دروس في علم الأصول - ج ٢

آية الله السيّد محمّد باقر الصدر

دروس في علم الأصول - ج ٢

المؤلف:

آية الله السيّد محمّد باقر الصدر


المحقق: لجنة التحقيق التابعة للمؤتمر العالمي للإمام الشهيد الصدر
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مركز الأبحاث والدراسات التخصصية للشهيد الصدر
الطبعة: ١
الصفحات: ٦٠٨
الجزء ١ الجزء ٢

ويستفاد من كلام المحقّق الإصفهانيِ (١) رحمه‌الله الاعتراض على اكتشاف الدليل الشرعيِّ من الإجماع بالنقطتين التاليتين :

الاولى : أنّ غاية ما يتطلّبه افتراض أنّ الفقهاء لايفتون بدون دليلٍ أن يكونوا قد استندوا إلى روايةٍ عن المعصوم اعتقدوا ظهورها في إثبات الحكم وحجّيتها سنداً ، وليس من الضروريِّ أن تكون الرواية في نظرنا لو اطّلعنا عليها ظاهرةً في نفس ما استظهروه منها ، كما أنّه ليس من الضروريِّ أن يكون اعتبار الرواية سنداً عند المجمعين مساوقاً لاعتبارها كذلك عندنا ، إذ قد لا نبني إلاّعلى حجّية خبر الثقة ، ويكون المجمعون قد عملوا بالرواية لبنائهم على حجّية الحَسن أو الموثّق.

الثانية : أنّ أصل كشف الإجماع عن وجود روايةٍ خاصّةٍ دالّةٍ على الحكم ليس صحيحاً ؛ لأنّنا إن كنّا نجد في مصادر الحديث روايةً من هذا القبيل فهي واصلة بنفسها ؛ لا بالإجماع ، ولابدّ من تقييمها بصورةٍ مباشرة. وإن كنا لا نجد شيئاً من هذا فلا يمكن أن نفترض وجود رواية ، إذ كيف نفسِّر حينئذٍ عدم ذكر أحدٍ من المجمعين لها في شيءٍ من كتب الحديث أو الاستدلال ؛ مع كونها هي الأساس لفتواهم ، على الرغم من أنّهم يذكرون من الأخبار حتّى مالا يستندون اليه في كثيرٍ من الأحيان؟!

ولنبدأ بالجواب على النقطة الثانية ، فنقول : إنّ الإجماع من أهل النظر والفتوى من فقهاء عصر الغيبة المتقدِّمِين لا نريد به أن نكتشف روايةً على النحو الذي فرضه المعترض لكي يبدو عدم ذكرها في كتب الحديث والفقه غريباً ، وإنمّا نكتشف به ـ في حالة عدم وجود مستندٍ لفظيٍّ محدَّدٍ للمجمعين ـ ارتكازاً ووضوحاً في الرؤية متلقّىً من الطبقات السابقة على اولئك الفقهاء والمتقدِّمِين ؛

__________________

(١) انظر نهاية الدراية ٣ : ١٨٥ ـ ١٨٦.

١٦١

لأنّ تلقِّي هذا الارتكاز والوضوح هو الذي يفسِّر حينئذٍ إجماع فقهاء عصر الغيبة المتقدِّمِين ، على الرغم من عدم وجود مستندٍ لفظيٍّ مشخّصٍ بأيديهم.

وهذا الارتكاز والوضوح لدى تلك الطبقات التي تشتمل على الرواة وحملة الحديث من معاصري الأئمّة عليهم‌السلام يكشف عادةً عن وجود مبرِّراتٍ كافيةٍ في مجموع السنّة التي عاصروها من قولٍ وفعلٍ وتقرير أوحت اليهم بذلك الوضوح والارتكاز ، وبهذا يزول الاستغراب المذكور ، إذ لا يفترض تلقّي المجمعين من فقهاء عصر الغيبة روايةً محدّدةً وعدم إشارتهم اليها ، وإنّما تلقّوا جوّاً عامّاً من الاقتناع والارتكاز الكاشف ، فمن الطبيعيّ أن لا تذكر رواية بعينها.

وعلى هذا الضوء يتّضح الجواب على النقطة الاولى أيضاً ؛ لأنّ المكتشَف بالإجماع ليس روايةً اعتياديةً ليُعترَض باحتمال عدم تماميتها سنداً أو دلالة ، بل هذا الجوّ العامّ من الاقتناع والارتكاز الذي يكشف عن الدليل الشرعي.

وجوهر النكتة في المقام هو افتراض الوسيط بين إجماع أهل النظر والفتوى من فقهاء عصر الغيبة والدليل الشرعي المباشر من المعصوم ، وهذا الوسيط هو الارتكاز لدى الطبقات السابقة من حملة الحديث وأمثالهم من معاصري الأئمّة ، وهذا الارتكاز هو الكاشف الحقيقيّ عن الدليل الشرعي. ولهذا فإنّ أيّ بديلٍ للإجماع المذكور في إثبات هذا الوسيط والكشف عنه يؤدّي نفس دور الإجماع ، فاذا أمكن أن نستكشف بقرائن مختلفةٍ أنّ سيرة المتشرّعة المعاصرين للأئمّة والمخالطين لهم واقتناعاتهم ومرتكزاتهم كانت منعقدةً على الالتزام بحكمٍ معيّن كفى ذلك في إثبات هذا الحكم.

وقد سبق عند الكلام عن طرق إثبات السيرة في الحلقة السابقة (١) ما ينفع

__________________

(١) في بحث وسائل الإحراز الوجداني ، تحت عنوان : الإحراز الوجداني للدليل الشرعي غير اللفظي.

١٦٢

في مجال تشخيص بعض هذه القرائن.

الشروط المساعدة على كشف الإجماع :

وعلى أساس ما عرفنا من طريقة اكتشاف الدليل الشرعيِّ بالإجماع وتسلسلها ، يمكن أن نذكر الامور التالية كشروطٍ أساسيةٍ لكشف الإجماع عن الدليل الشرعيّ بالطريقة المتقدّمة الذكر ، أو مساعدة على ذلك :

الأول : أنْ يكون الإجماع من قبل المتقدّمين من فقهاء عصر الغيبة الذين يتّصل عهدهم بعهد الرواة وحملة الحديث والمتشرعين المعاصرين للمعصومين ، لأنّ هؤلاء هم الذين يمكن أن يكشفوا عن ارتكاز عامٍّ لدى طبقة الرواة ومن اليهم ، دون الفقهاء المتأخّرين.

الثاني : أن لا يكون المجمعون أو جملة معتدّ بها منهم قد صرّحوا بمدركٍ محدَّدٍ لهم ، بل أن لا يكون هناك مدرك معيّن من المحتمل استناد المجمعين إليه ، وإلاّ كان المهمّ تقييم ذلك المدرك. نعم ، في هذه الحالة قد يشكِّل استناد المجمعين إلى المدرك المعيّن قوةً فيه ، ويكمل ما يبدو من نقصه.

ومثال ذلك : أن يثبت فهمُ معنىً معيَّنٍ للرواية من قبل كلّ الفقهاء المتقدّمين القريبين من عصر تلك الرواية والمتاخمين لها ، فإنّ ذلك قد يقضي على التشكيك المعاصر في ظهورها في ذلك المعنى ؛ نظراً لقرب اولئك من عصر النصّ وإحاطتهم بكثيرٍ من الظروف المحجوبة عنّا.

الثالث : أن لا توجد قرائن عكسية تدلّ على أنّه في عصر الرواة والمتشرّعة المعاصرين للأئمّة عليهم‌السلام لا يوجد ذلك الارتكاز والرؤية الواضحة اللَذَين يراد اكتشافهما عن طريق إجماع الفقهاء المتقدمين ، والوجه في هذا الشرط واضح بعد أن عرفنا كيفية تسلسل الاكتشاف ودور الوسيط المشار اليه فيه.

١٦٣

الرابع : أن تكون المسألة من المسائل التي لا مجال لتلقّي حكمها عادةً إلاّ من قبل الشارع ، وأمّا إذا كان بالإمكان تلقّيه من قاعدةٍ عقليةٍ ـ مثلاً ـ أو كانت مسألة تفريعية قد يستفاد حكمها من عموم دليلٍ أو إطلاقٍ فلا يتمّ الاكتشاف المذكور.

مقدار دلالة الإجماع :

لمَّا كان كشف الإجماع قائماً على أساس تجمّع أنظار أهل الفتوى على قضيةٍ واحدةٍ اختصّ بالمقدار المتّفق عليه ، ففيما إذا اختلفت الفتاوى بالعموم والخصوص لا يتمّ الإجماع إلاّبالنسبة لمورد الخاصّ. ويعتبر كشف الإجماع عن أصل الحكم بنحو القضية المهملة أقوى دائماً من كشفه عن الإطلاقات التفصيلية للحكم ؛ وذلك لأنّا عرفنا سابقاً (١) أنّ كشف الإجماع يعتمد على ما يشير إليه من الارتكاز في طبقة الرواة ومن إليهم ، وحينما نلاحظ الارتكاز المكتشف بالإجماع نجد أنّ احتمال وقوع الخطأ في تشخيص حدوده وامتداداته من قبل المجمعين أقوى نسبياً من احتمال خطئهم في أصل إدراك ذلك الارتكاز ، فإنّ الارتكاز بحكم كونه قضيةً معنويةً غير منصبَّةٍ في ألفاظٍ محدَّدةٍ قد يكتنف الغموض بعض امتداداته وإطلاقاته.

الإجماع البسيط والمركَّب :

يُقسَّم الإجماع إلى بسيطٍ ومركّب :

فالبسيط : هو الاتّفاق على رأيٍ معيّنٍ في المسألة.

__________________

(١) في الجواب على اعتراض المحقّق الإصفهاني رحمه‌الله حول كاشفيّة الإجماع.

١٦٤

والمركّب : هو انقسام الفقهاء إلى رأيين من مجموع ثلاثة وجوهٍ أو أكثر ، فيعتبر نفي الوجه الثالث ثابتاً بالإجماع المركّب.

وما تقدّم من الكلام كان الملحوظ فيه الإجماع البسيط ، وأمّا المركّب من الإجماع فإن افترضنا أنّ كلّ فقيهٍ من المجمعين يبني على نفي الوجه الثالث بصورةٍ مستقلّةٍ عن تبنّيه لرأيه فهذا يرجع في الحقيقة إلى الإجماع البسيط على نفي الثالث. وإن افترضنا أنّ نفي الوجه الثالث عند كلّ فقيهٍ كان مرتبطاً بإثبات ما تبنّاه من رأيٍ فهذا هو الإجماع المركّب على نفي الثالث ، ولا حجّيّة فيه ؛ لأنّ حجّيته إنّما هي باعتبار كشفه الناشئ من تجمّع القيم الاحتمالية لعدم الخطأ ، وفي المقام نعلم بالخطأ عند أحد الفريقين المتنازعين ، فلا يمكن أن تدخل القيم الاحتمالية كلّها في تكوين الكشف للإجماع المركّب ؛ لأنّها متعارضة في نفسها ، كما هو واضح.

٣ ـ الشُهرة

كلمة (الشهرة) بمعنى الذيوع والوضوح لغةً ، وتضاف في علم الاصول إلى الحديث تارةً ، وإلى الفتوى اخرى.

ويراد بالشهرة في الحديث : تعدّد رواة الحديث بدرجةٍ دون التواتر.

ويراد بالشهرة في الفتوى : انتشار الفتوى المعيّنة بين الفقهاء وشيوعها بدرجةٍ دون الإجماع.

ونحن إذا حدّدنا التواتر تحديداً كيفيّاً بالتعدّد الواصل إلى درجةٍ موجبة للعلم ـ ولو بمعنىً يشمل الاطمئنان ـ فسوف لا تتجاوز الشهرة في الحديث ـ التي فرض فيها أن تكون دون التواتر ـ درجة الظنّ ، والخبر الظنّي ليس من وسائل

١٦٥

الإحراز الوجدانيّ للدليل الشرعي ، بل يحتاج ثبوت حجّيته إلى التعبّد الشرعي ، كما يأتي (١).

وإذا حدّدنا الإجماع تحديداً كيفياً بتعدّد المفتين إلى درجةٍ موجبةٍ للعلم ـ ولو بمعنىً يشمل الاطمئنان ـ فسوف لا تتجاوز الشهرة في الفتوى ـ التي فرض فيها أن تكون دون الإجماع ـ درجة الظنّ بالدليل الشرعي ، وهو ليس كافياً ما لم يقم دليل على التعبّد بحجّيته.

وإذا حدّدنا الإجماع تحديداً كمّيّاً عددياً باتّفاق مجموعة الفقهاء كان معنى الشهرة في الفتوى تطابقَ الجزء الأكبر من هذه المجموعة : إمّا مع عدم وجود فكرةٍ عن آراء الآخرين ، أو مع الظنّ بموافقتهم أيضاً ، أو مع العلم بخلافهم.

والشهرة بهذا المعنى قد تدخل في الإجماع بالتحديد الكيفيّ المتقدّم ، وتوجب إحراز الدليل الشرعيّ بحساب الاحتمال ، وهو أمر يختلف من موردٍ إلى آخر. كما أنّ إحراز مخالفة البعض يعيق عن الكشف القطعيّ للشهرة بدرجةٍ تختلف تبعاً لنوعية البعض وموقعه ولخصوصياتٍ اخرى.

ثمّ إنّ في الشهرة في الفتوى بحثاً آخر في حجّيتها الشرعية تعبّداً ، وهذا خارج عن محلّ الكلام ، وإنّما يدخل في قسم الدليل غير الشرعي.

__________________

(١) في بحث وسائل الإحراز التعبّدي.

١٦٦

القسم الثاني

وسائل الإثبات التعبّدي

وأهمّ ما يذكر في هذا المجال عادةً خبر الواحد ، وهو كلّ خبرٍ لا يفيد العلم ، ولا شكّ في أنّه ليس حجّةً على الإطلاق وفي كلّ الحالات ، ولكنّ الكلام في حجّية بعض أقسامه ، كخبر الثقة مثلاً. والكلام يقع على مرحلتين :

المرحلة الاولى : في اثبات حجّية خبر الواحد على نحو القضية المهملة.

المرحلة الثانية : في تحديد دائرة هذه الحجّية وشروطها.

١٦٧

المرحلة الاولى

في إثبات أصل حجّية الأخبار

والمشهور بين العلماء هو المصير إلى حجّية خبر الواحد. وقد استدلّ على الحجّية بالكتاب الكريم والسنّة والعقل.

١ ـ [دلالة الكتاب على حجّية الخبر] :

أمّا ما استدلّ به من الكتاب الكريم فآيات :

منها : آية النبأ ، وهي قوله : (إنْ جاءَكُمْ فاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا أنْ تُصِيبُوا قَوْمَاً بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى ما فَعَلْتُمْ نَادِمينَ) (١).

ويمكن الاستدلال بها بوجهين :

الوجه الأوّل : أن يستدلّ بمفهوم الشرط فيها على أساس أنّها تشتمل على جملةٍ شرطيةٍ تربط الأمر بالتبيّن عن النبأ بمجيء الفاسق به ، فينتفي بانتفائه ، وهذا يعني عدم الأمر بالتبيّن عن النبأ في حالة مجيء العادل به ، وبذلك تثبت حجّية نبأ العادل ؛ لأنّ الأمر بالتبيّن الثابت في منطوق الآية : إِمّا أن يكون إرشاداً إلى عدم الحجّية ، وإمّا أن يكون إرشاداً إلى كون التبيّن شرطاً في جواز العمل بخبر الفاسق ، وهو ما يسمّى بالوجوب الشرطي ، كما تقدّم في مباحث الأمر (٢).

فعلى الأول يكون نفيه بعينه معناه الحجّية. وعلى الثاني يعني نفيه أنّ جواز

__________________

(١) الحجرات : ٦.

(٢) تحت عنوان : الأوامر الإرشاديّة.

١٦٨

العمل بخبر العادل ليس مشروطاً بالتبيّن ، وهذا بذاته يلائم جواز العمل به بدون تبيّن ـ وهو معنى الحجّة ـ ويلائم عدم جواز العمل به حتى مع التبيّن ؛ لأنّ الشرطية منتفية في كلتا الحالتين. ولكنّ الثاني غير محتمل ؛ لأنّه يجعل خبر العادل أسوأ من خبر الفاسق ، ولأ نّه يوجب المنع عن العمل بالدليل القطعي ؛ نظراً إلى أنّ الخبر بعد تبيّن صدقه يكون قطعياً ، فيتعيّن الأول ، وهو المطلوب.

ويوجد اعتراضان مهمّان على الاستدلال بمفهوم الشرط في المقام :

أحدهما : أنّ الشرط في الجملة مسوق لتحقّق الموضوع ، وفي مثل ذلك لا يثبت للجملة الشرطية مفهوم.

والتحقيق : أنّ الموضوع والشرط في الجملة الشرطية المذكورة يمكن تصويرهما بأنحاء :

منها : أن يكون الموضوع طبيعيّ النبأ ، والشرط مجيء الفاسق به.

ومنها : أن يكون الموضوع نبأ الفاسق ، والشرط مجيئه به ، فكأ نّه قال : نبأ الفاسق إذا جاءكم به فتبيّنوا.

ومنها : أن يكون الموضوع الجائي بالخبر ، والشرط فسقه ، فكأ نّه قال : الجائي بالخبر إذا كان فاسقاً فتبيّنوا.

ولا شكّ في ثبوت المفهوم في النحو الأخير ؛ لعدم كون الشرط حينئذٍ محقِّقاً للموضوع. كما لا شكّ في عدم المفهوم في النحو الثاني ؛ لأنّ الشرط حينئذٍ هو الاسلوب الوحيد لتحقيق الموضوع.

وأمّا في النحو الأول فالظاهر ثبوت المفهوم وإن كان الشرط محقِّقاً للموضوع ؛ لعدم كونه هو الاسلوب الوحيد لتحقيقه ، وفي مثل ذلك يثبت المفهوم ، كما تقدم توضيحه في مبحث مفهوم الشرط (١).

__________________

(١) تحت عنوان : الشرط المسوق لتحقّق الموضوع.

١٦٩

والظاهر من الآية الكريمة هو النحو الأول ، فالمفهوم إذن ثابت.

والاعتراض الآخر : يتلخّص فى محاولة لإبطال المفهوم عن طريق عموم التعليل بالجهالة الذي يقتضي إسراء الحكم المعلّل إلى سائر موارد عدم العلم.

ويجاب على هذا الاعتراض بوجوه :

أحدها : أنّ المفهوم مخصِّص لعموم التعليل ؛ لأنّه يثبت الحجّية لخبر العادل غير العلمي ، والتعليل يقتضي عدم حجّية كلّ ما لا يكون علمياً ، فالمفهوم أخصّ منه.

ويرد عليه : أنّ هذا إنّما يتمّ إذا انعقد للكلام ظهور في المفهوم ، ثمّ عارض عموماً من العمومات فإنّه يخصِّصه. وأمّا في المقام فلا ينعقد للكلام ظهور في المفهوم ؛ لأنّه متّصل بالتعليل ، وهو صالح للقرينية على عدم انحصار الجزاء بالشرط ، ومعه لا ينعقد الظهور في المفهوم لكي يكون مخصِّصاً.

ثانيها : أنّ المفهوم حاكم على عموم التعليل على ما ذكره المحقّق النائيني (١) رحمه‌الله ؛ وذلك لأنّ مفاده حجّية خبر العادل ، وحجّيته معناها ـ على مسلك جعل الطريقية ـ اعتباره علماً ، والتعليل موضوعه الجهل وعدم العلم ، فباعتبار خبر العادل علماً يخرج عن موضوع التعليل ، وهو معنى كون المفهوم حاكماً.

ويرد عليه : أنّه إذا كان مفاد المفهوم اعتبار خبر العادل علماً فمفاد المنطوق نفي هذا الاعتبار عن خبر الفاسق. وعليه فالتعليل يكون ناظراً إلى توسعة دائرة هذا النفي وتعميمه على كلِّ مالا يكون علمياً ، فكأنّ التعليل يقول : إنّ كلّ ما لا يكون علماً وجداناً لا أعتبره علماً. وبهذا يكون مفاد التعليل ومفاد المفهوم في رتبةٍ واحدةٍ ؛ أحدهما يثبت اعتبار خبر العادل علماً ، والآخر ينفي هذا الاعتبار ،

__________________

(١) فوائد الاصول ٣ : ١٧٢.

١٧٠

ولا موجب لحكومة أحدهما على الآخر.

ثالثها : ما ذكره المحقّق الخراسانيّ (١) رحمه‌الله من أنّ الجهالة المذكورة في التعليل ليست بمعنى عدم العلم ، بل بمعنى السفاهة والتصرّف غير المتّزن ، فلا يشمل خبر العادل الثقة ؛ لأنّه ليس سفاهةً ولا تصرّفاً غير متّزن.

الوجه الثاني : أن يستدلّ بمفهوم الوصف ، حيث انيط وجوب التبيّن بفسق المخبر ، فينتفي بانتفائه. ومفهوم الوصف : تارةً يستدلّ به في المقام بناءً على ثبوت المفهوم للوصف عموماً ، وتارةً يستدلّ به لامتيازٍ في المقام ، حتّى لو أنكرنا مفهوم الوصف في موارد اخرى.

وذلك بأن يقال : إنّ مقتضى قاعدة احترازية القيود انتفاء شخص ذلك الوجوب للتبيّن بانتفاء الفسق ، وعليه فوجوب التبيّن عن خبر العادل إن اريد به شمول شخص ذلك الوجوب له فهو خلاف القاعدة المذكورة. وإن اريد به شخص آخر من وجوب التبيّن مجعول على عنوان خبر العادل فهذا غير محتمل ؛ لأنّ معناه : أنّ خبر العادل بما هو خبر العادل دخيل في وجوب التبيّن هذا ، وهو غير محتملٍ ، فإنّ وجوب التبيّن : إمّا أن يكون بملاك مطلق الخبر ، أو بملاك كون المخبر فاسقاً ، ولا يحتمل دخل عدالة المخبِر في جعل وجوبٍ للتبيّن.

أمّا اللحاظ الأول للاستدلال بمفهوم الوصف فجوابه إنكار المفهوم للوصف ، خصوصاً في حالة ذكر الوصف بدون ذكر الموصوف.

وأمّا اللحاظ الثاني للاستدلال فجوابه : أنّ وجوب التبيّن ليس حكماً مجعولاً ، بل هو تعبير آخر عن عدم الحجّية ، ومرجع ربطه بعنوانٍ إلى أنّ ذلك العنوان لا يقتضي الحجّية ، فلا محذور في أن يكون خبر العادل موضوعاً لوجوب

__________________

(١) كفاية الاصول : ٣٤٠ ـ ٣٤١.

١٧١

التبيّن بهذا المعنى ؛ لأنّ موضوعيّته لهذا الوجوب مرجعها إلى عدم موضوعيّته للحجّية.

ومنها : آية النفر ، وهي قوله سبحانه وتعالى : (فَلَولَا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا في الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهمْ يَحْذَرون) (١).

وتقريب الاستدلال بها يتمّ من خلال الامور التالية :

أوّلاً : أنّها تدلّ على وجوب التحذّر لوجوه :

أحدها : أنّه وقع مدخولاً لأداة الترجّي الدالّة على المطلوبية في مثل المقام ، ومطلوبية التحذّر مساوقة لوجوبه ؛ لأنّ الحذر إن كان له مبرِّر فهو واجب ، وإلاّ لم يكن مطلوباً.

ثانيها : أنّ التحذّر وقع غايةً للنفر الواجب ، وغاية الواجب واجبة.

ثالثها : أنّه بدون افتراض وجوب التحذّر يصبح الأمر بالنفر والإنذار لغواً.

ثانياً : أنّ التحذّر واجب مطلقاً ، سواء أفاد الإنذار العلم للسامع أوْ لا ؛ لأنّ الوجوه المتقدّمة لإفادته تقتضي ثبوته كذلك.

ثالثاً : أنّ وجوب التحذّر حتى مع عدم حصول العلم لدى السامع مساوق للحجّية شرعاً ، إذ لو لم يكن إخبار المنذر حجّةً شرعاً لمَا وجب العمل به إلاّفي حال حصول العلم منه.

وقد يناقش في الأمر الأول بوجوهه الثلاثة ، وذلك بالاعتراض على أوّل تلك الوجوه : بأنّ الأداة مفادها وقوع مدخولها موقع الترقّب لا الترجّي ، ولذا قد يكون مدخولها مرغوباً عنه ، كما في قوله : «لعلّك عن بابك طردتني».

والاعتراض على ثاني تلك الوجوه : بأنّ غاية الواجب ليست دائماً واجبة ،

__________________

(١) التوبة : ١٢٢.

١٧٢

وإن كانت محبوبةً حتماً ، ولكن ليس من الضروري أن يتصدّى المولى لإيجابها ، بل قد يقتصر في مقام الطلب على تقريب المكلّف نحو الغاية ؛ وسدّ بابٍ من أبواب عدمها ، وذلك عند وجود محذورٍ مانعٍ عن التكليف بها وسدّ كلّ أبواب عدمها ، كمحذور المشقّة وغيره.

والاعتراض على ثالث تلك الوجوه : بأنّ الأمر بالنفر والإنذار ليس لغواً مع عدم الحجّية التعبّدية ؛ لأنّه كثيراً مّا يؤدّي إلى علم السامع فيكون منجِّزاً ، ولمَّا كان المُنذِر يحتمل دائماً ترتّب العلم على إنذاره ، أو مساهمة إنذاره في حصول العلم ولو لغير السامع المباشر فمن المعقول أمره بالإنذار مطلقاً.

وهذه المناقشة إذا تمّت جزئياً فلا تتمّ كلّياً ؛ لأنّ دلالة كلمة (لعلّ) على المطلوبية غير قابلةٍ للإنكار. وكون مفادها الترقّب وإن كان صحيحاً ولكنّ كونه ترقّبَ المحبوب أو ترقّب المخوف يتعيّن بالسياق ، ولا شكّ في تعيين السياق في المقام للأول.

وقد يناقش في الأمر الثاني ـ بعد تسليم الأول ـ : بأنّ الآية الكريمة لا تدلّ على إطلاق وجوب التحذّر لحالة عدم علم السامع بصدق المنذِر ، وذلك لوجهين :

أحدهما : أنّ الآية لم تُسَقْ من حيث الأساس لإفادة وجوب التحذّر لنتمسّك بإطلاقها لإثبات وجوبه على كلّ حال ، وإنّما هي مسوقة لإفادة وجوب الإنذار ، فيثبت بإطلاقها أنّ وجوب الإنذار ثابت على كلّ حال ، وقد لا يوجب المولى التحذّر إلاّعلى من حصل له العلم ، ولكنّه يوجب الإنذار على كلّ حال ، وذلك احتياطاً منه في مقام التشريع ؛ لعدم تمكّنه من إعطاء الضابطة للتمييز بين حالات استتباع الإنذار للعلم أو مساهمته فيه وغيرها.

والوجه الآخر : ما يدّعى من وجود قرينةٍ في الآية على عدم الإطلاق ؛ لظهورها في تعلّق الإنذار بما تفقّه فيه المنذِر في هجرته ، وكون الحذر المطلوب

١٧٣

مترقّباً عقيب هذا النحو من الإنذار ، فمع شكّ السامع في ذلك لا يمكن التمسّك بإطلاق الآية لإثبات مطلوبية الحذر.

ويمكن النقاش في الأمر الثالث : بأنّ وجوب التحذّر مترتّب على عنوان الإنذار ، لا مجرّد الإخبار ، والإنذار يستبطن وجود خطرٍ سابق ، وهذا يعني أنّ الإنذار ليس هو المنجِّز والمستتبع لاحتمال الخطر بجعل الشارع الحجّية له ، وإنّما هو مسبوق بتنجّز الأحكام في المرتبة السابقة بالعلم الإجمالي ، أو الشكّ قبل الفحص.

هذا ، مضافاً إلى أنّ تنجّز الأحكام الإلزامية بالإخبار غير القطعيّ لا يتوقّف على جعل الحجّية للخبر شرعاً بناءً على مسلك حقّ الطاعة ، كما هو واضح.

٢ ـ دلالة السنّة على حجّية الخبر

وأمّا السنّة فهناك طريقان لإثباتها :

أحدهما : الأخبار الدالّة على الحجّية ، ولكي يصحَّ الاستدلال بها على حجّية خبر الواحد لابدّ أن تكون قطعية الصدور ، وتذكر في هذا المجال طوائف عديدة من الروايات ، والظاهر أنّ كثيراً منها لا يدلّ على الحجّية.

وفي ما يلي نستعرض بإيجازٍ جُلَّ هذه الطوائف ليتّضح الحال :

الطائفة الاولى : ما دلّ على التصديق الواقعيِّ ببعض روايات الثقات ، من قبيل ما ورد عن العسكري عليه‌السلام عندما عرض عليه كتاب (يوم وليلة) ليونس بن عبدالرحمان ، إذ قال : «هذا ديني ودين آبائي ، وهو الحقّ كلّه» (١).

وهذا مردّه إلى الإخبار عن المطابقة للواقع ، وهو غير الحجّية التعبّدية التي

__________________

(١) وسائل الشيعة ٢٧ : ١٠٠ ، الباب ٨ من أبواب صفات القاضي ، الحديث ٧٥.

١٧٤

تجعل عند الشكّ في المطابقة.

الطائفة الثانية : ما تضمّن الحثّ على تحمّل الحديث وحفظه ، من قبيل قول النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «من حفظ على امّتي أربعين حديثاً بعثه الله فقيهاً عالماً يوم القيامة» (١).

وهذا لايدلّ على الحجّية أيضاً ، إذ لا شكّ في أنّ تحمّل الحديث وحفظه من أهمّ المستحبّات ، بل من الواجبات الكفائية ؛ لتوقّف حفظ الشريعة عليه ، ولا يلزم من ذلك وجوب القبول تعبّداً مع الشكّ.

ومثل ذلك ما دلّ على الثناء على المحدّثين ، أو الأمر بحفظ الكتب ، والترغيب في الكتابة (٢).

الطائفة الثالثة : ما دلّ على الأمر بنقل بعض النكات والمضامين ، من قبيل قول أبي عبدالله عليه‌السلام : «يا أبان ، إذا قدمت الكوفة فاروِ هذا الحديث ...» (٣).

والصحيح : أنّ الأمر بالنقل يكفي في وجاهته احتمال تمامية الحجّة بذلك بحصول الوثوق لدى السامعين ، ولا يتوقّف على افتراض الحجّية التعبّدية.

الطائفة الرابعة : ما دلّ على أنّ انتفاع السامع بالرواية قد يكون أكثر من انتفاع الراوي ، من قبيل قولهم : «فربَّ حامل فقهٍ إلى من هو أفقه منه» (٤).

ونلاحظ : أنّ هذه الطائفة ليست في مقام بيان أنّ النقل يثبت المنقول للسامع تعبّداً ، وإلاّ لكان الناقل دائماً من هذه الناحية أفضل حالاً من السامع ؛ لأنّ

__________________

(١) وسائل الشيعة ٢٧ : ٩٩ ، الباب ٨ من أبواب صفات القاضي ، الحديث ٧٢.

(٢) وسائل الشيعة ٢٧ : ٨١ ـ ٨٢ ، الباب ٨ من أبواب صفات القاضي ، الأحاديث ١٥ و ١٦ و ١٧ و ١٨ و ١٩ و ٢٠ و ٢١.

(٣) الكافي ٢ : ٥٢٠ ، باب من قال : «لا إله إلاّالله مخلصاً» ، الحديث الأوّل.

(٤) وسائل الشيعة ٢٧ : ٨٩ ، الباب ٨ من أبواب صفات القاضي ، الحديث ٤٣.

١٧٥

الثبوت لديه وجداني ، بل هي بعد افتراض ثبوت المنقول تريد أن توضِّح أنّ المهمَّ ليس حفظ الألفاظ ، بل إدراك المعاني واستيعابها ، وفي ذلك قد يتفوّق السامع على الناقل.

الطائفة الخامسة : ما دلّ على ذمّ الكذب عليهم ، والتحذير من الكذّابين عليهم ، فإنّه لو لم يكن خبر الواحد مقبولاً لمَا كان هناك أثر للكذب ليستحقّ التحذير.

والصحيح : أنّ الكذب كثيراً مّا يوجب اقتناع السامع خطأً ، وإذا افترض في مجال العقائد واصول الدين كفى في خطره مجرّد إيجاد الاحتمال والظنّ. فاهتمام الأئمّة عليهم‌السلام بالتحذير من الكاذب لا يتوقّف على افتراض الحجّية التعبّدية.

الطائفة السادسة : ما ورد في الإرجاع إلى آحادٍ من أصحاب الأئمة بدون إعطاء ضابطةٍ كلّيةٍ للإرجاع ، من قبيل إرجاع الإمام إلى زرارة بقوله : «إذا أردت حديثاً فعليك بهذا الجالس» (١).

أو قول الإمام الهادي عليه‌السلام : «فاسأل عنه عبدالعظيم بن عبدالله الحسني واقرأه منّي السلام» (٢).

وروايات الإرجاع التي هي من هذا القبيل لمَّا كانت غير متضمّنةٍ للضابطة الكلّية فلا يمكن إثبات حجّية خبر الثقة بها مطلقاً ، حتّى في حالة احتمال تعمّد الكذب ، إذ من الممكن أن يكون إرجاع الإمام بنفسه معبِّراً عن ثقته ويقينه بعدم تعمّد الكذب ما دام إرجاعاً شخصياً غير معلَّل.

__________________

(١) وسائل الشيعة ٢٧ : ١٤٣ ، الباب ١١ من أبواب صفات القاضي ، الحديث ١٩ ، وفيه : (حديثنا) ، بدل (حديثاً).

(٢) مستدرك الوسائل ١٧ : ٣٢١ ، الباب ١١ من أبواب صفات القاضي ، الحديث ٣٢.

١٧٦

الطائفة السابعة : ما دلّ على ذمّ من يطرح ما يسمعه من حديثٍ بمجرّد عدم قبول طبعه له ، من قبيل قوله عليه‌السلام : «وأسوأهم عندي حالاً وأمقتهم الذي يسمع الحديث يُنسب الينا ويروى عنا فلم يقبله ، اشمئزَّ منه وجحده ، وكفَّر من دان به ، وهو لا يدري لعلّ الحديث من عندنا خرج ، وإلينا اسند» (١).

إذ قد يقال : لولا حجّية الخبر لمَا استحقّ الطارح هذا الذمّ.

والجواب : أنّه استحقّه على الاعتماد على الذوق والرأي في طرح الرواية بدون تتبّعٍ وإعمالٍ للموازين ، وعلى التسرّع بالنفي والإنكار ، مع أنّ مجرّد عدم الحجّية لا يسوِّغ الإنكار والتكفير.

الطائفة الثامنة : ما ورد في الخبرين المتعارضين من الترجيح بموافقة الكتاب ومخالفة العامّة ، فلولا أنّ خبر الواحد حجّة لمَا كان هناك معنىً لفرض التعارض بين الخبرين وإعمال المرجّحات بينهما.

ونلاحظ : أنّ دليل الترجيح هذا يناسب الحديثين القطعيين صدوراً إذا تعارضا ، فلا يتوقّف تعقّله على افتراض الحجّية التعبّدية.

الطائفة التاسعة : ما ورد في الخبرين المتعارضين من الترجيح بالأوثقيّة (٢) ونحوها من الصفات الدخيلة في زيادة قيمة الخبر وقوّة الظنّ بصدوره ، وتقريب الاستدلال كما تقدّم في الطائفة السابقة.

ولا يمكن هنا حمل هذا الدليل على الحديثين القطعيّين ؛ لأنّ الأوثقيّة لا أثر لها فيهما ما دام كلّ منهما مقطوع الصدور.

__________________

(١) وسائل الشيعة ٢٧ : ٨٧ ، الباب ٨ من أبواب صفات القاضي ، الحديث ٣٩.

(٢) وسائل الشيعة ٢٧ : ١٠٦ ، الباب ٩ من أبواب صفات القاضي ، الحديث الأوّل ، ومستدرك الوسائل ١٧ : ٣٠٣ ، الحديث ٢.

١٧٧

الطائفة العاشرة : ما دلّ بشكلٍ وآخر على الإرجاع إلى كلّيِّ الثقة : إمّا ابتداءً (١) ، وإمّا تعليلاً للإرجاع إلى أشخاصٍ معيّنين (٢) على نحوٍ يفهم منه الضابط الكلّي ، وهذه الطائفة هي أحسن مافي الباب.

وفي روايات هذه الطائفة مالا يخلو من مناقشةٍ أيضاً ، من قبيل قوله : «فإنّه لا عذر لأحدٍ من موالينا في التشكيك في ما روى عنّا ثقاتنا ، قد عرفوا بأ نّنا نفاوضهم بسرّنا ، ونحمله إيّاهم اليهم» (٣).

فإنّ عنوان ثقاتنا أخصّ من عنوان الثقات ، ولعلّه يتناول خصوص الأشخاص المعتمَدِين شخصياً للإمام والمؤتمنين من قِبَله ، فلا يدلّ على الحجّية في نطاقٍ أوسع من ذلك.

وفي روايات هذه الطائفة ما لا مناقشة في دلالتها ، من قبيل ما رواه محمد ابن عيسى ، قال : قلت لأبي الحسن الرضا عليه‌السلام : جعلت فداك ، إنّي لا أكاد أصل إليك لأسألك عن كلّ ما أحتاج اليه من معالم ديني ، أفيونس بن عبدالرحمان ثقة آخذ عنه ما أحتاج اليه من معالم ديني؟ فقال : «نعم» (٤).

ولمّا كان المرتكز في ذهن الراوي أنّ مناط التحويل هو الوثاقة وأقرّه الإمام على ذلك دلّ الحديث على حجّية خبر الثقة.

غير أنّ عدد الروايات التامّة دلالةً على هذا المنوال لا يبلغ مستوى التواتر ؛ لأ نّه عدد محدود. نعم ، قد تُبذل عنايات في تجميع ملاحظاتٍ توجب الاطمئنان

__________________

(١) وسائل الشيعة ٢٧ : ١٥٠ ، الباب ١١ من أبواب صفات القاضي ، الحديث ٤٠.

(٢) وسائل الشيعة ١٨ : ٩٩ و ١٠١ ، الباب ١١ من أبواب صفات القاضي ، الحديثان ٤ و ٩.

(٣) راجع الهامش رقم (١) وفيه : «إيّاه» بدل «إيّاهم».

(٤) وسائل الشيعة ٢٧ : ١٤٧ ، الباب ١١ من أبواب صفات القاضي ، الحديث ٣٣.

١٧٨

الشخصيَّ بصدور بعض هذه الروايات لمزايا في رجال سندها ، ونحو ذلك.

والطريق الآخر لإثبات السنّة هو السيرة ، وذلك بتقريبين :

الأول : الاستدلال بسيرة المتشرِّعة من أصحاب الأئمّة على العمل بأخبار الثقات ، وقد تقدّم في الحلقة السابقة (١) بيان الطريق لإثبات هذه السيرة ، كما تقدّم كيفية استكشاف الدليل الشرعيّ عن طريق السيرة ، سواء كانت سيرة اولئك المتشرِّعة على ما ذكرناه بوصفهم الشرعي ، أو بما هم عقلاء.

الثاني : الاستدلال بسيرة العقلاء على التعويل على أخبار الثقات ، وذلك أنّ شأن العقلاء ـ سواء في مجال أغراضهم الشخصية التكوينية ، أو في مجال الأغراض التشريعية وعلاقات الآمرين بالمأمورين ـ العمل بخبر الثقة والاعتماد عليه ، وهذا الشأن العامّ للعقلاء يوجب قريحةً وعادةً لو تُرك العقلاء على سجيّتهم لأعملوها في علاقاتهم مع الشارع ، ولعوَّلوا على أخبار الثقات في تعيين أحكامه. وفي حالةٍ من هذا القبيل لو أنّ الشارع كان لا يقرّ حجّية خبر الثقة لتعيَّن عليه الردع عنها حفاظاً على غرضه ، فعدم الردع حينئذٍ معناه التقرير ومؤدّاه الإمضاء.

والفارق بين التقريبين : أنّ التقريب الأول يتكفّل مؤونة إثبات جري أصحاب الأئمة فعلاً على العمل بخبر الثقة ، بينما التقريب الثاني لا يدّعي ذلك ، بل يكتفي بإثبات المَيل العقلائيِّ العامِّ إلى العمل بخبر الثقة ، الأمر الذي يفرض على الشارع الردع عنه ـ على فرض عدم الحجّية ـ لئلاّ يتسرّب هذا المَيل إلى مجال الشرعيات.

وهناك اعتراض يواجه الاستدلال بالسيرة ، وهو : أنّ السيرة مردوع عنها

__________________

(١) في بحث وسائل الإثبات التعبّدي ، عند بيان التمسّك بالسنّة لإثبات حجّية خبر الواحد.

١٧٩

بالآيات الناهية عن العمل بالظنّ الشاملة بإطلاقها لخبر الواحد.

وتوجد عدّة أجوبةٍ على هذا الاعتراض :

الجواب الأول : ما ذكره المحقّق النائينيّ (١) رحمه‌الله من : أنّ السيرة حاكمة على تلك الآيات ؛ لأنّها تخرج خبر الثقة عن الظنّ وتجعله عِلماً بناءً على مسلك جعل الطريقية في تفسير الحجّية.

ونلاحظ على ذلك :

أولاً : أنّه إذا كان معنى الحجّية جعل الأمارة علماً كان مفاد الآيات النافية لحجّية غير العلم نفيَ جعلها علماً ، وهذا يعني أنّ مدلولها في عرض مدلول ما يدلّ على الحجّية ، وكلا المدلولين موضوعهما ذات الظنّ ، فلا معنى لحكومته المذكورة.

ثانياً : أنّ الحاكم إن كان هو نفس البناء العقلائي فهذا غير معقول ؛ لأنّ الحاكم يوسِّع موضوع الحكم أو يضيِّقه في الدليل المحكوم ، وذلك من شأن نفس جاعل الحكم المراد توسيعه أو تضييقه ، ولا معنى لِأَنْ يوسِّع العقلاء أو يضيّقوا حكماً مجعولاً من قبل غيرهم.

وإن كان الحاكم الموسِّع والمضيِّق هو الشارع بإمضائه للسيرة فهذا يعني أنّه لابدّ لنا من العلم بالإمضاء لكي نحرز الحاكم. والكلام في أنّه كيف يمكن إحراز الإمضاء مع وجود النواهي المذكورة الدالّة على عدم الحجّية؟

الجواب الثاني : ما ذكره صاحب الكفاية (٢) رحمه‌الله من : أنّ الردع عن السيرة بتلك العمومات الناهية غير معقول ؛ لأنّه دور. وبيانه : أنّ الردع بالعمومات عنها

__________________

(١) فوائد الاصول ٣ : ١٦١ ـ ١٦٢.

(٢) كفاية الاصول : ٣٤٨.

١٨٠