دروس في علم الأصول - ج ٢

آية الله السيّد محمّد باقر الصدر

دروس في علم الأصول - ج ٢

المؤلف:

آية الله السيّد محمّد باقر الصدر


المحقق: لجنة التحقيق التابعة للمؤتمر العالمي للإمام الشهيد الصدر
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مركز الأبحاث والدراسات التخصصية للشهيد الصدر
الطبعة: ١
الصفحات: ٦٠٨
الجزء ١ الجزء ٢

وهناك من قال بعدم جريان البراءة (١) على الرغم من عدم منجّزية العلم الإجمالي. واثيرت عدّة اعتراضاتٍ على إجراء البراءة في المقام ، ويختصّ بعض هذه الاعتراضات بالبراءة العقلية ، وبعضها بالبراءة الشرعية ، وبعضها ببعض ألسنة البراءة الشرعية. ونذكر في ما يلي أهمّ تلك الاعتراضات :

الأوّل : الاعتراض على البراءة العقلية والمنع عن جريانها في المقام حتّى على مسلك قبح العقاب بلا بيان.

وتوضيحه على ما أفاده المحقّق العراقي (٢) قدّس الله روحه : أنّ العلم الإجمالي هنا وإن لم يكن منجِّزاً ، وهذا يعني ترخيص العقل في الإقدام على الفعل أو الترك ولكن ليس كلّ ترخيصٍ براءة ، فإنّ الترخيص تارةً يكون بملاك الاضطرار وعدم إمكان إدانة العاجز ، واخرى يكون بملاك عدم البيان ، والبراءة العقلية هي ما كان بالملاك الثاني.

وعليه فإن اريد في المقام إبطال منجّزية العلم الإجمالي بنفس البراءة العقلية فهو مستحيل ؛ لأنّها فرع عدم البيان ، فهي لا تحكم بأنّ هذا بيان وذاك ليس ببيان ؛ لأنّها لا تنقِّح موضوعها ، فلابدّ من إثبات عدم البيان في الرتبة السابقة على إجراء البراءة ، وهذا ما يتحقّق في موارد الشكّ وجداناً وتكويناً ؛ لأنّ الشكّ ليس بياناً. وأمّا في مورد العلم الإجمالي بجنس الإلزام في المقام فالعلم بيان وجداناً وتكويناً ، فلكي نجرِّده من صفة البيانية لابدّ من تطبيق قاعدهٍ عقليةٍ تقتضي ذلك ، وهذه القاعدة ليست نفس البراءة العقلية ؛ لِمَا عرفت من أنّها لا تنقِّح موضوعها ، وإنّما هي قاعدة عدم إمكان إدانة العاجز التي تبرهن على عدم صلاحية العلم

__________________

(١) منهم المحقّق العراقي كما في مقالات الاصول ٢ : ٢٢٣.

(٢) انظر مقالات الاصول ٢ : ٢٢٣ ، ونهاية الأفكار ٣ : ٢٩٣.

٤٢١

الإجمالي المذكور للمنجّزية والحجّية ، وبالتالي سقوطه عن البيانية.

وإن اريد إجراء البراءة العقلية بعد إبطال منجِّزية العلم الإجمالي وبيانيته بالقاعدة المشار اليها فلا معنى لذلك ؛ لأنّ تلك القاعدة بنفسها تتكفّل الترخيص العقلي ، ولا محصّل للترخيص في طول الترخيص.

ونلاحظ على ذلك : أنّ المدّعى إجراء البراءة بعد الفراغ عن عدم منجِّزية العلم الإجمالي ، وليس الغرض منها إبطال منجّزية هذا العلم والترخيص في مخالفته حتى يقال : إنّه لا محصّل لذلك ، بل إبطال منجّزية كلٍّ من احتمال الوجوب واحتمال الحرمة في نفسه ، ومن الواضح أنّ كلًّا من الاحتمالين في نفسه ليس بياناً تكويناً ووجداناً ، فنطبِّق عليه البراءة العقلية لإثبات التأمين من ناحيته.

الثاني : الاعتراض على البراءة الشرعية ، وتوضيحه على ما أفاده المحقّق النائيني (١) قدس الله روحه : أنّ ما كان منها بلسان أصالة الحِلِّ لا يشمل المقام ؛ لأنّ الحِلِّية غير محتملةٍ هنا ، بل الأمر مردّد بين الوجوب والحرمة. وما كان منها بلسان «رفع مالا يعلمون» لا يشمل أيضاً ؛ لأنّ الرفع يعقل حيث يعقل الوضع ، والرفع هنا ظاهريّ يقابله الوضع الظاهري وهو إيجاب الاحتياط ، ومن الواضح أنّ إيجاب الاحتياط تجاه الوجوب المشكوك والحرمة المشكوكة مستحيل ، فلا معنى للرفع إذن.

وقد يلاحظ على كلامه :

أوّلاً : أنّ إمكان جعل حكمٍ ظاهريٍّ بالحلّية لا يتوقّف على أن تكون الحِلّية الواقعية محتملة ، ودعوى : أنّ الحكم الظاهري متقوّم بالشكّ صحيحة ، ولكن لا يراد بها تقوّمه باحتمال مماثلة الحكم الواقعي له ، بل تقوّمه بعدم العلم بالحكم

__________________

(١) فوائد الاصول ٣ : ٤٤٥ و ٤٤٨.

٤٢٢

الواقعي الذي يراد التأمين عنه أو تنجيزه ، إذ مع العلم به لا معنى لجعل شيءٍ مؤمِّناً عنه أو منجِّزاً له.

وثانياً : أنّ الرفع الظاهري في كلٍّ من الوجوب والحرمة يقابله الوضع في مورده ، وهو ممكن فيكون الرفع ممكناً أيضاً ، ومجموع الوضعين وإن كان مستحيلاً ولكنّ كلًّا من الرفعين لا يقابل إلاّوضعاً واحداً ، لا مجموع الوضعين.

الثالث : الاعتراض على شمول أدلّة البراءة الشرعية عموماً بدعوى انصرافها عن المورد ؛ لأنّ المنساق منها علاج المولى لحالة التزاحم بين الأغراض الإلزامية والترخيصية في مقام الحفظ بتقديم الغرض الترخيصي على الإلزامي ، لا علاج حالة التزاحم بين غرضين إلزاميَّين. وعليه فالبراءة الشرعية لا تجري ، ولكنّ العلم الإجمالي المذكور غير منجِّز ؛ لِما عرفت.

وينبغي أن يعلم : أنّ دوران الأمر بين المحذورين قد يكون في واقعةٍ واحدة ، وقد يكون في أكثر من واقعة ، بأن يعلم إجمالاً بأنّ عملاً معيّناً : إمّا محرّم في كلّ أيام الشهر ، أو واجب فيها جميعاً ، وما ذكرناه كان يختصّ بافتراض الدوران في واقعةٍ واحدة ، وأمّا مع افتراض كونه في أكثر من واقعةٍ فنلاحظ أنّ المخالفة القطعية تكون ممكنةً حينئذٍ ، وذلك بأن يفعل في يومٍ ويترك في يوم ، فلا بدّ من ملاحظة مدى تأثير ذلك على الموقف ، وهذا ما نتركه لدراسةٍ أعلى.

٤٢٣
٤٢٤

٤ ـ الوظيفة العمليّة في حالة الشكّ

الوظيفة

عند الشكّ في الأقلّ والأكثر

التقسيم الرئيسي للأقلّ والأكثر.

١ ـ الدوران بين الأقلّ والأكثر في الأجزاء.

٢ ـ الدوران بين الأقلّ والأكثر في الشرائط.

٣ ـ دوران الواجب بين التعيين والتخيير العقلي.

٤ ـ دوران الواجب بين التعيين والتخيير الشرعي.

ملاحظات عامّة حول الأقلّ والأكثر.

٤٢٥
٤٢٦

التقسيم الرئيسيّ للأقلّ والأكثر

درسنا في ما سبق حالة الشكِّ في أصل الوجوب ، وحالة العلم بالوجوب وتردّد متعلّقه بين أمرين متباينين ، فالاولى هي حالة الشكّ البدويّ التي تجري فيها البراءة الشرعية ، والثانية هي حالة الشكّ المقرون بالعلم الإجمالي التي تجري فيها أصالة الاشتغال. والآن ندرس حالة العلم بالوجوب وتردّد الواجب بين الأقلِّ والاكثر ، وهي على قسمين :

الأول : دوران الأمر بين الأقلّ والاكثر الاستقلاليَّين ، وهو يعني أنّ ما يتميّز به الأكثر على الأقلّ من الزيادة على تقدير وجوبه يكون واجباً مستقلاًّ عن وجوب الأقلّ ، كما إذا علم المكلف بأ نّه مَدين لغيره بدرهمٍ أو بدرهمين.

الثاني : دوران الأمر بين الأقلّ والاكثر الارتباطيّين ، وهو يعني : أنّ هناك وجوباً واحداً له امتثال واحد وعصيان واحد ، وهو : إمّا متعلّق بالأقلّ أو بالأكثر ، كما إذا علم المكلف بوجوب الصلاة وتردّدت الصلاة عنده بين تسعة أجزاءٍ وعشرة.

أمّا القسم الأول فلا شكّ في أنّ وجوب الأقلّ فيه منجَّز بالعلم ، وأنّ وجوب الزائد مشكوك بشكٍّ بدوي ، فتجري عنه البراءة عقلاً وشرعاً ، أو شرعاً فقط على الخلاف بين المسلكين.

وأمّا القسم الثاني فتندرج فيه عدّة مسائل نذكرها تباعاً :

٤٢٧

١ ـ الدوران بين الأقلِّ والأكثر في الأجزاء

وفي مثل ذلك قد يقال : بأنّ حاله حال القسم الأول ، فإنّ وجوب الأقلِّ منجَّز بالعلم ، ووجوب الزيادة ـ أي ما يشكّ في كونه جزءاً ـ مشكوك بدويّ فتجري عنه البراءة ؛ لأنّ هذا هو ما يقتضيه الدوران بين الأقل والأكثر بطبعه ، فإنّ كلّ دورانٍ من هذا القبيل يتعيَّن في علمٍ بالأقلِّ وشكٍّ في الزائد.

ولكن قد يعترض على إجراء البراءة عن وجوب الزائد في المقام ، ويبرهن على عدم جريانها بعدّة براهين :

البرهان الأول : [دعوى وجود العلم الإجمالي]

وهو يقوم على أساس دعوى وجود العلم الإجمالي المانع عن إجراء البراءة ، وليس هو العلم الإجمالي بوجوب الأقلّ أو وجوب الزائد لينفى ذلك بأنّ وجوب الزائد لا يحتمل كونه بديلاً عن الأقلّ ، فكيف يجعل طرفاً مقابلاً له في العلم الإجمالي. بل هو العلم الإجمالي بوجوب الأقلّ ، أو وجوب الأكثر المشتمل على الزائد ، ومعه لا يمكن إجراء الأصل لنفي وجوب الزائد ، لكونه جزءاً من أحد طرفي العلم الإجمالي.

وقد اجيب على هذا البرهان بوجوه :

منها : أنّ العلم الإجمالي المذكور منحلّ بالعلم التفصيلي بوجوب الأقلّ على كلّ تقدير ؛ لأنّ الواجب إن كان هو الأقلّ فهو واجب نفسي ، وإن كان الواجب هو الأكثر فالأقلّ واجب غيري ؛ لأنّه جزء الواجب ، وجزء الواجب مقدمة له.

ونلاحظ على هذا الوجه : أنّه إن اريد به هدم الركن الثاني من أركان تنجيز

٤٢٨

العلم الإجمالي فالجواب عليه : أنّ الانحلال إنّما يحصل إذا كان المعلوم التفصيلي مصداقاً للجامع المعلوم بالإجمال ، كما تقدم (١) ، وليس الأمر في المقام كذلك ؛ لأنّ الجامع المعلوم بالإجمال هو الوجوب النفسي ، والمعلوم التفصيلي وجوب الأقلّ ولو غيرياً.

وإن اريد به هدم الركن الثالث بدعوى أنّ وجوب الأقلّ منجَّز ـ على أيّ حالٍ ـ ولا تجري البراءة عنه ، فتجري البراءة عن الآخر بلا معارضٍ فالجواب عليه : أنّ الوجوب الغيري لا يساهم في التنجيز ، كما تقدّم في مباحث المقدمة (٢).

ومنها : أنّ العلم الإجمالي المذكور منحلّ بالعلم التفصيلي بالوجوب النفسي للأقلّ ؛ لأنّه واجب نفساً إمّا وحده ، أو في ضمن الأكثر ، وهذا المعلوم التفصيلي مصداق للجامع المعلوم بالإجمال ، فينحلّ العلم الإجمالي به.

وقد يجاب على هذا الانحلال بأجوبةٍ نذكر في مايلي مُهمَّها :

الجواب الأول : أنّ الجامع المعلوم إجمالاً هو الوجوب النفسي الاستقلالي إمّا للأقلّ ، أو للأكثر ، وما هو معلوم بالتفصيل في الأقلّ الوجوب النفسي ولو ضمناً ، فلا انحلال.

ويلاحظ : أنّ الاستقلالية معنىً منتزع من حدّ الوجوب وعدم شموله لغير ما تعلّق به ، والحدّ لا يقبل التنجّز ، ولا يدخل في العهدة ، وإنمّا يدخل فيها ويتنجَّز ذات الوجوب المحدود ، فالعلم الإجمالي بالوجوب النفسي الاستقلالي وإن لم

__________________

(١) تحت عنوان : أركان منجزيّة العلم الإجمالي ، عند بيان الركن الثاني.

(٢) في بحث الدليل العقلي من الجزء الأوّل من الحلقة الثالثة ، تحت عنوان : خصائص الوجوب الغيري.

٤٢٩

يكن منحلاًّ ولكنّ معلوم هذا العلم لا يصلح للدخول في العهدة ؛ لعدم قابلية حدّ الوجوب للتنجّز ، والعلم الإجمالي بذات الوجوب المحدود ـ بقطع النظر عن حدّ الاستقلالية ـ هو الذي ينجِّز معلومه ويدخله في العهدة ، وهذا العلم منحلّ بالعلم التفصيلي المشار اليه.

الجواب الثاني : أنّ وجوب الأقلِّ إذا كان استقلالياً فمتعلّقه الأقلّ مطلقاً من حيث انضمام الزائد وعدمه ، وإذا كان ضمنياً فمتعلّقه الأقلّ المقيّد بانضمام الزائد ، وهذا يعني أنّا نعلم إجمالاً إمّا بوجوب التسعة المطلقة ، أو التسعة المقيّدة ، والمقيّد يباين المطلق ، والعلم التفصيلي بوجوب التسعة على الإجمال ليس إلاّنفس ذلك العلم الإجمالي بعبارةٍ موجزة ، فلا معنى لانحلاله به.

ويلاحظ هنا أيضاً : أنّ الإطلاق ـ سواء كان عبارةً عن عدم لحاظ القيد ، أو لحاظ عدم دخل القيد ـ لا يدخل في العهدة ؛ لأنّه يقوِّم الصورة الذهنية ، وليس له محكيّ ومرئيّ يراد إيجابه زائداً على ذات الطبيعة بخلاف التقييد.

فإن اريد إثبات التنجيز للعلم الإجمالي بالإطلاق أو التقييد فهو غير ممكن ؛ لأنّ الإطلاق لا يقبل التنجّز.

وإن اريد إثبات التنجيز للعلم الإجمالي بالوجوب بالقدر الذي يقبل التنجّز ويدخل في العهدة فهو منحلّ. ولكن سيظهر ممّا يلي أنّ دعوى الانحلال غير صحيحة.

ومنها : أنّه إن لوحظ العلم بالوجوب بخصوصياته التي لا تصلح للتنجّز ـ من قبيل حدّ الاستقلالية والإطلاق ـ فهناك علم إجماليّ ولكنّه لا يصلح للتنجيز. وإن لوحظ العلم بالوجوب بالقدر الصالح للتنجّز فلا علمَ إجماليٌّ أصلاً ، بل هناك علم تفصيلي بوجوب التسعة وشكّ بدوي في وجوب الزائد ، فالبرهان الأول ساقط إذن. كما أنّ دعوى الانحلال ساقطة أيضاً ؛ لأنّها تستبطن الاعتراف بوجود

٤٣٠

علمين لولا الانحلال ، مع أنّه لا يوجد إلاّما عرفت.

ومنها : دعوى انهدام الركن الثالث ؛ لأنّ الأصل يجري عن وجوب الأكثر أو الزائد ، ولا يعارضه الأصل عن وجوب الأقلّ ؛ لأنّه إن اريد به التأمين في حالة ترك الأقلّ مع الإتيان بالأكثر فهو غير معقول ، إذ لا يعقل ترك الأقلّ مع الإتيان بالأكثر ، وإن اريد به التأمين في حالة ترك الأقل وترك الأكثر بتركه رأساً فهو غير ممكنٍ أيضاً ؛ لأنّ هذه الحالة هي حالة المخالفة القطعية ولا يمكن التأمين بلحاظها.

وهكذا نعرف أنّ الأصل [المؤمِّن] عن وجوب الأقلّ ليس له دور معقول ، فلا يعارض الأصل الآخر.

وهذا بيان صحيح في نفسه ، ولكنّه يستبطن الاعتراف بالركنين : الأول والثاني ومحاولة التخلّص بهدم الركن الثالث ، مع أنّك عرفت أنّ الركن الثاني غير تامٍّ في نفسه.

البرهان الثاني : [دعوى كون الشكّ في المحصّل]

والبرهان الثاني يقوم على دعوى أنّ المورد من موارد الشكّ في المحصِّل بالنسبة إلى الغرض ، وذلك ضمن النقاط التالية :

أولاً : أنّ هذا الواجب المردّد بين الأقلّ والأكثر للمولى غرض معيّن من إيجابه ؛ لأنّ الأحكام تابعة للملاكات في متعلّقاتها.

ثانياً : أنّ هذا الغرض منجّز ؛ لأنّه معلوم ، ولا إجمال في العلم به ، وليس مردّداً بين الأقلّ والأكثر ، وإنّما يشكّ في أنّه هل يحصل بالأقلّ ، أو بالأكثر؟

ثالثاً : يتبيّن ممّا تقدّم أنّ المقام من الشكّ في المحصِّل بالنسبة إلى الغرض ، وفي مثل ذلك تجري أصالة الاشتغال ، كما تقدم.

٤٣١

ويلاحظ على ذلك :

أولاً : أنّه من قال بأنّ الغرض ليس مردّداً بين الأقلّ والأكثر كنفس الواجب ، بأن يكون ذا مراتب ، وبعض مراتبه تحصل بالأقلّ ولا تستوفى كلّها إلاّ بالأكثر ، ويشكّ في أنّ الغرض الفعلي قائم ببعض المراتب أو بكلها ، فيجري عليه نفس ماجرى على الواجب؟

وثانياً : أنّ الغرض إنّما يتنجّز عقلاً بالوصول إذا وصل مقروناً بتصدّي المولى لتحصيله التشريعي ، وذلك بجعل الحكم على وفقه أو نحو ذلك. فما لم يثبت هذا التصدّي التشريعي بالنسبة إلى الأكثر بمنجِّز وما دام مؤمَّناً عنه بالأصل فلا أثر لاحتمال قيام ذات الغرض بالأكثر.

البرهان الثالث : [دعوى كون الشكّ في سقوط الأقلّ]

إنّ وجوب الأقلّ منجّز بحكم كونه معلوماً ، وهو مردّد ـ بحسب الفرض ـ بين كونه استقلالياً أو ضمنياً ، وفي حالة الاقتصار على الإتيان بالأقلّ يسقط هذا الوجوب المعلوم على تقدير كونه استقلالياً ؛ لحصول الامتثال ، ولا يسقط على تقدير كونه ضمنياً ؛ لأنّ الوجوبات الضمنية مترابطة ثبوتاً وسقوطاً ، فما لم تمتثل جميعاً لا يسقط شيء منها. وهذا يعني أنّ المكلّف الآتي بالأقل يشكّ في سقوط وجوب الأقلّ والخروج عن عهدته فلابدّ له من الاحتياط ، وليس هذا الاحتياط بلحاظ احتمال وجوب الزائد حتى يقال : إنّه شكّ في التكليف ، بل إنّما هو رعاية للتكليف بالأقلّ المنجَّز بالعلم واليقين ؛ نظراً إلى أنّ «الشغل اليقيني يستدعي الفراغ اليقيني».

والجواب على ذلك : أنّ الشكّ في سقوط تكليفٍ معلومٍ إنمّا يكون مجرىً لأصالة الاشتغال فيما إذا كان بسبب الشكّ في الإتيان بمتعلّقه ، وهذا غير حاصلٍ

٤٣٢

في المقام ؛ لأنّ التكليف بالأقلّ ـ سواء كان استقلالياً أو ضمنياً ـ قد أتى بمتعلّقه بحسب الفرض ، إذ ليس متعلّقه إلاّالأقلّ ، وإنمّا ينشأ احتمال عدم سقوطه من احتمال قصورٍ في نفس الوجوب بلحاظ ضمنيّته المانعة عن سقوطه مستقلًّا عن وجوب الزائد ، وهكذا يرجع الشكّ في السقوط هنا إلى الشكّ في ارتباط وجوب الأقلّ بوجوب زائد ، ومثل هذا الشكّ ليس مجرىً لأصالة الاشتغال ، بل يكون مؤمَّناً عنه بالأصل المؤمِّن عن ذلك الوجوب الزائد ، لا بمعنى أنّ ذلك الأصل يثبت سقوط وجوب الأقلّ ، بل بمعنى أنّه يجعل المكلف غير مطالبٍ من ناحية عدم السقوط الناشئ من وجوب الزائد.

البرهان الرابع : [العلم الإجمالي الناشئ من حرمة القطع]

وهو علم إجماليّ يجري في الواجبات التي يحرم قطعها عند الشروع فيها ، كالصلاة ، إذ يقال : بأنّ المكلّف إذا كبّر تكبيرة الإحرام ملحونةً وشكّ في كفايتها حصل له علم إجمالي : إمّا بوجوب إعادة الصلاة ، أو حرمة قطع هذا الفرد من الصلاة التي بدأ بها ؛ لأنّ الجزء إن كان يشمل الملحون حرم عليه قطع ما بيده ، وإلاّ وجبت عليه الإعادة ، فلابدّ له من الاحتياط ؛ لأنّ أصالة البراءة عن وجوب الزائد تعارض أصالة البراءة عن حرمة قطع هذا الفرد.

ونلاحظ على ذلك : أنّ حرمة قطع الصلاة موضوعها هو الصلاة التي يجوز للمكلف بحسب وظيفته الفعلية الاقتصار عليها في مقام الامتثال ، إذ لا إطلاق في دليل الحرمة لما هو أوسع من ذلك. وواضح أنّ انطباق هذا العنوان على الصلاة المفروضة فرع جريان البراءة عن وجوب الزائد ، وإلاّ لمَا جاز الاقتصار عليها عملاً ، وهذا يعني أنّ احتمال حرمة القطع مترتّب على جريان البراءة عن الزائد ، فلا يعقل أن يستتبع أصلاً معارضاً له.

٤٣٣

البرهان الخامس : [دعوى دوران الأمر بين عامّين من وجه]

وحاصله : تحويل الدوران في المقام إلى دوران الواجب بين عامَّين من وجهٍ بدلاً عن الأقلّ والأكثر ، وتوضيح ذلك ضمن مقدمتين :

الاولى : أنّ الواجب تارةً يدور أمره بين المتباينين ، كالظهر والجمعة.

واخرى بين العامَّين من وجه ، كإكرام العادل وإكرام الهاشمي. وثالثةً بين الأقلّ والأكثر.

ولا إشكال في تنجيز العلم الإجمالي في الحالة الاولى الموجب للجمع بين الفعلين ، وتنجيزه في الحالة الثانية الموجب لعدم جواز الاقتصار على إحدى مادّتَي الافتراق ، وأمّا الحالة الثالثة فهي محلّ الكلام.

الثانية : أنّ الواجب المردّد في المقام بين التسعة والعشرة إذا كان عبادياً فالنسبة بين امتثال الأمر على تقدير تعلّقه بالاقلّ وامتثاله على تقدير تعلّقه بالأكثر هي العموم من وجه ، ومادة الافتراق من ناحية الأمر بالأقلّ واضحة ، وهي : أن يأتي بالتسعة فقط. وأمّا مادة الافتراق من ناحية الأمر بالأكثر فلا تخلو من خفاءٍ في النظرة الاولى ؛ لأنّ امتثال الأمر بالأكثر يشتمل على الأقلّ حتماً.

ولكن يمكن تصوير مادة الافتراق في حالة كون الأمر عبادياً والإتيان بالأكثر بداعي الأمر المتعلّق بالأكثر على وجه التقييد على نحوٍ لو كان الأمر متعلّقاً بالأقل فقط لمَا انبعث عنه ، ففي مثل ذلك يتحقق امتثال الأمر بالأكثر على تقدير ثبوته ، ولا يكون امتثالاً للأمر بالاقل على تقدير ثبوته.

ويثبت على ضوء هاتين المقدمتين أنّ العلم الإجمالي في المقام منجِّز إذا كان الواجب عبادياً ، كما هو واضح.

والجواب : أنّ التقييد المفروض في النية لا يضرّ بصدق الامتثال على كلّ حالٍ حتّى للأمر بالأقلّ ما دام الانبعاث عن الأمر فعلياً.

٤٣٤

البرهان السادس : [لعلم الإجمالي الناشئ من مانعيّة الزيادة]

وهو يجري في الواجبات التي اعتبرت الزيادة فيها مانعةً ومبطلة ، كالصلاة. والزيادة هي الإتيان بفعلٍ بقصد الجزئية للمركّب مع عدم وقوعه جزءاً له شرعاً.

وحاصل البرهان : أنّ من يشكّ في جزئية السورة يعلم إجمالاً : إمّا بوجوب الإتيان بها ، وإمّا بأنّ الإتيان بها بقصد الجزئية مبطل ؛ لأنّها إن كانت جزءً حقاً وجب الإتيان بها ، وإلاّ كان الإتيان بها بقصد الجزئية زيادةً مبطلة ، وهذا العلم الإجمالي منجِّز وتحصل موافقته القطعية بالإتيان بها بدون قصد الجزئية ، بل لرجاء المطلوبية ، أو للمطلوبية في الجملة.

والجواب : أنّ هذا العلم الإجمالي منحلّ ؛ وذلك لأنّ هذا الشاكّ في الجزئية يعلم تفصيلاً بمبطلية الإتيان بالسورة بقصد الجزئية حتى لو كانت جزءً في الواقع ؛ لأنّ ذلك منه تشريع ما دام شاكّاً في الجزئية ، فيكون محرَّماً ولا يشمله الوجوب الضمني للسورة ، وهذا يعني كونه زيادة.

٤٣٥

٢ ـ الدوران بين الأقلّ والأكثر في الشرائط

والتحقيق فيها ـ على ضوء المسألة السابقة ـ هو جريان البراءة عن وجوب الزائد ؛ لأنّ مرجع الشرطية للواجب إلى تقيّد الفعل الواجب بقيدٍ وانبساط الأمر على التقيّد ، كما تقدم في موضعه (١) ، فالشكّ فيها شكّ في الأمر بالتقيّد ، والدوران إنمّا هو بين الأقلّ والأكثر إذا لوحظ المقدار الذي يدخل في العهدة ، وهذا يعني وجود علمٍ تفصيليٍّ بالأقلّ وشكٍّ بدويٍّ في الزائد ، فتجري البراءة عنه.

ولا فرق في ذلك بين أن يكون الشرط المشكوك راجعاً إلى متعلق الأمر ، كما في الشك في اشتراط العتق بالصيغة العربية واشتراط الصلاة بالطهارة ، أو إلى متعلّق المتعلق ، كما في الشكّ في اشتراط الرقبة التي يجب عتقها بالإيمان ، أو الفقير الذي يجب إطعامه بالهاشمية.

وقد ذهب المحقّق العراقي (٢) ـ قدّس الله روحه ـ إلى عدم جريان البراءة في بعض الحالات المذكورة ، ومردّ دعواه إلى أنّ الشرطية المحتملة على تقدير ثبوتها تارةً تتطلّب من المكلف في حالة إرادته الإتيان بالأقلّ أن يكمله ويضمّ اليه شرطه ، واخرى تتطلّب منه في الحالة المذكورة صرفه عن ذلك الأقلّ الناقص رأساً وإلغاءَه إذا كان قد أتى به ودفعه إلى الإتيان بفردٍ آخر كاملٍ واجدٍ للشرط.

ومثال الحالة الاولى : أن يعتق رقبةً كافرة ، فإنّ شرطية الإيمان في الرقبة تتطلّب منه أن يجعلها مؤمنةً عند عتقها ، وحيث إنّ جعل الكافر مؤمناً ممكن

__________________

(١) بحث الدليل العقلي من الجزء الأوّل من الحلقة الثالثة ، تحت عنوان : المسؤوليّة تجاه القيود والمقدّمات.

(٢) نهاية الأفكار ٣ : ٣٩٩.

٤٣٦

فالشرطية لا تقتضي إلغاء الأقلِّ رأساً ، بل تكميله ، وذلك بأن يجعل الكافر مؤمناً عند عتقه له فيعتقه وهو مؤمن.

ومثال الثاني : أن يطعم فقيراً غير هاشمي ، فإنّ شرطية الهاشمية تتطلّب منه إلغاء ذلك رأساً وصرفه إلى الإتيان بفردٍ جديدٍ من الإطعام ؛ لأنّ غير الهاشمي لا يمكن جعله هاشمياً.

ففي الحالة الاولى تجري البراءة عن الشرطية المشكوكة ؛ لأنّ مرجع الشكّ فيها إلى الشكّ في إيجاب ضمِّ أمرٍ زائدٍ إلى ما أتى به بعد الفراغ عن كون ما أتى به مصداقاً للمطلوب في الجملة. وهذا معنى العلم بوجوب الأقلّ والشكّ في وجوب الزائد ، فالأقلّ محفوظ على كلّ حالٍ والزائد مشكوك.

وفي الحالة الثانية لا تجري البراءة عن الشرطية ؛ لأنّ الأقلّ المأتيّ به ليس محفوظاً على كلّ حال ، إذ على تقدير الشرطية لابدّ من إلغائه رأساً ، فليس الشكّ في وجوب ضمِّ أمرٍ زائدٍ إلى ما أتى به ليكون من دوران الأمر بين الأقل والأكثر.

وهذا التحقيق لا يمكن الأخذ به ، فإنّ الدوران في كلتا الحالتين دوران بين الأقلّ والأكثر ؛ لأنّ الملحوظ فيه إنمّا هو عالم الجعل وتعلّق الوجوب ، وفي هذا العالم ذات الطبيعي معروض للوجوب جزماً ويشكّ في عروضه على التقيّد فتجري البراءة عنه ، وليس الملحوظ في الدوران عالم التطبيق خارجاً ليقال : إنّ ما اتي به من الأقلّ خارجاً قد لا يصلح لضمّ الزائد اليه ، ولابدّ من إلغائه رأساً على تقدير الشرطية.

ولا يختلف الحال في جريان البراءة عند الشكّ في الشرطية ووجوب التقيّد بين أن يكون القيد المشكوك أمراً وجودياً ـ وهو ما يعبَّر عنه بالشرط عادة ـ أو عدم أمرٍ وجودي ، ويعبّر عن الأمر الوجودي حينئذٍ بالمانع ، فكما لا يجب على المكلف إيجاد ما يحتمل شرطيته كذلك لا يجب عليه الاجتناب عمّا يحتمل مانعيّته ؛ وذلك لجريان الأصل المؤمِّن.

٤٣٧

٣ ـ دوران الواجب بين التعيين والتخيير العقلي

وذلك بأن يعلم بوجوب متعلّقٍ بعنوانٍ خاصٍّ أو بعنوانٍ آخر مغايرٍ له مفهوماً غير أنّه أعمّ منه صدقاً ، كما إذا علم بوجوب الإطعام إمّا لطبيعيّ الحيوان ، أو لنوعٍ خاصٍّ منه كالإنسان ، فإنّ الحيوان والإنسان كمفهومَين متغايران وإن كان أحدهما أعمّ من الآخر صدقاً.

والصحيح أن يقال : إنّ التغاير بين المفهومين تارةً يكون على أساس الإجمال والتفصيل في اللحاظ ، كما في الجنس والنوع ، فإنّ الجنس مندمج في النوع ومحفوظ فيه ولكن بنحو اللَفِّ والإجمال. واخرى يكون التغاير في ذات الملحوظ لا في مجرّد إجمال اللحاظ وتفصيليته ، كما لو علم بوجوب إكرام زيدٍ كيفما اتّفق أو بوجوب إطعامه ، فإنّ مفهوم الإكرام ليس محفوظاً في مفهوم الإطعام انحفاظ الجنس في النوع ، غير أنّ أحدهما أعمّ من الآخر صدقاً.

فالحالة الاولى تدخل في نطاق الدوران بين الأقلِّ والأكثر حقيقةً إذا أخذنا بالاعتبار مقدار ما يدخل في العهدة ، وليست من الدوران بين المتباينين ؛ لأنّ تباين المفهومين إنمّا هو بالإجمال والتفصيل ، وهما من خصوصيات اللحاظ التي لا تدخل في العهدة ، وإنمّا يدخل فيها ذات الملحوظ وهو مردّد بين الأقلّ ـ وهو الجنس ـ أو الأكثر وهو النوع.

وأمّا الحالة الثانية فالتباين فيها بين المفهومين ثابت في ذات الملحوظ ، لا في كيفية لحاظهما ، ومن هنا كان الدوران فيها دوراناً بين المتباينين ؛ لأنّ الداخل في العهدة إمّا هذا المفهوم ، أو ذاك ، وهذا يعني أنّ العلم الإجمالي ثابت ، ولكن مع هذا تجري البراءة عن وجوب أخصّ العنوانين صدقاً ، ولا تعارضها

٤٣٨

البراءة عن وجوب أعمّهما ؛ وفقاً للجواب الأخير من الأجوبة المتقدمة على البرهان الأول في المسألة الاولى من مسائل الدوران بين الأقلّ والاكثر الارتباطيين.

وذلك : أنّ البراءة عن وجوب الأعمّ ليس لها دور معقول لكي تصلح للمعارضة ؛ لأنّه إن اريد بها التأمين في حالة ترك الأعمِّ مع الإتيان بالأخصِّ فهو غير معقول ؛ لأنّ نفي الأعمّ يتضمّن نفي الأخصّ لا محالة. وإن اريد بها التأمين في حالة ترك الأعمّ بما يتضمّنه من ترك الأخصّ فهذا مستحيل ؛ لأنّ المخالفة القطعية ثابتة في هذه الحالة ، والأصل العمليّ إنمّا يؤمِّن عن المخالفة الاحتمالية ، لا القطعية.

٤٣٩

٤ ـ دوران الواجب بين التعيين والتخيير الشرعي

ونتكلّم في حكم هذا الدوران على عدّة مبانٍ في تصوير التخيير الشرعي الذي هو أحد طرفي الترديد في المقام :

فأولاً : نبدأ بالمبنى القائل : بأنّ مرجع التخيير الشرعي إلى وجوبين مشروطين وشرط كلٍّ منهما ترك متعلّق الآخر ، وهذا يعني أنّ «العتق» ـ مثلاً ـ الذي علم وجوبه إمّا تعييناً أو تخييراً واجب في حالة ترك «الإطعام» بلا شك ، ويشكّ في وجوبه حالة وقوع الإطعام ، فتجري البراءة عن هذا الوجوب ، وينتج ذلك التخيير عملياً.

وقد يقال كما في بعض إفادات المحقّق العراقي (١) : إنّ كلاًّ من الوجوب التعييني للعتق والوجوب التخييري فيه حيثية إلزامية يفقدها الآخر ، فيكون كلّ منهما مجرىً للأصل النافي ويتعارض الأصلان.

أمّا الحيثية الإلزامية في الوجوب التعييني للعتق التي يجري الأصل النافي للتأمين عنها فهي الإلزام بالعتق حتّى ممّن أطعم ، وهي حيثية لا يشتمل عليها الوجوب التخييري.

وأمّا الحيثية الإلزامية في الوجوب التخييري للعتق أو الإطعام التي يجري الأصل النافي للوجوب التخييري تأميناً عنها فهي تحريم ضمِّ ترك الإطعام إلى ترك العتق ، إذ بهذا الضمِّ تتحقّق المخالفة ، وهي حيثية لا يشتمل عليها الوجوب التعييني للعتق ، إذ على الوجوب التعييني تكون المخالفة متحقّقةً بنفس ترك العتق ،

__________________

(١) نهاية الأفكار ٣ : ٢٨٨ ـ ٢٨٩.

٤٤٠