دروس في علم الأصول - ج ٢

آية الله السيّد محمّد باقر الصدر

دروس في علم الأصول - ج ٢

المؤلف:

آية الله السيّد محمّد باقر الصدر


المحقق: لجنة التحقيق التابعة للمؤتمر العالمي للإمام الشهيد الصدر
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مركز الأبحاث والدراسات التخصصية للشهيد الصدر
الطبعة: ١
الصفحات: ٦٠٨
الجزء ١ الجزء ٢

لو حظت فيه أهمّية المحتمل عند التزاحم بين الملاكات الواقعية في مقام الحفظ التشريعي عند الاختلاط والاشتباه ، بينما لوحظت في أدلّة الحجّية الأهمّية الناشئة من قوة الاحتمال محضاً. وقد عرفنا سابقاً أنّ هذه النكتة تفي بتفسير ما تتميّز به الأمارة على الأصل من حجّية مثبتاتها.

الاصول العملية الشرعية والعقلية :

وتنقسم الاصول العملية إلى شرعية ، وعقلية. فالشرعية : هي ما كنّا نقصده آنفاً ، ومردّها إلى أحكامٍ ظاهريةٍ شرعيةٍ نشأت من ملاحظة أهمّية المحتمل.

والعقلية : وظائف عملية عقلية ، ومردّها ـ في الحقيقة ـ إلى حقّ الطاعة إثباتاً ونفياً ، فحكم العقل ـ مثلاً ـ بأنّ «الشغل اليقيني يستدعي الفراغ اليقيني» مرجعه إلى أنّ حق الطاعة للمولى الذي يستقلّ به العقل إنمّا هو حقّ الطاعة القطعية ، فلا تفي الطاعة الاحتمالية بحقّ المولى. وحكم العقل بقاعدة قبح العقاب بلا بيانٍ ـ على مسلك المشهور ـ مرجعه إلى تحديد دائرة حقّ الطاعة في التكاليف المعلومة خاصّةً ، بينما يرجع حكم العقل بمنجِّزية التكاليف المحتملة عندنا إلى توسعة دائرة حقّ الطاعة ، وهكذا.

وللقسمين مميّزات يمكن ذكر جملةٍ منها في مايلي :

أولاً : أنّ الاصول العملية الشرعية أحكام شرعية ، والاصول العملية العقلية ترجع إلى مدركات العقل العملي فيما يرتبط بحقّ الطاعة.

ثانياً : انّه ليس من الضروري أن يوجد أصل عملي شرعي في كلّ مورد ، وإنّما هو تابع لدليله. فقد يوكِل الشارع أمر تحديد الوظيفةالعملية للشاكِّ إلى عقله العملي ، وهذا خلافاً للأصل العملي العقلي ، فإنّه لابدّ من افتراضه بوجهٍ في كلّ

٣٢١

واقعةٍ من وقائع الشكّ في حدّ نفسها.

ثالثاً : أنّ الاصول العملية العقلية قد تُردّ إلى أصلين ؛ لأنّ العقل إن أدرك شمول حقّ الطاعة للواقعة المشكوكة حكم بأصالة الاشتغال ، وإن أدرك عدم الشمول حكم بالبراءة.

ولكن قد يفرض أصل عملي عقلي ثالث ، وهو أصالة التخيير في موارد دوران الأمر بين المحذورين.

وقد يُعترض على افتراض هذا الأصل : بأنّ التخيير إن اريد به دخول التكليف في العهدة واشتغال الذّمة ولكن على وجه التخيير فهو غير معقول ؛ لأنّ الجامع بين الفعل والترك في موارد الدوران بين المحذورين ضروريّ الوقوع.

وإن اريد به أنّه لا يلزم المكلف عقلاً بفعلٍ ولا تركٍ ولا يدخل شيء في عهدته فهذا عين البراءة.

وسيأتي (١) تفصيل الكلام حول ذلك في بحث دوران الأمر بين المحذورين إن شاء الله تعالى.

وأمّا الاصول العملية الشرعية فلا حصر عقليّ لها في البراءة أو الاشتغال ، بل هي تابعة لطريقة جعلها ، فقد تكون استصحاباً مثلاً.

رابعاً : أنّ الاصول العملية العقلية لايعقل التعارض بينها ، لا ثبوتاً ـ كما هو واضح ـ ولا إثباتاً ؛ لأنّ مقام إثباتها هو عين إدراك العقل لها ، ولا تناقض بين إدراكين عقليّين.

__________________

(١) في البحث الثالث من أبحاث الوظيفة العملية في حالة الشكّ ، تحت عنوان الوظيفة عندالشكّ في الوجوب والحرمة معاً.

٣٢٢

وأمّا الاصول العملية الشرعية فيعقل التعارض بينها إثباتاً بحسب لسان أدلتها ، ولابدّ من علاج ذلك وفقاً لقواعد باب التعارض بين الأدلّة.

خامساً : أنّه لا يعقل التصادم بين الاصول العملية الشرعية والاصول العملية العقلية ، فإذا كانا مختلفين في التنجيز والتعذير ؛ فإن كان الأصل العملي العقلي معلَّقاً على عدم ورود أصلٍ عملىٍّ شرعيٍّ على الخلاف كان هذا وارداً ، وإلاّ امتنع ثبوت الأصل العملي الشرعي في مورده.

الاصول التنزيلية والمحرزة :

الاصول العملية الشرعية : تارةً تكون مجرّد وظائف عمليةٍ بلسان إنشاء حكمٍ تكليفيٍّ ترخيصيٍّ أو إلزامي ، بدون نظرٍ بوجهٍ إلى الأحكام الواقعية ، وهذه اصول عملية بحتة.

واخرى تُبذل فيها عناية إضافية ، إذ تُطَعَّم بالنظر إلى الأحكام الواقعية ، وهذه العناية يمكن تصويرها بوجهين :

أحدهما : أن يجعل الحكم الظاهري بلسان تنزيله منزلة الحكم الواقعي ، كما قد يقال في أصالة الحِلِّ وأصالة الطهارة ، إذ يستظهر أنّ قوله : «كل شيءٍ [هو] (١) لك حلال» (٢) أو «كل شيءٍ لك طاهر حتّى تعلم ...» (٣) يتكفّل تنزيل مشكوك

__________________

(١) من المصدر.

(٢) وسائل الشيعة ١٧ : ٨٩ ، الباب ٤ من أبواب ما يكتسب به ، الحديث ٤.

(٣) وسائل الشيعة ٣ : ٤٦٧ ، الباب ٣٧ من أبواب النجاسات ، الحديث ٤ ، وليس فيه «لك» ، وفيه بدل «طاهر» : نظيف.

٣٢٣

الحِلِّية ومشكوك الطهارة منزلة الحلال الواقعي ومنزلةالطاهر الواقعي ، خلافاً لمن يقول : إنّ دليل هذين الأصلين ليس ناظراً إلى الواقع ، بل يُنشئ بنفسه حِلّيةً أو طهارةً بصورةٍ مستقلّة.

ويسمّى الأصل في حالة بذل هذه العناية التنزيلية بالأصل التنزيلي. وقد تترتّب على هذه التنزيلية فوائد ، فمثلاً : إذا قيل بأنّ أصل الإباحة تنزيليّ ترتّب عليه حين تطبيقه على الحيوان ـ مثلاً ـ طهارة مدفوعه ظاهراً ؛ لأنّها مترتّبة على الحِلِّية الواقعية ، وهي ثابتة تنزيلاً ، فكذلك حكمها. وأمّا إذاقيل بأنّ أصل الإباحة ليس تنزيلياً بل إنشاء لحلّيةٍ مستقلّةٍ فلا يمكن أن نُنقِّح بها طهارة المدفوع ، وهكذا.

والآخر : أن ينزَّل الأصل أو الاحتمال المقوِّم له منزلة اليقين ، بأن تجعل الطريقية في مورد الأصل ، كما ادّعي ذلك في الاستصحاب من قبل المحقّق النائيني (١) والسيد الاستاذ (٢) على فرقٍ بينهما ، حيث إنّ الأول اختار : أنّ المجعول هو العلم بلحاظ مرحلة الجري العملي فقط. والثاني اختار : أنّ المجعول هو العلم بلحاظ الكاشفية ، فلم يبقَ على مسلك جعل الطريقية فرق بين الاستصحاب والأمارات في المجعول على رأي السيد الاستاذ.

ويسمّى الأصل في حالة بذل هذه العناية بالأصل المحرز. وهذه المحرزية قد يترتّب عليها بعض الفوائد في تقديم الأصل المحرز على غيره ، باعتباره عِلماً وحاكماً على دليل الأصل العملي البحت ، على ما يأتي في محلّه إن شاء الله

__________________

(١) فوائد الاصول ٤ : ٤٨٦.

(٢) مصباح الاصول ٢ : ٣٨ ، و ٣ : ١٥٤.

٣٢٤

تعالى.

وهناك معنىً آخر للُاصول العملية المحرزة ينسجم مع طريقتنا في التمييز بين الأمارات والاصول ، وهو : أنّه كلّما لوحظ في جعل الحكم الظاهري ثبوتاً أهميّة المحتمل فهو أصل عملي ، فإن لوحظ منضمَّاً اليه قوة الاحتمال أيضاً فهو أصل عملي محرز ، كما في قاعدة الفراغ ، وإلاّ فلا.

والمحرزية بهذا المعنى في قاعدة الفراغ لا تجعلها حجّةً في مثبتاتها ، إلاّأنّ استظهارها من دليل القاعدة يترتب عليه بعض الآثار ايضاً ، من قبيل عدم شمول دليل القاعدة لموارد انعدام الأمارية والكشف نهائياً. ومن هنا يقال بعدم جريان قاعدة الفراغ في موارد العلم بعدم التذكّر حين العمل.

مورد جريان الاصول العملية :

لاشكّ في جريان الاصول العملية الشرعية عند الشكّ في الحكم التكليفي الواقعي لتنجيزه ، كما في أصالة الاحتياط ، أو للتعذير عنه ، كما في أصالة البراءة. ولكن قد يشكّ في التكليف الواقعي ، ويشكّ في قيام الحجّة الشرعية عليه بنحو الشبهة الموضوعية ـ كالشك في صدور الحديث ـ أو بنحو الشبهة الحكمية ، كالشكّ في حجّية الأمارة المعلوم وجودها ، فهل يوجد في هذه الحالة موردان للأصل العملي فنجري البراءة عن التكليف الواقعي المشكوك ونجري براءةً اخرى عن الحجّية ـ أي الحكم الظاهري المشكوك ـ أو تكفي البراءة الاولى؟

وبكلمةٍ اخرى : أنّ الاصول العملية هل يختصّ موردها بالشكّ في الأحكام الواقعية ، أو يشمل مورد الشكّ في الأحكام الظاهرية نفسها؟

قد يقال : بأ نّنا في المثال المذكور نحتاج إلى براءتين ، إذ يوجد احتمالان

٣٢٥

صالحان للتنجيز ، فنحتاج إلى مؤمِّنٍ عن كلٍّ منهما :

أحدهما : احتمال التكليف الواقعي ، ولنسمِّهِ بالاحتمال البسيط.

والآخر : احتمال قيام الحجّة عليه. وحيث إنّ الحجّية معناها إبراز شدّة اهتمام المولى بالتكليف الواقعي المشكوك ـ كما عرفنا سابقاً عند البحث في حقيقة الأحكام الظاهرية (١) ـ فاحتمال الحجّة على الواقع المشكوك يعني احتمال تكليفٍ واقعيٍّ متعلّقٍ لاهتمام المولى الشديد وعدم رضائه بتفويته ، ولنسمِّ هذا بالاحتمال المركّب.

وعليه فالبراءة عن الاحتمال البسيط لا تكفي ، بل لابدّ من التأمين من ناحية الاحتمال المركّب أيضاً ببراءةٍ ثانية.

وقد يعترض على ذلك : بأنّ الأحكام الظاهرية ـ كما تقدّم في الجزء السابق (٢) ـ متنافية بوجوداتها الواقعية ، فإذا جرت البراءة عن الحجّية المشكوكة وفرض أنّها كانت ثابتةً يلزم اجتماع حكمين ظاهريّين متنافيين.

وجواب الاعتراض : أنّ البراءة هنا نسبتها إلى الحجّية المشكوكة نسبة الحكم الظاهري إلى الحكم الواقعي ؛ لأنّها مترتّبة على الشكّ فيها. فكما لامنافاة بين الحكم الظاهري والواقعي كذلك لا منافاة بين حكمين ظاهريّين طوليّين من هذا القبيل. وما تقدّم سابقاً من التنافي بين الأحكام الظاهرية بوجوداتها الواقعية ينبغي أن يفهم في حدود الأحكام الظاهرية العَرضية ، أي التي يكون الموضوع

__________________

(١) في مباحث التمهيد من الجزء الأوّل للحلقة الثالثة ، تحت عنوان : الحكم الواقعي والظاهري.

(٢) في مباحث التمهيد أيضاً تحت عنوان : التنافي بين الأحكام الظاهريّة.

٣٢٦

فيها نحو واحد من الشكّ.

وقد يعترض على إجراء براءةٍ ثانيةٍ بأ نّها لغو ، إذ بدون إجراء البراءة عن نفس الحكم الواقعي المشكوك لا تنفع البراءة المؤمِّنة عن الحجّية المشكوكة ، ومع إجرائها لا حاجة إلى البراءة الثانية ، إذ لا يحتمل العقاب إلاّمن ناحية التكليف الواقعي ، وقد امِّن عنه.

والجواب على ذلك : أنّ احتمال ذات التكليف الواقعي شيء ، واحتمال تكليفٍ واقعيٍّ واصلٍ إلى مرتبةٍ من الاهتمام المولوي التي تعبّر عنها الحجّية المشكوكة شيء آخر ، والتأمين عن الأول لا يلازم التأمين عن الثاني ، ألا ترى أنّ بإمكان المولى أن يقول للمكلّف : كلّما احتملت تكليفاً وأنت تعلم بعدم قيام الحجّة عليه فأنت في سعةٍ منه ، وكلّما احتملت تكليفاً واحتملت قيام الحجّة عليه فاحتط بشأنه؟

ولكنّ التحقيق مع ذلك : أنّ إجراء البراءة عن التكليف الواقعي المشكوك يغني عن إجراء البراءة عن الحجّية المشكوكة ؛ وذلك بتوضيح مايلي :

اولاً : أنّ البراءة عن التكليف الواقعي والحجّية المشكوكة حكمان ظاهريان عرضيان ؛ لأنّ موضوعهما معاً الشكّ في الواقع ، خلافاً للبراءة عن الحجّية المشكوكة فإنّها ليست في درجتها ، كما عرفت.

ثانياً : أنّ الحكمين الظاهريّين المختلفين متنافيان بوجوديهما الواقعّيين ، سواء وصلا أوْ لا ، كما تقدّم في محلّه (١).

__________________

(١) ضمن مباحث التمهيد من الجزء الأوّل للحلقة الثانية ، تحت عنوان : التنافي بين الأحكام الظاهريّة.

٣٢٧

ثالثاً : أنّ البراءة عن التكليف الواقعي منافية ثبوتاً للحجّية المشكوكة ، على ضوء ما تقدم.

رابعاً : أنّ مقتضى المنافاة أنّها تستلزم عدم الحجّية واقعاً ونفيها.

خامساً : أنّ الدليل الدالّ على البراءة عن التكليف الواقعي يدلّ بالالتزام على نفي الحجّية المشكوكة.

وهذا يعني : أنّنا بإجراء البراءة عن التكليف الواقعي سنثبت بالدليل نفي الحجّية المشكوكة ، فلا حاجة إلى أصل البراءة عنها وإن كان لا محذور فيه أيضاً.

ويمكن تصوير وقوع الأحكام الظاهرية مورداً للُاصول العملية في الاستصحاب ، إذ قد يجري استصحاب الحكم الظاهري ؛ لتمامية أركان الاستصحاب فيه ، وعدم تماميتها في الحكم الواقعي ، كما إذا علم بالحجّية وشكّ في نسخها فإنّ المستصحَب هنا نفس الحجّية ، لا الحكم الواقعي.

٣٢٨

٢ ـ الاصول العمليّة

الوظيفة العمليّة

في حالة الشكّ

الوظيفة في حالة الشكّ البدوي.

الوظيفة في حالة العلم الإجمالي.

الوظيفة عند الشكّ في الوجوب والحرمة معاً.

الوظيفة عند الشكّ في الأقلّ والأكثر.

٣٢٩
٣٣٠

١ ـ الوظيفة العملية في حالة الشكّ

الوظيفة

في حالة الشكّ البَدويّ

الوظيفة الأولية في حالة الشكّ.

الوظيفة الثانوية في حالة الشكّ.

٣٣١
٣٣٢

الوظيفة الأوّلية في حالة الشكّ

كلّما شكّ المكلف في تكليفٍ شرعيٍّ ولم يتأتَّ له إقامة الدليل عليه إثباتاً أو نفياً فلابدّ له من تحديد الوظيفة العملية تجاهه. ويقع الكلام أوّلاً في تحديد الوظيفة العملية تجاه التكليف المشكوك بقطع النظر عن أيّ تدخّلٍ من الشارع في تحديدها ، وهذا يعني التوجّه إلى تعيين الأصل الجاري في الواقعة بحدّ ذاتها ، وليس هو إلاّالأصل العملي العقلي. ويوجد بصدد تحديد هذا الأصل العقلي مسلكان :

١ ـ مسلك قبح العقاب بلا بيان :

إنّ مسلك قاعدة قبح العقاب بلا بيانٍ هو المسلك المشهور ، وقد يستدلّ عليه بعدّة وجوه :

الأول : ما ذكره المحقّق النائيني رحمه‌الله (١) من : أنّه لا مقتضيَ للتحرّك مع عدم وصول التكليف ، فالعقاب حينئذٍ عقاب على ترك مالا مقتضي لإيجاده ، وهو قبيح.

وقد عرفت في حلقةٍ سابقةٍ (٢) أنّ هذا الكلام مصادرة ؛ لأنّ عدم المقتضي

__________________

(١) فوائد الاصول ٣ : ٣٦٥.

(٢) في بحث الاصول العمليّة من الحلقة الثانية ، تحت عنوان : القاعدة العمليّة الأوّليّة في حالة الشكّ.

٣٣٣

فرع ضيق دائرة حقّ الطاعة ، وعدم شمولها عقلاً للتكاليف المشكوكة ؛ لوضوح أنّه مع الشمول يكون المقتضي للتحرّك موجوداً ، فينتهي البحث إلى تحديد دائرة حقّ الطاعة.

الثاني : الاستشهاد بالأعراف العقلائية. وقد تقدم أيضاً (١) الجواب بالتمييز بين المولوية المجعولة والمولوية الحقيقية.

الثالث : ما ذكره المحقّق الأصفهاني رحمه‌الله (٢) من : أنّ كلّ أحكام العقل العملي مردّها إلى حكمه الرئيسي الأوّلي بقبح الظلم وحسن العدل. ونحن نلاحظ أنّ مخالفة ما قامت عليه الحجّة خروج عن رسم العبودية ، وهو ظلم من العبد لمولاه ، فيستحقّ منه الذمّ والعقاب. وأنّ مخالفة ما لم تقم عليه الحجّة ليست من أفراد الظلم ، إذ ليس من زِيِّ العبودية أن لا يخالف العبد مولاه في الواقع وفي نفس الأمر ، فلا يكون ذلك ظلماً للمولى ، وعليه فلا موجب للعقاب ، بل يقبح ، وبذلك يثبت قبح العقاب بلا بيان.

والتحقيق : أنّ ادّعاء كون حكم العقل بقبح الظلم هو الأساس لأحكام العقل العملي بالقبح عموماً ، وأ نّها كلّها تطبيقات له ، وإن كان هو المشهور والمتداول في كلماته وكلمات غيره من المحقّقين إلاّأ نّه لا محصّل له ؛ لأنّنا إذا حلَّلنا نفس مفهوم الظلم وجدنا أنّه عبارة عن الاعتداء وسلب الغير حقّه ، وهذا يعني افتراض ثبوت حقٍّ في المرتبة السابقة ، وهذا الحقّ بنفسه من مدركات العقل العملي. فلو لا أنّ للمنعم حقَّ الشكر في المرتبة السابقة لَما انطبق عنوان الظلم على ترك شكره.

فكون شيءٍ ظلماً وبالتالي قبيحاً مترتّب دائماً على حقٍّ مدركٍ في المرتبة السابقة ، وهو في المقام حقّ الطاعة.

__________________

(١) في نفس البحث من الحلقة الثانية وتحت نفس العنوان.

(٢) نهاية الدراية ٤ : ٨٤.

٣٣٤

فلابدّ أن يتّجه البحث إلى أنّ حقّ الطاعة للمولى هل يشمل التكاليف الواصلة بالوصول الاحتمالي ، أو يختصّ بما كان واصلاً بالوصول القطعي بعد الفراغ عن عدم شموله للتكليف بمجرّد ثبوته واقعاً ولو لم يصل بوجه؟

الرابع : ما ذكره المحقّق الإصفهانيّ (١) أيضاً تعميقاً لقاعدة قبح العقاب بلا بيانٍ على أساس مبنىً له في حقيقة التكليف ، حاصله : أنّ التكليف إنشائي وحقيقي ، فالإنشائي ما يوجد بالجعل والإنشاء ، وهذا لا يتوقّف على الوصول.

والتكليف الحقيقي ما كان إنشاؤه بداعي البعث والتحريك ، وهذا متقوّم بالوصول ، إذ لا يعقل أن يكون التكليف بمجرّد إنشائه باعثاً ومحرِّكاً ، وإنّما يكون كذلك بوصوله. فكما أنّ بعث العاجز غير معقولٍ كذلك بعث الجاهل. وكما يختصّ التكليف الحقيقي بالقادر كذلك يختصّ بمن وصل اليه ليمكنه الانبعاث عنه.

فلا معنى للعقاب والتنجّز مع عدم الوصول ؛ لأنّه يساوق عدم التكليف الحقيقي ، فيقبح العقاب بلا بيانٍ لا لأنّ التكليف الحقيقي لا بيان عليه ، بل لأنّه لا ثبوت له مع عدم الوصول.

ويرد عليه :

أولاً : أنّ حقّ الطاعة إن كان شاملاً للتكاليف الواصلة بالوصول الاحتمالي فباعثية التكليف ومحرّكيته مولوياً مع الشكّ معقولة أيضاً ؛ وذلك لأنّه يحقِّق موضوع حقّ الطاعة. وإن لم يكن حقّ الطاعة شاملاً للتكاليف المشكوكة فمن الواضح أنّه ليس من حقّ المولى أن يعاقب على مخالفتها ؛ لأنّه ليس مولىً بلحاظها بلا حاجةٍ إلى هذه البيانات والتفصيلات. وهكذا نجد مرّةً اخرى أنّ روح البحث يجب أن يتّجه إلى تحديد دائرة حقّ الطاعة.

__________________

(١) نهاية الدراية ٤ : ٨٣.

٣٣٥

وثانياً : أنّ التكليف الحقيقيّ الذي ادّعي كونه متقوّماً بالوصول إن أراد به الجعل الشرعي للوجوب ـ مثلاً ـ الناشئ من إرادة ملزمةٍ للفعل ومصلحةٍ ملزمةٍ فيه فمن الواضح أنّ هذا محفوظ مع الشكّ أيضاً ، حتّى لو قلنا بأ نّه غير منجَّزٍ وإنّ المكلف الشاكّ غير ملزم بامتثاله عقلاً ؛ لأنّ شيئاً من الجعل والإرادة والمصلحة لا يتوقّف على الوصول.

وإن أراد به ما كان مقروناً بداعي البعث والتحريك فلنفترض أنّ هذا غير معقولٍ بدون وصول ، إلاّ أنّ ذلك لا يُنهي البحث ؛ لأنّ الشكّ في وجود جعلٍ بمبادئه من الإرادة والمصلحة الملزمَتَين موجود على أيّ حال ، حتّى ولو لم يكن مقروناً بداعي البعث والتحريك ، ولابدّ أن يلاحظ أنّه هل يكفي احتمال ذلك في التنجيز ، أوْ لا؟ وعدم تسمية ذلك بالتكليف الحقيقي مجرّد اصطلاحٍ ولا يُغني عن بحث واقع الحال.

٢ ـ مسلك حقّ الطاعة :

وهكذا نصل إلى المسلك الثاني وهو مسلك حقّ الطاعة المختار. ونحن نؤمن في هذا المسلك بأنّ المولوية الذاتية الثابتة لله سبحانه وتعالى لا تختصّ بالتكاليف المقطوعة ، بل تشمل مطلق التكاليف الواصلة ولو احتمالاً. وهذا من مدركات العقل العملي ، وهي غير مبرهنة. فكما أنّ أصل حقّ الطاعة للمنعِم والخالق مدرك أوّليّ للعقل العملي غير مبرهنٍ كذلك حدوده سعةً وضيقاً. وعليه فالقاعدة العملية الأوّلية هي أصالة الاشتغال بحكم العقل مالم يثبت الترخيص الجادّ في ترك التحفّظ ، على ما تقدم في مباحث القطع (١). فلابدّ من الكلام عن هذا الترخيص وإمكان إثباته شرعاً ، وهو ما يسمّى بالبراءة الشرعية.

__________________

(١) في الجزء الأوّل من الحلقة الثالثة ، تحت عنوان : حجّية القطع.

٣٣٦

الوظيفة الثانوية في حالة الشكّ

والقاعدة العملية الثانوية في حالة الشكّ التي ترفع موضوع القاعدة الاولى هي البراءة الشرعية. ويقع الكلام عن إثباتها في مبحثين : أحدهما في أدلّتها ، والآخر في الاعتراضات العامّة التي قد توجّه إلى تلك الأدلّة بعد افتراض دلالتها [ثمّ يقع الكلام في تحديد مفادها] :

١ ـ أدلّة البراءة الشرعية

وقد استُدلّ عليها بالكتاب الكريم والسنّة :

أدلّة البراءة من الكتاب :

أمّا من الكتاب الكريم فقد استدلّ بعدّة آيات :

منها : قوله سبحانه وتعالى : (لَايُكَلِّفُ اللهُ نَفْسَاً إلاّمَا آتَاهَا) (١). بدعوى أنّ اسم الموصول يشمل التكليف بالإطلاق ، كما يشمل المال والفعل ، فيدلّ على

__________________

(١) الطلاق : ٧.

٣٣٧

أنّه لا يكلِّف بتكليفٍ إلاّإذا آتاه ، وإيتاء التكليف معناه عرفاً وصوله إلى المكلّف ، فتدلّ الآية على نفي الكلفة من ناحية التكاليف غير الواصلة.

وقد اعترض الشيخ الأنصاريّ رحمه‌الله (١) على دعوى إطلاق اسم الموصول باستلزامه استعمال الهيئة القائمة بالفعل والمفعول في معنيين ؛ لأنّ التكليف بمثابة المفعول المطلق ، والمال والفعل بمثابة المفعول به ، ونسبة الفعل إلى مفعوله المطلق مغايرة لنسبته إلى المفعول به ، فكيف يمكن الجمع بين النسبتين في استعمالٍ واحد؟

وهناك جوابان على هذا الاعتراض :

الأول : ما ذكره المحقّق العراقيّ رحمه‌الله (٢) من أخذ الجامع بين النسبتين.

ويرد عليه : أنّه إن اريد الجامع الحقيقي بينهما فهو مستحيل ؛ لِمَا تقدّم في مبحث المعاني الحرفية (٣) من امتناع انتزاع الجامع الحقيقي بين النسب. وإن اريد بذلك افتراض نسبةٍ ثالثةٍ مباينةٍ للنسبتين ، إلاّأ نّها تلائم المفعول المطلق والمفعول به معاً فلا معيِّن لإرادتها من الكلام على تقدير تصور نسبةٍ من هذا القبيل.

الثاني : وهو الجواب الصحيح ، وحاصله : أنّ مادة الفعل في الآية هي الكُلفة بمعنى الإدانة ، ولا يراد بإطلاق اسم الموصول شموله لذلك ، بل لذات الحكم الشرعي الذي هو موضوع للإدانة ، فهو إذن مفعول به ، فلا إشكال.

ثمّ إنّ البراءة التي تستفاد من هذه الآية الكريمة : إن كانت بمعنى نفي الكُلفة بسبب التكليف غير المأتيِّ فلا ينافيها ثبوت الكلفة بسبب وجوب الاحتياط إذا تمّ

__________________

(١) فرائد الاصول ٣ : ٢١ ـ ٢٢.

(٢) مقالات الاصول ٢ : ١٥٣.

(٣) من مباحث تحديد دلالات الدليل الشرعي اللفظي من الجزء الأوّل من الحلقة الثالثة.

٣٣٨

الدليل عليه ، فلا تنفع في معارضة أدلّة وجوب الاحتياط. وإن كانت البراءة بمعنى نفي الكلفة في مورد التكليف غير المأتيِّ فهي تنفي وجوب الاحتياط وتعارض مع ما يُدّعى من أدلّته. والظاهر هو الحمل على المورديّة ، لا السببيّة ؛ لأنّ هذا هو المناسب بلحاظ الفعل والمال أيضاً ، فالاستدلال بالآية جيّد.

وبالنسبة إلى مدى الشمول فيها لا شكّ في شمولها للشبهات الوجوبية والتحريمية معاً ، بل للشبهات الحكمية والموضوعية معاً ؛ لأنّ الإيتاء ليس بمعنى إيتاء الشارع بما هو شارع ليختصّ بالشبهات الحكمية ، بل بمعنى الإيتاء التكويني ؛ لأنّه المناسب للمال وللفعل.

كما أنّ الظاهر عدم الإطلاق في الآية لحالة عدم الفحص ؛ لأنّ إيتاء التكليف تكفي فيه عرفاً مرتبة من الوصول ، وهي الوصول إلى مظانّ العثور بالفحص.

ومنها : قوله سبحانه وتعالى : (وَمَا كُنّا مُعذِّبينَ حتّى نَبْعَثَ رسولاً) (١).

وتقريب الاستدلال واضح بعد حمل كلمة «رسول» على المثال للبيان.

وقد يعترض على ذلك تارةً : بأنّ الآية الكريمة إنّما تنفي العقاب لا استحقاقه ، وهذا لا ينافي تنجّز التكليف المشكوك ، إذ لعلّه من باب العفو.

واخرى بأنّها ناظرة إلى العقاب الربّاني في الدنيا للُامم السالفة ، وهذا غير محلّ البحث.

والجواب على الأول : أنّ ظاهر النفي في الآية أنّه هو الطريقة العامة للشارع التي لا يناسبه غيرها ، كما يظهر من مراجعة أمثال هذا التركيب عرفاً ، وهذا معناه عدم الاستحقاق.

__________________

(١) الإسراء : ١٥.

٣٣٩

ومنه يظهر الجواب على الاعتراض الثاني ؛ لأنّ النكتة مشتركة ، مضافاً إلى منع نظر الآية إلى العقوبات الدنيوية ، بل سياقها سياق استعراض عدّة قوانين للجزاء الاخروي ، إذ وردت في سياق (لَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وزْرَ اخْرى) (١) فإنّ هذا شأن عقوبات الله في الآخرة لا في الدنيا. ولا منشأ لدعوى النظر المذكور إلاّ ورود التعبير بصيغة الماضي في قوله «وما كنّا» وهذا بنكتة إفادة الشأنيّة والمناسبة ، ولا يتعيّن أنْ يكون بلحاظ النظر إلى الزمان الماضي خاصة.

ولكن يرد على الاستدلال بالآية الكريمة ما تقدّم في الحلقة السابقة (٢) من أنّ الرسول إنّما يمكن أخذه كمثالٍ لصدور البيان من الشارع لا للوصول الفعلي ، فلا تنطبق الآية في موارد صدوره وعدم وصوله.

ثمّ إنّ البراءة إذا استفيدت من هذه الآية فهي براءة منوطة بعدم قيام دليل على وجوب الاحتياط ؛ لأنّ هذا الدليل بمثابة الرسول أيضاً.

ومنها : قوله تعالى : (قُلْ لا أجِدُ فيما اوحِيَ إليَّ مُحرَّماً عَلَى طاعِمٍ يَطْعَمُهُ إلاّ أنْ يَكونَ مَيتَةً أوْ دَماً مَسْفُوحاً أو لَحْمَ خِنْزيرٍ فَإنّهُ رِجْسٌ أو فِسْقاً أُهِلَّ لِغيرِ اللهِ بهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ ولا عادٍ فإنّ رَبَّكَ غَفُورٌ رحيمٌ) (٣) ، إذ دلّ على أنّ عدم الوجدان كافٍ في إطلاق العنان.

ويرد عليه :

أولاً : أنّ عدم وجدان النبيّ فيما اوحي اليه يساوق عدم الحرمة واقعاً.

وثانياً : أنّه إن لم يساوق عدم الحرمة واقعاً فعلى الأقلِّ يساوق عدم صدور

__________________

(١) فاطر : ١٨.

(٢) في بحث الاصول العمليّة ، تحت عنوان : القاعدة العمليّة الثانويّة في حالة الشكّ.

(٣) الأنعام : ١٤٥.

٣٤٠