دروس في علم الأصول - ج ٢

آية الله السيّد محمّد باقر الصدر

دروس في علم الأصول - ج ٢

المؤلف:

آية الله السيّد محمّد باقر الصدر


المحقق: لجنة التحقيق التابعة للمؤتمر العالمي للإمام الشهيد الصدر
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مركز الأبحاث والدراسات التخصصية للشهيد الصدر
الطبعة: ١
الصفحات: ٦٠٨
الجزء ١ الجزء ٢

القبيل ، فإنّ اعتماده على القرائن المنفصلة يعتبر حالةً متعارفة ، ولا توجد حالات مشابهة في العرف لحالة الشارع ليلاحظ موقف العقلاء منها.

وهذا الاعتراض إنّما قد يتّجه إذا كان دليل الإمضاء متطابقاً في الموضوع مع السيرة العقلائية. فكما أنّ السيرة العقلائية موضوعها المتكلّم الاعتياديّ الذي يندر اعتماده على القرائن المنفصلة ، كذلك دليل الإمضاء ، ولكنّ دليل الإمضاء أوسع من ذلك ؛ لأنّ السيرة العقلائية وإن كانت مختصّةً بالمتكلّم الاعتيادي إلاّ أنّها تقتضي الجري على طبقها في كلمات الشارع أيضاً ؛ إمّا للعادة ، أو لعدم الاطّلاع إلى فترةٍ من الزمن على خروج الشارع في اعتماده على القرائن المنفصلة عن الحالة الاعتيادية ، وهذا يشكِّل خطراً على الأغراض الشرعية يُحتِّم الردع لو لم يكن الشارع موافقاً على الأخذ بظواهر كلامه. ومن هنا يكشف عدم الردع عن إقرار الشارع لحجِّية الظهور في الكلام الصادر منه.

تشخيص موضوع الحجّية :

ظهور الكلام في المعنى الحقيقيِّ قسمان ـ كما تقدم (١) ـ : تصوري ، وتصديقي. والظهور التصوري كثيراً مّا لا ينثلم حتى في حالة قيام القرينة المتّصلة على الخلاف. فاذا قال المولى : (اذهب إلى البحر ، وخذ العلم منه) كانت الجملة قرينةً على أنّ المراد بالبحر معنىً آخر غير معناه الحقيقي ، وعلى الرغم من وجود القرينة فإنّ الظهور التصوري لكلمة «البحر» في معناها الحقيقي لا يزول ، وإنّما يزول الظهور التصديقي في إرادة المتكلّم لذلك المعنى الحقيقي ، ومن هنا صحّ

__________________

(١) في الحلقة الثانية ، ضمن البحث عن تحديد دلالات الدليل الشرعي اللفظي ، تحت عنوان : الظهور التصوّري والظهور التصديقي.

٢٠١

القول بأنّ الظهور التصوري للَّفظ في المعنى الحقيقي محفوظ حتى مع القرينة المتّصلة على الخلاف. وأنّ الظهور التصديقي له في ذلك منوط بعدم القرينة المتصلة غير أنّه محفوظ حتى مع ورود القرينة المنفصلة ، فإنّ القرينة المنفصلة لا تحول دون تكوّن أصل الظهور التصديقي للكلام في إرادة المعنى الحقيقي ، وإنمّا تسقطه عن الحجِّية ، كما مرّ بنا في حلقةٍ سابقة (١).

وعلى ضوء التمييز بين الظهور التصوري والظهور التصديقي ، وبعد الفراغ عن حجِّية الظهور عقلائياً ، وعن سقوطها مع ورود القرينة لابدّ من البحث عن تحديد موضوع هذه الحجِّية وكيفية تطبيقها على موضوعها ، وبهذا الصدد نواجه عدّة محتملاتٍ بدواً :

المحتمل الأول : أن يكون موضوع الحجِّية هو الظهور التصوري مع عدم العلم بالقرينة على الخلاف ، متصلةً أو منفصلة.

المحتمل الثاني : أن يكون موضوع الحجِّية هو الظهور التصديقي مع عدم صدور القرينة المنفصلة.

المحتمل الثالث : أن يكون موضوع الحجِّية هو الظهور التصديقي الذي لا يعلم بوجود قرينةٍ منفصلةٍ على خلافه. والفارق بين هذا وسابقه : أنّ عدم القرينة واقعاً دخيل في موضوع الحجِّية على الاحتمال الثاني ، وليس دخيلاً على الاحتمال الثالث ، بل يكفي عدم العلم بالقرينة.

وتختلف هذه الاحتمالات في كيفية تطبيق الحجِّية على موضوعها ، فإنّه على الاحتمال الأول تُطبَّق حجِّية الظهور على موضوعها ابتداءً حتى في حالة

__________________

(١) الحلقة الثانية ، ضمن البحث عن تحديد دلالات الدليل الشرعي اللفظي ، تحت عنوان : التطابق بين الدلالات.

٢٠٢

احتمال القرينة المتّصلة فضلاً عن المنفصلة ؛ لأنّ موضوعها هو الظهور التصوري بحسب الفرض ، وهذا لا يتزعزع بالقرينة المتّصلة المحتملة فضلاً عن المنفصلة ، كما عرفت ، فلا تحتاج إذن إلاّإلى أصالة الظهور.

وأمّا على الاحتمال الثاني فإنّما يمكن الرجوع إلى أصالة الظهور مباشرةً مع الجزم بعدم القرينة ، ولا يمكن الرجوع اليها كذلك مع احتمال القرينة المتّصلة ؛ لأنّ موضوع الحجِّية على هذا الاحتمال الظهور التصديقي ، وهو غير محرزٍ مع احتمال القرينة المتّصلة على الخلاف ، فلو قيل بحجِّية الظهور في هذه الحالة لكان اللازم أولاً افتراض أصلٍ عقلائيٍّ ينفي القرينة المتصلة لكي ينقّح موضوع أصالة الظهور بأصالة عدم القرينة.

وكذلك لا يمكن الرجوع إلى أصالة الظهور مباشرةً ـ على الاحتمال الثاني ـ مع احتمال القرينة المنفصلة ؛ لأنّ المفروض أنّه قد اخذ عدمها في موضوع حجّية الظهور ، فمع الشكّ فيها لا تحرز حجّية الظهور ، بل يحتاج إلى أصالة عدم القرينة أوّلاً لتنقيح موضوع الحجِّية في أصالة الظهور.

وأمّا الاحتمال الثالث فهو كالاحتمال الثاني في عدم إمكان الرجوع إلى أصالة الظهور مباشرةً مع احتمال القرينة المتصلة ؛ لأنّ موضوع الحجِّية ـ وهو الظهور التصديقي ـ غير محرزٍ مع هذا الاحتمال ، إلاّ أنّ الاحتمال الثالث يختلف عن سابقه في إمكان الرجوع إلى أصالة الظهور مباشرةً مع احتمال القرينة المنفصلة ؛ لأنّ موضوع الحجِّية ـ على الاحتمال الثالث ـ محرز حتى مع هذا الاحتمال ، بينما لم يكن محرزاً معه على الاحتمال الثاني.

والتحقيق في تمحيص هذه الاحتمالات : أنّ الاحتمال الأول ساقط ؛ لأنّ المقصود من حجِّية الظهور تعيين مراد المتكلّم بظهور كلامه ، وهي إنّما تُناط عقلائياً بالحيثية الكاشفة عن هذا المقصود ، اذ ليس مبنى العقلاء في الحجِّية على

٢٠٣

التعبّد المحض. وما يكشف عن المراد ليس هو الظهور التصوري ، بل التصديقي ، فإناطة الحجِّية بغير حيثية الكشف بلا موجبٍ عقلائياً ، فيتعيّن أن يكون موضوع الحجِّية هو الظهور التصديقي.

كما أنّ الاحتمال الثاني ساقط أيضاً ، باعتبار أنّه يفترض الحاجة في مورد الشكّ في القرينة المنفصلة إلى إجراء أصالة عدم القرينة أوّلاً ثمّ أصالة الظهور ، مع أنّ نفي القرينة المنفصلة عند احتمالها لا مبرِّر له عقلائياً إلاّكاشفية الظهور التصديقي عن إرادة مفاده وأنّ ما قاله يريده ، وهي كاشفية مساوقة لنفي القرينة المنفصلة.

وحيث إنّ الاصول العقلائية تعبِّر عن حيثياتٍ من الكشف المعتبرة عقلائياً ، وليست مجرّد تعبّداتٍ بحتةٍ فلا معنى حينئذٍ لافتراض أصالة [عدم] القرينة ؛ ثم أصالة الظهور ، بل يرجع إلى اصالة الظهور مباشرةً ؛ لأنّ كاشفيته هي المناط في نفي القرينة المنفصلة ، لا أنّها مترتبة على نفي القرينة بأصلٍ سابق.

وهكذا يتعيّن الاحتمال الثالث ، وعليه فإن عُلِم بعدم القرينة مطلقاً ، أو بعدم القرينة المتصلة خاصّةً مع الشكّ في المنفصلة رجعنا إلى أصالة الظهور ابتداءً.

[الشكّ في القرينة المتّصلة :]

وإن شكّ في القرينة المتصلة فهناك ثلاث صور :

الصورة الاولى : أن يكون الشكّ في وجودها لاحتمال غفلة السامع عنها ، وفي هذه الحالة تجري أصالة عدم الغفلة ؛ لأنّها على خلاف العادة وظهور الحال ، وبها تنفى القرينة ، وبالتالي ينقّح الظهور الذي هو موضوع الحجِّية. ونسمّي أصالة عدم الغفلة في هذه الصورة بأصالة عدم القرينة ؛ لأنّه بها تنتفي القرينة.

الصورة الثانية : أن يكون الشكّ في وجودها لاحتمال إسقاط الناقل لها.

٢٠٤

وفي هذه الحالة يمكن نفيها بشهادة الراوي المفهومة من كلامه ـ ولو ضمناً ـ بأ نّه استوعب في نقله تمام ما له دخل في إفادة المرام ، وبذلك يحرز موضوع أصالة الظهور.

الصورة الثالثة : أن يكون الشكّ في وجودها غير ناشئ من احتمال الغفلة ، ولا من الإسقاط المذكور ، فلا يمكن الرجوع إلى أصالة الظهور ابتداءً ؛ للشكّ في موضوعها وهو الظهور التصديقي ، ولا يمكن تنقيح موضوعها بإجراء أصالة عدم القرينة ؛ لأنّه لا توجد حيثية كاشفة عقلائياً عن عدم القرينة المحتملة لكي يعتبرها العقلاء ويبنون على أصالة عدم القرينة ، وبهذا نعرف أنّ احتمال القرينة المتصلة في مثل هذه الحالة يوجب الإجمال.

وبما ذكرناه اتّضح أنّ أصالة الظهور وأصالة عدم القرينة كلّ منهما أصل عقلائي في مورده ، فالأول يجري في كلّ موردٍ أحرزنا فيه الظهور التصديقي وجداناً أو بأصلٍ عقلائي آخر ، والثاني يجري في كلّ موردٍ شكّ فيه في القرينة المتّصلة لاحتمال الغفلة ، ولا يرجع أحد الأصلين إلى الآخر ، خلافاً للشيخ الأنصاري (١) رحمه‌الله حيث أرجع أصالة الظهور إلى أصالة عدم القرينة ، ولصاحب الكفاية (٢) رحمه‌الله حيث أرجع أصالة عدم القرينة إلى أصالة الظهور.

الظهور الذاتيّ والظهور الموضوعي :

الظهور ـ سواء كان تصوّرياً أو تصديقياً ـ تارةً يراد به الظهور في ذهن إنسانٍ معيّن ، وهذا هو الظهور الذاتي ، واخرى يراد به الظهور بموجب علاقات

__________________

(١) فرائد الاصول ١ : ١٣٥.

(٢) كفاية الاصول : ٣٢٩.

٢٠٥

اللغة وأساليب التعبير العام ، وهذا هو الظهور الموضوعي. والأول يتأثّر بالعوامل والظروف الشخصية للذهن التي تختلف من فردٍ إلى آخر تبعاً إلى انسه الذهني وعلاقاته ، بخلاف الثاني الذي له واقع محدَّد يتمثّل في كلّ ذهنٍ يتحرّك بموجب علاقات اللغة وأساليب التعبير العام ، وما هو موضوع الحجِّية الظهور الموضوعي ؛ لأنّ هذه الحجِّية قائمة على أساس أنّ ظاهر حال كلّ متكلِّمٍ إرادة المعنى الظاهر من اللفظ ، ومن الواضح أنّ ظاهر حاله باعتباره إنساناً عرفياً إرادة ما هو المعنى الظاهر موضوعياً لا ماهو الظاهر نتيجةً لملابساتٍ شخصيةٍ في ذهن هذا السامع أو ذاك.

وأمّا الظهور الذاتي ـ وهو ما قد يعبَّر عنه بالتبادر أو الانسباق ـ فيمكن أن يقال بأ نّه أمارة عقلائية على تعيين الظهور الموضوعي ، فكلّ إنسانٍ إذا انسبق إلى ذهنه معنىً مخصوص من كلامٍ ولم يجد بالفحص شيئاً محدّداً شخصياً يمكن أن يفسِّر ذلك الانسباق ، فيعتبر هذا الانسباق دليلاً على الظهور الموضوعي.

وبهذا ينبغي أن يميَّز بين التبادر على مستوى الظهور الذاتي والتبادر على مستوى الظهور الموضوعي.

فالأوّل : كاشف عن الظهور الموضوعي وبالتالي عن الوضع. والثاني :

كاشف إنِّيّ تكوينيّ ـ مع عدم القرينة ـ عن الوضع.

الظهور الموضوعيّ في عصر النصّ :

لا شكّ في أنّ ظواهر اللغة والكلام تتطوّر وتتغيّر على مرِّ الزمن بفعل مؤثِّراتٍ مختلفةٍ لغويةٍ وفكريةٍ واجتماعية. فقد يكون ما هو المعنى الظاهر في عصر صدور الحديث مخالفاً للمعنى الظاهر في عصر السماع الذي يراد العمل فيه بذلك الحديث ، وموضوع حجِّية الظهور في عصر صدور الكلام لا في عصر السماع المغاير له ؛ لأنّها حجِّية عقلائية قائمة على أساس حيثية الكشف والظهور

٢٠٦

الحالي ، ومن الواضح أنّ ظاهر حال المتكلّم إرادة ما هو المعنى الظاهر فعلاً في زمان صدور الكلام منه. وعليه فنحن بالتبادر نثبت ـ بطريق الإنِّ ـ الظهور الذاتي ، وبالظهور الذاتي نثبت الظهور الموضوعي في عصر السماع.

ويبقى علينا أن نثبت أنّ الظهور الموضوعي في عصر السماع مطابق للظهور الموضوعي في عصر الكلام الذي هو موضوع الحجِّية ، وهذا ما نثبته بأصلٍ عقلائيٍّ يطلق عليه «أصالة عدم النقل» وقد نسمّيه بأصالة الثبات في اللغة ، وهذا الأصل العقلائي يقوم على أساس ما يخيَّل لأبناء العرف ـ نتيجةً للتجارب الشخصية ـ من استقرار اللغة وثباتها ، فإنّ الثبات النسبي والتطور البطيء للّغة يوحي للأفراد الاعتياديين بفكرة عدم تغيِّرها وتطابق ظواهرها على مرّ الزمن ، وهذا الإيحاء وإن كان خادعاً ، ولكنّه على أيّ حالٍ إيحاء عام استقرّ بموجبه البناء العقلائي على إلغاء احتمال التغيير في الظهور باعتباره حالةً استثنائيةً نادرةً تنفى بالأصل.

وبإمضاء الشارع للبناء المذكور نثبت شرعية أصالة عدم النقل ، أو أصالة الثبات. ولا يعني الإمضاء تصويب الشارع للإيحاء المذكور ، وإنمّا يعني من الناحية التشريعية جعله احتمال التطابق حجّةً مالم يقم دليل على خلافه.

ولا شكّ أيضاً في أنّ المتشرِّعة الذين عاصروا المعصومين خلال أجيالٍ عديدةٍ طيلة قرنين ونصفٍ من الزمان كانت سيرتهم على العمل بأصالة عدم النقل ، وعلى الاستناد في أواسط هذه الفترة وأواخرها إلى ما يرونه من ظواهر الكلام الصادر في بدايات تلك الفترة ، مع أنّها كانت فترةً حافلةً بمختلف المؤثِّرات والتجديدات الاجتماعية والفكرية التي قد يتغيَّر الظهور بموجبها.

ولكنّ أصالة عدم النقل لا تجري فيما إذا عُلِم بأصل التغيّر في الظهور أو الوضع وشكّ في تأريخه ؛ لعدم انعقاد البناء العقلائي في هذه الحالة على افتراض

٢٠٧

عدم النقل في الفترة المشكوكة.

والسرّ في ذلك : أنّ البناءات العقلائية إنّما تقوم على أساس حيثيات كشفٍ عامةٍ نوعية ، فحينما يلغى احتمال النقل عرفاً يستند العقلاء في تبرير ذلك إلى أنّ النقل حالة استثنائية في حياة اللغة بحسب نظرهم ، وأمّا حيث تثبت هذه الحالة الاستثنائية فلا تبقى حيثية كشفٍ مبرّرةٍ للبناء على نفي احتمال تقدمها.

بل لا يخلو التمسّك بأصالة عدم النقل من إشكالٍ في الموارد التي علم فيها بوجود ظروفٍ معيّنة بالإمكان أن تكون سبباً في تغيّر مدلول الكلمة ، وإنّما المتيقّن منها عقلائياً حالات الاحتمال الساذج للتغيّر والنقل.

التفصيلات في الحجّية :

توجد عدّة أقوالٍ تتّجه إلى التفصيل في حجِّية الظهور ، وقد أشرنا إلى أحدها في الحلقة السابقة (١) ، ونذكر في مايلي اثنين من تلك الأقوال :

القول الأوّل : التفصيل بين المقصود بالإفهام وغيره (٢). فالمقصود بالافهام يعتبر الظهور حجّةً بالنسبة إليه ؛ لأنّ احتمال القرينة المتصلة على الخلاف بالنسبة إليه لا موجب له ـ مع عدم إحساسه بها ـ إلاّ احتمال غفلته عنها ، فينفى ذلك بأصالة عدم الغفلة باعتبارها أصلاً عقلائياً ، وأمّا غيره فاحتماله للقرينة لا ينحصر منشؤه بذلك ، بل له منشأ آخر ، وهو احتمال اعتماد المتكلّم على قرينةٍ تمَّ التواطؤ عليها بصورةٍ خاصّةٍ بينه وبين المقصود بالإفهام خاصّة ، وهذا الاحتمال لا تجدي

__________________

(١) في بحث إثبات حجّية الدلالة في الدليل الشرعي اللفظي ، تحت عنوان : ظواهر الكتاب الكريم.

(٢) يظهر هذا القول من المحقّق القمّي في القوانين ١ : ٣٩٨ ـ ٤٠٣ ، و ٢ : ١٠٣.

٢٠٨

أصالة عدم الغفلة لنفيه ، فلا يكون الظهور حجّةً في حقّه.

وقد اعترض على ذلك جملة من المحقّقين (١) : بأنّ أصالة عدم القرينة أصل عقلائي برأسه يجري لنفي احتمال القرينة في الحالة المذكورة ، وليس مردّها إلى أصالة عدم الغفلة ليتعذّر إجراؤها في حقّ غير المقصود بالإفهام الذي يحتمل تواطؤ المتكلّم مع من يقصد إفهامه على القرينة.

والتحقيق أنّ هذا المقدار من البيان لا يكفي ؛ لأنّ الأصل العقلائي لابدّ أن يستند إلى حيثية كشفٍ نوعية ، لئلاّ يكون أصلاً تعبّدياً على خلاف المرتكزات العقلائية ، [وهذه الحيثيّة] متوفّرة لنفي احتمال القرينة المتصلة الناشئ من احتمال غفلة السامع عنها. فإذا اريد نفي احتمال القرينة المتصلة الناشئ من سائر المناشئ أيضاً بأصلٍ عقلائيٍّ فلابدّ من إبراز حيثية كشف نوعيةٍ تنفي ذلك ، وعلى هذا الأساس ينبغي أن نفتِّش عن مناشئ احتمال إرادة خلاف الظاهر عموماً ، وملاحظة مدى إمكان نفي كلّ واحدٍ منها بحيثية كشفٍ نوعيةٍ مصحِّحةٍ لإجراء أصلٍ عقلائيٍّ مقتض لذلك.

ومن هنا نقول : إنّ شكّ الشخص غير المقصود بالإفهام في إرادة المتكلِّم للمعنى الظاهر ينشأ من أحد امور :

الأول : احتمال كون المتكلِّم متستِّراً بمقصوده وغير مريدٍ لتفهيمه بكلامه.

الثاني : احتمال كونه معتمداً على قرينةٍ منفصلة.

الثالث : احتمال كونه معتمداً على قرينةٍ متصلةٍ غفل عنها السامع.

الرابع : احتمال كونه معتمداً على قرينةٍ ذات دلالةٍ خاصّةٍ متَّفقٍ عليها بين المتكلم وشخص آخر ، كان نظر المتكلّم إليه.

__________________

(١) كالمحقّق النائيني في فوائد الاصول ٣ : ١٣٩ ، والسيّد الخوئي في مصباح الاصول ٢ : ١٢٠.

٢٠٩

الخامس : احتمال وجود قرينةٍ متّصلةٍ التفت اليها السامع ولكنّه لم ينقلها إلينا ؛ ولو من أجل أنّها كانت متمثّلةً في لحن الخطاب ، أو قسمات وجه المتكلّم ، ونحو ذلك مما لا يعتبر لفظاً.

والفرق بين المقصود بالإفهام وغيره : أنّ المقصود بالإفهام لا يوجد الاحتمال الأول بشأنه ، وكذلك الاحتمال الرابع ، كما أنّ الاحتمال الخامس غير موجودٍ في شأن السامع المحيط بالمشهد ، سواء كان مقصوداً بالإفهام ، أوْ لا.

وحجِّية الظهور في حقّ غير السامع ممّن لم يقصد إفهامه تتوقّف على وجود حيثيات كشفٍ مبرِّرةٍ عقلائيةٍ لإلغاء الاحتمالات الخمسة بشأنه ، وهي موجودة فعلاً بالبيان التالي :

أمّا الاحتمال الأول فينفى بظهور حال المتكلّم في كونه في مقام تفهيم مراده بكلامه.

وأمّا الاحتمال الثاني فينفى بظهور حاله في أنّ ما يقوله يريده ، أي أنّه في مقام تفهيم مراده بشخص كلامه.

وأمّا الاحتمال الثالث فينفى بأصالة عدم الغفلة.

وأمّا الاحتمال الرابع ـ وهو ما أبرزه المفصِّل ـ فينفى بظهور حال المتكلِّم العرفي في استعمال الأدوات العرفية للتفهيم ، والجري وفق أساليب التعبير العام.

وأمّا الاحتمال الخامس فينفى بشهادة الناقل ـ ولو ضمناً ـ بعدم حذف ما لَه دخل من القرائن الخاصّة في فهم المراد.

القول الثاني (١) : وتوضيحه أنّ ظهور الكلام يقتضي بطبعه حصول الظنّ

__________________

(١) حكى الشيخ الأنصاري هذا القول عن لسان بعض متأخّري المتأخّرين من معاصريه ، انظر فرائد الاصول ١ : ١٧٠.

٢١٠

ـ على الأقلِّ ـ بأنّ مراد المتكلِّم هو المعنى الظاهر ؛ لأنّه أمارة ظنّية كاشفة عن ذلك ، فاذا لم تحصل أمارة ظنّية على خلاف ذلك أثّر الظهور فيما يقتضيه ، وحصل الظنّ الفعلي بالمراد. وإذا حصلت أمارة ظنّية على الخلاف وقع التزاحم بين الأمارتين ، فقد لايحصل حينئذٍ ظنّ فعليّ بإرادة المعنى الظاهر ، بل قد يحصل الظنّ على خلاف الظهور تأثّراً بالأمارة الظنّية المزاحمة.

وعلى هذا فقد يستثنى من حجِّية الظهور حالة الظنّ الفعلي بعدم إرادة المعنى الظاهر ، بل قد يقال بأنّ حجِّية الظهور أساساً مختصّة بصورة حصول الظنّ الفعلي على وفق الظهور.

ويمكن تبرير هذا القول : بأنّ حجِّية الظهور ليست حكماً تعبّدياً ، وإنمّا هي على أساس كاشفية الظهور ، فلا معنى لثبوتها في فرض عدم تأثير الظهور في الكشف الظنّي الفعلي على وفقه.

وقد اعترض الأعلام (١) على هذا التفصيل : بأنّ مدرك الحجِّية بناء العقلاء ، والعقلاء لا يفرِّقون بين حالات الظنّ بالوفاق وغيرها ، بل يعملون بالظهور فيها جميعاً ، وهذا يكشف عن الحجِّية المطلقة.

وهذا الاعتراض من الأعلام قد يبدو غير صحيحٍ بمراجعة حال الناس ، فإنّا نجد أنّ التاجر لا يعمل بظهور كلام تاجرٍ آخر في تحديد الأسعار ، إذا ظنّ بأ نّه لا يريد ما هو ظاهر كلامه ، وأنّ المشتري لا يعتمد على ظهور كلام البائع في تحديد وزن السلعة إذا ظنّ بأ نّه يريد غير ما هو ظاهر كلامه ، وهكذا.

ومن هنا عمَّق المحقّق النائيني (٢) رحمه‌الله اعتراض الأعلام ، إذ ميّز بين العمل

__________________

(١) كالشيخ الأنصاري في فرائد الاصول ١ : ١٦٩ ، والمحقّق الخراساني في كفايةالاصول : ٣٢٤.

(٢) فوائد الاصول ٣ : ١٤٥ ـ ١٤٦.

٢١١

بالظهور في مجال الأغراض التكوينية الشخصية ، والعمل به في مجال الامتثال وتنظيم علاقات الآمرين بالمأمورين.

ففي المجال الأول لا يكتفى بالظهور لمجرّد اقتضائه النوعي ، ما لم يؤثّر هذا الاقتضاء في درجة معتدٍّ بها من الكشف الفعلي. وفي المجال الثاني يكتفى بالكشف النوعي الاقتضائي للظهور تنجيزاً وتعذيراً ، ولو لم يحصل ظنّ فعلي بالوفاق ، أو حصل ظنّ فعلي بالخلاف.

والأمثلة المشار إليها تدخل في المجال الأول لا الثاني.

وهذا الكلام وإن كان صحيحاً وتعميقاً لاعتراض الأعلام ، ولكنّه لا يبرز نكتة الفرق بين المجالين ، ولايحلّ الشبهة التي يستند إليها التفصيل على النحو الذي شرحناه آنفاً.

فالتحقيق الذي يفي بذلك أن يقال : إنّ ملاك حجِّية الظهور هو كشفه ، ولكن لا كشفه عند المكلف ، بل كشفه في نظر المولى ، بمعنى أنّ المولى حينما يلحظ ظواهر كلامه : فتارةً يلحظها بنظرةٍ تفصيلية ، فيستطيع بذلك أن يميِّز بصورةٍ جازمةٍ ما اريد به ظاهره عن غيره ؛ لأنّه الأعرف بمراده. واخرى يلحظها بنظرةٍ إجمالية ، فيرى أنّ الغالب هو إرادة المعنى الظاهر ، وذلك يجعل الغلبة كاشفاً ظنّياً عند المولى عن إرادة المعنى الظاهر بالنسبة إلى كلّ كلامٍ صادرٍ منه حينما يلحظه بنحو الإجمال ، وهذا الكشف هو ملاك الحجِّية ؛ لوضوح أنّ حجّية الأمارة حكم ظاهريّ وارد لحفظ الأغراض الواقعية الأكثر أهمّية ، وهذه الأهميّة قد اكتسبتها الأغراض الواقعية التي تحفظها الأمارة المعتبرة بلحاظ قوة الاحتمال ، كما تقدم في محلّه (١).

__________________

(١) ضمن أبحاث التمهيد في هذه الحلقة ، عند البحث عن الحكم الشرعي وتقسيماته ، تحت عنوان : الأمارات والاصول.

٢١٢

ومن الواضح أنّ قوة الاحتمال المؤثِّرة في اهتمام المولى إنّما هي قوة احتماله ، لا قوة احتمال المكلف ، فمن هنا تُناط الحجّية بحيثية الكشف الملحوظة للمولى ـ وهي الظهور ـ لا بالظنّ الفعلي لدى المكلف.

وعلى هذا الأساس اختلف مجال الأغراض التكوينية عن مجال علاقات الآمرين بالمأمورين ، إذ المناط في المجال الأول كاشفية الظهور لدى نفس العامل به ، فقد يكون منوطاً بحصول الظنّ له ، والمناط في المجال الثاني مقدار كشفه لدى الآمر الموجب لشدّة اهتمامه الداعية إلى جعل الحجِّية.

الخلط بين الظهور والحجّية :

اتّضح ممّا تقدم أنّ مرتبة الظهور التصوري متقوّمة بالوضع ، ومرتبة الظهور التصديقي بلحاظ الدلالة التصديقية الاولى والدلالة التصديقية الثانية متقوّمة بعدم القرينة المتصلة ؛ لأنّ ظاهر حال المتكلّم أنّه يفيد مراده بشخص كلامه ، فاذا كانت القرينة متصلةً دخلت في شخص الكلام ولم يكن إرادة ما تقتضيه منافياً للظهور الحالي. وأمّا عدم القرينة المنفصلة فلا دخل له في أصل الظهور ، وليس مقوِّماً له ، وإنّما هو شرط في استمرار الحجّية بالنسبة إليه.

ومن هنا يتّضح وجه الخلط في كلمات جملةٍ من الأكابر الموهِمة ؛ لوجود ثلاث رتبٍ من الظهور كلّها سابقة على الحجّية ، ككلام المحقّق النائيني (١) رحمه‌الله.

الاولى : مرتبة الظهور التصوري.

الثانية : مرتبة الظهور التصديقي على نحوٍ يسوِّغ لنا التأكيد على أنّه قال كذا وفقاً لهذا الظهور.

__________________

(١) أجود التقريرات ١ : ٥٢٩ ـ ٥٣٠.

٢١٣

الثالثة : مرتبة الظهور التصديقي الكاشف عن مراده الواقعي على نحوٍ يسوِّغ لنا التأكيد على أنّه أراد كذا وفقاً لهذه المرتبة من الظهور.

والاولى لا تتقوَّم بعدم القرينة ، والثانية تتقوّم بعدم القرينة المتصلة ، والثالثة تتقوَّم بعدم القرينة مطلقاً ولو منفصلة. والحجّية حكم مترتّب على المرتبة الثالثة من الظهور ، فمتى وردت القرينة المنفصلة ـ فضلاً عن المتصلة ـ هدمت المرتبة الثالثة من الظهور ، ورفعت بذلك موضوع الحجّية.

وهذا الكلام لا يمكن قبوله بظاهره ، فإنّه وإن كان على حقٍّ في جعل الظهور التصديقي موضوعاً للحجّية ـ كما تقدم (١) ـ غير أنّ الظهور التصديقي للكلام في إرادة المعنى الحقيقي استعمالاً جدّياً ليس متقوّماً بعدم القرينة المنفصلة ، بل بعدم القرينة المتصلة فقط ؛ لأنّ هذا الظهور منشؤه ظهور حال المتكلِّم في التطابق بين المدلول التصوري لكلامه والمدلول التصديقي [الأوّل] ، والتطابق بين المدلول التصديقي الأول والمدلول التصديقي الثاني. والمنظور في هذين التطابقين شخص الكلام بكلّ ما يتضمّنه من خصوصيات ، فإذا اكتمل شخص الكلام وتحدّد مدلوله التصوري والمعنى المستعمل فيه ، تنجّز ظهور حال المتكلّم في أنّ ما قاله وما استعمل فيه اللفظ هو المراد جدّاً ، ومجيء القرينة المنفصلة تكذيب لهذا الظهور الحالي ، لا أنّه يعني نفيه موضوعاً.

ولهذا كان الاعتماد على القرينة المنفصلة خلاف الأصل العقلائي ؛ لأنّ ذلك على خلاف الظهور الحالي. ولو كان الاعتماد عليها وورودها يوجب نفي المرتبة التي هي موضوع الحجية من الظهور لمَا كان ذلك على خلاف الطبع ، ولكان حاله حال الاعتماد على القرائن المتصلة التي تمنع عن انعقاد الظهور التصديقي على

__________________

(١) في بحث حجّية الظهور من هذه الحلقة ، تحت عنوان : تشخيص موضوع الحجّية.

٢١٤

طبق المدلول التصوري.

الظهور الحالي :

وكما أنّ الظهور اللفظي حجّة ، كذلك ظهور الحال ، ولو لم يتجسّد في لفظٍ أيضاً ، فكلّما كان للحال مدلول عرفي ينسبق إليه ذهن الملاحظ اجتماعياً أخذ به. غير أنّ إثبات الحجّية لهذه الظواهر غير اللفظية لا يمكن أن يكون بسيرة المتشرّعة وقيامها فعلاً في عصر المعصومين على العمل في مقام استنباط الأحكام بظواهر الأفعال والأحوال غير اللفظية ؛ لأنّ طريق إثبات قيامها في الظواهر اللفظية قد لا يمكن تطبيقه في المقام ؛ لعدم شيوع ووفرة هذه الظواهر الحاليّة المجرّدة عن الألفاظ لتنتزع السيرة من الحالات المتعدّدة.

كما لا يمكن أن يكون إثبات الحجّية لها بالأدلة اللفظية الآمرة بالتمسّك بالكتاب وأحاديث النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والأئمّة عليهم‌السلام ، كما هو واضح ؛ لعدم كونها كتاباً ولا حديثاً ، وإنّما الدليل هو السيرة العقلائية على أن لا يدخل في إثبات إمضائها التمسّك بظهور حال المولى وسكوته في التقرير والإمضاء ؛ لأنّ الكلام في حجّية هذا الظهور.

الظهور التضمّني :

إذا كان للكلام ظهور في مطلبٍ فظهوره في ذلك المطلب بكامله ظهور استقلالي ، وله ظهور ضمنيّ في كلّ جزءٍ من أجزاء ذلك المطلب.

ومثال ذلك : أداة العموم في قولنا : «أكِرم كلّ مَن في البيت» ، ونفرض أنّ في البيت مائة شخص ، فلأداة العموم ظهور في الشمول للمائة باعتبار دلالتها على الاستيعاب ، ولها ظهور ضمني في الشمول لكلّ واحدٍ من وحدات هذه المائة ،

٢١٥

ولا شكّ في حجّية كلّ ظواهرها الضمنية.

ولكن إذا ورد مخصِّص منفصل دلّ على عدم وجوب بعض أفراد العام ، ولنفرض أنّ هذا البعض يشمل عشرةً من المائة ، فهذا يعني أنّ بعض الظواهر الضمنية سوف تسقط عن الحجّية ؛ لمجيء المخصِّص. والسؤال هنا هو : أنّ الظواهر الضمنية الاخرى التي تشمل التسعين الباقين هل تبقى على الحجية ، أوْ لا؟

فإن قيل بالأول كان معناه أنّ الظهور التضمّني غير تابعٍ للظهور الاستقلالي في الحجّية ، وإن قيل بالثاني كان معناه التبعية ، كما تكون الدلالة الالتزامية تابعةً للدلالة المطابقية في الحجّية.

والأثر العملي بين القولين : أنّه على الأول نتمسّك بالعام لإثبات الحكم لتمام من لم يشملهم التخصيص ، وعلى الثاني تسقط حجّية الظواهر التضمّنية جميعاً ، ولا يبقى دليل حينئذٍ على أنّ الحكم هل يشمل تمام الباقي ، أوْ لا؟

وقد ذهب بعض الاصوليّين (١) إلى سقوط الظواهر والدلالات التضمّنية جميعاً عن الحجّية ؛ وذلك لأنّ ظهور الكلام في الشمول لكلّ واحدٍ من المائة في المثال المذكور إنّما هو باعتبار نكتةٍ واحدة ، وهي الظهور التصديقي لأداة العموم في أنّها مستعملة في معناها الحقيقي وهو الاستيعاب ، وبعد أن علمنا أنّ الأداة لم تستعمل في الاستيعاب بدليل ورود المخصِّص وإخراج عشرةٍ من المائة نستكشف أنّ المتكلِّم خالف ظهور حاله واستعمل اللفظ في المعنى المجازي.

وبهذا تسقط كلّ الظواهر الضمنية عن الحجّية ؛ لأنّها كانت تعتمد على هذا الظهور الحالي الذي علم بطلانه ، وفي هذه الحالة يتساوى افتراض أن تكون

__________________

(١) ذهب إلى ذلك جماعة من العامّة منهم البلخي ، راجع مطارح الأنظار : ١٩٢.

٢١٦

الأداة في المثال مستعملةً في التسعين أو في تسعةٍ وثمانين ؛ لأنّ كلاًّ منهما مجاز ، وأيّ فرقٍ بين مجازٍ ومجاز؟

وقد أجاب على ذلك جملة من المحقّقين ، كصاحب الكفاية (١) رحمه‌الله : بأنّ المخصِّص المنفصل لا يكشف عن مخالفة المتكلِّم لظهور حاله في استعمال الأداة في معناها الحقيقي ، وإنّما يكشف فقط عن عدم تعلّق إرادته الجدّية بإكرام الأفراد الذين تناولهم المخصّص ، فبالإمكان الحفاظ على هذا الظهور ، وهو ما كنّا نسمّيه بالظهور التصديقي الأول فيما تقدم (٢) ، ونتصرّف في الظهور التصديقي الثاني ، وهو ظهور حال المتكلّم في أنّ كلّ ما قاله وأبرزه باللفظ مراد له جدّاً ، فإنّ هذا الظهور لو خلِّي وطبعه يثبت أنّ كلّ ما يدخل في نطاق المعنى المستعمل فيه فهو مراد جدّاً. غير أنّ المخصّص يكشف عن أنّ بعض الأفراد ليسوا كذلك ، فكلّ فردٍ كشف المخصّص عن عدم شمول الإرادة الجدّية له نرفع اليد عن الظهور التصديقي الثاني بالنسبة إليه ، وكلّ فردٍ لم يكشف المخصّص عن ذلك فيه نتمسّك بالظهور التصديقي الثاني لإثبات حكم العام له.

وفي بادئ الأمر قد يخطر في ذهن الملاحظ أنّ هذا الجواب ليس صحيحاً ؛ لأ نّه لم يصنع شيئاً سوى أنّه نقل التبعيض في الحجّية من مرحلة الظهور التصديقي الأول إلى مرحلة الظهور التصديقي الثاني. فاذا كان الظهور التضمّني غير تابعٍ للظهور الاستقلالي في الحجّية فلماذا لا نعمل على التبعيض في مرحلة الظهور التصديقي الأول؟ وإذا كان تابعاً له كذلك فكيف نعمله في مرحلة الظهور التصديقي الثاني ونلتزم بحجّية بعض متضمّناته دون بعض؟

وردُّنا على هذه الملاحظة : أنّ فذلكة الجواب ونكتة نقل التبعيض من

__________________

(١) كفاية الاصول : ٢٥٦.

(٢) الحلقة الثانية ، تحديد دلالات الدليل الشرعي اللفظي ، التطابق بين الدلالات.

٢١٧

مرحلةٍ إلى مرحلةٍ هي : أنّ الظواهر الضمنيّة في مرحلة الظهور التصديقي الأول مترابطة ولها نكتة واحدة ، فإن ثبت بطلان تلك النكتة لم يسلم شيء من تلك الظواهر الضمنيّة.

والنكتة هي : ظهور حال المتكلِّم في أنّه يستعمل اللفظ استعمالاً حقيقياً ، فإنّ هذا هو الذي يجعلنا نستظهر أنّ هذا الفرد من المائة داخل في نطاق الاستعمال وذاك داخل ، وهكذا. فاذا علمنا بأنّ اللفظ قد استعمل مجازاً ، وأنّ المتكلِّم قد خالف ظهوره الحالي المذكور فلا موجب بعد ذلك لافتراض أنّ هذا الفرد أو ذاك داخل في نطاق الاستعمال.

وهذا خلافاً للظواهر الضمنية في مرحلة الظهور التصديقي الثاني ، فإنّ نكتة كلّ واحدةٍ منها مستقلّة عن نكتة الباقي ، فإنّ كلّ جزءٍ من أجزاء مدلول الكلام ـ أي المعنى المستعمل فيه ـ ظاهر في الجدّية ، فاذا علمنا ببطلان هذا الظهور في بعض أجزاء الكلام فلا يسوِّغ ذلك رفع اليد عن ظهور الأجزاء الاخرى من مدلول الكلام في الجدّية ، وهكذا يثبت أنّ العام حجّة في الباقي.

ومن الجدير بالذكر الإشارة إلى أنّ الاستشكال في حجّية العام في تمام الباقي بعد التخصيص ـ على النحو المتقدم ـ إنّما اثير في المخصّصات المنفصلة دون المتصلة ؛ نظراً إلى أنّه في حالات المخصّص المتصل ـ كما في «أكرم كلّ مَن في البيت إلاّالعشرة» ـ تكون الأداة مستعملةً في استيعاب أفراد مدخولها حقيقةً ، غير أنّ المخصّص المتصل يساهم في تعيين هذا المدخول وتحديده ، فلا تجوّز ليقال أيّ فرقٍ بين مجازٍ ومجاز؟

وعلى أيّ حالٍ فبالنسبة إلى الصيغة الأساسية للمسألة المطروحة ، وهي حجّية الظهور التضمّني ، اتّضح أنّ الظواهر التضمّنية إذا كانت جميعاً بنكتةٍ واحدةٍ وعُلِم ببطلان تلك النكتة سقطت عن الحجّية كلّها ، وإذا كانت استقلاليةً في نكاتها لم يسقط بعضها عن الحجّية بسبب سقوط البعض الآخر.

٢١٨

٢ ـ الأدلّة المحرزة

الدليل العقلي

تمهيد.

إثبات القضايا العقليّة.

حجّية الدليل العقلي.

٢١٩
٢٢٠