دروس في علم الأصول - ج ٢

آية الله السيّد محمّد باقر الصدر

دروس في علم الأصول - ج ٢

المؤلف:

آية الله السيّد محمّد باقر الصدر


المحقق: لجنة التحقيق التابعة للمؤتمر العالمي للإمام الشهيد الصدر
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مركز الأبحاث والدراسات التخصصية للشهيد الصدر
الطبعة: ١
الصفحات: ٦٠٨
الجزء ١ الجزء ٢

٢ ـ الوظيفة العمليّة في حالة الشكّ

الوظيفة

في حالة العلم الإجمالي

قاعدة منجِّزية العلم الإجمالي.

أركان منجِّزية العلم الإجمالي.

تطبيقات منجِّزية العلم الإجمالي.

٣٦١
٣٦٢

كلّ ما تقدّم كان في تحديد الوظيفة العملية في حالات الشكّ البدوي. والآن نتكلّم عن الشكّ في حالات العلم الإجمالي. والبحث حول ذلك يقع في ثلاثة فصول :

الأول : في أصل قاعدة منجِّزية العلم الإجمالي.

والثاني : في أركان هذه القاعدة.

والثالث : في بعض تطبيقاتها ، كما يأتي تباعاً إن شاء الله تعالى.

٣٦٣

١ ـ قاعدة منجِّزيّة العلم الإجمالي

والكلام في هذه القاعدة يقع في ثلاثة امور :

الأمر الأول : في أصل منجِّزية العلم الإجمالي ومقدار هذه المنجِّزية بقطع النظر عن الاصول الشرعية المؤمِّنة.

والأمر الثاني : في جريان الاصول في جميع أطراف العلم الإجمالي وعدمه ثبوتاً أو إثباتاً.

والأمر الثالث : في جريانها في بعض الأطراف.

ومرجع البحث في الأمرين الأخيرين إلى مدى مانعية العلم الإجمالي بذاته ، أو بتنجيزه عن جريان الاصول بإيجاد محذورٍ ثبوتيٍّ أو إثباتيٍّ يحول دون جريانها في الأطراف كلاًّ أو بعضاً. وسنبحث هذه الامور الثلاثة تباعاً :

١ ـ منجِّزية العلم الإجمالي بقطع النظر عن الاصول المؤمِّنة الشرعية :

والبحث في أصل منجِّزية العلم الإجمالي إنّما يتّجه بناءً على مسلك قاعدة قبح العقاب بلا بيان ، حيث إنّ كلّ شبهةٍ من أطراف العلم مؤمَّن عنها بالقاعدة المذكورة ، فيحتاج تنجّز التكليف فيها إلى منجِّز ، ولابدّ من البحث حينئذٍ عن حدود منجِّزية العلم الإجمالي ومدى إخراجه لأطرافه عن موضوع القاعدة.

وأمّا بناءً على مسلك حقّ الطاعة فكلّ شبهةٍ منجِّزة في نفسها بقطع النظر عن الاصول الشرعية المؤمِّنة ، وينحصر البحث على هذا المسلك في الأمرين الأخيرين.

وعلى أيّ حالٍ فنحن نتكلّم في الأمر الأول على أساس افتراض قاعدة

٣٦٤

قبح العقاب بلا بيان ، وعليه فلا شكّ في تنجيز العلم الإجمالي لمقدار الجامع بين التكليفين ؛ لأنّه معلوم وقد تمّ عليه البيان ، سواء قلنا بأنّ مردّ العلم الإجمالي إلى العلم بالجامع أو العلم بالواقع.

أمّا على الأول فواضح ، وأمّا على الثاني فلأنّ الجامع معلوم ضمناً حتماً ، وعليه يحكم العقل بتنجّز الجامع ، ومخالفة الجامع إنمّا تتحقّق بمخالفة كلا الطرفين ؛ لأنّ ترك الجامع لا يكون إلاّبترك كلا فرديه ، وهذا معنى حرمة المخالفة القطعية عقلاً للتكليف المعلوم بالإجمال.

وإنّما المهمّ البحث في تنجيز العلم الإجمالي لوجوب الموافقة القطعية عقلاً ، فقد وقع الخلاف في ذلك.

فذهب جماعة كالمحقّق النائيني (١) والسيّد الاستاذ (٢) إلى أنّ العلم الإجمالي لا يقتضي بحدّ ذاته وجوب الموافقة القطعية وتنجيز كلّ أطرافه مباشرة.

وذهب المحقّق العراقي (٣) وغيره (٤) إلى أنّ العلم الإجمالي يستدعي وجوب الموافقة القطعية ، كما يستدعي حرمة المخالفة القطعية.

ويظهر من بعض هؤلاء المحقّقين أنّ المسألة مبنيّة على تحقيق هويّة العلم الإجمالي ، وهل هو علم بالجامع ، أو بالواقع؟

وعلى هذا الأساس سوف نمهِّد للبحث بالكلام عن هويّة العلم الإجمالي والمباني المختلفة في ذلك ، ثمّ نتكلّم في مقدار التنجيز على تلك المباني.

__________________

(١) أجود التقريرات ٢ : ٢٤٢.

(٢) مصباح الاصول ٢ : ٣٤٨ ـ ٣٥٠.

(٣) مقالات الاصول ٢ : ٢٣٢ ـ ٢٣٣.

(٤) كالمحقّق الخراساني في كفاية الاصول : ٤٠٨.

٣٦٥

الاتّجاهات في تفسير العلم الإجمالي :

ويمكن تلخيص الاتّجاهات في تفسير العلم الإجمالي في ثلاثة مبانٍ :

الأول : المبنى القائل بأنّ العلم الإجمالي علم تفصيليّ بالجامع مقترن بشكوكٍ تفصيليةٍ بعدد أطراف ذلك العلم ، وهذا ما اختاره المحقّقان النائيني (١) والإصفهاني (٢).

وهذا المبنى يشتمل على جانبٍ إيجابيٍّ وهو اشتمال العلم الإجمالي على العلم بالجامع ، وهذا واضح بداهةً ، وعلى جانبٍ سلبيٍّ وهو عدم تعدّي العلم من الجامع.

وبرهانه : أنّه لو فرض وجود علم يزيد على العلم بالجامع فهو : إمّا أن يكون بلا متعلّق ، أو يكون متعلّقاً بالفرد بحدِّه الشخصي المعيّن ، أو بالفرد بحدٍّ شخصيٍّ مردّدٍ بين الحدّين أوالحدود ، والكلّ باطل.

أمّا الأوّل فلأنّ العلم صفة ذات الإضافة ، فلا يعقل فرض انكشافٍ بلا منكشف.

وأمّا الثاني فلبداهة أنّ العالم بالإجمال لا يعلم بهذا الطرف بعينه ، ولابذاك بعينه.

وأمّا الثالث فلأنّ المردّد إن اريد به مفهوم المردّد فهذا جامع انتزاعي ، والعلم به لا يعني تعدّي العلم عن الجامع. وإن اريد به واقع المردّد فهو ممّا لا يعقل ثبوته فكيف يعقل العلم به ؛ لأنّ كلّ ما له ثبوت فهو متعيّن بحدِّ ذاته في افق ثبوته؟

الثاني : المبنى القائل بأنّ العلم في موارد العلم الإجمالي يسري من الجامع

__________________

(١) فوائد الاصول ٤ : ١٠ ـ ١٢.

(٢) نهاية الدراية ٤ : ٢٣٧.

٣٦٦

إلى الحدّ الشخصي ، ولكنّه ليس حدّاً شخصياً معيناً ؛ لوضوح أنّ كلاًّ من الطرفين بحدّه الشخصيّ المعيّن ليس معلوماً ، بل حدّاً مردّداً في ذاته بين الحدّين.

وهذا ما يظهر من صاحب الكفاية اختياره ، حيث ذكر في بحث الواجب التخييري من الكفاية (١) : أنّ أحد الأقوال فيه هو كون الواجب الواحد المردّد.

وأشار في تعليقته على الكفاية (٢) إلى الاعتراض على ذلك بأنّ الوجوب صفة ، وكيف تتعلّق الصفة بالواحد المردّد مع أنّ الموصوف لابدّ أن يكون معيّناً في الواقع؟

وأجاب على الاعتراض : بأنّ الواحد المردّد قد يتعلّق به وصف حقيقي ذو الإضافة ، كالعلم الإجمالي ، فضلاً عن الوصف الاعتباري ، كالوجوب.

ويمكن الاعتراض عليه : بأنّ المشكلة ليست هي مجرّد أنّ المردّد كيف يكون لوصفٍ من الأوصاف نسبة واضافة اليه؟ بل هي استحالة ثبوت المردّد ووجوده بما هو مردّد ؛ وذلك لأنّ العلم له متعلَّق بالذات وله متعلَّق بالعرض ، ومتعلّقه بالذات هو الصورة الذهنية المقوِّمة له في افُق الانكشاف ، ومتعلّقه بالعرض هو مقدار ما يطابق هذه الصورة من الخارج. والفرق بين المتعلَّقين : أنّ الأول لا يعقل إنفكاكه عن العلم حتى في موارد الخطأ ، بخلاف الثاني.

وعليه فنحن نتساءل : ما هو المتعلّق بالذات للعلم في حالات العلم الإجمالي؟ فإن كان صورةً حاكيةً عن الجامع لاعن الحدود الشخصية رجعنا إلى المبنى السابق. وإن كان صورةً للحدّ الشخصي ولكنّها مردّدة بحدِّ ذاتها بين صورتين لحدّين شخصيّين فهذا مستحيل ؛ لأنّ الصورة وجود ذهني ، وكلّ وجودٍ

__________________

(١) كفاية الاصول : ١٧٥.

(٢) المصدر السابق ، الهامش رقم (١).

٣٦٧

متعيّن في صقع ثبوته ، وتتعيّن الماهية تبعاً لتعيّن الوجود ؛ لأنّها حدّ له.

الثالث : ما ذهب اليه المحقّق العراقي (١) من أنّ العلم الإجمالي يتعلّق بالواقع ، بمعنى أنّ الصورة الذهنية المقوِّمة للعلم والمتعلّقة له بالذات لا تحكي عن مقدار الجامع من الخارج فقط ، بل تحكي عن الفرد الواقعي بحدّه الشخصي ، فالصورة شخصية ومطابقها شخصي ولكنّ الحكاية إجمالية ، فهي من قبيل رؤيتك لشبح زيدٍ من بعيدٍ دون أن تتبيّن هويّته ، فإنّ الرؤية هنا ليست رؤيةً للجامع بل للفرد ، ولكنّها رؤية غامضة.

ويمكن أن يبرهن على ذلك : بأنّ العلم في موارد العلم الإجمالي لا يمكن أن يقف على الجامع بحدّه ؛ لأنّ العالم يقطع بأنّ الجامع لا يوجد بحدّه في الخارج ، وإنّما يوجد ضمن حدٍّ شخصي ، فلابدّ من إضافة شيءٍ إلى دائرة المعلوم ، فإن كان هذا الشيء جامعاً وكلّياً عاد نفس الكلام حتى ننتهي إلى العلم بحدٍّ شخصي. ولمَّا كان التردّد في الصورة مستحيلاً ـ كما تقدم ـ تعيّن أن يكون العلم متقوّماً بصورةٍ شخصية معيّنةٍ مطابقةٍ للفرد الواقعي بحدّه ، ولكنّ حكايتها عنه إجمالية.

تخريجات وجوب الموافقة القطعية :

إذا اتّضحت لديك هذه المباني المختلفة فاعلم : أنّه قد ربط استتباع العلم الإجمالي لوجوب الموافقة القطعية إثباتاً ونفياً بهذه المباني ، بدعوى أنّه إذا قيل بالمبنى الأول ـ مثلاً ـ فالعلم الإجمالي لا يخرج عن موضوع قاعدة قبح العقاب بلا بيانٍ المزعومة سوى الجامع ؛ لأنّه المعلوم فقط. والجامع بحدّه لا يقتضي الجمع بين الأطراف ، بل يكفي في موافقته تطبيقه على أحد أفراده.

__________________

(١) مقالات الاصول ٢ : ٢٣٠.

٣٦٨

وإذا قيل بالمبنى الثالث ـ مثلاً ـ فالعلم الإجمالي يخرج الواقع المعلوم بتمام حدوده عن موضوع البراءة العقلية ويكون منجَّزاً بالعلم ، وحيث إنّه محتمل في كلّ طرفٍ فيحكم العقل بوجوب الموافقة القطعية للخروج عن عهدة التكليف المنجَّز. ولكن الصحيح هو : أنّ المبنى الثالث لا يختلف في النتيجة المقصودة في المقام عن المبنى الأول ؛ لأنّ الصورة العلمية الإجمالية على الثالث وإن كانت مطابقةً للواقع بحدّه ولكنّ المفروض على هذا المبنى اندماج عنصري الوضوح والإجمال في تلك الصورة معاً ، وبذلك تميّزت عن الصورة التفصيلية ، وما ينكشف ويتّضح للعالم إنمّا هو المقدار الموازي لعنصر الوضوح في الصورة ، وهذا لا يزيد على الجامع. ومن الواضح أنّ البراءة العقلية إنمّا يرتفع موضوعها بمقدار ما يوازي جانب الوضوح لا الإجمال ؛ لأنّ الإجمال ليس بياناً.

وعليه فالمنجَّز مقدار الجامع لا أكثر على جميع المباني المتقدمة ، وعليه فالعلم الإجمالي لا يقتضي بذاته وجوب الموافقة القطعية.

ويوجد تقريبان لإثبات أنّ العلم الإجمالي يستتبع وجوب الموافقة القطعية :

الأول : ما قد يظهر من بعض كلمات المحقّق الإصفهاني (١) ، وحاصله مركّب من مقدمتين :

الاولى : أنّ ترك الموافقة القطعية بمخالفة أحد الطرفين يعتبر مخالفةً احتماليةً للجامع ؛ لأنّ الجامع إن كان موجوداً ضمن ذلك الطرف فقد خولف ، وإلاّ فلا.

والثانية : أنّ المخالفة الاحتمالية للتكليف المنجَّز غير جائزةٍ عقلاً ؛ لأنّها

__________________

(١) راجع نهاية الدراية ٣ : ٩١ ـ ٩٥.

٣٦٩

مساوقة لاحتمال المعصية. وحيث إنّ الجامع منجَّز بالعلم الإجمالي فلا تجوز مخالفته الاحتمالية.

ويندفع هذا التقريب بمنع المقدمة الاولى ، فإنّ الجامع إذا لوحظ فيه مقدار الجامع بحدّه فقط لم تكن مخالفة أحد الطرفين مع موافقة الطرف الآخر مخالفةً احتمالية له ؛ لأنّ الجامع بحدّه لا يقتضي أكثر من التطبيق على أحد الفردين ، والمفروض أنّ العلم واقف على الجامع بحدّه ، وأنّ التنجّز تابع لمقدار العلم ، فلا مخالفة احتمالية للمقدار المنجَّز أصلاً.

الثاني : ما ذهبت إليه مدرسة المحقق النائيني (١) قدّس الله روحه ، فإنّها مع اعترافها بأنّ العلم الإجمالي لا يستدعي وجوب الموافقة القطعية بصورةٍ مباشرةٍ ـ لأنّه لا ينجِّز أزيد من الجامع ـ قامت بمحاولةٍ لإثبات استتباع العلم الإجمالي لوجوب الموافقة القطعية بصورةٍ غير مباشرة ، وهذه المحاولة يمكن تحليلها ضمن الفقرات التالية :

أوّلاً : أنّ العلم الإجمالي يستدعي حرمة المخالفة القطعية.

ثانياً : يترتّب على ذلك عدم إمكان جريان الاصول المؤمِّنة في جميع الأطراف ؛ لأنّه يستوجب الترخيص في المخالفة القطعية.

ثالثاً : يترتّب على ذلك أنّ الاصول المذكورة تتعارض فلا تجري في أيِّ طرف ؛ لأنّ جريانها في طرفٍ دون آخر ترجيح بلا مرجّح ، وجريانها في الكلّ غير ممكن.

رابعاً : ينتج من كلّ ذلك : أنّ احتمال التكليف في كلّ طرفٍ يبقى بدون أصلٍ مؤمِّن ، وكلّ احتمالٍ للتكليف بدون مؤمِّنٍ يكون منجِّزاً للتكليف ، فتجب

__________________

(١) أجود التقريرات ٢ : ٢٤٢ ـ ٢٤٣.

٣٧٠

عقلاً موافقة التكليف المحتمل في كلّ طرفٍ باعتبار تنجّزه ، لا باعتبار وجوب الموافقة القطعية للعلم الإجمالي بعنوانها.

والتحقيق : أنّ المقصود بتعارض الاصول المؤمِّنة في الفقرة الثالثة : إن كان تعارض الاصول بما فيها قاعدة قبح العقاب بلا بيانٍ ـ على أساس أنّ جريانها في كلٍّ من الطرفين غير ممكنٍ وفي أحدهما خاصّةً ترجيح بلا مرجّحٍ ـ فهذا غير صحيح ؛ لأنّ هذه القاعدة نجريها ابتداءً فيما زاد على الجامع.

وبعبارةٍ اخرى : أنّنا عندما نعلم إجمالاً بوجوب الظهر أو وجوب الجمعة يكون كلّ من الوجوبين بما هو وجوب لهذا الفعل أو لذاك بالخصوص مورداً للبراءة العقلية ، وبما هو وجوب مضاف الى الجامع خارجاً عن مورد البراءة فيتنجَّز الوجوب بمقدار إضافته الى الجامع ؛ لأنّ هذا هو المقدار الذي تمّ عليه البيان ، ويؤمَّن عنه بما هو مضاف الى الفرد. وهذا التبعيض في تطبيق البراءة العقلية معقول وصحيح ، بينما لا يطَّرد في البراءة الشرعية ؛ لأنّها مفاد دليلٍ لفظيٍّ وتابعة لمقدار ظهوره العرفي ، وظهوره العرفي لا يساعد على ذلك.

وإن كان المقصود التعارض بين الاصول المؤمِّنة الشرعية خاصّةً فهو صحيح ، ولكن كيف يُرتَّب على ذلك تنجّز التكليف بالاحتمال مع أنّ الاحتمال مؤمَّن عنه بالبراءة العقلية على مسلك قاعدة قبح العقاب بلا بيان؟!

وصفوة القول : أنّه على هذا المسلك لا موجب لافتراض التعارض في البراءة العقلية ، بل لا معنى لذلك ، إذ لا يعقل التعارض بين حكمين عقليّين ، فإن كان ملاك حكم العقل ـ وهو عدم البيان ـ تامّاً في كلٍّ من الطرفين استحال التصادم بين البراءتين ، وإلاّ لم تجرِ البراءة ؛ لعدم المقتضي ، لا للتعارض.

وهكذا يتّضح أنّه على مسلك قاعدة قبح العقاب بلا بيانٍ لا يمكن تبرير وجوب الموافقة القطعية للعلم الإجمالي ، وهذا بنفسه من المنبِّهات إلى بطلان

٣٧١

القاعدة المذكورة.

نعم ، إذا نشأ العلم الإجمالي من شبهةٍ موضوعيةٍ تردّد فيها مصداق قيدٍ من القيود المأخوذة في الواجب بين فردين وجبت الموافقة القطعية حتى على المسلك المذكور ، كما إذا وجب إكرام العالم وتردّد العالم بين زيدٍ وخالد ، فإنّ كون الإكرام إكراماً للعالم قيد للواجب ، فيكون تحت الأمر وداخلاً في العهدة ، ويشكّ في تحقّقه خارجاً بالاقتصار على إكرام أحد الفردين ، ومقتضى قاعدة «أنّ الشغل اليقيني يستدعي الفراغ اليقيني» وجوب الاحتياط حينئذٍ.

هذا كلّه في ما يتعلّق بالأمر الأول.

٢ ـ جريان الاصول في جميع الأطراف ، وعدمه :

وأمّا الأمر الثاني وهو في جريان الاصول الشرعية في جميع أطراف العلم الإجمالي فقد تقدّم الكلام عن ذلك بلحاظ مقام الثبوت ومقام الإثبات معاً في مباحث القطع (١) ، واتّضح : أنّ المشهور بين الاصوليّين استحالة جريان الاصول في جميع الأطراف ؛ لأدائه الى الترخيص في المعصية للمقدار المعلوم ، أي في المخالفة القطعية ، وأنّ الصحيح هو : إمكان جريانها في جميع الأطراف عقلاً ، غير أنّ ذلك ليس عقلائياً. ومن هنا كان الارتكاز العقلائي موجباً لانصراف أدلّة الاصول عن الشمول لجميع الأطراف.

وينبغي أن يعلم : أنّ ذلك إنّما هو بالنسبة الى الاصول الشرعية المؤمِّنة ، وأمّا الاصول الشرعية المنجِّزة للتكليف فلامحذور ثبوتاً ولا إثباتاً في جريانها في كلّ أطراف العلم الإجمالي بالتكليف إذا كان كلّ طرفٍ مورداً لها في نفسه ،

__________________

(١) في الجزء الأوّل من الحلقة الثالثة ، تحت عنوان : العلم الإجمالي.

٣٧٢

حتّى ولو كان المكلّف يعلم بعدم ثبوت أكثر من تكليفٍ واحد ، كما إذا علم بوجود نجسٍ واحدٍ فقط في الإناءات (١) المعلومة نجاستها سابقاً ، فيجري استصحاب النجاسة في كلّ واحدٍ منها. ومنه يعلم أنّه لو لم تكن النجاسة الفعلية معلومةً أصلاً أمكن أيضاً إجراء استصحاب النجاسة في كلّ إناءٍ ما دامت أركانه تامّةً فيه ، ولا ينافي ذلك العلم إجمالاً بطهارة بعض الأواني وارتفاع النجاسة عنها واقعاً ؛ لأنّ المنافاة : إمّا أن تكون بلحاظ محذورٍ ثبوتيٍّ بدعوى المنافاة بين الاصول المنجِّزة للتكليف والحكم الترخيصي المعلوم بالإجمال ، أو بلحاظ محذورٍ إثباتيٍّ وقصورٍ في إطلاق دليل الأصل.

أمّا الأول فقد يقرَّب بوقوع المنافاة بين الإلزامات الظاهرية والترخيص الواقعي الثابت في مورد بعضها على سبيل الإجمال جزماً.

والجواب : أنّ المنافاة بينها وبين الترخيص الواقعي إن كانت بملاك التضادّ بين الحكمين فيندفع بعدم التضادّ ما دام أحدهما ظاهرياً والآخر واقعياً. وإن كانت بملاك ما يستتبعان من تحرّكٍ أو إطلاق عنانٍ فمن الواضح أنّ الترخيص المعلوم إجمالاً لا يستتبع إطلاق العنان الفعلي ؛ لعدم تعيّن مورده ، فلا ينافي الاصول المنجِّزة في مقام العمل.

وأمّا الثاني فقد يقرَّب بقصورٍ في دليل الاستصحاب ، بدعوى أنّه كما ينهى عن نقض اليقين بالشكّ كذلك يأمر بنقض اليقين باليقين ، والأول يستدعي إجراء الاستحصاب في تمام الأطراف ، والثاني يستدعي نفي جريانها جميعاً في وقتٍ واحد ؛ لأنّ رفع اليد عن الحالة السابقة في بعض الإناءات نقض لليقين باليقين.

والجواب أولاً : أنّ هذا إنّما يوجب الإجمال في ما اشتمل من روايات

__________________

(١) كذا ، وفي معاجم اللغة : الإناء جمعه آنية ، وجمع الآنية : أواني.

٣٧٣

الاستصحاب على الأمر والنهي معاً ، لافيما اختصّ مفاده بالنهي فقط.

وثانياً : أنّ ظاهر الأمر بنقض اليقين باليقين أن يكون اليقين الناقض متعلّقاً بعين ما تعلّق به اليقين المنقوض ، وهذا غير حاصلٍ في المقام ؛ لأنّ اليقين المدّعى كونه ناقضاً هو العلم الإجمالى بالحكم الترخيصي ، ومصبّه ليس متّحداً مع مصبِّ أيِّ واحدٍ من العلوم التفصيلية المتعلّقة بالحالات السابقة للإناءات.

وعليه فالاصول المنجِّزة والمثبتة للتكليف لا بأس بجريانها حتى مع العلم إجمالاً بمخالفة بعضها للواقع. وهذا معنى قولهم : إنّ الاصول العملية تجري في أطراف العلم الإجمالي إذا لم يلزم من جريانها مخالفة عملية لتكليفٍ معلومٍ بالإجمال.

٣ ـ جريان الاصول في بعض الأطراف ، وعدمه :

وأمّا الأمر الثالث فهو في جريان الاصول الشرعية المؤمِّنة في بعض أطراف العلم الإجمالي ، والكلام عن ذلك يقع في مقامين : ثبوتي ، وإثباتي.

أمّا الثبوتي فنبحث فيه عن إمكان جريان الاصول المؤمِّنة في بعض الأطراف ثبوتاً ، وعدمه ، ومن الواضح أنّه على مسلكنا القائل بإمكان جريان الاصول في جميع الأطراف لا مجال لهذا البحث ، إذ لا معنى لافتراض محذورٍ ثبوتيٍّ في جريانها في بعض الأطراف.

وأمّا على مسلك القائلين باستحالة جريان الاصول في جميع الأطراف فكذلك ينبغي أن نستثني من هذا البحث القائلين بأنّ العلم الإجمالي لا يستدعي وجوب الموافقة القطعية مباشرةً ، فإنّه على قولهم هذا لا ينبغي أن يتوهّم امتناع جريان الأصل المؤمّن في بعض الأطراف ، إذ يكون من الواضح عدم منافاته للعلم الإجمالي.

٣٧٤

وأمّا القائلون بأنّ العلم الإجمالي يستدعي بذاته وجوب الموافقة القطعية فيصحّ البحث عن أساس قولهم ؛ لأنّ جريان الأصل المؤمِّن في بعض الأطراف يرخِّص في ترك الموافقة القطعية ، فلا بدّ من النظر في إمكان ذلك وامتناعه. ومردّ البحث في ذلك إلى النزاع في أنّ العلم الإجمالي هل يستدعي عقلاً وجوب الموافقة القطعية استدعاءً منجّزاً على نحو استدعاء العلّة لمعلولها ، أو استداعاءً معلّقاً على عدم ورود الترخيص الشرعي على نحو استدعاء المقتضي لما يقتضيه ، فإنّ فعليته منوطة بعدم وجود المانع.

فعلى الأول يستحيل إجراء الأصل المؤمِّن في بعض الأطراف ؛ لأنّه ينافي حكم العقل الثابت بوجوب الموافقة القطعية.

وعلى الثاني يمكن إجراؤه ، إذ يكون الأصل مانعاً عن فعلية حكم العقل ورافعاً لموضوعه.

وعلى هذا الأساس وُجِد اتّجاهان بين القائلين باستدعاء العلم الإجمالي لوجوب الموافقة القطعية :

أحدهما : القول بالاستدعاء على نحو العلِّية. وذهب اليه جماعة ، منهم المحقّق العراقي (١).

والآخر : القول بالاستدعاء على نحو الاقتضاء. وذهب اليه جماعة ، منهم المحقّق النائيني على ما هو المنقول عنه في فوائد الاصول (٢).

وقد ذكر المحقّق العراقي رحمه‌الله في تقريب العلِّية (٣) : أنّه لا شكّ في كون العلم

__________________

(١) مقالات الاصول ٢ : ٢٣٤.

(٢) فوائد الاصول ٤ : ٢٥.

(٣) مقالات الاصول ٢ : ٢٣٦ ـ ٢٣٧.

٣٧٥

منجِّزاً لمعلومه على نحو العلِّية ، فإذا ضممنا الى ذلك أنّ المعلوم بالعلم الإجمالي هو الواقع لا مجرّد الجامع ثبت أنّ الواقع منجَّز على نحو العلّية ، ومعه يستحيل الترخيص في أيِّ واحدٍ من الطرفين ؛ لاحتمال كونه هو الواقع.

وبكلمةٍ اخرى : أنّ المعلوم بالعلم الإجمالي إن كان هو الجامع فلا مقتضيَ لوجوب الموافقة القطعية أصلاً ، وإن كان هو الواقع فلابدّ من افتراض تنجّزه على نحو العلّية ؛ لأنّ هذا شأن كلِّ معلومٍ مع العلم.

واعترض عليه المحقّق النائيني رحمه‌الله (١) : بأنّ العلم الإجمالي ليس أشدّ تأثيراً من العلم التفصيلي ، والعلم التفصيلي نفسه يعقل الترخيص في المخالفة الاحتمالية لمعلومه ، كما في قاعدتي : الفراغ والتجاوز ، وهذا يعني عدم كونه علّةً لوجوب الموافقة القطعية ، فكذلك العلم الإجمالي.

وأجاب المحقّق العراقي (٢) على هذا الاعتراض : بأنّ قاعدة الفراغ وأمثالها ليست ترخيصاً في ترك الموافقة القطعية لتكون منافيةً لافتراض علِّية العلم لوجوبها ، بل هي إحراز تعبّدي للموافقة ، أي موافقة قطعية تعبدية ، وافتراض العلّية يعني علّية العلم الإجمالي لوجوب الموافقة القطعية وجداناً أو تعبّداً ، وبهذا يظهر الفرق بين إجراء قاعدة الفراغ وإجراء أصالة البراءة في أحد طرفي العلم الإجمالي ، فإنّ الأول لا ينافي العلّية ، بخلاف الثاني.

والتحقيق : أنّ قاعدة الفراغ وأصالة البراءة وإن كانتا مختلفتين في لسانيهما إلاّ أنّ هذا مجرّد اختلافٍ في اللسان والصياغة ، وأمّا واقعهما وروحهما فواحد ؛

__________________

(١) فوائد الاصول ٤ : ٣٤.

(٢) مقالات الاصول ٢ : ٢٣٨.

٣٧٦

لأنّ كلاًّ منهما نتيجة لتقديم الأغراض الترخيصية على الأغراض اللزومية عند الاختلاط في مقام الحفظ ، غير أنّ هذا التقديم تارةً يكون بلسان الترخيص ، واخرى بلسان الاكتفاء بالموافقة الاحتمالية وافتراضها موافقةً كاملة ، فلا معنى للقول بأنّ أحد اللسانين ممتنع دون الآخر.

والصحيح : هو عدم علِّية العلم الإجمالي لوجوب الموافقة القطعيّة ؛ لأنّ الترخيص الظاهري في بعض الأطراف له نفس الحيثيات المصحّحة لجعل الحكم الظاهري في سائر الموارد.

هذا كلّه بحسب مقام الثبوت.

وأمّا بحسب مقام الإثبات فقد يقال : إنّ أدلّة الاصول قاصرة عن إثبات جريان الأصل في بعض الأطراف ؛ لأنّ جريانه في البعض ضمن جريانه في كلّ الأطراف باطل ؛ لأنّنا فرغنا عن عدم جواز الترخيص في المخالفة القطعية.

وجريانه في البعض المعيَّن دون البعض الآخر ترجيح بلا مرجّح ؛ لأنّ نسبة دليل الأصل إلى كلٍّ من الطرفين على نحوٍ واحد. وجريانه في البعض المردّد غير معقول ، إذ لا معنى للمردّد.

وبكلمةٍ اخرى : أنّه بعد العلم بعدم جريان الأصل في كلِّ الأطراف في وقتٍ واحدٍ يحصل التعارض بين إطلاق دليل الأصل لكلِّ طرفٍ وإطلاقه لسائر الأطراف ، ومقتضى التعارض التساقط.

وهناك اعتراض مشهور يوجَّه الى هذا البرهان ، وحاصله : أنّ المحذور الناجم عن جريان الاصول في كلِّ الأطراف هو الترخيص في المخالفة القطعية ، وهذا المحذور إنّما ينشأ من إجراء الأصل في كلٍّ من الطرفين مطلقاً ، أي سواء ارتكب المكلَّف الطرف الآخر ، أو اجتنبه ، وإذا ألغينا إطلاق الأصل في كلٍّ منهما لحالة ارتكاب الآخر أنتج إثبات ترخيصين مشروطين ، وكلّ منهما منوط بترك الآخر ، ومثل هذا لا يؤدّي الى الترخيص في المخالفة القطعية ، ويعني ذلك أنّ

٣٧٧

المحذور يندفع برفع اليد عن إطلاق الأصل في كلِّ طرف ، ولا يتوقّف دفعه على إلغاء الأصل رأساً. ولاشكّ في أنّ رفع اليد عن شيءٍ من مفاد الدليل لا يجوز إلاّ لضرورة ، والضرورة تقدَّر بقدرها ، فلماذا لا نجري الأصل في كلٍّ من الطرفين ولكن مقيّداً بترك الآخر؟

وقد اجيب على هذا الاعتراض بوجوه :

الأول : ما ذكره السيّد الاستاذ (١) من أنّ الجمع بين الترخيصين المشروطين المذكورين وإن كان لا يؤدي الى الترخيص في المخالفة القطعية ولكنّه يؤدّي الى الترخيص القطعي في المخالفة الواقعية ، وذلك فيما إذا ترك الطرفين معاً ، وهو مستحيل.

ويرد عليه : أنّ الحكم الظاهري في نفسه ليس مستحيلاً ، وإنّما يمتنع إذا كان منافياً للحكم الواقعي ، والمفروض عدم المنافاة بين الحكم الظاهري والحكم الواقعي ؛ لا بلحاظ نفسه ولا بلحاظ مبادئه ، فلم يبقَ إلاّالتنافي بلحاظ عالم الامتثال ، وقد فرضنا هنا أنّ حكم العقل بوجوب الموافقة القطعية قابل للرفع بالترخيص الشرعي على خلافه ، فلم يبقَ هناك تنافٍ بين الترخيص القطعي في المخالفة الواقعية والتكليف المعلوم بالإجمال في أيِّ مرحلةٍ من المراحل.

هذا ، على أنّ بالإمكان تصوير الترخيصات المشروطة على نحوٍ لا يمكن أن تصبح كلّها فعليةً في وقتٍ واحدٍ ليلزم الترخيص القطعي في المخالفة الواقعية ، وذلك بأن تفترض أطراف العلم الإجمالي ثلاثية ، ويفترض أنّ الترخيص في كلّ طرفٍ مقيّد بترك أحد بديليه وارتكاب الآخر.

الثاني : ما ذكره السيّد الاستاذ أيضاً من أنّه إذا اريد إجراء الأصل مقيّداً في

__________________

(١) مصباح الاصول ٢ : ٣٥٥.

٣٧٨

كلّ طرفٍ فهناك أوجه عديدة للتقييد ، فقد يجري الأصل في كلِّ طرفٍ مقيّداً بترك الآخر ، أو بأن يكون قبل الآخر ، أو بأن يكون بعد الآخر ، فأيّ مرجِّحٍ لتقييدٍ على تقييد؟

ويرد عليه : أنّ التقييد إنّما يراد لإلغاء الحالة التي لها حالة معارضة في دليل الأصل وإبقاء الحالة التي لا معارض لها من حالات الطرف الآخر ، والحالة التي لامعارض لها كذلك هي حالة ترك الطرف الآخر ، وأمّا حالة كونه قبل الآخر مثلاً فجريان الأصل فيها يعارض جريانه في الآخر حالة كونه بعد صاحبه.

الثالث : ما ذكره أيضاً من أنّ لدليل الأصل إطلاقاً أفرادياً لهذا الطرف ولذاك ، وإطلاقاً أحوالياً في كلٍّ من الفردين لحالة ترك الآخر وفعله ، والمحذور كما يندفع برفع اليد عن الإطلاقين الأحواليّين معاً كذلك يندفع برفع اليد عن الإطلاق الأفرادي والأحوالي في أحد الطرفين خاصّة ، فأيّ مرجِّحٍ لأحد الدفعين على الآخر؟

ويرد عليه : أنّ المرجِّح هو : أنّ ما يبقى تحت دليل الأصل بموجب الدفع الأول للمحذور ليس له معارض أصلاً ، وما يبقى تحته بموجب الدفع الآخر الذي يقترحه له معارض.

الرابع : أنّ الحكم الظاهري يجب أن يكون محتمل المطابقة للحكم الواقعي ، والترخيص المشروط ليس كذلك ؛ لأنّ ما هو ثابت في الواقع : إمّا الحرمة المطلقة ، وإمّا الترخيص المطلق.

ويرد عليه : أنّه لابرهان على اشتراط ذلك في الحكم الظاهري ، وإنّما يشترط فيه أمران : أحدهما أن يكون الحكم الواقعي مشكوكاً ، والآخر أن يكون الحكم الظاهري صالحاً لتنجيزه أو التعذير عنه.

الخامس : وهو التحقيق في الجواب ، وحاصله : أنّ مفاد دليل الترخيص

٣٧٩

الظاهري ومدلوله التصديقي هو إبراز عدم اهتمام المولى بالتحفّظ على الغرض اللزومي ، ومعنى افتراض ترخيصين مشروطين كذلك أنّ عدم اهتمام المولى بالتحفّظ على الغرض اللزومي في كلّ طرفٍ منوط بترك الآخر ، وأ نّه في حالة تركهما معاً لا اهتمام له بالتحفّظ على الغرض اللزومي المعلوم إجمالاً وكلّ هذا لا محصّل له ؛ لأنّ المعقول إنّما هو ثبوت مرتبةٍ ناقصةٍ من الاهتمام للمولى تقتضي التحفّظ الاحتمالي على الواقع المعلوم بالإجمال ، واستفادة ذلك من الترخيصين المشروطين المراد إثباتهما بإطلاق دليل الأصل لا يمكن إلاّبالتأويل وإرجاعهما الى الترخيص في الجامع ، أي في أحدهما ، وهذه العناية لا يفي بها إطلاق دليل الأصل.

وفي ضوء ما تقدم قد يقال : إنّه لا تبقى ثمرة بين القول بالعلِّية والقول بالاقتضاء ، إذ على كلّ حالٍ لا يجري الأصل المؤمِّن في بعض الأطراف ولكن سيظهر في ما يأتي تحقّق الثمرة في بعض الحالات.

جريان الأصل في بعض الأطراف بلا معارض :

اتّضح ممّا سبق أنّ دليل الأصل لا يفي لإثبات جريان الأصل المؤمِّن في بعض الأطراف ؛ وذلك بسبب المعارضة ، ولكن قد تستثنى من ذلك عدّة حالات :

منها : ما إذا كان في أحد طرفي العلم الإجمالي أصل واحد مؤمِّن وفي الطرف الآخر أصلان طوليّان ، ونقصد بالأصلين الطوليّين : أن يكون أحدهما حاكماً على الآخر ورافعاً لموضوعه تعبّداً.

ومثال ذلك : أن يعلم إجمالاً بنجاسة إناءٍ مردّدٍ بين إناءين : أحدهما مجرى لأصالة الطهارة فقط ، والآخر مجرى لاستصحاب الطهارة وأصالتها معاً ، بناءً على أنّ الاستصحاب حاكم على أصالة الطهارة ، فقد يقال في مثل ذلك : إنّ أصالة

٣٨٠