمكن ذلك ، كما هو الحال في نفي سائر القيود المحتملة بالإطلاق.

وإن بُني على مسلك المحقّق النائينيّ القائل باستحالة التقييد والإطلاق معاً ، فلا يمكن ذلك ؛ لأنّ الاطلاق في الحكم مستحيل ، فكيف يتمسّك باطلاق الدليل

__________________

(١) فوائد الاصول ٣ : ١١ ـ ١٢.

٢٥٩

إثباتاً لا كتشاف أمر مستحيل.

وإن بُني على أنّ التقييد مستحيل والإطلاق ضروري ، كما يرى ذلك مَن يقول بأنّ التقابل بين التقييد والإطلاق ، تقابل التناقض أو تقابل الضدّين اللذَين لا ثالث لهما ، فلا يمكن التمسّك بإطلاق الدليل ؛ لأنّ إطلاق الدليل إنّما يكشف عن إطلاق مدلوله ، وهو الحكم ، وهذا معلوم بالضرورة على هذا المبنى. وإنمّا الشكّ في إطلاق الملاك وضيقه ، ولا يمكن استكشاف إطلاق الملاك ، لا بإطلاق الحكم المدلول للدليل ، ولا بإطلاق نفس الدليل.

أمّا الأول فلأنّ إطلاق الحكم إنّما يكشف عن إطلاق الملاك إذا كان بإمكان المولى أن يجعله مقيّداً ، فلم يفعل ، والمفروض في المقام استحالة التقييد.

وأمّا الثاني فلأنّ الدليل مفاده مباشرةً هو الحكم لا الملاك.

أخذ العلم بالحكم في موضوع ضدِّه أو مثله :

وأمّا الافتراض الثاني فهو مستحيل ؛ لأنّ القاطع سواء كان مصيباً في قطعه أو مخطئاً ، يرى في ذلك اجتماع الحكمين المتضادَّين ، فيمتنع عليه أن يصدِّق بالحكم الثاني ، وما يمتنع تصديق المكلّف به لا يمكن جعله. وفي حالات إصابة القطع للواقع يستبطن الافتراض المذكور اجتماع الضدّين حقيقة.

وهذا الافتراض في حقيقته نحو من الردع عن العمل بالقطع ، بجعل حكمٍ على القاطع مضادٍّ لمقطوعه ، واستحالته بتعبيرٍ آخر هي استحالة الردع عن العمل بالقطع.

وأمّا الافتراض الثالث فقد يطبَّق عليه نفس المحذور المتقدم ، ولكن باستبدال محذور اجتماع الضدّين بمحذور اجتماع المثلين.

وقد يجاب على ذلك : بأنّ محذور اجتماع المثلين يرتفع بالتأكّد والتوحّد ،

٢٦٠