دروس في علم الأصول - ج ٢

آية الله السيّد محمّد باقر الصدر

دروس في علم الأصول - ج ٢

المؤلف:

آية الله السيّد محمّد باقر الصدر


المحقق: لجنة التحقيق التابعة للمؤتمر العالمي للإمام الشهيد الصدر
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مركز الأبحاث والدراسات التخصصية للشهيد الصدر
الطبعة: ١
الصفحات: ٦٠٨
الجزء ١ الجزء ٢

حالٍ ـ بلا حاجةٍ إلى افتراضٍ من الخارج ، بخلاف القسم السابق فإنّه يحتاج إلى افتراض العلم من الخارج بوحدة الحكم. ويتّفق القسمان في حكم التعارض بعد حصوله ، إذ يقدَّم المقيّد على المطلق في كلا القسمين بنفس الملاك السابق.

التخصيص :

إذا ورد عامّ ـ يدلّ على العموم بالأداة ـ وخاصّ جرت نفس الأقسام السابقة للمقيّد هنا أيضاً ؛ لأنّ هذا الخاصّ : تارةً يكون ناظراً إلى العامّ.

واخرى يكون متكفِّلاً لإثبات سنخ حكم العامّ ولكن في دائرةٍ أخص ، كما اذا قيل : «أكرم كلّ فقير» ، وقيل : «أكرم الفقير العادل».

وثالثةً يكون الخاصّ متكفِّلاً لإثبات نقيض حكم العامّ أو ضدّه لبعض حصص العام ، كما إذا قيل : «أكرم كلّ عالم» ، وقيل : «لا يجب إكرام النحوي» ، أو «لا تكرم النحوي».

ولا شكّ في أنّ الخاصَّ من القسم الأول يعتبر حاكماً ويقدّم بالحكومة على عموم العام.

وأمّا الخاصّ من القسم الثاني فمع عدم إحراز وحدة الحكم لا تعارض ، ومع إحرازها يكون الخاصّ معارضاً للعموم هنا ، كما كان المقيّد في نظير ذلك معارضاً للإطلاق في ما تقدم.

وأمّا الخاصّ من القسم الثالث فلا شكّ في أنّه معارض للعموم.

وعلى أيِّ حالٍ فلا خلاف في تقدّم الخاصِّ على العامِّ عند وقوع المعارضة بينهما ، فإن كان الخاصّ متّصلاً لم يسمح بانعقاد ظهورٍ تصديقيٍّ للعامّ في العموم.

وإن كان منفصلاً اعتبر قرينةً على تخصيصه ، فيخرج ظهور العامّ عن موضوع دليل الحجّية ؛ لوجود قرينةٍ على خلافه ، وهذا على العموم ممّا لا خلاف فيه.

٥٤١

وإنمّا الخلاف في نقطة ، وهي : أنّ قرينية الخاصّ على التخصيص هل هي بملاك الأخصّية مباشرةً ، أو بملاك أنّه أقوى الدليلين ظهوراً ، فانّ ظهور الخاصّ في الشمول لمورده أقوى دائماً من ظهور العامّ في الشمول له؟

وتظهر الثمرة فيما إذا كان استخراج الحكم من الدليل الخاصّ موقوفاً على ملاحظة ظهورٍ آخر غير ظهوره في الشمول المذكور ، إذ قد لا يكون ذلك الظهور الآخر أقوى.

ومثاله : أن يرد «لا يجب إكرام الفقراء» ، ويرد «أكرم الفقير القانع» فإنّ تخصيص العامّ يتوقّف على مجموع ظهورين في الخاص : أحدهما الشمول لمورده ، والآخر كون صيغة الأمر فيه بمعنى الوجوب ، والأول وإن كان أقوى من ظهور العامّ في العموم ولكن قد لا يكون الثاني كذلك.

والصحيح : أنّ الأخّصية بنفسها ملاك للقرينية عرفاً ، بدليل أنّ أيَّ خاصٍّ نفترضه لو تصوّرناه متّصلاً بالعامّ لهدم ظهوره التصديقي من الأساس ، وهذا كاشف عن القرينية ، كما تقدم (١).

وهذا لا ينافي التسليم أيضاً بأنّ الأظهر إذا كانت أظهريّته واضحةً عرفاً يعتبر قرينةً أيضاً ، وفي حالة تعارضه مع الظاهر يجمع بينهما عرفاً بتحكيم الأظهر على الظاهر وفقاً لنظرية الجمع العرفي العامّة.

[نظريّة انقلاب النسبة :]

ثمّ إنّ المراد بالأخصّية التي هي ملاك القرينية : الأخصّية عند المقارنة بين مفادي الدليلين في مرحلة الدلالة والإفادة ، لا الأخصّية عند المقارنة بين

__________________

(١) في النظرية العامّة للجمع العرفي.

٥٤٢

مفاديهما في مرحلة الحجّية.

وتوضيح ذلك : أنّه اذا ورد عامّان متعارضان من قبيل : «يجب إكرام الفقراء» ، و «لا يجب إكرام الفقراء» ، وورد مخصِّص على العامّ الأول يقول : «لا يجب إكرام الفقير الفاسق» فهذا المخصِّص تارةً نفرضه متّصلاً بالعام ، واخرى نفرض انفصاله.

ففي الحالة الاولى يصبح سبباً في هدم ظهور العامّ في العموم وحصر ظهوره التصديقي في غير الفسّاق ، وبهذا يصبح أخصّ مطلقاً من العامِّ الثاني ، وفي مثل ذلك لا شكّ في التخصيص به.

وأمّا في الحالة الثانية فظهور العامّ الأول في العموم منعقد ، ولكنّ الخاصّ قرينة موجبة لسقوطه من الحجّية بقدر ما يقتضيه ، وحينئذٍ : فإن نظرنا إلى هذا العامّ والعامّ الآخر المعارض له من زاوية المدلولين اللفظيّين لهما في مرحلة الدلالة فهما متساويان ليس أحدهما أخصَّ من الآخر.

وإن نظرنا إلى العامّين من زاوية مدلوليهما في مرحلة الحجّية وجدنا أنّ العامَّ الأول أخصّ من العامِّ الثاني ؛ لأنّه بما هو حجّة لم يعد يشمل كلّ أقسام الفقراء ، فبينما كان مساوياً للعامِّ الآخر انقلب إلى الأخصّية.

وقد ذهب المحقّق النائيني (١) إلى الأخذ بالنظرة الثانية ، وسمّى ذلك بانقلاب النسبة ، بينما أخذ صاحب الكفاية (٢) بالنظرة الاولى.

واستدلّ الأول على انقلاب النسبة : بأنَّا حينما نعارض العامَّ الثاني بالعامِّ الأول يجب أن ندخل في المعارضة غير ما فرغنا عن سقوط حجّيته من دلالة ذلك

__________________

(١) فوائد الاصول ٤ : ٧٤٧.

(٢) كفاية الاصول : ٥١٥.

٥٤٣

العامّ ؛ لأنّ ما سقطت حجّيته لا معنى لِأنْ يكون معارضاً.

ونلاحظ على هذا الاستدلال : أنّ المعارضة وإن كانت من شأن الدلالة التي لم تسقط بعدُ عن الحجّية ولكنّ هذا أمرٌ وتحديد ملاك القرينية أمرٌ آخر ؛ لأنّ القرينية تمثّل بناءً عرفياً على تقديم الأخصّ ، وليس من الضروري أن يراد بالأخصّ هنا الأخصّ من الدائرتين الداخلتين في مجال المعارضة ، بل بالإمكان أن يراد الأخصّ مدلولاً في نفسه منهما ، فالدليل الأخصّ مدلولاً في نفسه تكون أخصّيته سبباً في تقديم المقدار الداخل منه في المعارضة على معارضه ، بل هذا هو المطابق للمرتكزات العرفية ؛ لأنّ النكتة في جعل الأخصّية قرينةً هي ما تسبِّبه الأخصّية عادةً من قوة الدلالة. ومن الواضح أنّ قوة الدلالة إنّما تحصل من الأخصّية مدلولاً ، وأمّا مجرّد سقوط حجّية العامّ الأول في بعض مدلوله فلا يجعل دلالته في وضوح شمولها للبعض الآخر على حدِّ خاصٍّ يرد فيه مباشرة.

فالصحيح : ما ذهب اليه صاحب الكفاية.

٣ ـ أحكام عامّة للجَمع العرفي

للجمع العرفي بأقسامه أحكام عامّة نذكر في مايلي جملةً منها :

١ ـ لابدّ لكي يعقل الجمع العرفي أن يكون الدليلان المتعارضان لفظيّين أو ما بحكمهما ، وصادرين من متكلّمٍ واحدٍ أو جهةٍ واحدة ؛ وذلك لأنّ ملاك الجمع العرفي ـ كما تقدم (١) ـ هو إعداد أحد الدليلين لتفسير الآخر إعداداً شخصياً أو

__________________

(١) في النظرية العامّة للجمع العرفي.

٥٤٤

نوعيّاً ، وهذا إنمّا يصحّ في الكلام وعلى أن يكون المصدر واحداً ليفسّر بعض كلامه بالبعض الآخر.

٢ ـ وأيضاً إنمّا يصحّ الجمع العرفي إذا لم يوجد علم إجمالي بعدم صدور أحد الكلامين من الشارع ، إذ في هذه الحالة يكون التعارض في الحقيقة بين السندين ، لابين الدلالتين ، والجمع العرفي علاج للتعارض بين الدلالتين ، لابين السندين.

٣ ـ ولا يخلو الكلامان اللذَان يراد تطبيق الجمع العرفي عليهما من إحدى أربع حالات :

الاولى : أن يكون صدور كلٍّ منهما قطعياً ، وفي مثل ذلك لا يترقّب سريان التعارض إلاّإلى دليل حجّية الظهور ، والمفروض أنّه لا يشمل ذا القرينة مع وجود القرينة ، وبذلك يتمّ الجمع العرفي.

الثانية : أن يكون صدور كلٍّ منهما غير قطعي ، وإنمّا يثبت بالتعبّد وبدليل حجّية السند مثلاً ، كما في أخبار الآحاد ، وفي مثل ذلك لا يسري التعارض أيضاً ، لا إلى دليل حجّية الظهور ، ولا إلى دليل حجّية السند.

أمّا الأول فلِمَا تقدّم ، وأمّا الثاني فلأنّ مفاد دليل التعبّد بالسند الأخذ بالمفاد العرفي الذي تعيّنه قواعد المحاورة العرفية لكلٍّ من المنقولين ، فاذا انحلّ الموقف على مستوى دليل حجّية الظهور وعدِّل مفاد ذي القرينة على نحوٍ أصبح المفاد العرفي النهائي للدليلين منسجماً لم يعدْ مانع من شمول دليل التعبّد بالسند لكلٍّ منهما استطراقاً إلى ثبوت المدلول النهائي لهما.

الثالثة : أن يكون صدور القرينة قطعياً ، وصدور ذي القرينة مرهوناً بدليل التعبّد بالسند ، والأمر فيه يتّضح ممّا تقدم في الحالة السابقة ، فإنّه لا مانع من شمول دليل التعبّد بالسند لذي القرينة استطراقاً إلى إثبات مدلوله المعدّل حسب قواعد

٥٤٥

المحاورة العرفية والجمع العرفي.

الرابعة : أن يكون صدور القرينة مرهوناً بدليل التعبّد بالسند ، وصدور ذي القرينة قطعياً ، وفي هذه الحالة قد يقال : بأنّ ظهور ذي القرينة باعتباره أمارةً لا يعارض ظهور القرينة بالذات ليقال بتقدّم ظهور القرينة عليه بالجمع العرفي ، بل هو يعارض المجموع المركّب من أمرين ، هما : ظهور القرينة ، وسندها ، إذ يكفي في بقاء ظهور ذي القرينة أن يكون أحد هذين الأمرين خاطئاً ، وعليه فما هو المبرِّر لتقديم القرينة الظنية السند في هذه الحالة؟

ومجرَّد أنّ أحد الأمرين المذكورين له حقّ التقديم ـ وهو ظهور القرينة ـ لا يستوجب حقّ التقديم لمجموع الأمرين.

وإن شئت قلت : إنّ شمول دليل حجّية الظهور لذي القرينة وإن كان لا يعارض شموله لظهور القرينة ولكنّه يعارض شمول دليل التعبّد بالسند لسند القرينة ، ومن هنا استشكل في تخصيص العامّ الكتابي بخبر الواحد.

ويقال في الجواب على ذلك : إنّ دليل حجّية الظهور قد اخذ في موضوعه عدم صدور القرينة على الخلاف ، ودليل التعبّد بسند القرينة يثبت صدور القرينة على الخلاف ، فهو حاكم على دليل حجّية الظهور ؛ لأنّه يثبت تعبّداً انتفاء موضوعه فيقدّم عليه بالحكومة.

نعم ، هناك ملاك آخر للاستشكال في تخصيص العامّ الكتابي بخبر الواحد ، وهو : إمكان دعوى القصور في دليل التعبّد بالسند للشمول لخبرٍ مخالفٍ للعامِّ القطعي الكتابي ؛ لأنّ أدلّة حجّية خبر الواحد مقيّدة بأن لا يكون الخبر مخالفاً للكتاب ، وسيأتي (١) الكلام عن ذلك إن شاء الله تعالى.

__________________

(١) تحت عنوان : روايات العرض على الكتاب.

٥٤٦

٤ ـ نتائج الجمع العرفي بالنسبة الى الدليلِ المغلوب

لا شكّ في أنّ كلّ ما يحرز شمول القرينة له من الأفراد التي كانت داخلةً في نطاق ذي القرينة لابدّ من تحكيم ظهور القرينة فيها وطرح الدلالة الأوّلية لذي القرينة بشأنها ؛ تطبيقاً لنظرية الجمع العرفي. كما أنّ ما يحرز عدم شمول القرينة له من تلك الأفراد يبقى في نطاق ذي القرينة ويطبَّق عليه مفاده. وأمّا ما يشكّ في شمول القرينة له من الأفراد فهو على أقسام :

القسم الأول : أن يكون الشكّ في الشمول ناشئاً من شبهةٍ مصداقيةٍ للعنوان المأخوذ في دليل القرينة يشكّ بموجبها في أنّ هذا الفرد هل هو مصداق لذلك العنوان ، أوْ لا ، كما إذا ورد «أكرم كلّ فقيرٍ» وورد «لا تكرم فسّاق الفقراء» ، وشُكَّ في فسق زيدٍ للجهل بحاله ، فيشكّ حينئذٍ في شمول المخصِّص له ، فما هو الموقف تجاه ذلك؟

وتوجد إجابتان على هذا السؤال :

الاولى : أن هذا الفرد يعلم بأنّه مصداق للعام للقطع بفقره ، فدلالة العام على وجوب إكرامه محرزة ، ودلالة المخصّص على خلاف ذلك غير محرزة ؛ لعدم العلم بانطباق عنوان المخصّص عليه ، وكلّما أحرزنا دلالةً معتبرةً في نفسها ولم نحرز دلالةً على خلافها وجب الأخذ بها ، وهذا هو معنى التمسّك بالعامِّ في الشبهة المصداقيّة.

والإجابة الثانية ترفض التمسّك بالعام ؛ لأنّنا بالعام إن أردنا أن نثبت وجوب إكرام زيدٍ على تقدير عدم فسقه فهذا واضح وصحيح ، ولكن لا يثبت الوجوب فعلاً ؛ للشكِّ في التقدير المذكور. وإن أردنا أن نثبت وجوب إكرامه حتّى

٥٤٧

لو كان فاسقاً فهذا ما نحرز وجود دلالةٍ أقوى على خلافه ، وهي دلالة القرينة. وإن أردنا أن نثبت الوجوب الفعلي للإكرام لأجل تحقّق كلّ ما له دخل في الوجوب بما في ذلك عدم الفسق فهذا متعذّر ؛ لأنّ الدليل مفاده الجعل ، لا فعلية المجعول.

وهذا هو الصحيح.

القسم الثاني : أن يكون الشكّ في الشمول ناشئاً من شبهةٍ مفهوميةٍ في العنوان المأخوذ في دليل القرينة ، كما إذا تردّد عنوان الفاسق مفهوماً في المثال السابق بين مطلق المذنب ومرتكب الكبيرة خاصّةً ، فيشكّ حينئذٍ في شمول دليل القرينة لمرتكب الصغيرة ، وفي مثل ذلك يصحّ التمسّك بالعام لإثبات وجوب إكرام مرتكب الصغيرة ؛ لأنّ دلالة العام على حكمه معلومة ، ووجود دلالةٍ في المخصّص على خلاف ذلك غير محرز.

فإن قيل : ألا يأتي هنا نفس ما ذكر في الإجابة الثانية في القسم الأول لإبطال التمسّك بالعام؟!

كان الجواب : أنّ ذلك لا يأتي ، ويتّضح ذلك بعد بيان مقدمة ، وهي : أنّ المخصِّص القائل : «لا تكرم فسّاق الفقراء» يكشف عن دخالة قيدٍ في موضوع وجوب الإكرام زائدٍ على الفقر ، غير أنّ هذا القيد ليس هو أن لا يسمّى الفقير فاسقاً ، فإنّ التسمية بما هي ليس لها أثر إثباتاً ونفياً ، ولهذا لو تغيّرت اللغة ودلالاتها لمَا تغيّرت الأحكام ، بل القيد هو : أن لا تتواجد فيه الصفة الواقعية للفاسق ، سواء سمّيناه فاسقاً ، أوْ لا ، وتلك الصفة الواقعيّة مردّدة ـ بحسب الفرض ـ بين ارتكاب الذنب أو ارتكاب الكبائر خاصّة ، وحيث إنّ ارتكاب الكبائر هو المتيقّن فنحن نقطع بأنّ عدم ارتكابها قيد دخيل في موضوع الحكم بالوجوب.

وأمّا عدم ارتكاب الصغيرة فنشكّ في كونه قيداً فيه.

وهكذا نعرف أنّ هناك ثلاثة عناوين : أحدها نقطع بعدم كونه قيداً في

٥٤٨

الوجوب ، وهو عدم التسمية باسم الفاسق. والآخر نقطع بكونه قيداً فيه ، وهو عدم ارتكاب الكبيرة. والثالث نشكّ في قيديّته ، وهو عدم ارتكاب الصغيرة.

إذا اتّضحت هذه المقدمة فنقول : إنّ العامّ في نفسه يثبت وجوب إكرام الفقير بدون دخالة أيِّ قيد ، غير أنّ المخصِّص حجّة لإثبات القيدية لعدم ارتكاب الكبيرة ، فيعود حكم العام بعد تحكيم القرينة وجوباً مقيّداً بعدم ارتكاب الكبيرة ، ولا موجب لتقيّده بعدم التسمية باسم الفاسق أو بعدم ارتكاب الصغيرة.

أمّا الأول فللقطع بعدم قيديته ، وأمّا الثاني فلعدم إحراز دلالة المخصّص على ذلك. وعليه فيثبت بالعام بعد التخصيص وجوب الإكرام لكلّ فقيرٍ منوطاً بعدم ارتكاب الكبيرة ، وهذا الوجوب المنوط نثبته في مرتكب الصغيرة بلا محذورٍ أصلاً ، ويسمّى ذلك بالتمسّك بالعامِّ في الشبهة المفهومية للمخصّص.

٥ ـ تطبيقات للجمع العرفي

هناك حالات ادُّعي فيها تطبيق نظرية الجمع العرفي ، ووقع البحث في صحة ذلك وعدمه ، نذكر في مايلي جملةً منها :

١ ـ إذا وردت جملتان شرطيتان لكلٍّ منهما شرط خاصّ ولهما جزاء واحد ، من قبيل : «إذا خفي الأذان فقصِّر» ، و «إذا خفيت الجدران فقصِّر» وقع التعارض بين منطوق كلٍّ منهما ومفهوم الاخرى. وهنا قد يقال : بأنّ منطوق كلٍّ منهما يقدّم على مفهوم الاخرى ، وينتج أنّ للتقصير علّتين مستقلّتين : إمّا لأنّ دلالة المنطوق دائماً أظهر من دلالة المفهوم ، وإمّا بدعوى أنّ المنطوق في المقام أخصّ فيقدَّم تخصيصاً ؛ لأنّ المفهوم في كلّ جملةٍ يدلّ على انتفاء الجزاء بانتفاء شرطها ، وهذا مطلق لحالتَي وجود شرط الجملة الاخرى وعدم وجوده ،

٥٤٩

والمنطوق في الجملة الاخرى يدلّ على ثبوت الجزاء في حالة وجود شرطها فيكون مخصّصاً.

ونلاحظ على ذلك : منع الأظهرية ، ومنع الأخصّية.

أمّا الأول فلأنّ الدلالة على المفهوم مردّها إلى دلالة المنطوق على الخصوصية التي تستتبع الانتفاء عند الانتفاء ، فالتعارض دائماً بين منطوقين.

وأمّا الثاني فلأنّنا لابدّ أن نلتزم : إمّا بافتراض الشرطين علّتين مستقلّتين للجزاء ، وهذا يعني تقييد المفهوم. وإمّا بافتراض أنّ مجموع الشرطين علّة واحدة مستقلّة ، وهذا يعني الحفاظ على إطلاق المفهوم وتقييد المنطوق في كلٍّ من الشرطيّتين بانضمام شرط الاخرى إلى شرطها ، فالتعارض إذن بين إطلاق المنطوق وإطلاق المفهوم ، والنسبة بينهما العموم من وجه ، فالصحيح أنّهما يتعارضان ويتساقطان ، ولا جمع عرفي.

٢ ـ إذا وردت جملتان شرطيتان متّحدتان جزاءً ومختلفتان شرطاً ، وثبت بالدليل أنّ كلاًّ من الشرطين علّة تامة ووجد الشرطان معاً فهل يتعدّد الحكم ، أوْ لا؟

وعلى تقدير التعدّد فهل يتطلّب كلّ منهما امتثالاً خاصّاً به ، أوْ لا؟

ومثاله : إذا أفطرت فأعتق ، وإذا ظاهرت فأعتق. والمشهور : أنّ مقتضى ظهور الشرطية في علّية الشرط للجزاء أن يكون لكلّ شرطٍ حكم مسبَّب عنه ، فهناك إذن وجوبان للعتق ، وهذا ما يسمّى ب «أصالة عدم التداخل في الأسباب» ، بمعنى أنّ كلّ سببٍ يبقى سبباً تامّاً ، ولا يندمج السببان ويصيران سبباً واحداً.

وحيث إنّ كلّ واحدٍ من هذين الوجوبين يمثّل بعثاً وتحريكاً مغايراً للآخر فلابدّ من انبعاثين وتحرّكين ، وهذا ما يسمّى ب «أصالة عدم التداخل في المسبّبات» ، بمعنى أنّ الوجوبين المسبَّبين لا يكتفى بامتثالٍ واحدٍ لهما.

فإن قيل : إنّ هذين الوجوبين إن كان متعلّقهما واحداً ـ وهو طبيعي العتق

٥٥٠

في المثال ـ لزم إمكان الاكتفاء بعتقٍ واحد. وإن كان متعلّق كلٍّ منهما حصةً من العتق غير الحصّة الاخرى لزم تقييد إطلاق مادة الأمر في «أعتق» ، وهو خلاف الظاهر.

كان الجواب أحد وجهين :

الأول : أن يؤخذ بالتقدير الأول ـ بناءً على إمكان اجتماع بعثين على عنوانٍ كلّيٍّ واحدٍ ـ ويقال : إنّ تعدّد البعث والتحريك بنفسه يقتضي تعدّد الانبعاث والحركة ؛ وإن كان العنوان الذي انصبّ عليه البعثان واحداً.

الثاني : أن يؤخذ بالتقدير الثاني ـ بناءً على عدم إمكان اجتماع بعثين على عنوانٍ واحدٍ ـ ويلتزم بتقييد إطلاق المادة ، والقرينة على التقييد نفس ظهور الجملتين في تعدّد الوجوب مع عدم إمكان اجتماعهما على عنوانٍ واحدٍ بحسب الفرض ، وهذا نحو من الجمع العرفي.

٣ ـ إذا تعارض دليل إلزامي ودليل ترخيصي بالعموم من وجه ، قدِّم الدليل الإلزامي.

وقد يقرّب ذلك : بأنّ الدليل الترخيصي ليس مفاده عرفاً إلاّأنّ العنوان المأخوذ فيه لا يقتضي الإلزام ، فإذا فرض عنوان آخر أعمّ منه من وجهٍ دلّ الدليل الإلزامي على اقتضائه للإلزام اخذ به ؛ لعدم التعارض بين الدليلين. وهذا في الحقيقة ليس من الجمع العرفي ؛ لأنّ الجمع العرفي يفترض وجود التعارض بين الدليلين قبل التعديل ، والبيان المذكور يوضّح عدم التعارض رأساً.

٤ ـ إذا تعارض إطلاق شمولي وآخر بدلي بالعموم من وجهٍ : فإن كان أحد الدليلين دالاًّ على الإطلاق بالوضع والأداة ، والآخر بقرينة الحكمة قدّم ما كان بالوضع ، سواء اتّصل بالإطلاق الآخر أو انفصل عنه. أمّا في حالة الاتّصال فلأنّه بيان للقيد ، فلا يسمح لقرينة الحكمة بالجريان وتكوين الإطلاق. وأمّا في حالة الانفصال فللأظهرية والقرينية.

٥٥١

وإذا كان كلاهما بالوضع أو بقرينة الحكمة فهناك قولان : أحدهما أنّهما متكافئان فيتساقطان معاً ، والآخر تقديم الشمولي على البدلي.

ويمكن أن يفسّر ذلك بعدّة أوجه :

الأول : أن يقال بأقوائية الظهور الشمولي من الظهور البدلي في إطلاقين متماثلين من حيث كونهما وضعيّين أو حكمّيين ؛ وذلك لأنّ الشمولي يتكفّل أحكاماً عديدةً بنحو الانحلال ، بخلاف المطلق البدلي الذي لا يتكفّل إلاّحكماً واحداً وسيع الدائرة ، والاهتمام النوعي ببيان أصل حكمٍ برأسه أشدّ من الاهتمام ببيان حدوده ودائرته سعةً وضيقاً ، فيكون التعهّد العرفي بعدم تخلّف بيان أصل حكمٍ عن إرادته أقوى من التعهّد العرفي بعدم تخلّف بيان سعة حكمٍ عن إرادتها ، ولمّا كان تقديم البدلي يستعدي التخلّف الأول وتقديم الشمولي يستعدي التخلّف الثاني الأخفَّ محذوراً تعيّن ذلك.

الثاني : أنّ الأمر في «أكرِم فقيراً» يختصّ بالحصّة المقدورة عقلاً وشرعاً ، بناءً على أنّ التكليف بالجامع بين المقدور وغير المقدور ليس معقولاً ، وشمول «لا تكرم الفاسق» للفقير الفاسق يجعل إكرامه غير مقدورٍ شرعاً ، فيرتفع بذلك موضوع الإطلاق البدلي ويكون الشمولي وارداً عليه.

ولكن تقدّم (١) في محلّه أنّ تعلّق التكليف بالجامع بين المقدور وغيره معقول.

الثالث : أنّ خطاب «لا تكرم الفاسق» لا يعارض في الحقيقة وجوب إكرام فقيرٍ ما الذي هو مدلول خطاب «أكرم فقيراً» ، بل يعارض الترخيص في تطبيق الإكرام الواجب على إكرام الفقير الفاسق ، وهذا يعني أنّ التعارض يقوم في الواقع

__________________

(١) في بحث الدليل العقلي من الجزء الأوّل للحلقة الثالثة ، ضمن قاعدة استحالة التكليف بغير مقدور ، تحت عنوان : الجامع بين المقدور وغيره.

٥٥٢

بين دليل الإلزام في الخطاب الشمولي ودليل الترخيص في الخطاب البدلي ، وقد تقدّم (١) أنّه متى تعارض دليل الترخيص مع دليل الإلزام قدِّم الثاني على الأول.

ونلاحظ على ذلك : أنّ حرمة إكرام الفقير الفاسق تنافي الوجوب بنفسه مع فرض تعلّقه بصرف وجود الفقير بلا قيد العدالة ، بقطع النظر عمّا يترتّب على ذلك من ترخيصاتٍ في التطبيق ، فالتنافي إذن بين إطلاقي حكمين إلزاميّين.

اللهمّ إلاّأن يقال : إنّ الإطلاق البدلي للأمر بالإكرام حالُه عرفاً كحال إطلاق أدلّة الترخيص ، في أنّه لا يفهم منه أكثر من عدم وجود مقتضٍ من ناحية الأمر للتقيّد بحصّةٍ دون حصة ، فلا يكون منافياً لوجود مقتضٍ لذلك من ناحية التحريم المجعول في الدليل الآخر.

٥ ـ إذا تعارض أصل مع أمارة ، كالرواية الصادرة من ثقةٍ فالتعارض ـ كما أشرنا سابقاً (٢) ـ إنمّا هو بين دليل حجّية الأصل ودليل حجّية تلك الرواية ؛ وفي مثل ذلك قد يقال بالورود بتقريب : أنّ موضوع دليل الأصل هو عدم العلم بما هو دليل ، ودليل حجّية الخبر يجعل الخبر دليلاً ، فيرفع موضوع دليل الأصل حقيقةً وهو معنى الورود.

ولكنّ أخذ العلم في دليل الأصل بما هو دليل لا بما هو كاشف تامّ يحتاج إلى قرينة ؛ لأنّ ظاهر الدليل في نفسه أخذ العلم فيه بوصفه الخاصّ.

وقد يقال بالحكومة بعد الاعتراف بأنّ ظاهر دليل الأصل أخذُ عدم العلم في موضوعه بما هو كاشف تامّ ؛ وذلك لأنّ دليل حجّية الأمارة مفاده التعبّد بكونها علماً وكاشفاً تامّاً ، وبذلك يوجب قيامها مقام القطع الموضوعي المأخوذ ـ إثباتاً أو نفياً ـ موضوعاً لحكمٍ من الأحكام. ومن أمثلة ذلك : قيامها مقام القطع المأخوذ

__________________

(١) في النقطة الثالثة من تطبيقات الجمع العرفي.

(٢) في تمهيد بحث التعارض ، تحت عنوان : ما هو التعارض المصطلح؟.

٥٥٣

عدمه في موضوع دليل الأصل ، وبهذا يكون دليل الحجّية رافعاً لموضوع دليل الأصل تعبّداً ، وهو معنى الحكومة.

فإن قيل : هذا لا ينطبق على حالة التعارض بين الأمارة والاستصحاب ؛ لأنّ دليل الاستصحاب مفاده التعبّد ببقاء اليقين أيضاً ، فيكون بدوره رافعاً لموضوع دليل حجّية الأمارة وهو الشكّ وعدم العلم.

كان الجواب : أنّ الشكّ لم يؤخذ في موضوع دليل حجّية الأمارة لساناً ، بل إطلاق الدليل يشمل حتّى حالة العلم الوجداني بالخلاف ، غير أن العقل يحكم باستحالة جعل الحجّية للأمارة مع العلم بخلافها وجداناً. وهذا الحكم العقلي إنمّا يُخِرج عن إطلاق الدليل حالةَ العلم الوجداني خاصّة ، فلا يكون الاستصحاب رافعاً لموضوع دليل حجّية الأمارة ، خلافاً للعكس ، فإنّ الشكّ وعدم العلم مأخوذ في دليل الاستصحاب لساناً فبجعل الأمارة علماً يرتفع موضوعه بالحكومة.

ونلاحظ على ذلك كلّه : أنّ الدليل الحاكم لا تتمّ حكومته إلاّبالنظر إلى مفاد الدليل المحكوم ـ كما تقدم (١) ـ ودليل حجّية الخبر في المقام ـ وكذلك الظهور ـ هو السيرة العقلائية وسيرة المتشرّعة.

أمّا السيرة العقلائية فلم يثبت انعقادها على تنزيل الأمارة منزلة القطع الموضوعي ؛ لعدم انتشار حالات القطع الموضوعي في الحياة العقلائية على نحوٍ يساعد على انتزاع السيرة المذكورة. وإمضاء السيرة العقلائية شرعاً لا دليل على نظره إلى أكثر ممّا تنظر السيرة اليه من آثار.

وأمّا سيرة المتشرّعة فالمتيقّن منها العمل بالخبر والظهور في موارد القطع الطريقي ، ولا جزم بانعقادها على العمل بهما في موارد القطع الموضوعي.

والأصحّ : أن نلتزم بأخصّية دليل حجّية الخبر والظهور ، بل كونه نصّاً في

__________________

(١) في أقسام الجمع العرفي ، تحت عنوان : الحكومة.

٥٥٤

مورد تواجد الاصول على الخلاف ؛ للجزم بانعقاد السيرة على تنجيز الواقع بالرواية والظهور ، وعدم الرجوع إلى البراءة ونحوها من الاصول العملية.

فالأمارة بحكم هذه الأخصّية والنصّية في دليل حجّيتها مقدَّمة على الأصل المخالف لها ؛ وإن لم يثبت بدليل الحجّية قيامها مقام القطع الموضوعي عموماً.

٦ ـ إذا تعارض أصل سببي وأصل مسبّبي كان الأصل السببي مقدَّماً ، ولهذا يجري استصحاب طهارة الماء الذي يغسل به الثوب المتنجّس ولا يعارض باستصحاب نجاسة الثوب المغسول. وقد فسِّر ذلك على أساس الحكومة ؛ لأنّ استصحاب نجاسة الثوب في المثال موضوعه الشكّ في نجاسة الثوب بقاءً ، واستصحاب طهارة الماء يلغي تعبّداً الشكّ في تمام آثار طهارة الماء بما فيها تطهيره للثوب ، فيرتفع بالتعبّد موضوع استصحاب النجاسة ، كما تقدم في الحلقة السابقة (١).

ولكن يلاحظ من ناحية : أنّ هذا البيان يتوقّف على افتراض قيام الإحراز التعبّدي بالأصل السببي مقام القطع الموضوعي ، وقد مرّت المناقشة في ذلك.

ومن ناحيةٍ اخرى : أنّ التفسير المذكور غير مطّردٍ في سائر موارد تقديم الأصل السببي على المسبّبي ؛ لأنّه يختصّ بما إذا كان مفاد الأصل السببي إلغاء الشكّ وجعل الطريقية ، كما يدّعى في الاستصحاب ، مع أنّ الأصل السببي قد لا يكون مفاده كذلك ، ومع هذا يقدّم على الأصل المسبّبي حتّى ولو كان مفاده جعل الطريقية ، فالماء المغسول به الثوب في المثال المذكور لو كان مورداً لأصالة الطهارة ـ لا لاستصحابها ـ لبني على تقدّمها بلا إشكالٍ على استصحاب نجاسة الثوب المغسول ، مع أنّ دليل أصالة الطهارة ليس مفاده إلغاء الشكّ لتجري

__________________

(١) في تطبيقات بحث الاستصحاب ، تحت عنوان : الاستصحاب في حالات الشكّ السببي والمسبّبي.

٥٥٥

الحكومة بالبيان المذكور.

وهذا يكشف عن أنّ نكتة تقدّم الأصل السببي على المسبّبي لا تكمن في إلغاء الشكّ ، بل في كونه يعالج موضوع الحكم ، فكأنّه يحلّ المشكلة في مرتبةٍ أسبقَ على نحوٍ لا يبقى مجال للحلّ في مرتبةٍ متأخّرةٍ عرفاً ؛ وهذا يعني أنّ السببية باللحاظ المذكور نكتة عرفية تقتضي بنفسها التقديم في مقام الجمع بين دليلَي الأصلين : السببي والمسبّبي.

٧ ـ إذا تعارض الاستصحاب مع أصلٍ آخر كالبراءة وأصالة الطهارة تَقدَّم الاستصحاب بالجمع العرفي. والمشهور في تفسير هذا التقديم وتبرير الجمع العرفي : أنّ دليل الاستصحاب حاكم على أدلّة تلك الاصول ؛ لأنّ مفاده التعبّد ببقاء اليقين وإلغاء الشكّ ، وتلك الأدلّة اخذ في موضوعها الشكّ ، فيكون رافعاً لموضوعها بالتعبّد.

فإن قيل : كما أنّ الشكّ مأخوذ في موضوع أدلّة البراءة وأصالة الطهارة كذلك هو مأخوذ في موضوع دليل الاستصحاب.

كان الجواب : أنّ الشكّ وإن كان مأخوذاً في موضوع أدلّتها جميعاً ولكنّ دليل الاستصحاب هو الحاكم ؛ لأنّ مفاده التعبّد باليقين وإلغاء الشك ، بخلاف أدلّة الاصول الاخرى.

وهذا البيان يواجه نفس الملاحظة التي علّقناها على دعوى حكومة دليل حجّية الأمارة على أدلّة الاصول ، فلاحظ (١).

والأحسن : تخريج ذلك على أساسٍ آخر من قبيل : أنّ العموم في دليل الاستصحاب عموم بالأداة ؛ لاشتماله على كلمة «أبداً» ، فيكون أقوى وأظهر في الشمول لمادة الاجتماع.

__________________

(١) في النقطة الخامسة من تطبيقات الجمع العرفي.

٥٥٦

ـ ٢ ـ

التعارض المستقر على ضوء دليل الحجّية

نتناول الآن التعارض المستقرَّ الذي تقدَّمَ (١) : أنّ التنافي فيه بعد استقرار التعارض يسري إلى دليل الحجّية ، إذ يكون من الممتنع شمول دليل الحجّية لهما معاً. وسنبحث هنا حكم هذا التعارض في ضوء دليل الحجّية ، وبقطع النظر عن الروايات الخاصّة التي عولج فيها حكم التعارض ، وهذا معنى البحث عمّا تقتضيه القاعدة في المقام.

والمعروف أنّ القاعدة تقتضي التساقط ؛ لأنّ شمول دليل الحجّية للدليلين المتعارضين غير معقول ، وشموله لأحدهما المعيَّن دون الآخر ترجيح بلا مرجِّح ، وشموله لهما على وجه التخيير لا ينطبق على مفاده العرفي ـ وهو الحجّية التعيينيّة ـ فيتعيّن التساقط.

ونلاحظ من خلال هذا البيان أنّ الانتهاء إلى التساقط يتوقّف على إبطال الشقوق الثلاثة الاولى ، فلنتكلّم عن ذلك :

[حجيّة الدليلين المتعارضين معاً :]

أمّا الشقّ الأول ـ وهو شمول دليل الحجّية لهما معاً ـ فقد يقال : إنّ الدليلين

__________________

(١) في تمهيد بحث التعارض ، تحت عنوان : ما هو التعارض المصطلح؟

٥٥٧

المتعارضين تارةً يكون مفاد أحدهما إثبات حكمٍ إلزامي ، ومفاد الآخر نفيه.

واخرى يكون مفاد كلٍّ منهما حكماً ترخيصياً. وثالثةً يكون (١) مفاد كلٍّ منهما حكماً إلزامياً.

ففي الحالة الاولى يستحيل شمول دليل الحجّية لهما ؛ لأنّه يؤدّي إلى تنجيز حكمٍ إلزاميٍّ والتعذير عنه في وقتٍ واحد.

وفي الحالة الثانية يستحيل الشمول ؛ لأدائه ـ مع العلم بمخالفة أحد الترخيصين للواقع ـ إلى الترخيص في المخالفة القطعية لذلك الواقع المعلوم إجمالاً.

وأمّا في الحالة الثالثة : فإن كان الحكمان الإلزاميان متضادَّين ذاتاً ـ كما إذا دلّ دليل على وجوب الجمعة ودلّ آخر على حرمتها ـ فالشمول محال أيضاً ؛ لأدائه إلى تنجيز حكمين إلزاميّين في موضوعٍ واحد.

وإن كانا متضادَّين بالعرض للعلم الإجمالي من الخارج بعدم ثبوت أحدهما ـ كما إذا دلّ دليل على وجوب الجمعة وآخر على وجوب الظهر ـ فلا استحالة في شمول دليل الحجّية لهما معاً ؛ لأنّه إنمّا يؤدّي إلى تنجيز كلا الحكمين الإلزاميّين مع العلم بعدم ثبوت أحدهما ، ولا محذور في ذلك.

ولكن الصحيح : أنّ هذا التوهّم يقوم على أساس ملاحظة المدلول المطابقي في مقام التعارض فقط ، وهو خطأ ، فإنّ كلاًّ من الدليلين المفروضين يدلّ بالالتزام على نفي الوجوب المفاد بالآخر ، فيقع التعارض بين الدلالة المطابقية لأحدهما والدلالة الالتزامية للآخر ، وحجّيتهما معاً تؤدّي إلى تنجيز حكمٍ والتعذير عنه في

__________________

(١) كلمة (يكون) ساقطة عن الطبعة الاولى ، وقد أثبتناها طبقاً لما جاء في النسخة الخطيّةالواصلة إلينا.

٥٥٨

وقتٍ واحد.

فإن قيل : هذا يعني أنّ المحذور نشأ من ضمِّ الدلالتين الالتزاميّتين في الحجّية إلى المطابقيّتين فيتعيّن سقوطهما عن الحجّية ؛ لأنّهما المنشأ للتعارض ، وتظلّ حجّية الدلالة المطابقية في كلٍّ من الدليلين ثابتة.

كان الجواب : أنّنا نواجه في الحقيقة معارضتين ثُنائيّتين ، والدلالة الالتزامية تشكِّل أحد الطرفين في كلٍّ منهما ، فلا مبرِّر لطرح الدلالة الالتزامية إلاّ التعارض ، وهو ذو نسبةٍ واحدةٍ إلى كلا طرفي المعارضة ، فلابدّ من سقوط الطرفين معاً.

فإن قيل : المبرِّر لطرح الدلالة الالتزامية خاصّةً دون المطابقية أنّها ساقطة عن الحجّية على أيّ حال ، سواء رفعنا اليد عنها ابتداءً أو رفعنا اليد عن الدلالتين المطابقيّتين ؛ لانّ سقوط المطابقية عن الحجّية يستتبع سقوط الالتزامية ، فالدلالة الالتزامية إذن ساقطة عن الحجّية على أي حالٍ ؛ إمّا سقوطاً مستقلًّا ، أو بتبع سقوط الدلالة المطابقية ، ومع هذا فلا موجب للالتزام بسقوط الدلالة المطابقية.

كان الجواب : أنّ الدلالة الالتزامية في كلّ معارضةٍ ثنائيةٍ تعارض الدلالة المطابقية للدليل الآخر ، وهي غير تابعةٍ لها في الحجّية ليدور أمرها بين السقوط الابتدائي والسقوط التبعي ، فلا معيّن لحلّ المعارضة بإسقاط الدلالتين الالتزاميّتين خاصّة.

[حجيّة أحد الدليلين المتعارضين :]

وأمّا الشقّ الثاني ـ وهو شمول دليل الحجّية لأحدهما المعيَّن ـ فقد برهن على استحالته بأنّه ترجيح بلا مرجِّح ، إلاّأنّ هذا البرهان لا يطّرد في الحالات التالية.

٥٥٩

الحالة الاولى : أن نعلم بأنّ ملاك الحجّية والطريقية غير ثابتٍ في كلٍّ من الدليلين في حالة التعارض ، وفي هذه الحالة لا شكّ في سقوطهما معاً بلا حاجةٍ إلى برهان ؛ لأنّ المفروض عدم الملاك لحجّيتهما.

الحالة الثانية : أن نعلم ـ بقطع النظر عن دليل الحجّية ـ بوجود ملاكها في كلٍّ منهما وبأنّ الملاك في أحدهما المعيّن أقوى منه في الآخر ، ولا شكّ هنا في شمول دليل الحجّية لذلك المعيّن ولا يكون ترجيحاً بلا مرجّح ؛ للعلم بعدم شموله للآخر. وكذلك الأمر إذا احتملنا أقوائية الملاك الطريقي في ذلك المعيَّن ولم نحتمل الأقوائية في الآخر ، فإنّ هذا يعني أنّ إطلاق دليل الحجّية للآخر معلوم السقوط ؛ لأنّه إمّا مغلوب أو مساوٍ ملاكاً لمعارضه ، وأمّا إطلاق دليل الحجّية لمحتمل الأقوائية فهو غير معلوم السقوط ، فنأخذ به.

الحالة الثالثة : أن لا يكون الملاك محرزاً بقطع النظر عن دليل الحجّية لا نفياً ولا إثباتاً ، وإنمّا الطريق إلى إحرازه نفس دليل الحجّية ، ونفترض أنّنا نعلم بأنّ الملاك لو كان ثابتاً في المتعارضَين فهو في أحدهما المعيَّن أقوى ، وهذا يعني العلم بسقوط إطلاق دليل الحجّية للآخر ؛ لأنّه إمّا لا ملاك فيه ، وإمّا فيه ملاك مغلوب. وأمّا إطلاق دليل الحجية للمعيَّن فلا علم بسقوطه ، فيؤخذ به. ومثل ذلك ما إذا كان أحدهما المعيَّن محتمل الأقوائية على تقدير ثبوته دون الآخر.

ومن أمثلة ذلك : أن يكون أحد الراويين أوثق وأفقه من الراوي الآخر ، فإنّ نكتة الطريقية التي هي ملاك الحجّية لا يحتمل كونها موجودةً في غير الأوثق والأفقه خاصّة.

وهكذا يتّضح أنّ إبطال الشمول لأحدهما المعيَّن ببرهان استحالة الترجيح بلا مرجّحٍ إنمّا يتّجه في مثل ما إذا كان كلّ من الدليلين مورداً لاحتمال وجود الملاك الأقوى فيه.

٥٦٠