دروس في علم الأصول - ج ٢

آية الله السيّد محمّد باقر الصدر

دروس في علم الأصول - ج ٢

المؤلف:

آية الله السيّد محمّد باقر الصدر


المحقق: لجنة التحقيق التابعة للمؤتمر العالمي للإمام الشهيد الصدر
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مركز الأبحاث والدراسات التخصصية للشهيد الصدر
الطبعة: ١
الصفحات: ٦٠٨
الجزء ١ الجزء ٢

بالخصوص لذلك.

وإمّا أن يدّعى أنّها تدلّ على معنىً واحدٍ في موارد دخولها على المفرد وعلى الجمع ، وهو التعيّن في المدخول ؛ على ما تقدّم في معنى اللام الداخلة على اسم الجنس في الحلقة السابقة (١).

فاذا كان مدخولها اسم الجنس كفى في التعيّن المدلول عليه باللام تعيّن الجنس الذي هو نحو تعيّنٍ ذهنيٍّ للطبيعة ، كما تقدّم (٢) في محلّه.

وإذا كان مدخولها الجمع فلابدّ من فرض التعيّن في الجمع ، ولا يكفي التعيّن الذهنيّ للطبيعة المدلولة لمادّة الجمع. وتعيّن الجمع بما هو جمع إنّما يكون بتحدّد الأفراد الداخلة فيه ، وهذا التحدّد لا يحصل إلاّمع إرادة المرتبة الأخيرة من الجمع المساوقة للعموم ؛ لأنّ أيَّ مرتبةٍ اخرى لا يتميَّز فيها ـ من ناحية اللفظ ـ الفرد الداخل عن الخارج.

النكرة في سياق النهي أو النفي :

ذكر بعض (٣) : أنّ وقوع النكرة في سياق النهي أو النفي من أدوات العموم.

وأكبر الظنّ أنّ الباعث على هذه الدعوى أنّ النكرة ـ كما تقدّم في حالات اسم الجنس من الحلقة السابقة (٤) ـ يمتنع إثبات الإطلاق الشموليّ لها بقرينة الحكمة ؛ لأنّ مفهومها يأبى عن ذلك ، بينما نجد أنّنا نستفيد الشمولية في حالات وقوع

__________________

(١) في بحث الإطلاق ، تحت عنوان : الحالات المختلفة لاسم الجنس.

(٢) الحلقة الثانية ، في نفس البحث وتحت نفس العنوان.

(٣) كالمحقّق الخراساني في كفاية الاصول : ٢٥٤.

(٤) في بحث الإطلاق ، تحت عنوان : الحالات المختلفة لاسم الجنس.

١٢١

النكرة في سياق النهي أو النفي ، فلابدّ أن يكون الدالّ على هذه الشمولية شيئاً غير إطلاق النكرة نفسها ، فمن هنا يُدّعى أنّ السياق ـ أي وقوع النكرة متعلّقاً للنهي أو النفي ـ من أدوات العموم ليكون هو الدالّ على هذه الشمولية.

ولكنّ التحقيق : أنّ هذه الشمولية سواء كانت على نحو شمولية العامّ أو على نحو شمولية المطلق بحاجةٍ إلى افتراض مفهومٍ اسميٍّ قابلٍ للاستيعاب والشمول لأفراده بصورةٍ عرضية لكي يدلّ السياق حينئذٍ على استيعابه لأفراده ، والنكرة لا تقبل الاستيعاب العرضي ، كما تقدم ، فمن أين يأتي المفهوم الصالح لهذا الاستيعاب لكي يدلّ السياق على عمومه وشموله؟

ومن هنا نحتاج إذن إلى تفسيرٍ للشمولية التي نفهمها من النكرة الواقعة في سياق النهي والنفي ، ويمكن أن يكون ذلك بأحد الوجهين التاليَين :

الأول : أن يُدّعى كون السياق قرينةً على إخراج الكلمة عن كونها نكرة ، فيكون دور السياق إثبات ما يصلح للإطلاق الشمولي. وأمّا الشمولية فتثبت بإجراء قرينة الحكمة في تلك الكلمة بدون حاجةٍ إلى افتراض دلالة السياق نفسه على الشمولية والعموم.

الثاني : ما ذكره صاحب الكفاية (١) رحمه‌الله من أنّ الشمولية ليست مدلولاً لفظياً ، وإنّما هي بدلالةٍ عقلية ؛ لأنّ النهي يستدعي إعدام متعلَّقه ، والنكرة لا تنعدم ما دام هناك فرد واحد.

غير أنّ هذه الدلالة العقلية إنّما تُعيِّن طريقة امتثال النهي ، وأنّ امتثاله لا يتحقّق إلاّبترك جميع أفراد الطبيعة ، ولا تثبت الشمولية ـ بمعنى تعدّد الحكم والتحريم ـ بعدد تلك الأفراد ، كما هو واضح.

__________________

(١) كفاية الاصول : ٢٥٤.

١٢٢

المفاهيم

تعريف المفهوم :

لا شكّ في أنّ المفهوم مدلول التزاميّ للكلام ، ولا شكّ أيضاً في أنّه ليس كلّ مدلولٍ التزاميٍّ يعتبر مفهوماً بالمصطلح الاصولي.

ومن هنا احتجنا إلى تعريفٍ يميِّز المفهوم عن بقية المدلولات الالتزامية.

وقد ذكر المحقّق النائيني رحمه‌الله بهذا الصدد : أنّ المفهوم هو اللازم البيِّن مطلقاً ، أو اللازم البيِّن بالمعنى الأخصّ في مصطلح المناطقة (١).

ونلاحظ على ذلك : أنّ بعض الأدلّة التي تُساق لإثبات مفهوم الشرط ـ مثلاً ـ تثبت المفهوم كلازمٍ عقليٍّ بحتٍ دون أن يكون مبيّناً ، على ما يأتي (٢) إن شاء الله تعالى.

فالأولى أن يقال : إنّ المدلول الالتزاميّ : تارةً يكون متفرِّعاً على خصوصيّة الموضوع في القضية المدلولة للكلام بالمطابقة على نحوٍ يزول باستبداله بموضوعٍ آخر.

واخرى يكون متفرِّعاً على خصوصية المحمول بهذا النحو.

وثالثةً يكون متفرّعاً على خصوصية الربط القائم بين طرفي القضية ؛ على نحوٍ يكون محفوظاً ولو تبدّل كلا الطرفين.

فقولنا : (إذا زارك ابن كريم وجب احترامه) يدلّ التزاماً على وجوب

__________________

(١) راجع فوائد الاصول ١ : ٤٧٧ ، وأجود التقريرات ١ : ٤١٤.

(٢) في بحث مفهوم الشرط.

١٢٣

احترام الكريم نفسه عند زيارته ، وعلى وجوب تهيئة المقدّمات التي يتوقّف عليها احترام الابن الزائر ، وعلى أنّه لا يجب الاحترام المذكور في حالة عدم الزيارة.

والمدلول الأول مرتبط بالموضوع ، فلو بدّلنا ابن الكريم باليتيم ـ مثلاً ـ لم يكن له هذا المدلول.

والمدلول الثاني مرتبط بالمحمول وهو الوجوب ، فلو بدّلناه بالإباحة لم يكن له هذا المدلول.

والمدلول الثالث متفرّع على الربط الخاصّ بين الجزاء والشرط ، ومهما غيّرنا من الشرط والجزاء يظلّ المدلول الثالث بروحه ثابتاً معبِّراً عن انتفاء الجزاء بانتفاء الشرط ، وإن كان التغيير ينعكس عليه ، فيغيّر من مفرداته تبعاً لِمَا يحدث في المنطوق من تغيّرٍ في المفردات.

وهذا هو المفهوم ، لكن على أن يتضمّن انتفاء طبيعيّ الحكم ، لا شخص الحكم المدلول عليه بالخطاب ؛ تمييزاً للمفهوم عن قاعدة احترازيّة القيود التي تقتضي انتفاء شخص الحكم بانتفاء القيد.

ضابط المفهوم :

ونريد الآن أن نعرف الربط المخصوص الذي يؤخذ في المنطوق ويكون منتجاً للمفهوم. وتوضيح ذلك : أنّا إذا أخذنا الجملة الشرطية كمثالٍ للقضايا التي يبحث عن ضابط ثبوت المفهوم لها ، نجد أنّ لها مدلولاً تصوّرياً ومدلولاً تصديقياً.

وحينما نفترض المفهوم للجملة الشرطية : تارةً نفترضه على مستوى مدلولها التصوّري ، بمعنى أنّ الضابط الذي به يثبت المفهوم يكون داخلاً في المدلول التصوّريّ للجملة. واخرى نفترضه على مستوى مدلولها التصديقي ، بمعنى أنّ الضابط الذي به يثبت المفهوم لا يكون مدلولاً عليه بدلالةٍ تصوّرية ، بل

١٢٤

بدلالةٍ تصديقية.

أمّا الضابط لإفادة المفهوم في مرحلة المدلول التصوريّ فهو أن يكون الربط المدلول عليه بالأداة أو الهيئة في هذه المرحلة من النوع الذي يستلزم الانتفاء عند الانتفاء ؛ لأنّ ربط قضيةٍ أو حادثةٍ بقضيةٍ أو حادثةٍ اخرى إذا أردنا أن نعبِّر عنه بمعنىً اسميٍّ وجدنا بالإمكان التعبير عنه بشكلين :

فنقول تارةً : زيارة شخصٍ للإنسان تستلزم أو توجد وجوب إكرامه.

ونقول اخرى : إنّ وجوب إكرام شخصٍ يتوقّف على زيارته ، أو هو معلَّق على فرض الزيارة وملتصق بها.

ففي القول الأول استعملنا معنى الاستلزام ، وفي القول الثاني استعملنا معنى التوقّف والتعليق والالتصاق. والمعنى الأوّل لا يدلّ التزاماً على الانتفاء عند الانتفاء ، والثاني يدلّ عليه.

فلكي تكون الجملة الشرطية ـ مثلاً ـ مشتملةً في مرحلة المدلول التصوري على ضابط إفادة المفهوم لابدّ أن تكون دالّةً على ربط الجزاء بالشرط بما هو معنىً حرفيّ موازٍ للمعنى الاسميّ للتوقّف والالتصاق ، لا على الربط بما هو معنىً حرفيّ موازٍ للمعنى الاسميّ لاستلزام الشرط للجزاء.

ولابدّ ـ إضافةً إلى ذلك ـ أن يكون المرتبط على نحو التوقّف والالتصاق طبيعيّ الوجوب ، لا وجوباً خاصّاً ، وإلاّ لم يقتضِ التوقّف إلاّانتفاء ذلك الوجوب الخاصّ ، وهذا القدر من الانتفاء يتحقّق بنفس قاعدة احترازية القيود ولو لم نفترض مفهوماً.

وإذا ثبتت دلالة الجملة في مرحلة المدلول التصوري على النسبة التوقّفية والالتصاقية ثبت المفهوم ، ولو لم يثبت كون الشرط علّةً للجزاء أو جزءَ علّةٍ له ، بل ولو لم يثبت اللزوم إطلاقاً وكان التوقّف لمجرّد صدفة.

١٢٥

وأمّا على مستوى المدلول التصديقي للجملة فقد تكشف الجملة في هذه المرحلة عن معنىً يبرهن على أنّ الشرط علّة منحصرة ، أو جزء علّةٍ منحصرةٍ للجزاء ، وبذلك يثبت المفهوم. وهذا من قبيل المحاولة الهادفة لإثبات المفهوم تمسّكاً بالإطلاق الأحواليّ للشرط لإثبات كونه مؤثّراً على أيِّ حال ، سواء سبقه شيء آخر أوْ لا ، ثمّ لاستنتاج انحصار العلّة بالشرط من ذلك ، إذ لو كانت للجزاء علّة اخرى لَما كان الشرط مؤثّراً في حال سبق تلك العلّة ، فإنّ هذا انتزاع للمفهوم من المدلول التصديقي ؛ لأنّ الإطلاق الأحواليّ للشرط مدلول لقرينة الحكمة ، وقد تقدّم سابقاً أنّ قرينة الحكمة ذات مدلولٍ تصديقيٍّ ولا تساهم في تكوين المدلول التصوري.

هذا ما ينبغي أن يقال في تحديد الضابط.

وأمّا المشهور فقد اتّجهوا إلى تحديد الضابط للمفهوم في ركنين ، كما مرّ بنا في الحلقة السابقة (١) :

أحدهما : استفادة اللزوم العلِّيِّ الانحصاري.

والآخر : كون المعلّق مطلق الحكم لا شخصه ، ولا كلام لنا فعلاً في الركن الثاني.

وأمّا الركن الأول فالالتزام بركنيَّته غير صحيح ، إذ يكفي في إثبات المفهوم ـ كما تقدّم ـ دلالة الجملة على الربط بنحو التوقّف ولو كان على سبيل الصدفة.

مورد الخلاف في ضابط المفهوم :

ثمّ إنّ المحقّق العراقيّ (٢) رحمه‌الله ذهب إلى أنّه لا خلاف في أنّ جميع الجمل

__________________

(١) في بحث المفاهيم ، تحت عنوان : ضابط المفهوم.

(٢) مقالات الاصول ١ : ٣٩٦ ـ ٣٩٧ ، ونهاية الأفكار ١ : ٤٧٠ ـ ٤٧٣.

١٢٦

التي تكلّم العلماء عن دلالتها على المفهوم تدلّ على الربط الخاصّ المستدعي للانتفاء عند الانتفاء ، أي على التوقّف ؛ وذلك بدليل أنّ الكلّ متّفقون على انتفاء شخص الحكم بانتفاء القيد شرطاً أو وصفاً ، وإنّما اختلفوا في انتفاء طبيعيّ الحكم ، فلولا اتّفاقهم على أنّ الجملة تدلّ على الربط الخاصّ المذكور لَما تسالموا على انتفاء الحكم ـ ولو شخصاً ـ بانتفاء القيد.

وعلى هذا الأساس فالبحث في إثبات المفهوم في مقابل المنكِرِين له ينحصر في مدى إمكان إثبات أنّ طرف الربط الخاصّ المذكور ليس هو شخص الحكم ، بل طبيعيّه ليكون هذا الربط مستدعياً لانتفاء الطبيعيّ بانتفاء القيد.

وإمكان إثبات ذلك مرهون بإجراء الإطلاق وقرينة الحكمة في مفاد هيئة الجزاء ونحوها ممّا يدلّ على الحكم في القضية.

وهكذا يعود البحث في ثبوت المفهوم لجملة (إذا كان الإنسان عالماً فأكرمه) أو لجملة (أكرم الإنسان العالم) إلى أنّه هل يجري الإطلاق في مفاد (أكرم) في الجملتين لإثبات أنّ المعلّق على الشرط أو الوصف طبيعيّ الحكم ، أوْ لا؟ ونسمّي هذا بمسلك المحقّق العراقيِّ في إثبات المفهوم.

مفهوم الشرط :

ذهب المشهور إلى دلالة الجملة الشرطية على المفهوم ، وقُرِّب ذلك بعدّة وجوه :

الأول : دعوى دلالة الجملة الشرطية بالوضع على أنّ الشرط علّة منحصرة للجزاء ، وذلك بشهادة التبادر.

وعلى الرغم من صحّة هذا التبادر اصطدمت الدعوى المذكورة بملاحظة ، وهي : أنّها تؤدّي إلى افتراض التجوّز عند استعمال الجملة الشرطية في موارد

١٢٧

عدم الانحصار ، وهو خلاف الوجدان ، فكأ نّه يوجد في الحقيقة وجدانان لا بدّ من التوفيق بينهما :

أحدهما : وجدان التبادر المدَّعى في هذا الوجه.

والآخر : وجدان عدم الإحساس بالتجوّز عند استعمال الجملة الشرطية في حالات عدم الانحصار.

الثاني : دعوى دلالة الجملة الشرطية على اللزوم وضعاً ، وعلى كونه لزوماً علّيّاً انحصارياً بالانصراف ؛ لأنّه أكمل أفراد اللزوم.

ولوحظ على ذلك : أنّ الأكمليّة لا توجب الانصراف ، وأنّ الاستلزام في فرض الانحصار ليس بأقوى منه في فرض عدم الانحصار.

الثالث : دعوى دلالة الأداة على الربط اللزوميِّ وضعاً ، ودلالة تفريع الجزاء على الشرط في الكلام على تفرِّعه عنه ثبوتاً ، وكون الشرط علّةً تامّةً له ؛ لأصالة التطابق بين مقام الإثبات والكلام ومقام الثبوت والواقع ، ودلالة الإطلاق الأحواليّ في الشرط على أنّه علّة تامّة بالفعل دائماً ، وهذا يستلزم عدم وجود علّةٍ اخرى للجزاء ، وإلاّ لكانت العلّة في حال اقترانهما المجموع ، لا الشرط بصورةٍ مستقلّة ؛ لاستحالة اجتماع علّتين مستقلَّتين على معلولٍ واحد ، فيصبح الشرط جزءَ العلّة ، وهو خلاف الإطلاق الأحواليّ المذكور.

ويبطل هذا الوجه بالملاحظات التالية :

أولاً : أنّه لا ينفي ـ لو تمّ ـ وجود علّةٍ اخرى للجزاء فيما إذا احتمل كونها مضادّةً بطبيعتها للشرط ، أو دخالة عدم الشرط في علِّيّتها للجزاء ، فإنّ احتمال علّةٍ اخرى من هذا القبيل لا ينافي الإطلاق الأحواليّ للشرط ، إذ ليس من أحوال الشرط حينئذٍ حالة اجتماعه مع تلك العلّة.

ثانياً : أنّ كون الشرط علّةً للجزاء لا يقتضيه مجرّد تفريع الجزاء على

١٢٨

الشرط في الكلام الكاشف عن التفريع الثبوتيّ والواقعي ؛ وذلك لأنّ التفريع الثبوتيّ لا ينحصر في العلّيّة ، بدليل أنّ التفريع بالفاء كما يصحّ بين العلّة والمعلول كذلك بين الجزء والكلّ ، والمتقدّم زماناً والمتأخّر كذلك ، فلا معيِّن لاستفادة العلّية من التفريع.

ثالثاً : إذا سلّمنا استفادة علّية الشرط للجزاء من التفريع نقول : إِنّ كون الشرط علّةً تامّةً للجزاء لا يقتضيه مجرّد تفريع الجزاء على الشرط ؛ لأنّ التفريع يناسب مع كون المفرَّع عليه جزءَ العلّة ، وإِنّما يثبت بالإطلاق ؛ لأنّ مقتضى إطلاق ترتّب الجزاء على الشرط أنّه يترتّب عليه في جميع الحالات ، مع أنّه لو كان الشرط جزءاً من العلّة التامة لاختصّ ترتّب الجزاء على الشرط بحالة وجود الجزء الآخر ، فإطلاق ترتّب الجزاء على الشرط في جميع الحالات ينفي كون الشرط جزءَ العلّة ، إلاّأ نّه إنّما ينفي النقصان الذاتيّ للشرط (والنقصان الذاتي معناه كونه بطبيعته محتاجاً في إيجاد الجزاء إلى شيءٍ آخر) ، ولا ينفي النقصان العرضي الناشئ من اجتماع علّتين مستقلّتين على معلولٍ واحد (حيث إنَّ هذا الاجتماع يؤدّي إلى صيرورة كلٍّ منهما جزءَ العلّة) ؛ لأنّ هذا النقصان العرضيّ لا يضرّ بإطلاق ترتّب الجزاء على الشرط.

الرابع : ويفترض فيه أنّا استفدنا العلّيّة على أساسٍ سابق ، فيقال في كيفية استفادة الانحصار : إنّه لو كانت هناك علّة اخرى : فإمّا أن تكون كلّ من العلّتين بعنوانها الخاصّ سبباً للحكم ، وإمّا أن يكون السبب هو الجامع بين العلّتين بدون دخلٍ لخصوصية كلٍّ منهما في العلّة.

وكلاهما غير صحيح :

أمّا الأول فلأنّ الحكم موجود واحد شخصيّ في عالم التشريع ، والموجود الواحد الشخصيّ يستحيل أن تكون له علّتان.

١٢٩

وأمّا الثاني فلأنّ ظاهر الجملة الشرطية كون الشرط بعنوانه الخاصّ دخيلاً في الجزاء.

والجواب أنّ بالإمكان (١) اختيار الافتراض الأول ، ولا يلزم محذور ، وذلك بافتراض جعلين وحكمين متعدّدين في عالم التشريع : أحدهما معلول للشرط بعنوانه الخاصّ ، والآخر معلول لعلّةٍ اخرى ، فالبيان المذكور إنّما يبرهن على عدم وجود علّةٍ اخرى لشخص الحكم لا لشخصٍ آخر مماثل.

الخامس : ويفترض فيه أيضاً أنّا استفدنا العلّيّة على أساسٍ سابق ، فيقال في كيفية استفادة الانحصار : إنّ تقييد الجزاء بالشرط على نحوين :

أحدهما : أن يكون تقييداً بالشرط فقط.

والآخر : أن يكون تقييداً به أو بعدلٍ له على سبيل البدل.

والنحو الثاني ذو مؤونةٍ ثبوتيةٍ تحتاج في مقام التعبير عنها إلى عطف العِدل ب (أو) ، فإطلاق الجملة الشرطية بدون عطفٍ ب (أو) يعيّن النحو الأول.

وقد ذكر المحقّق النائينيّ (٢) رحمه‌الله : أنّ هذا إطلاق في مقابل التقييد ب (أو) الذي يعني تعدّد العلّة ، كما أنّ هناك إطلاقاً للشرط في مقابل التقييد بالواو الذي يعني كون الشرط جزءَ العلّة ، وكون المعطوف عليه بالواو الجزء الآخر.

وكلّ هذه الوجوه الخمسة تشترك في الحاجة إلى إثبات أنّ المعلّق على الشرط طبيعيّ الحكم ؛ وذلك بالإطلاق وإجراء قرينة الحكمة في مفاد الجزاء.

والتحقيق : أنّ الربط المفترض في مدلول الجملة الشرطية : تارةً يكون بمعنى توقّف الجزاء على الشرط ، واخرى بمعنى استلزام الشرط واستتباعه

__________________

(١) جاء في الطبعة الاولى : «والجواب بإمكان». والأولى ما أثبتناه.

(٢) أجود التقريرات ١ : ٤١٨.

١٣٠

للجزاء ، كما عرفنا سابقاً (١).

فعلى الأول يتم إثبات المفهوم بلا حاجةٍ إلى ما افترضه المحقّق النائينيّ رحمه‌الله من إطلاقٍ مقابلٍ للتقييد ب (أو) ؛ وذلك لأنّ الجزاء متوقف على الشرط بحسب الفرض ، فلو كان يوجد بدون الشرط لمَا كان متوقّفاً عليه.

وعلى الثاني لا يمكن إثبات الانحصار والمفهوم بما سمّاه الميرزا بالإطلاق المقابل ل (أو) ؛ لأنّ وجود علّةٍ اخرى لا يضيّق من دائرة الربط الاستلزاميِّ بين الشرط والجزاء ، فلا يكون العطف ب (أو) تقييداً لمِا هو مدلول الخطاب ليُنفى بالإطلاق ، بل إفادة لمطلبٍ إضافي ، وليس كلّما سكت المتكلّم عن مطلبٍ إضافيٍّ أمكن نفيه بالإطلاق ، مالم يكن المطلب المسكوت عنه مؤدِّياً إلى تضييقٍ وتقييدٍ في دائرة مدلول الكلام.

فالأولى من ذلك كلّه أن يستظهر عرفاً كون الجملة الشرطية موضوعةً للربط بمعنى التوقّف والالتصاق من قِبَل الجزاء بالشرط ، وعليه فيثبت المفهوم.

وأمّا ما نحسّه من عدم التجوّز في حالات عدم الانحصار فيمكن أن يفسَّر بتفسيراتٍ اخرى ، من قبيل أنّ هذه الحالات لا تعني عدم استعمال الجملة الشرطية في الربط المذكور ، بل عدم إرادة المطلق من مفاد الجزاء ، ومن الواضح أنّ هذا إنّما يثلم الإطلاق وقرينة الحكمة ، ولا يعني استعمال اللفظ في غير ما وضع له.

الشرط المسوق لتحقّق الموضوع :

يلاحظ في كلّ جملةٍ شرطيةٍ تواجد ثلاثة أشياء ، وهي : الحكم ، والموضوع ، والشرط. والشرط تارةً يكون أمراً مغايراً لموضوع الحكم في

__________________

(١) في ضابط المفهوم.

١٣١

الجزاء ، واخرى يكون محقِّقاً لوجوده.

فالأول كما في قولنا : (إذا جاء زيد فأكرمه) ، فإنّ موضوع الحكم زيد ، والشرط المجيء ، وهما متغايران.

والثاني كما في قولنا : (إذا رُزِقت ولداً فاختنه) ، فإنّ موضوع الحكم بالختان هو الولد ، والشرط أن تُرزَق ولداً ، وهذا الشرط ليس مغايراً للموضوع ، بل هو عبارة اخرى عن تحقّقه ووجوده.

ومفهوم الشرط ثابت في الأول ، فكلّما كان الشرط مغايراً للموضوع وانتفى الشرط دلّت الجملة الشرطية على انتفاء الحكم عن موضوعه بسبب انتفاء الشرط.

وأمّا حالات الشرط المحقّق للموضوع فهي [على] قسمين :

أحدهما : أن يكون الشرط المحقِّق لوجود الموضوع هو الاسلوب الوحيد لتحقيق الموضوع ، كما في مثال الختان المتقدم.

والآخر : أن يكون الشرط أحد أساليب تحقيقه ، كما في (إذا جاءكم فاسق بنبأ فتبيّنوا) ، فإنّ مجيء الفاسق بالنبأ عبارة اخرى عن إيجاد النبأ ، ولكنّه ليس هو الاسلوب الوحيد لإيجاده ؛ لأنّ النبأ كما يوجِده الفاسق يوجِده العادل أيضاً.

ففي القسم الأول لا يثبت مفهوم الشرط ؛ لأنّ مفهوم الشرط من نتائج ربط الحكم بالشرط وتقييده به على وجهٍ مخصوص ، فاذا كان الشرط عين الموضوع ومساوياً له فليس هناك في الحقيقة ربط للحكم بالشرط وراء ربطه بموضوعه ، فقولنا : (إذا رزقت ولداً فاختنه) في قوّة قولنا : (اختن ولدك).

وأمّا في القسم الثاني فيثبت المفهوم ؛ لأنّ ربط الحكم بالشرط فيه أمر وراء ربطه بموضوعه ، فهو تقييد وتعليق حقيقي. وليس قولنا : (إذا جاءكم فاسق بنبأ فتبيّنوا) في قوة قولنا : (تبيّنوا النبأ) ؛ لأنّ القول الثاني لا يختصّ بنبأ الفاسق ، بينما

١٣٢

الأول يختصّ به ، وهذا الاختصاص نشأ من ربط الحكم بشرطه ، فيكون للجملة مفهوم.

مفهوم الوصف :

إذا تعلّق حكم بموضوعٍ وانيط بوصفٍ في الموضوع ، كوصف العدالة الذي انيط به وجوب الإكرام في (أكرم الفقير العادل) فهل يدلّ بالمفهوم على انتفاء طبيعيّ الحكم بوجوب الإكرام عن غير العادل من الفقراء بعد الفراغ عن دلالته على انتفاء شخص الحكم تطبيقاً لقاعدة احترازية القيود؟

والجواب : أنّه على مسلك المحقّق العراقي رحمه‌الله في إثبات المفهوم يفترض أنّ دلالة الجملة المذكورة على الربط المخصوص المستدعي لانتفاء الحكم بانتفاء الوصف مسلّمة ، وإنّما يتّجه البحث إلى أنّ المربوط بالوصف والذي ينتفي بانتفائه هل يمكن أن نثبت كونه طبيعي الحكم بالاطلاق وقرينة الحكمة ، أوْ لا؟

والصحيح : أنّه لا يمكن ؛ لأنّ مفاد هيئة (أكرم) مقيّدة بمدلول المادة باعتباره طرفاً لها ، ومدلول المادة مقيّد بالفقير ؛ لأنّ المطلوب إكرام الفقير ، والفقير مقيّد بالعدالة تقييد الشيء بوصفه. وينتج ذلك : أنّ مفاد هيئة (أكرم) هو حصّة خاصّة من وجوب الإكرام يشتمل على التقييد بالعدالة ، فغاية ما يقتضيه الربط المخصوص بين مفاد أكرم والوصف انتفاء تلك الحصّة الخاصّة عند انتفاء العدالة ـ وهذا واضح ـ لا انتفاء طبيعيّ الحكم.

وأمّا إذا لم نأخذ بمسلك المحقّق العراقي فبالإمكان أن نضيف إلى ذلك أيضاً منع دلالة الجملة الوصفية على ذلك الربط المخصوص الذي يستدعي الانتفاء عند الانتفاء ، وهو التوقّف ، فإنّ ربط مفاد أكرم بالوصف إنّما هو بتوسّط نسبتين ناقصتين تقييديتين ؛ لأنّ مفاد هيئة الأمر مرتبط بذاته بمدلول مادّة الفعل ،

١٣٣

وهي مرتبطة بنسبةٍ ناقصةٍ تقييديةٍ بالفقير ، وهذا مرتبط بنسبةٍ ناقصةٍ تقييديةٍ بالعادل. ولا يوجد ما يدلّ على التوقّف والالتصاق ، لا بنحو المعنى الاسمي ، ولا بنحو المعنى الحرفي.

فالصحيح : أنّ الجملة الوصفية ليس لها مفهوم. نعم ، لا بأس بالمصير إلى دلالتها على الانتفاء عند الانتفاء بنحو السالبة الجزئية ؛ وفقاً لِمَا نبّهنا عليه في الحلقة السابقة (١).

مفهوم الغاية :

ومن الجمل التي وقع الكلام في مفهومها جملة الغاية ، من قبيل قولنا : (صُمْ إلى الليل) ، فيبحث عن دلالته على انتفاء طبيعيّ وجوب الصوم بتحقّق الغاية ، ولا شكّ هنا في دلالة الجملة على الربط بالنحو الذي يستدعي الانتفاء عند الانتفاء ؛ لأنّ معنى الغاية يستبطن ذلك ، فمسلك المحقّق العراقيّ في جملة الغاية واضح الصواب.

ومن هنا يتّجه البحث إلى أنّ المغيّى هل هو طبيعيّ الحكم ، أو شخص الحكم المجعول والمدلول لذلك الخطاب؟ فعلى الأول يثبت المفهوم دونه على الثاني.

ولتوضيح المسألة يمكننا أن نحوّل الغاية من مفهومٍ حرفيٍّ مُفادٍ بمثل (حتّى) أو (إلى) إلى مفهوم اسميٍّ مُفادٍ بنفس لفظ (الغاية). فنقول تارةً : (وجوب الصوم مغيّىً بالغروب). ونقول اخرى : (جعل الشارع وجوب الصوم المغيّى بالغروب) ، وبالمقارنة بين هذين القولين نجد أنّ القول الأول يدلّ عرفاً على أنّ طبيعيّ وجوب الصوم مغيّىً بالغروب ؛ لأنّ هذا هو مقتضى الإطلاق. فكما أنّ

__________________

(١) في بحث المفاهيم ، تحت عنوان : مفهوم الوصف.

١٣٤

قولنا : (الرّبا ممنوع) يدلّ على أنّ طبيعيّ الرّبا ومطلقه ممنوع كذلك قولنا : (وجوب الصوم مغيّىً) يدلّ على أنّ طبيعيّ وجوب الصوم مغيّى ، فوجوب الصوم بمثابة الرّبا و (مغيّى) بمثابة (ممنوع) ، فتجري قرينة الحكمة على نحوٍ واحد.

وأمّا القول الثاني فلا يدلّ على أنّ طبيعيّ وجوب الصوم مغيّىً بالغروب ، بل يدلّ على إصدار وجوب مغيّىً بالغروب ، وهذا لا ينافي أنّه قد يصدر وجوب آخر غير مغيّىً بالغروب ، فالقول الثاني ـ إذن ـ لا يثبت أكثر من كون الغروب غايةً لذلك الوجوب الذي تحدّث عنه.

فإذا اتّضح هذا يتبيّن أنّ إثبات مفهوم الغاية في المقام وأنّ المغيّى هو طبيعيّ الحكم يتوقّف على أن تكون جملة (صُمْ إلى الغروب) في قوة قولنا : (وجوب الصوم مغيّىً بالغروب) ، لا في قوة قولنا : (جعلت وجوباً للصوم مغيّىً بالغروب) ، ولا شكّ في أنّ الجملة المذكورة في قوة القول الثاني لا الأول ، إذ يفهم منها جعل وجوب الصوم فعلاً وإبرازه بذلك الخطاب ، وهذا ما يفي به القول الثاني دون الأول. فلا مفهوم للغاية إذن ، وإنّما تدلّ الغاية على انتفاء شخص الحكم ، كما تدلّ على السالبة الجزئية التي كان الوصف يدلّ عليها أيضاً ، كما تقدّم.

مفهوم الاستثناء :

ونفس ما تقدم في الغاية يصدق على الاستثناء ، فإنّه لا شكّ في دلالته على نفي حكم المستثنى منه عن المستثنى. ولكنّ المهمّ تحقيق أنّ المنفيّ عن المستثنى بدلالة أداة الاستثناء هل هو طبيعيّ الحكم ، أو شخص ذلك الحكم؟

وهنا أيضاً لو حوّلنا الاستثناء في قولنا : (يجب إكرام الفقراء إلاّالفساق) إلى مفهومٍ اسميٍّ لوجدنا أنّ بالإمكان أن نقول تارةً : (وجوب إكرام الفقراء يستثنى منه الفساق) ، وأن نقول اخرى : (جعل الشارع وجوباً لإكرام الفقراء

١٣٥

مستثنىً منه الفساق).

والقول الأوّل يدلّ على الاستثناء من الطبيعي ، والقول الثاني يدلّ على الاستثناء من شخص الحكم ، فإن رجعت الجملة الاستثنائية إلى مفاد القول الأول كان لها مفهوم ، وإن رجعت إلى مفاد القول الثاني لم يكن لها مفهوم ، وهذا هو الأصحّ ، كما مرّ في الغاية.

مفهوم الحصر :

لا شكّ في أنّ كلّ جملةٍ تدلّ على حصر حكمٍ بموضوعٍ تدلّ على المفهوم ؛ لأنّ الحصر يستبطن انتفاء الحكم المحصور عن غير الموضوع المحصور به ، والحصر بنفسه قرينة على أنّ المحصور طبيعيّ الحكم ، لا حكم ذلك الموضوع بالخصوص ، إذ لا معنى لحصره حينئذٍ ؛ لأنّ حكم الموضوع الخاصّ مختصّ بموضوعه دائماً. وما دام المحصور هو الطبيعيّ فمقتضى ذلك ثبوت المفهوم ، وهذا ممّا لا ينبغي الإشكال فيه ، وإنّما الكلام في تعيين أدوات الحصر : فمن جملة أدواته : كلمة (إنّما) فإنّها تدلّ على الحصر وضعاً بالتبادر العرفي.

ومن أدواته : جعل العامّ موضوعاً مع تعريفه ، والخاصّ محمولاً ، فيقال : (ابنك هو محمّد) بدلاً عن أن نقول : (محمّد هو ابنك) ، فإنّه يدلّ عرفاً على حصر البنوّة بمحمد.

والنكتة في ذلك : أنّ المحمول يجب أن يصدق ـ بحسب ظاهر القضية ـ على كلّ ما ينطبق عليه الموضوع ، ولا يتأتّى ذلك في فرض حمل الخاصّ على العامّ إلاّبافتراض انحصار العامّ بالخاصّ.

١٣٦

٢ ـ الدليل الشرعي غير اللفظي

الدليل الشرعيّ غير اللفظيِّ يشتمل على الفعل والتقرير ، فيقع البحث في كلٍّ منهما.

دلالات الفعل :

تقدّم منّا في الحلقة السابقة (١) الحديث عن دلالات الفعل أو الترك ، وأ نّه إن اقترن بقرينةٍ فيتحدّد مدلوله على أساس تلك القرينة ، وإن وقع مجرّداً كان له بعض الدلالات ، من قبيل دلالة صدور الفعل على عدم حرمته ، ودلالة تركه على عدم وجوبه ، ودلالة الإتيان به على وجهٍ عباديٍّ على مطلوبيته ، إلى غير ذلك.

إلاّأنّ الحكم المستكشف من الفعل لا يمكن تعميمه لكلّ الحالات ؛ لعدم الإطلاق في دلالة الفعل ، وإنما يثبت ذلك الحكم في كلّ حالةٍ مماثلةٍ لحالة المعصوم من سائر الجهات المحتمل كونها مؤثّرةً في ثبوت ذلك الحكم ،

__________________

(١) الحلقة الثانية ، ضمن البحث عن تحديد دلالات الدليل الشرعي غير اللفظي ، تحت عنوان : دلالة الفعل.

١٣٧

على ما مرّ سابقاً (١).

دلالات التقرير :

سكوت المعصوم عن موقفٍ يواجهه يدلّ على إمضائه : إمّا على أساسٍ عقليٍّ باعتبار أنّه لو لم يكن الموقف متّفقاً مع غرضه لكان سكوته نقضاً للغرض ، أو باعتبار أنّه لو لم يكن الموقف سائغاً شرعاً لوجب على المعصوم الردع عنه والتنبيه.

وإمّا على أساسٍ استظهاريٍّ باعتبار ظهور حال المعصوم في كونه بصدد المراقبة والتوجيه.

والموقف قد يكون فردياً ، وكثيراً ما يتمثّل في سلوكٍ عامٍّ يسمّى ببناء العقلاء أو السيرة العقلائية ، ومن هنا كانت السيرة العقلائية دليلاً على الحكم الشرعي ، ولكن لابذاتها ، بل باعتبار تقرير الشارع لها وإمضائه المكتشف من سكوت المعصوم وعدم ردعه.

وفي هذا المجال ينبغي التمييز بين نوعين من السيرة :

أحدهما : السيرة بلحاظ مرحلة الواقع ، ونقصد بذلك : السيرة على تصرّفٍ معيّنٍ باعتباره الموقف الذي ينبغي اتّخاذه واقعاً في نظر العقلاء ، سواء كان مرتبطاً بحكمٍ تكليفي ـ كالسيرة على إناطة التصرّف في مال الغير بطيب نفسه ولو لم يأذن لفظياً ـ أو بحكمٍ وضعي ، كالسيرة على التملّك بالحيازة في المنقولات.

والنوع الآخر : السيرة بلحاظ مرحلة الظاهر والاكتفاء بالظنّ ، ونقصد

__________________

(١) الحلقة الثانية ، ضمن البحث عن تحديد دلالات الدليل الشرعي غير اللفظي ، تحت عنوان : دلالة الفعل.

١٣٨

بذلك : السيرة على تصرّفٍ معيّنٍ في حالة الشكّ في أمرٍ واقعيٍّ اكتفاءً بالظنّ مثلاً ، من قبيل السيرة على الرجوع إلى اللغويِّ عند الشكّ في معنى الكلمة واعتماد قوله وإن لم يفد سوى الظنّ ، أو السيرة على رجوع كلّ مأمورٍ في التعرّف على أمر مولاه إلى خبر الثقة ، وغير ذلك من البناءات العقلائية على الاكتفاء بالظنّ أو الاحتمال في مورد الشكّ في الواقع.

أمّا النوع الأول فيستدلّ به على أحكامٍ شرعيةٍ واقعية ، كحكم الشارع بإباحة التصرّف في مال الغير بمجرّد طيب نفسه ، وبأنّ من حاز يملك ، وهكذا ، ولا ريب في انطباق ما ذكرناه عليه ، حيث إنّ الشارع لابدّ أن يكون له حكم تكليفيّ أو وضعيّ فيما يتعلّق بذلك التصرّف ، فإن لم يكن مطابقاً لما يفترضه العقلاء ويُجرُون عليه من حكمٍ كان على المعصوم أن يردعهم عن ذلك ، فسكوته يدلّ على الإمضاء.

وأمّا النوع الثاني فيستدلّ به عادةً على أحكامٍ شرعيةٍ ظاهرية ، كحكم الشارع بحجّية قول اللغويّ ، وحجّية خبر الثقة ، وهكذا.

وفي هذا النوع قد يستشكل في تطبيق ما ذكرناه عليه ، وتوضيح الاستشكال : أنّ التعويل على الأمارات الظنّية ـ كقول اللغويِّ وخبر الثقة ـ له مقامان :

المقام الأول : التعويل عليها بصدد تحصيل الشخص لأغراضه الشخصية التكوينية ، من قبيل أن يكون لشخصٍ غرض في أن يستعمل كلمةً معيّنةً في كتابه ، فيرجع إلى اللغويّ في فهم معناها ليستعملها في الموضع المناسب ، ويكتفي في هذا المجال بالظنّ الحاصل من قول اللغوي.

المقام الثاني : التعويل عليها بصدد تحصيل الشخص المأمور لمؤمِّنٍ أمام الآمر ، أو تحصيل الشخص الآمر لمنجّزٍ للتكليف على مأموره ، من قبيل أن يقول

١٣٩

الآمر : (أكرم العالم) ولا يدري المأمور أنّ كلمة (العالم) هل تشمل من كان لديه علم وزال علمه ، أوْ لا؟ فيرجع إلى قول اللغوي ؛ لتكون شهادته بالشمول منجِّزةً وحجّةً للمولى على المكلف ، وشهادته بعدم الشمول معذِّرةً وحجّةً للمأمور على المولى.

وعلى هذا فبناء العقلاء على الرجوع إلى اللغويِّ والتعويل على الظنّ الناشئ من قوله : إن كان المقصود منه بناء العقلاء في المقام الأول فهذا لا يعني حجّية قول اللغويّ بالمعنى الاصولي ، أي المنجِّزية والمعذِّرية ؛ لأنّ التنجيز والتعذير إنّما يكون بالنسبة إلى الأغراض التشريعية التي فيها آمر ومأمور ، لا بالنسبة إلى الأغراض التكوينية ، فلا يمكن أن يستدلّ بالسيرة المذكورة على الحجِّية شرعاً.

وإن كان المقصود بناء العقلاء في المقام الثاني فمن الواضح أنّ جعل شيءٍ منجِّزاً أو معذِّراً من شأن المولى والحاكم ، لا من شأن المأمور ، فمردّ بناء العقلاء على جعل قول اللغويِّ منجِّزاً ومعذِّراً إلى أنّ سيرة الآمرين انعقدت على أنّ كلّ آمرٍ يجعل قول اللغويِّ حجّةً في فهم المأمور لِمَا يصدر منه من كلامٍ بنحوٍ ينجِّز ويعذِّر.

وبعبارةٍ أشمل : أنّ سيرة كلِّ عاقلٍ اتّجهت إلى أنّه إذا قُدِّر له أن يمارس حالةً آمريةً يجعل قول اللغويِّ حجّةً على مأموره ، ومن الواضح أنّ السيرة بهذا المعنى لا تفوِّت على الشارع الأقدس غرضه ، حتّى إذا لم يكن قد جعل قول اللغويِّ حجّةً ومنجِّزاً ومعذِّراً بالنسبة إلى أحكامه ؛ وذلك لأنّ هذه السيرة يمارسها كلّ مولىً في نطاق أغراضه التشريعية مع مأموريه ، ولا يهمّ الشارع الأغراض التشريعية للآخرين.

فكم فرقٍ بين سيرة العقلاء على ملكية الحائز وسيرتهم على حجّية قول

١٤٠