دروس في علم الأصول - ج ٢

آية الله السيّد محمّد باقر الصدر

دروس في علم الأصول - ج ٢

المؤلف:

آية الله السيّد محمّد باقر الصدر


المحقق: لجنة التحقيق التابعة للمؤتمر العالمي للإمام الشهيد الصدر
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مركز الأبحاث والدراسات التخصصية للشهيد الصدر
الطبعة: ١
الصفحات: ٦٠٨
الجزء ١ الجزء ٢

والترك اخرى ، والوضع تارةً والكيف اخرى ، فكيف يمكن الحصول على جامعٍ بين موضوعات مسائله؟

وعلى هذا الأساس استساغوا أن لا يكون لعلم الاصول موضوع. غير أنّك عرفت أنّ لعلم الاصول موضوعاً كلّياً على ما تقدّم (١).

__________________

(١) في بداية هذا البحث.

٢١

الحكم الشرعيّ وتقسيماته

الأحكام التكليفية والوضعية :

قد تقدَّم في الحلقة السابقة (١) أنّ الأحكام الشرعية على قسمين : أحدهما الأحكام التكليفية ، والآخر الأحكام الوضعيّة ، وقد عرفنا سابقاً نبذةً عن الأحكام التكليفية. وأمّا الأحكام الوضعيّة فهي على نحوين :

الأوّل : ما كان واقعاً موضوعاً للحكم التكليفي ، كالزوجية الواقعة موضوعاً لوجوب الإنفاق ، والملكية الواقعة موضوعاً لحرمة تصرّف الغير في المال بدون إذن المالك.

الثاني : ما كان منتزعاً عن الحكم التكليفي ، كجزئيّة السورة للواجب المنتزعة عن الأمر بالمركّب منها ، وشرطيّة الزوال للوجوب المجعول لصلاة الظهر المنتزعة عن جعل الوجوب المشروط بالزوال.

ولا ينبغي الشكّ في أنّ القسم الثاني ليس مجعولاً للمولى بالاستقلال ، وإنّما هو منتزع عن جعل الحكم التكليفي ؛ لأنّه مع جعل الأمر بالمركّب من السورة وغيرها يكفي هذا الأمر التكليفيّ في انتزاع عنوان الجزئية للواجب من السورة ، وبدونه لا يمكن أن تتحقّق الجزئيّة للواجب بمجرّد إنشائها وجعلها مستقلاًّ.

وبكلمةٍ اخرى : أنّ الجزئية للواجب من الامور الانتزاعية الواقعية ؛ وإن كان وعاء واقعها هو عالم جعل الوجوب ، فلا فرق بينها وبين جزئيّة الجزء للمركّبات الخارجيّة من حيث كونها أمراً انتزاعياً واقعياً ؛ وإن اختلفت الجزئيتان في وعاء الواقع ومنشأ الانتزاع ، وما دامت الجزئية أمراً واقعياً فلا يمكن إيجادها

__________________

(١) ضمن مباحث التمهيد ، تحت عنوان : الحكم الشرعي وتقسيمه.

٢٢

بالجعل التشريعيّ والاعتبار.

وأمّا القسم الأوّل فمقتضى وقوعه موضوعاً للأحكام التكليفية عقلائيّاً وشرعاً هو كونه مجعولاً بالاستقلال ؛ لا منتزعاً عن الحكم التكليفي ؛ لأنّ موضوعيّته للحكم التكليفيّ تقتضي سبقه عليه رتبةً ، مع أنّ انتزاعه يقتضي تأخّره عنه.

وقد تُثار شبهة لنفي الجعل الاستقلاليّ لهذا القسم أيضاً بدعوى أنّه لغو ؛ لأنّه بدون جعل الحكم التكليفيّ المقصود لا أثر له ، ومعه لا حاجة إلى الحكم الوضعي ، بل يمكن جعل الحكم التكليفيّ ابتداءً على نفس الموضوع الذي يفترض جعل الحكم الوضعيّ عليه.

والجواب على هذه الشبهة : أنّ الأحكام الوضعية التي تعود إلى القسم الأوّل اعتبارات ذات جذورٍ عقلائية ؛ الغرض من جعلها تنظيم الأحكام التكليفية وتسهيل صياغتها التشريعية ، فلا تكون لغواً.

شمول الحكم للعالم والجاهل :

وأحكام الشريعة ـ تكليفيةً ووضعيةً ـ تشمل في الغالب العالم بالحكم والجاهل على السواء ، ولا تختصّ بالعالم. وقد ادّعي أنّ الأخبار الدالّة على ذلك مستفيضة (١) ، ويكفي دليلاً على ذلك إطلاقات أدلّة تلك الأحكام. ولهذا أصبحت

__________________

(١) بل قد ادّعى الشيخ الأعظم رحمه‌الله في فرائده (١ : ١١٣) أنّها متواترة. والظاهر أنّ المقصودبها أخبار الاحتياط الوارد جلّها في كتاب الوسائل الجزء ٢٧ الباب ١٢ من أبواب صفات القاضي ، وذلك بدعوى أنّ هذه الأخبار لو لم تتمّ دلالتها على وجوب الاحتياط عند الشكّ فلا أقلّ من دلالتها على شمول الحكم الواقعي للإنسان الشاكّ وإن كان محكوماً بالبراءة ظاهراً.

٢٣

قاعدة اشتراك الحكم الشرعيّ بين العالم والجاهل مورداً للقبول على وجه العموم بين أصحابنا ، إلاّإذا دلّ دليل خاصّ على خلاف ذلك في مورد.

وقد يبرهن على هذه القاعدة عن طريق إثبات استحالة اختصاص الحكم بالعالم ؛ لأنّه يعني أنّ العلم بالحكم قد اخذ في موضوعه ، وينتج عن ذلك تأخّر الحكم رتبةً عن العلم به وتوقّفه عليه وفقاً لطبيعة العلاقة بين الحكم وموضوعه.

ولكن قد مرّ بنا في الحلقة السابقة (١) : أنّ المستحيل هو أخذ العلم بالحكم المجعول في موضوعه لا أخذ العلم بالجعل في موضوع الحكم المجعول فيه.

ويترتّب على ما ذكرناه من الشمول : أنّ الأمارات والاصول التي يرجع اليها المكلّف الجاهل في الشبهة الحكمية أو الموضوعية قد تصيب الواقع ، وقد تخطئ ، فللشارع إذن أحكام واقعية محفوظة في حقّ الجميع ، والأدلّة والاصول في معرض الإصابة والخطأ ، غير أنّ خطأها مغتفر ؛ لأنّ الشارع جعلها حجّة ، وهذا معنى القول بالتخطئة.

وفي مقابله ما يسمّى بالقول بالتصويب ، وهو : أنّ أحكام الله تعالى ما يؤدّي إليه الدليل والأصل ، ومعنى ذلك أنّه ليس له من حيث الأساس أحكام ، وإنّما يحكم تبعاً للدليل أو الأصل ، فلا يمكن أن يتخلّف الحكم الواقعيّ عنهما.

وهناك صورة مخفَّفة للتصويب ، مؤدّاها : أنّ الله تعالى له أحكام واقعية ثابتة من حيث الأساس ؛ ولكنّها مقيّدة بعدم قيام الحجّة من أمارةٍ أو أصلٍ على

__________________

(١) ضمن مباحث الدليل العقلي ، تحت عنوان : أخذ العلم بالحكم في موضوع الحكم.

٢٤

خلافها ، فإن قامت الحجّة على خلافها تبدّلت واستقرّ ما قامت عليه الحجّة.

وكلا هذين النحوين من التصويب باطل :

أمّا الأوّل فلشناعته ووضوح بطلانه ، حيث إنّ الأدلّة والحجج إنّما جاءت لتُخبرنا عن حكم الله وتحدّد موقفنا تجاهه ، فكيف نفترض أنّه لا حكم لله من حيث الأساس؟!

وأمّا الثاني فلأ نّه مخالف لظواهر الأدلّة ، ولِما دلّ على اشتراك الجاهل والعالم في الأحكام الواقعية.

الحكم الواقعي والظاهري :

ينقسم الحكم الشرعيّ ـ كما عرفنا سابقاً ـ إلى واقعيٍّ لم يؤخذ في موضوعه الشكّ ، وظاهريٍّ اخذ في موضوعه الشكّ في حكمٍ شرعيٍّ مسبق. وقد كنّا نقصد حتى الآن في حديثنا عن الحكم : الأحكام الواقعية.

وقد مرَّ بنا في الحلقة السابقة (١) أنّ مرحلة الثبوت للحكم ـ الحكم الواقعيّ ـ تشتمل على ثلاثة عناصر ، وهي : الملاك ، والإرادة ، والاعتبار. وقلنا : إنّ الاعتبار ليس عنصراً ضروريّاً ، بل يستخدم غالباً كعملٍ تنظيميٍّ وصياغي.

ونريد أن نشير الآن إلى حقيقة العنصر الثالث الذي يقوم الاعتبار بدور التعبير عنه غالباً.

وتوضيحه : أنّ المولى كما أنّ له حقَّ الطاعة على المكلّف فيما يريده منه كذلك له حقّ تحديد مركز حقّ الطاعة في حالات إرادته شيئاً من المكلّف ، فليس ضرورياً ـ إذا تمّ الملاك في شيءٍ وأراده المولى ـ أن يجعل نفس ذلك

__________________

(١) ضمن مباحث التمهيد ، تحت عنوان : مبادئ الحكم التكليفي.

٢٥

الشيء في عهدة المكلّف مصبّاً لحقّ الطاعة ، بل يمكنه أن يجعل مقدمة ذلك الشيء ـ التي يعلم المولى بأنّها مؤدِّية إليه ـ في عهدة المكلّف دون نفس الشيء ، فيكون حقّ الطاعة منصبّاً على المقدّمة ابتداءً ، وإن كان الشوق المولويّ غير متعلّقٍ بها إلاّ تبعاً. وهذا يعني أنّ حقّ الطاعة ينصبّ على ما يحدّده المولى ـ عند إرادته لشيءٍ ـ مصبّاً له ويدخله في عهدة المكلّف ، والاعتبار هو الذي يستخدم عادةً للكشف عن المصبّ الذي عيّنه المولى لحقّ الطاعة ، فقد يتّحد مع مصبّ إرادته ، وقد يتغاير.

[شبهات حول الحكم الظاهري :]

وأمّا الأحكام الظاهرية فهي مثار لبحثٍ واسع ؛ وُجِّهت فيه عدّة اعتراضاتٍ للحكم الظاهريّ تبرهن على استحالة جعله عقلاً (١) ، ويمكن تلخيص هذه البراهين في ما يلي :

١ ـ إنّ جعل الحكم الظاهريّ يؤدّي إلى اجتماع الضدّين أو المثلين ؛ لأنّ الحكم الواقعيّ ثابت في فرض الشكّ بحكم قاعدة الاشتراك المتقدّمة ، وحينئذٍ فإن كان الحكم الظاهريّ المجعول على الشاكّ مغايراً للحكم الواقعيّ نوعاً ـ كالحلّيّة والحرمة ـ لزم اجتماع الضدّين ، وإلاّ لزم اجتماع المثلين.

وما قيل سابقاً (٢) من أنّه لا تنافي بين الحكم الواقعيّ والظاهري لأنّهما

__________________

(١) اثيرت هذه الشبهة حول حجّية خبر الواحد غير القطعيّ من قبل محمّد بن عبد الرحمن المعروف بابن قبة على ما نسب إليه في المعالم : ١٨٩ ، كما نسبت إليه الشبهة المذكورة أيضاً حول حجّية مطلق الأمارات غير القطعيّة في كتاب أجود التقريرات ٢ : ٦٣.

(٢) في الحلقة الثانية من هذا الكتاب ضمن مباحث التمهيد ، تحت عنوان : اجتماع الحكم الواقعي والظاهري.

٢٦

سنخان مجرّد كلامٍ صوريٍّ إذا لم يُعطَ مضموناً محدَّداً ؛ لأنّ مجرّد تسمية هذا بالواقعيِّ وهذا بالظاهريِّ لا يخرجهما عن كونهما حكمين من الأحكام التكليفية ، وهي متضادّة.

٢ ـ إنّ الحكم الظاهريّ إذا خالف الحكم الواقعيّ فحيث إنّ الحكم الواقعيّ بمبادئه محفوظ في هذا الفرض ـ بحكم قاعدة الاشتراك ـ يلزم من جعل الحكم الظاهريّ في هذه الحالة نقض المولى لغرضه الواقعي بالسماح للمكلّف بتفويته ؛ اعتماداً على الحكم الظاهريّ في حالات عدم تطابقه مع الواقع ، وهو يعني إلقاء المكلّف في المفسدة ، وتفويت المصالح الواقعية المهمّة عليه.

٣ ـ إنّ الحكم الظاهريّ من المستحيل أن يكون منجِّزاً للتكليف الواقعيّ المشكوك ومصحّحاً للعقاب على مخالفة الواقع ؛ لأنّ الواقع لا يخرج عن كونه مشكوكاً بقيام الأصل أو الأمارة المثبِتَين للتكليف. ومعه يشمله حكم العقل بقبح العقاب بلا بيانٍ ـ بناءً على مسلك قاعدة قبح العقاب بلا بيان ـ ، والأحكام العقلية غير قابلةٍ للتخصيص.

شبهة التضادّ ونقض الغرض :

أمّا الاعتراض الأوّل فقد اجيب عليه بوجوه :

منها : ما ذكره المحقِّق النائيني (١) قدس‌سره من أنّ إشكال التضادّ نشأ من افتراض أنّ الحكم الظاهريّ حكم تكليفي ، وأنّ حجّية خبر الثقة ـ مثلاً ـ معناها جعل حكمٍ تكليفيٍّ يطابق ما أخبر عنه الثقة من أحكام ، وهو ما يسمّى ب (جعل الحكم المماثل) ، فإن أخبر الثقة بوجوب شيءٍ وكان حراماً في الواقع ، تمثّلت حجّيته في

__________________

(١) فوائد الاصول ٣ : ١٠٥.

٢٧

جعل وجوبٍ ظاهريٍّ لذلك الشيء وفقاً لما أخبر به الثقة ، فيلزم على هذا الأساس اجتماع الضدّين ، وهما : الوجوب الظاهري والحرمة الواقعية.

ولكنّ الافتراض المذكور خطأ ؛ لأنّ الصحيح أنّ معنى حجّية خبر الثقة ـ مثلاً ـ جعلُه عِلماً وكاشفاً تامّاً عن مؤدّاه بالاعتبار ، فلا يوجد حكم تكليفيّ ظاهريّ زائداً على الحكم التكليفيّ الواقعيّ ليلزم اجتماع حكمين تكليفيّين متضادّين ؛ وذلك لأنّ المقصود من جعل الحجية للخبر ـ مثلاً ـ جعله منجِّزاً للأحكام الشرعية التي يحكي عنها ، وهذا يحصل بجعله علماً وبياناً تامّاً ؛ لأنّ العلم منجِّز ، سواء كان علماً حقيقةً كالقطع ، أو علماً بحكم الشارع كالأمارة. وهذا ما يسمّى بمسلك (جعل الطريقية).

والجواب على ذلك : أنّ التضادّ بين الحكمين التكليفيّين ليس بلحاظ اعتباريهما حتى يندفع بمجرّد تغيير الاعتبار في الحكم الظاهريّ من اعتبار الحكم التكليفيّ إلى اعتبار العلمية والطريقية ، بل بلحاظ مبادئ الحكم ، كما تقدّم في الحلقة السابقة (١). وحينئذٍ فإن قيل بأنّ الحكم الظاهريّ ناشئ من مصلحةٍ ملزمةٍ وشوقٍ في فعل المكلّف الذي تعلّق به ذلك الحكم ، حصل التنافي بينه وبين الحرمة الواقعية مهما كانت الصيغة الاعتبارية لجعل الحكم الظاهري. وإن قيل بعدم نشوئه من ذلك ـ ولو بافتراض قيام المبادئ بنفس جعل الحكم الظاهريّ ـ زال التنافي بين الحكم الواقعيّ والحكم الظاهري ، سواء جُعِل هذا حكماً تكليفياً ، أو بلسان جعل الطريقية.

ومنها : ما ذكره السيّد الاستاذ (٢) من أنّ التنافي بين الحرمة والوجوب

__________________

(١) ضمن بحث (الحكم الشرعي وأقسامه) من مباحث التمهيد ، تحت عنوان : التضادّ بين الأحكام التكليفيّة.

(٢) مصباح الاصول ٢ : ١٠٨ ـ ١١١.

٢٨

ـ مثلاً ـ ليس بين اعتباريهما ، بل بين مبادئهما من ناحية ؛ لأنّ الشيء الواحد لا يمكن أن يكون مبغوضاً ومحبوباً ، وبين متطلّباتهما في مقام الامتثال من ناحيةٍ اخرى ؛ لأنّ كلاًّ منهما يستدعي تصرّفاً مخالفاً لِمَا يستدعيه الآخر. فإذا كانت الحرمة واقعية والوجوب ظاهرياً فلا تنافي بينهما في المبادئ ؛ لأنّنا نفترض مبادئ الحكم الظاهريّ في نفس جعله لا في المتعلق المشترك بينه وبين الحكم الواقعي ، ولا تنافي بينهما في متطلّبات مقام الامتثال ؛ لأنّ الحرمة الواقعية غير واصلة ـ كما يقتضيه جعل الحكم الظاهريّ في موردها ـ فلا امتثال لها ولا متطلّبات عملية ؛ لأنّ استحقاق الحكم للامتثال فرع الوصول والتنجّز.

ولكن نتساءل : هل يمكن أن يجعل المولى وجوباً أو حرمةً لملاكٍ في نفس الوجوب أو الحرمة؟ ولو اتّفق حقّاً أنّ المولى أحسّ بأنّ من مصلحته أن يجعل الوجوب على فعلٍ بدون أن يكون مهتّماً بوجوده إطلاقاً ، وإنّما دفعه إلى ذلك وجود المصلحة في نفس الجعل ، كما إذا كان ينتظر مكافأة على نفس ذلك من شخص ، ولا يهمّه بعد ذلك أن يقع الفعل أو لا يقع ، أقول : لو اتّفق ذلك حقّاً فلا أثر لمثل هذا الجعل ، ولا يحكم العقل بوجوب امتثاله. فافتراض أنّ الأحكام الظاهرية ناشئة من مبادئ في نفس الجعل يعني تفريغها من حقيقة الحكم ومن أثره عقلاً.

فالجواب المذكور في افتراضه المصلحة في نفس الجعل غير تامّ ، ولكنّه في افتراضه أنّ الحكم الظاهريّ لا ينشأ من مبادئ في متعلّقه بالخصوص تامّ ، فنحن بحاجةٍ إذن في تصوير الحكم الظاهريّ إلى افتراض أنّ مبادئه ليس من المحتوم تواجدها في متعلّقه بالخصوص ؛ لئلاّ يلزم التضاد ، ولكنّها في نفس الوقت ليست قائمةً بالجعل فقط ؛ لئلاّ يلزم تفريغ الحكم الظاهريّ من حقيقة الحكم ، وذلك بأن نقول : إنّ مبادئ الأحكام الظاهرية هي نفس مبادئ الأحكام الواقعية.

٢٩

وتوضيح ذلك : أنّ كلّ حرمةٍ واقعيةٍ لها ملاك اقتضائي ، وهو المفسدة والمبغوضية القائمتان بالفعل ، وكذلك الأمر في الوجوب. وأمّا الإباحة فقد تقدم في الحلقة السابقة (١) أنّ ملاكها قد يكون اقتضائياً وقد يكون غير اقتضائي ؛ لأنّها قد تنشأ عن وجود ملاكٍ في أن يكون المكلّف مطلق العنان ، وقد تنشأ عن خلوّ الفعل المباح من أيِّ ملاك.

وعليه فإذا اختلطت المباحات بالمحرّمات ولم يتميّز بعضها عن البعض ، لم يؤدِّ ذلك إلى تغيّرٍ في الأغراض والملاكات والمبادئ للأحكام الواقعية ، فلا المباح بعدم تمييز المكلّف له عن الحرام يصبح مبغوضاً ، ولا الحرام بعدم تمييزه عن المباح تسقط مبغوضيّته ، فالحرام على حرمته واقعاً ولا توجد فيه سوى مبادئ الحرمة ، والمباح على إباحته ولا توجد فيه سوى مبادئ الإباحة.

غير أنّ المولى في مقام التوجيه للمكلّف الذي اختلطت عليه المباحات بالمحرّمات بين أمرين : إمّا أن يُرخّصه في ارتكاب ما يحتمل إباحته ، وإمّا أن يمنعه عن ارتكاب ما يحتمل حرمته. وواضح أنّ اهتمامه بالاجتناب عن المحرَّمات الواقعية يدعوه إلى المنع عن ارتكاب كلّ ما يحتمل حرمته ، لا لأنّ كلّ ما يحتمل حرمته فهو مبغوض وذو مفسدة ، بل لضمان الاجتناب عن المحرّمات الواقعية الموجودة ضمنها ، فهو منع ظاهريّ ناشئ من مبغوضية المحرّمات الواقعية والحرص على ضمان اجتنابها.

وفي مقابل ذلك إن كانت الإباحة في المباحات الواقعية ذات ملاكٍ لا اقتضائيّ فلن يجد المولى ما يحول دون إصدار المنع المذكور ، وهذا المنع

__________________

(١) ضمن بحث (الحكم الشرعي وتقسيمه) من مباحث التمهيد ، تحت عنوان : مبادئ الحكم التكليفي.

٣٠

سيشمل الحرام الواقعيّ والمباح الواقعيّ أيضاً إذا كان محتمل الحرمة للمكلّف ، وفي حالة شموله للمباح الواقعيّ لا يكون منافياً لإباحته ؛ لأنّه ـ كما قلنا ـ لم ينشأ عن مبغوضية نفس متعلّقه ، بل عن مبغوضية المحرّمات الواقعية والحرص على ضمان اجتنابها.

وأمّا إذا كانت الإباحة الواقعية ذات ملاكٍ اقتضائيٍّ ، فهي تدعو ـ خلافاً للحرمة ـ إلى الترخيص في كلّ ما يحتمل إباحته ، لالأنّ كلّ ما يحتمل إباحته ففيه ملاك الإباحة ، بل لضمان إطلاق العنان في المباحات الواقعية الموجودة ضمن محتملات الإباحة ، فهو ترخيص ظاهريّ ناشئ عن الملاك الاقتضائيّ للمباحات الواقعية والحرص على تحقيقه.

وفي هذه الحالة يَزِنُ المولى درجة اهتمامه بمحرّماته ومباحاته ، فإن كان الملاك الاقتضائيّ في الإباحة أقوى وأهمّ رخّص في المحتملات ، وهذا الترخيص سيشمل المباح الواقعيّ والحرام الواقعيّ إذا كان محتمل الإباحة ، وفي حالة شموله للحرام الواقعيّ لا يكون منافياً لحرمته ؛ لأنّه لم ينشأ عن ملاكٍ للإباحة في نفس متعلّقه ، بل عن ملاك الإباحة في المباحات الواقعية والحرص على ضمان ذلك الملاك. وإذا كان ملاك المحرّمات الواقعية أهمّ منع من الإقدام في المحتملات ضماناً للمحافظة على الأهمّ.

وهكذا يتّضح أنّ الأحكام الظاهريّة خطابات تعيّن الأهمّ من الملاكات والمبادئ الواقعية حين يتطلّب كلّ نوعٍ منها الحفاظ عليه بنحوٍ ينافي ما يضمن به الحفاظ على النوع الآخر.

وبهذا اتّضح الجواب على الاعتراض الثاني ، وهو : أنّ الحكم الظاهريّ يؤدّي إلى تفويت المصلحة والإلقاء في المفسدة ، فإنّ الحكم الظاهريّ وإن كان قد يسبِّب ذلك ، ولكنّه إنّما يسبّبه من أجل الحفاظ على غرضٍ أهمّ.

٣١

شبهة تنجّز الواقع المشكوك :

وأمّا الاعتراض الثالث فقد اجيب (١) : بأنّ تصحيح العقاب على التكليف الواقعيّ الذي أخبر عنه الثقة بلحاظ حجّية خبره لا ينافي قاعدة قبح العقاب بلا بيان ؛ لأنّ المولى حينما يجعل خبر الثقة حجّةً يعطيه صفة العلم والكاشفية اعتباراً على مسلك الطريقية المتقدم ، وبذلك يخرج التكليف الواقعيّ عن دائرة قبح العقاب بلا بيان ؛ لأنّه يصبح معلوماً بالتعبّد الشرعي ؛ وإن كان مشكوكاً وجداناً.

ونلاحظ على ذلك : أنّ هذه المحاولة إذا تمّت فلا تجدي في الأحكام الظاهرية المجعولة في الاصول العملية غير المحرزة ، كأصالة الاحتياط ؛ على أنّ المحاولة غير تامّة ، كما يأتي (٢) إن شاء الله تعالى.

والصحيح : أنّه لا موضوع لهذا الاعتراض على مسلك حقّ الطاعة ؛ لِمَا تقدّم من أنّ هذا المسلك المختار يقتضي إنكار قاعدة قبح العقاب بلا بيانٍ رأساً.

وقد تلخّص ممّا تقدم : أنّ جعل الأحكام الظاهرية ممكن.

الأمارات والاصول :

تنقسم الأحكام الظاهرية إلى قسمين :

أحدهما : الأحكام الظاهرية التي تُجعل لإحراز الواقع ، وهذه الأحكام تتطلّب وجود طريقٍ ظنّيٍّ له درجة كشفٍ عن الحكم الشرعي ؛ ويتولّى الشارع

__________________

(١) يمكن استفادة ذلك ممّا جاء في أجود التقريرات ٢ : ١١.

(٢) ضمن المبادئ العامّة من مباحث الأدلّة المحرزة ، تحت عنوان : وفاء الدليل بدور القطع الطريقي والموضوعي.

٣٢

الحكم على طبقه بنحوٍ يلزم على المكلّف التصرّف بموجبه. ويسمّى الطريق ب (الأمارة) ، ويسمّى الحكم الظاهريّ ب (الحجّية) ، من قبيل حجّية خبر الثقة.

والقسم الآخر : الأحكام الظاهرية التي تُجعل لتقرير الوظيفة العملية تجاه الحكم المشكوك ، ولا يراد بها إحرازه ، وتسمّى ب (الاصول العملية).

ويبدو من مدرسة المحقّق النائيني (١) قدس‌سره التمييز بين هذين القسمين على أساس ما هو المجعول الاعتباريّ في الحكم الظاهري ، فإن كان المجعول هو الطريقية والكاشفية دخل المورد في (الأمارات). وإذا لم يكن المجعول ذلك وكان الجعل في الحكم الظاهري متّجهاً إلى إنشاء الوظيفة العملية دخل في نطاق (الاصول).

وفي هذه الحالة إذا كان إنشاء الوظيفة العملية بلسان تنزيل مؤدَّى الأصل منزلة الواقع في الجانب العملي ، أو تنزيل نفس الأصل أو الاحتمال المقوِّم له منزلة اليقين في جانبه العمليّ لا الإحرازيّ فالأصل تنزيلي ، أو أصل محرز. وإذا كان بلسان تسجيل وظيفةٍ عمليةٍ محدّدةٍ بدون ذلك فالأصل أصل عمليّ صرف.

وهذا يعني أنّ الفرق بين الأمارات والاصول ينشأ من كيفية صياغة الحكم الظاهريّ في عالم الجعل والاعتبار.

ولكنّ التحقيق : أنّ الفرق بينهما أعمق من ذلك ، فإنّ روح الحكم الظاهريّ في موارد الأمارة تختلف عن روحه في موارد الأصل بقطع النظر عن نوع

__________________

(١) يبدو أنّ التفاصيل المنسوبة هنا إلى مدرسة المحقّق النائيني رحمه‌الله حصيلة ما جاء في مصادرعديدة وإن كان كلّ واحدٍ منها غير خالٍ عن الغموض والتشويش ، بل المغايرة أحياناً في بعض جوانب تلك التفاصيل. انظر بهذا الصدد : أجود التقريرات ٢ : ٧٨ و ٤١٦ ، ومصباح الاصول ٢ : ١٠٤ ـ ١٠٦ و ٣ : ١٥٤.

٣٣

الصياغة ، وليس الاختلاف الصياغيّ المذكور إلاّتعبيراً عن ذلك الاختلاف الأعمق في الروح بين الحكمين.

وتوضيح ذلك : أنَّا عرفنا سابقاً أنّ الأحكام الظاهرية مردّها إلى خطاباتٍ تُعيِّن الأهمّ من الملاكات والمبادئ الواقعية حين يتطلّب كلّ نوعٍ منها ضمان الحفاظ عليه بنحوٍ ينافي ما يضمن به الحفاظ على النوع الآخر ، وكلّ ذلك يحصل نتيجة الاختلاط بين الأنواع عند المكلّف ، وعدم تمييزه المباحات عن المحرَّمات مثلاً.

والأهميّة التي تستدعي جعل الحكم الظاهري وفقاً لها : تارةً تكون بلحاظ الاحتمال ، واخرى بلحاظ المحتمل ، وثالثةً بلحاظ الاحتمال والمحتمل معاً. فإنّ شكّ المكلّف في الحكم يعني وجود احتمالين أو أكثر في تشخيص الواقع المشكوك ، وحينئذٍ فإن قُدِّمت بعض المحتملات على البعض الآخر ، وجعل الحكم الظاهريّ وفقاً لها ؛ لقوة احتمالها وغلبة مصادفته للواقع بدون أخذ نوع المحتمل بعين الاعتبار ، فهذا هو معنى الأهمّية بلحاظ الاحتمال ، وبذلك يصبح الاحتمال المقدّم أمارة ، سواء كان لسان الإنشاء والجعل للحكم الظاهريّ لسان جعل الطريقية ، أو وجوب الجري على وفق الأمارة.

وإن قُدِّمت بعض المحتملات على البعض الآخر لأهمّيّة المحتمل بدون دخلٍ لكاشفية الاحتمال في ذلك كان الحكم من الاصول العملية البحتة ، كأصالة الإباحة وأصالة الاحتياط الملحوظ في أحدهما أهمّية الحكم الترخيصيّ المحتمل ، وفي الآخر أهمّية الحكم الإلزاميِّ المحتمل بقطع النظر عن درجة الاحتمال ، سواء كان لسان الإنشاء والجعل للحكم الظاهريّ لسان تسجيل وظيفة عملية ، أو لسان جعل الطريقية.

وإن قُدِّمت بعض المحتملات على البعض الآخر بلحاظ كلا الأمرين من

٣٤

الاحتمال والمحتمل ، كان الحكم من الاصول العملية التنزيلية أو المحرزة ، كقاعدة الفراغ.

نعم ، الأنسب في موارد التقديم بلحاظ قوّة الاحتمال أن يصاغ الحكم الظاهريّ بلسان جعل الطريقية. والأنسب في موارد التقديم بلحاظ قوة المحتمل أن يصاغ بلسان تسجيل الوظيفة ، لا أنّ هذا الاختلاف الصياغيّ هو جوهر الفرق بين الأمارات والاصول.

التنافي بين الأحكام الظاهرية :

عرفنا سابقاً (١) أنّ الأحكام الواقعية المتغايرة نوعاً ـ كالوجوب والحرمة والإباحة ـ متضادّة ، وهذا يعني أنّ من المستحيل أن يثبت حكمان واقعيّان متغايران على شيءٍ واحد ، سواء علم المكلّف بذلك ، أوْ لا ؛ لاستحالة اجتماع الضدّين في الواقع.

والسؤال هنا هو : أنّ اجتماع حكمين ظاهريّين متغايرين نوعاً هل هو معقول ، أوْ لا؟ فهل يمكن أن يكون مشكوك الحرمة حراماً ظاهراً ومباحاً ظاهراً في نفس الوقت؟

والجواب على هذا السؤال يختلف باختلاف المبنى في تصوير الحكم الظاهريّ والتوفيق بينه وبين الأحكام الواقعية. فإن أخذنا بوجهة النظر القائلة بأنّ مبادئ الحكم الظاهريّ ثابتة في نفس جعله لا في متعلّقه أمكن جعل حكمين ظاهريّين بالإباحة والحرمة معاً ، على شرط أن لا يكونا واصلين معاً ، فإنّه في حالة عدم وصول كليهما معاً لا تنافي بينهما ، لا بلحاظ نفس الجعل ؛ لأنّه مجرّد

__________________

(١) الحلقة الثانية ، ضمن مباحث التمهيد ، تحت عنوان : التضادّ بين الأحكام التكليفيّة.

٣٥

اعتبار ، ولا بلحاظ المبادئ ؛ لأنّ مركزها ليس واحداً ، بل مبادئ كلّ حكمٍ في نفس جعله لا في متعلّقه ، ولا بلحاظ عالم الامتثال والتنجيز والتعذير ؛ لأنّ أحدهما على الأقلّ غير واصلٍ فلا أثر عمليّ له ، وأمّا في حالة وصولهما معاً فهما متنافيان متضادّان ؛ لأنّ أحدهما ينجِّز والآخر يؤمِّن.

وأمّا على مسلكنا في تفسير الأحكام الظاهرية وأ نّها خطابات تحدِّد ما هو الأهمّ من الملاكات الواقعية المختلطة ، فالخطابان الظاهريان المختلفان ـ كالإباحة والمنع ـ متضادّان بنفسيهما ، سواء وصلا إلى المكلّف أوْ لا ؛ لأنّ الأوّل يثبت أهميّة ملاك المباحات الواقعية ، والثاني يثبت أهميّة ملاك المحرّمات الواقعية ، ولا يمكن أن يكون كلّ من هذين الملاكين أهمَّ من الآخر ، كما هو واضح.

وظيفة الأحكام الظاهرية :

وبعد أن اتّضح أنّ الأحكام الظاهريّة خطابات لضمان ما هو الأهمّ من الأحكام الواقعية ومبادئها ، وليس لها مبادئ في مقابلها نخرج من ذلك بنتيجة ، وهي : أنّ الخطاب الظاهريّ وظيفته التنجيز والتعذير بلحاظ الأحكام الواقعية المشكوكة ، فهو ينجِّز تارةً ويعذّر اخرى ، وليس موضوعاً مستقلاًّ لحكم العقل بوجوب الطاعة في مقابل الأحكام الواقعية ؛ لأنّه ليس له مبادئ خاصّة به وراء مبادئ الأحكام الواقعية ، فحين يحكم الشارع بوجوب الاحتياط ظاهراً يستقلّ العقل بلزوم التحفّظ على الوجوب الواقعيّ المحتمل واستحقاق العقاب على عدم التحفّظ عليه ، لا على مخالفة نفس الحكم بوجوب الاحتياط بما هو.

وهذا معنى ما يقال من أنّ الأحكام الظاهرية طريقية لا حقيقية. فهي مجرّد وسائل وطرقٍ لتسجيل الواقع المشكوك وإدخاله في عهدة المكلّف ، ولا تكون

٣٦

هي بنفسها موضوعاً مستقلاًّ للدخول في العهدة ؛ لعدم استقلالها بمبادئ في نفسها.

ولهذا فإنّ من يخالف وجوب الاحتياط في موردٍ ويتورّط نتيجةً لذلك في ترك الواجب الواقعيّ لا يكون مستحقّاً لعقابين بلحاظ مخالفة الوجوب الواقعيّ ووجوب الاحتياط الظاهري ، بل لعقابٍ واحد ، وإلاّ لكان حاله أشدّ ممّن ترك الواجب الواقعيّ وهو عالم بوجوبه.

وأمّا الأحكام الواقعية فهي أحكام حقيقية لا طريقية ، بمعنى أنّ لها مبادئ خاصّةً بها ، ومن أجل ذلك تُشكِّل موضوعاً مستقلاًّ للدخول في العهدة ، ولحكم العقل بوجوب امتثالها واستحقاق العقاب على مخالفتها.

التصويب بالنسبة إلى بعض الأحكام الظاهرية :

تقدّم (١) أنّ الأحكام الواقعية محفوظة ومشتركة بين العالم والجاهل ، واتّضح أنّ الأحكام الظاهرية تجتمع مع الأحكام الواقعية على الجاهل دون منافاةٍ بينهما ، وهذا يعني أنّ الحكم الظاهريّ لا يتصرّف في الحكم الواقعي. ولكن هناك مَن ذهب (٢) إلى أنّ الاصول الجارية في الشبهات الموضوعية ـ كأصالة الطهارة ـ تتصرَّف في الأحكام الواقعية ، بمعنى أنّ الحكم الواقعيّ بشرطية الثوب الطاهر في الصلاة ـ مثلاً ـ يتّسع ببركة أصالة الطهارة ؛ فيشمل الثوب المشكوكة طهارته الذي جرت فيه أصالة الطهارة حتّى لو كان نجساً في الواقع ، وهذا نحو من التصويب الذي ينتج أنّ الصلاة في مثل هذا الثوب تكون صحيحةً واقعاً ، ولا تجب إعادتها على القاعدة ؛ لأنّ الشرطية قد اتّسع موضوعها.

__________________

(١) في هذه الحلقة ، تحت عنوان : شمول الحكم للعالم والجاهل.

(٢) كفاية الاصول : ١١٠ ، ونهاية الدراية ١ : ٣٩٢.

٣٧

وتقريب ذلك : أنّ دليل أصالة الطهارة بقوله : «كلّ شيءٍ طاهر حتى تعلم أنّه قذر» (١) يعتبر حاكماً على دليل شرطية الثوب الطاهر في الصلاة ؛ لأنّ لسانه لسان توسعة موضوع ذلك الدليل وإيجاد فردٍ له ، فالشرط موجود إذن. وليس الأمر كذلك لو ثبتت طهارة الثوب بالأمارة فقط ؛ لأنّ مفاد دليل حجّية الأمارة ليس جعل الحكم المماثل ، بل جعل الطريقية والمنجِّزية ، فهو بلسانه لا يوسِّع موضوع دليل الشرطية ؛ لأنّ موضوع دليلها الثوب الطاهر ، وهو لا يقول : هذا طاهر ، بل يقول : هذا محرز الطهارة بالأمارة ، فلا يكون حاكماً.

وعلى هذا الأساس فصَّل صاحب الكفاية (٢) بين الأمارات والاصول المنقِّحة للموضوع ، فبنى على أنّ الاصول الموضوعية توسّع دائرة الحكم الواقعيّ المترتّب على ذلك الموضوع دون الأمارات ، وهذا غير صحيح ، وسيأتي بعض الحديث عنه إن شاء الله تعالى (٣).

القضية الحقيقية والخارجية للأحكام :

مرّ بنا في الحلقة السابقة (٤) أنّ الحكم تارةً يُجعل على نهج القضية الحقيقية ، واخرى يُجعل على نهج القضية الخارجية.

__________________

(١) الكافي ٣ : ١ ، والتهذيب ١ : ٢٨٤ ، الحديث ٨٣٢ ، ووسائل الشيعة ٣ : ٤٦٧ ، الباب ٣٧ من أبواب النجاسات ، الحديث ٤ ، باختلافٍ في اللفظ فيها.

(٢) كفاية الاصول : ١١٠.

(٣) جاءت الإشارة إلى ذلك في هذه الحلقة ضمن أبحاث الدليل العقلي ، تحت عنوان : دلالة الأوامر الظاهريّة على الإجزاء عقلاً ، من دون بيان تفصيل الردّ عليه.

(٤) ضمن بحوث التمهيد ، تحت عنوان : القضيّة الحقيقيّة والقضيّة الخارجيّة للأحكام.

٣٨

والقضية الخارجية : هي القضية التي يَجعل فيها الحاكم حكمه على أفرادٍ موجودةٍ فعلاً في الخارج في زمان إصدار الحكم ، أو في أيّ زمانٍ آخر ، فلو اتيح لحاكمٍ أن يعرف بالضبط من وُجِد ومن هو موجود ومن سوف يوجَد في المستقبل من العلماء فأشار إليهم جميعاً وأمر بإكرامهم فهذه قضية خارجية.

والقضية الحقيقية : هي القضية التي يلتفت فيها الحاكم إلى تقديره وذهنه بدلاً عن الواقع الخارجي ، فيشكِّل قضيةً شرطية ؛ شرطها هو الموضوع المقدَّر الوجود ، وجزاؤها هو الحكم ، فيقول : إذا كان الإنسان عالماً فأكْرِمه ، وإذا قال : «أكْرِم العالم» قاصداً هذا المعنى فالقضية روحاً شرطيّة وإن كانت صياغةً حمليّة.

وهناك فوارق بين القضيتين : منها ما هو نظري ، ومنها ما يكون له مغزىً عملي.

فمن الفوارق أنّنا بموجب القضية الحقيقية نستطيع أن نشير إلى أيّ جاهلٍ ونقول : لو كان هذا عالماً لوجب إكرامه ؛ لأنّ الحكم بالوجوب ثبت على الطبيعة المقدّرة ، وهذا مصداقها ، وكلّما صدق الشرط صدق الجزاء ، خلافاً للقضية الخارجية التي تعتمد على الإحصاء الشخصيِّ للحاكم ، فإنّ هذا الفرد الجاهل ليس داخلاً فيها ، لا بالفعل ولا على تقدير أن يكون عالماً.

أمّا الأوّل فواضح ، وأمّا الثاني فلأنّ القضية الخارجية ليس فيها تقدير وافتراض ، بل هي تنصبّ على موضوعٍ ناجز.

ومن الفوارق : أنّ الموضوع في القضية الحقيقية وصف كلّيّ دائماً يفترض وجوده فيرتّب عليه الحكم ، سواء كان وصفاً عرضياً كالعالم ، أو ذاتياً كالإنسان.

وأمّا الموضوع في القضية الخارجية فهو الذوات الخارجية ـ أي ما يقبل أن يُشار إليه في الخارج بلحاظ أحد الأزمنة ـ ومن هنا استحال التقدير والافتراض فيها ؛ لأنّ الذات الخارجية وما يقال عنه (هذا) خارجاً لا معنى لتقدير وجوده ، بل هو

٣٩

محقَّق الوجود.

فإن كان وصفٌ ما دخيلاً في ملاك الحكم في القضية الخارجية تصدّى المولى نفسه لإحراز وجوده ، كما إذا أراد أن يحكم على ولده بوجوب إكرام أبناء عمّه وكان لتديّنهم دخل في الحكم ، فإنّه يتصدّى بنفسه لإحراز تديّنهم ، ثمّ يقول : «أكرم أبناءَ عمِّك كلَّهم» ، أو : «إلاّزيداً» ، تبعاً لما أحرزه من تديّنهم كُلاًّ أو جُلاًّ.

وأمّا إذا قال : «أكرم أبناء عمِّك إن كانوا متديِّنين» فالقضية شرطية وحقيقية من ناحية هذا الشرط ؛ لأنّه قد افتُرِض وقُدِّر.

ومن الفوارق المترتّبة على ذلك : أنّ الوصف الدخيل في الحكم في باب القضايا الحقيقية إذا انتفى ينتفي الحكم ؛ لأنّه مأخوذ في موضوعه. وإن شئت قلت : لأنّه شرط ، والجزاء ينتفي بانتفاء الشرط ، خلافاً لباب القضايا الخارجية ، فإنّ الأوصاف ليست شروطاً ، وإنّما هي امور يتصدّى المولى لإحرازها فتدعوه إلى جعل الحكم ، فإذا أحرز المولى تديّن أبناء العمِّ فحكم بوجوب إكرامهم على نهج القضية الخارجية ثبت الحكم ولو لم يكونوا متديّنين في الواقع ، وهذا معنى أنّ الذي يتحمّل مسؤولية تطبيق الوصف على أفراده هو المكلّف في باب القضايا الحقيقية للأحكام ، وهو المولى في باب القضايا الخارجية لها.

[تعلّق الأحكام بالعناوين الذهنيّة :]

وينبغي أن يُعلَم : أنّ الحاكم ـ سواء كان حكمه على نهج القضية الحقيقية أو على نهج القضية الخارجية ، وسواء كان حكمه تشريعياً كالحكم بوجوب الحجّ على المستطيع ، أو تكوينيّاً وإخبارياً كالحكم بأنّ النار محرقة أو أنّها في الموقد ـ إنّما يصبّ حكمه في الحقيقة على الصورة الذهنية ، لا على الموضوع الحقيقيّ للحكم ؛ لأنّ الحكم لَمَّا كان أمراً ذهنياً فلا يمكن أن يتعلّق إلاّبما هو حاضر في

٤٠