دروس في علم الأصول - ج ٢

آية الله السيّد محمّد باقر الصدر

دروس في علم الأصول - ج ٢

المؤلف:

آية الله السيّد محمّد باقر الصدر


المحقق: لجنة التحقيق التابعة للمؤتمر العالمي للإمام الشهيد الصدر
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مركز الأبحاث والدراسات التخصصية للشهيد الصدر
الطبعة: ١
الصفحات: ٦٠٨
الجزء ١ الجزء ٢

الاخرَيَين ؛ لأنّ لحاظ ماهيّة الإنسان في الذهن :

تارةً : يقترن مع لحاظ صفة العلم ، وهذا ما يسمّى بالمقيّد ، أو لحاظ الماهيّة بشرط شيء.

واخرى : يقترن مع لحاظ عدم صفة العلم ، وهذا نحو آخر من المقيّد ، ويسمّى (لحاظ الماهيّة بشرط لا).

وثالثةً : لا يقترن بأيّ واحدٍ من هذين اللحاظين ، وهذا ما يسمّى ب (المطلق) ، أو (لحاظ الماهية لا بشرط).

وهذه حصص ثلاث عرضية في اللحاظ في وعاء الذهن.

وإذا دقّقنا النظر وجدنا أنّ هذه الحصص الثلاث من لحاظ الماهيّة تتميز بخصوصياتٍ ذهنيةٍ وجوداً وعدماً ، وهي : لحاظ الوصف ، ولحاظ عدمه ، وعدم اللحاظين. وأمّا الحصّتان الممكنتان للماهيّة في الخارج فتتميَّز كلّ واحدةٍ منهما بخصوصيةٍ خارجيةٍ وجوداً وعدماً ، وهي : وجود الوصف خارجاً ، وعدمه كذلك.

وتسمّى الخصوصيات التي تتميّز بها الحصص الثلاث لِلحاظ الماهيّة في الذهن بعضها عن بعضٍ بالقيود الثانوية ، وتسمّى الخصوصيات التي تتميّز بها الحصّتان في الخارج إحداهما عن الاخرى بالقيود الأوّلية.

ونلاحظ أنّ القيد الثانويّ المميّز للحاظ الماهيّة بشرط شيء ـ وهو لحاظ صفة العلم ـ مرآة لقيدٍ أوّلي ، وهو نفس صفة العلم المميّز لإحدى الحصّتين الخارجيّتين ، ومن هنا كان لحاظ الماهيّة بشرط شيءٍ مطابقاً للحصّة الخارجية الاولى.

كما نلاحظ أنّ القيد الثانويّ المميِّز للحاظ الماهيّة بشرط لا وهو لحاظ عدم صفة العلم مرآة لقيدٍ أوّلي ، وهو عدم صفة العلم المميِّز للحصّة الخارجية الاخرى ، ومن هنا كان لحاظ الماهيّة بشرط لا مطابقاً للحصّة الخارجية الثانية.

١٠١

وأمّا القيد الثانويّ المميِّز للحاظ الماهية لا بشرطٍ ـ وهو عدم كلا اللحاظين ـ فليس مرآة لقيدٍ أوّلي ؛ لأنّه عدم اللحاظ ، وعدم اللحاظ ليس مرآةً لشيء.

ومن هنا كان المرئيّ بلحاظ الماهية لا بشرط ذات الماهيّة المحفوظة في ضمن المطلق والمقيّد. وعلى هذا الأساس صحّ القول بأنّ المرئيّ والملحوظ باللحاظ الثالث اللابشرطيّ جامع بين المرئيّين والملحوظين باللحاظين السابقين ؛ لا نحفاظه فيهما ، وإن كانت نفس الرؤية واللحاظ متباينةً في اللحاظات الثلاثة.

فاللحاظ اللابشرطيّ بما هو لحاظ يقابل اللحاظين الآخَرين وقسم ثالث لهما ، ولهذا يسمّى باللابشرط القسمي ، ولكن إذا التفت إلى ملحوظه مع الملحوظ في اللحاظين الآخرين كان جامعاً بينهما ، لا قسماً في مقابلهما ، بدليل انحفاظه فيهما معاً ، والقسم لا يحفظ في القسم المقابل له.

ثمّ إذا تجاوزنا وعاء المعقولات الأوّلية للذهن إلى وعاء المعقولات الثانية التي ينتزعها الذهن من لحاظاته وتعقّلاته الأوّلية وجدنا أنّ الذهن ينتزع جامعاً بين اللحاظات الثلاثة للماهيّة المتقدّمة ، وهو عنوان لحاظ الماهيّة من دون أن يقيّد هذا اللحاظ بلحاظ الوصف ، ولا بلحاظ عدمه ، ولا بعدم اللحاظين ، وهذا جامع بين لحاظات الماهيّة الثلاثة في الذهن ، ويسمّى بالماهية اللابشرط المقسمي تمييزاً له عن لحاظ الماهية اللابشرط القسمي ؛ لأنّ ذاك أحد الأقسام الثلاثة للماهيّة في الذهن ، وهذا هو الجامع بين تلك الأقسام الثلاثة.

[وضع اسم الجنس :]

إذا توضّحت هذه المقدمة فنقول : لا شكّ في أنّ اسم الجنس ليس موضوعاً للماهيّة اللا بشرط المقسميّ ؛ لأنّ هذا جامع ـ كما عرفت ـ بين الحصص

١٠٢

واللحاظات الذهنية ، لا بين الحصص الخارجية ، كما أنّه ليس موضوعاً للماهيّة المأخوذة بشرط شيءٍ أو بشرط لا ؛ لوضوح عدم دلالة اللفظ على القيد غير الداخل في حاقِّ المفهوم فيتعيّن كونه موضوعاً للماهيّة المعتبرة على نحو اللابشرط القسمي.

وهذا المقدار ممّا لا ينبغي الإشكال فيه ، وإنّما الكلام في أنّه هل هو موضوع للصورة الذهنية الثالثة ـ التي تمثِّل الماهيّة اللابشرط القسمي ـ بحدِّها الذي تتميّز به عن الصورتين الاخريين ، أو لذات المفهوم المرئيّ بتلك الصورة ، وليست الصورة بحدّها إلاّمرآةً لما هو الموضوع له؟

فعلى الأول يكون الإطلاق مدلولاً وضعياً لِلَّفظ. وعلى الثاني لا يكون كذلك ؛ لأنّ ذات المرئيّ والملحوظ بهذه الصورة لا يشتمل إلاّعلى ذات الماهيّة المحفوظة في ضمن المقيّد أيضاً ، ولهذا أشرنا سابقاً (١) إلى أنّ المرئيّ باللحاظ الثالث جامع بين المرئيَّين والملحوظين باللحاظين السابقين لانحفاظه فيهما.

ولا شكّ في أنّ الثاني هو المتعيّن ، وقد استدلّ على ذلك :

أولاً : بالوجدان العرفيّ واللغوي.

وثانياً : بأنّ الإطلاق حدّ للصورة الذهنية الثالثة ، فأخذه قيداً معناه وضع اللفظ للصورة الذهنية المحدَّدة به ، وهذا يعني أنّ مدلول اللفظ أمر ذهنيّ ولا ينطبق على الخارج.

وعلى هذا فاسم الجنس لا يدلّ بنفسه على الإطلاق ، كما لا يدلّ على التقييد ، ويحتاج إفادة كلٍّ منهما إلى دالٍّ ، والدالّ على التقييد خاصّ عادةً ، وأمّا الدالّ على الإطلاق فهو قرينة عامّة تسمّى بقرينة الحكمة على ما يأتي إن شاء الله تعالى.

__________________

(١) أي في نفس هذه المقدّمة التي وضعت لتوضيح أنحاء لحاظ الماهيّة.

١٠٣

التقابل بين الإطلاق والتقييد :

عرفنا أنّ الماهيّة عند ملاحظتها من قبل الحاكم أو غيره : تارةً تكون مطلقة ، واخرى مقيّدة ، وهذان الوصفان متقابلان ، غير أنّ الأعلام اختلفوا في تشخيص هويّة هذا التقابل.

فهناك القول بأ نّه من تقابل التضادّ ، وهو مختار السيّد الاستاذ (١).

وقول آخر : بأ نّه من تقابل العدم والملكة (٢).

وقول ثالث : بأ نّه من تقابل التناقض (٣).

وذلك لأنّ الإطلاق إن كان هو مجرّد عدم لحاظ وصف العلم وجوداً وعدماً تمّ القول الثالث. وإن كان عدم لحاظه حيث يمكن لحاظه تمّ القول الثاني. وإن كان الإطلاق لحاظ رفض القيد تمّ القول الأول.

والفوارق بين هذه الأقوال تظهر في ما يلي :

١ ـ لا يمكن تصوّر حالةٍ ثالثةٍ غير الإطلاق والتقييد على القول الثالث ؛ لاستحالة ارتفاع النقيضين ، ويمكن افتراضها على القولين الأوّلين ، وتسمّى بحالة الإهمال.

٢ ـ يرتبط إمكان الإطلاق بإمكان التقييد على القول الثاني ، فلا يمكن الإطلاق في كلّ حالةٍ لا يمكن فيها التقييد.

ومثال ذلك : أنّ تقييد الحكم بالعلم به مستحيل ، فيستحيل الإطلاق أيضاً

__________________

(١) المحاضرات ٢ : ١٧٣ و ١٧٩.

(٢) القائل هو المحقّق النائيني في أجود التقريرات ١ : ١٠٣ و ٥٢٠ ، وحكاه عن سلطان العلماء في فوائد الاصول ١ : ٥٦٥.

(٣) وهذا ما تبنّاه المؤلّف نفسه رحمه‌الله كما سيأتي في المتن.

١٠٤

على القول المذكور ؛ لأنّ الإطلاق بناءً عليه هو عدم التقييد في الموضع القابل [للتقييد] ، فحيث لا قابلية للتقييد لا إطلاق.

وهذا خلافاً لِمَا إذا قيل بأنّ مردّ التقابل بين الإطلاق والتقييد إلى التناقض ، فإنّ استحالة أحدهما حينئذٍ تستوجب كون الآخر ضرورياً لاستحالة ارتفاع النقيضين.

وأمّا إذا قيل بأنّ مردَّه إلى التضادّ فتقابل التضادّ بطبيعته لا يفترض امتناع أحد المتقابلين بامتناع الآخر ولا ضرورته.

والصحيح : هو القول الثالث دون الأوّلَين ؛ وذلك لأنّ الإطلاق نريد به الخصوصية التي تقتضي صلاحيّة المفهوم للانطباق على جميع الأفراد ، وهذه الخصوصية يكفي فيها مجرّد عدم لحاظ أخذ القيد الذي هو نقيض للتقييد ؛ لأنّ كلَّ مفهومٍ له قابلية ذاتية للانطباق على كلّ فردٍ يحفظ فيه ذلك المفهوم ، وهذه القابلية تجعله صالحاً لإسراء الحكم الثابت له إلى أفراده شمولياً أو بدلياً. وهذه القابلية بحكم كونها ذاتيةً لازمةٌ له ، ولا تتوقّف على لحاظ عدم أخذ القيد ، ولا يمكن أن تنفكّ عنه.

والتقييد لا يفكِّك بين هذا اللازم وملزومه ، وإنّما يحدث مفهوماً جديداً مبايناً للمفهوم الأوّل ؛ لأنّ المفاهيم كلّها متباينة في عالم الذهن ، حتّى ما كان بينهما عموم مطلق في الصدق ، وهذا المفهوم الجديد له قابلية ذاتية أضيق دائرةً من قابلية المفهوم الأول.

وهكذا يتّضح أنّ الإطلاق يكفي فيه مجرّد عدم التقييد.

وبهذا الصدد يجب أن نميِّز التقابل بين الإطلاق الثبوتيّ والتقييد المقابل له ـ وهذا ما كنّا نتحدّث عنه فعلاً ـ عن التقابل بين الإطلاق الإثباتي ـ أي عدم ذكر القيد الكاشف عن الإطلاق بقرينة الحكمة ـ والتقييد المقابل له ، فإنّ مردّ التقابل

١٠٥

بين الإطلاق الإثباتيّ والتقييد المقابل له إلى تقابل العدم والملكة ، فعدم ذكر القيد إنّما يكشف عن الإطلاق في حالةٍ يمكن فيها للمتكلِّم ذكر القيد ، كما مرّ في الحلقة السابقة (١).

احترازيّة القُيود وقرينة الحكمة :

قد يقول المولى : (أكرم الفقير العادل) ، وقد يقول : (أكرم الفقير). ففي الحالة الاولى يكون موضوع الحكم في مرحلة المدلول التصوريّ للكلام حصّةً خاصّةً من الفقير ، أي الفقير العادل. وبحكم الدلالة التصديقية الاولى نثبت أنّ المتكلّم قد استعمل الكلام لإخطار صورة حكمٍ متعلّقٍ بالحصّة الخاصّة ، وبحكم الدلالة التصديقية الثانية نثبت أنّ المولى جادّ في هذا الكلام ، بمعنى أنّ هذا الحكم مجعول وثابت في نفسه حقيقةً وليس هازلاً.

وبحكم ظهور الحال في التطابق بين الدلالة التصديقية الاولى والدلالة التصديقية الثانية يثبت أنّ الحكم الجدّيّ المدلول للدلالة التصديقية الثانية متعلّق بالحصّة الخاصّة ، كما هو كذلك في الدلالة التصديقية الاولى ، وبهذا الطريق نستكشف من أخذ قيد العدالة في المثال ، أو أيّ قيدٍ من هذا القبيل في مرحلة المدلول التصوريّ والتصديقيّ الأوّلي كونه قيداً في موضوع ذلك الحكم المدلول عليه بالخطاب جدّاً ، وذلك ما يسمّى بقاعدة احترازية القيود.

ومرجع ظهور التطابق الذي يبرّر هذه القاعدة إلى ظاهر حال المتكلّم [في] أنّ كل ما يقوله يريده جدّاً.

والدلالة التصورية والدلالة التصديقية الاولى بمجموعهما يكوِّنان الصغرى

__________________

(١) في بحث الإطلاق ، تحت عنوان : التقابل بين الإطلاق والتقييد.

١٠٦

لهذا الظهور ، إذ يثبتان ما يقوله المتكلّم ، فتنطبق حينئذٍ الكبرى التي هي مدلول لظهور التطابق المذكور.

وقاعدة الاحترازية التي تقوم على أساس هذا الظهور تقتضي انتفاء الحكم بانتفاء القيد ، إلاّأ نّها إنّما تنفي شخص الحكم المدلول لذلك الخطاب ، ولا تنفي أيَ حكمٍ آخر من قبيله ، وبهذا اختلفت عن المفهوم في موارد ثبوته ، حيث إنّه يقتضي انتفاء طبيعيّ الحكم وسنخه بانتفاء الشرط ، على ما تقدّم في الحلقة السابقة (١).

وأمّا في الحالة الثانية فقد انيط الحكم في مرحلة المدلول التصوريّ بذات الفقير ، وقد تقدّم أنّ مدلول اسم الجنس لا يدخل فيه التقييد ولا الإطلاق ، والدلالة التصديقية الأوّلية إنّما تنطبق على ذلك بمقتضى التطابق بينها وبين الدلالة التصورية للكلام.

وبهذا ينتج : أنّ المتكلّم قد أفاد بقوله ثبوت الحكم للفقير ، ولم يُفِد دخل قيد العدالة في الحكم ، ولم يقل ذلك ، لا أنّه أفاد الإطلاق وقال به ؛ لأنّ صدق ذلك يتوقّف على أن يكون الإطلاق دخيلاً في مدلول اللفظ وضعاً ، وقد عرفت عدمه ، فقصارى ما يمكن تقريره أنّه لم يذكر القيد ولم يقله. وهذا يحقّق صغرى لظهورٍ حاليٍّ سياقي ، وهو ظهور حال المتكلّم في أنّه في مقام بيان موضوع حكمه الجدّيّ بالكامل ، وهو يستتبع ظهور حاله في أنّ ما لا يقوله من القيود لا يريده في موضوع حكمه. وبذلك نثبت أنّ قيد العدالة غير مأخوذٍ في موضوع الحكم في الحالة الثانية ، وهو معنى الإطلاق ، وهذا ما يسمّى بقرينة الحكمة ، أو (مقدِّمات الحكمة).

__________________

(١) في بحث المفاهيم ، تحت عنوان : تعريف المفهوم.

١٠٧

وبالمقارنة نجد أنّ الظهور الذي يعتمد عليه الإطلاق غير الظهور الذي تعتمد عليه قاعدة احترازية القيود ، فتلك تعتمد على ظهور حال المتكلّم في أنّ ما يقوله يريده ، والإطلاق يعتمد على ظهور حاله في أنّ ما لا يقوله لا يريده.

ويمكن القول بأنّ الظهور الأول هو ظهور التطابق بين المدلول اللفظيّ للكلام والمدلول التصديقيّ الجدّيّ إيجابياً ، (نريد بالمدلول اللفظي : المدلول المتحصّل من الدلالة التصورية والدلالة التصديقية الاولى) ، وأنّ الظهور الثاني هو ظهور التطابق بينهما سلبياً.

ويلاحظ أنّ ظهور حال المتكلّم في التطابق الإيجابي ـ أي في أنّ ما يقوله يريده ـ أقوى من ظهور حاله في التطابق السلبي ، أي في أنّ ما لا يقوله لا يريده.

ومن هنا صحّ القول بأ نّه متى ما تعارض المدلول اللفظيّ لكلامٍ مع إطلاق كلامٍ آخر قُدِّم المدلول اللفظيّ على الإطلاق وفقاً لقواعد الجمع العرفي.

ويتّضح ممّا ذكرناه أنّ جوهر الإطلاق يتمثّل في مجموع أمرين :

الأوّل : يشكِّل الصغرى لقرينة الحكمة ، وهو : أنّ تمام ما ذكر وقيل موضوعاً للحكم بحسب المدلول اللفظيّ للكلام هو الفقير ، ولم يؤخذ فيه قيد العدالة.

والثاني : يشكِّل الكبرى لقرينة الحكمة ، وهو : أنّ ما لم يقله ولم يذكره إثباتاً لا يريده ثبوتاً ؛ لأنّ ظاهر حال المتكلّم أنّه في مقام بيان تمام موضوع حكمه الجدّيّ بالكلام ، وتسمّى هاتان المقدمتان بمقدِّمات الحكمة.

فإذا تمّت هاتان المقدمتان تكوّنت للكلام دلالة على الإطلاق وعدم دخل أيِّ قيدٍ لم يذكر في الكلام.

ولا شكّ في أنّ هذه الدلالة لا توجد في حالة ذكر القيد في نفس الكلام ؛

١٠٨

لأنّ دخله في موضوع الحكم يكون طبيعياً حينئذٍ ما دام القيد داخلاً في جملة ما قاله ، وتختلّ بذلك المقدمة الصغرى.

وإنّما وقع الشكّ والبحث في حالتين :

[دور القيد المنفصل :]

الاولى : إذا ذكر القيد في كلامٍ منفصلٍ آخر فهل يؤدّي ذلك إلى عدم دلالة الكلام الأول على الإطلاق رأساً كما هي الحالة في ذكره متّصلاً ، أو أنّ دلالة الكلام الأول على الإطلاق تستقرّ بعدم ذكر القيد متّصلاً ، والكلام المنفصل المفترض يعتبر معارضاً لظهورٍ قائمٍ بالفعل ، وقد يقدّم عليه وفقاً لقواعد الجمع العرفي؟

ويتحدّد هذا البحث على ضوء معرفة أنّ ذلك الظهور الحالي الذي يشكِّل الكبرى هل يقتضي كون المتكلّم في مقام بيان تمام موضوع الحكم بشخص كلامه ، أو بمجموع كلماته؟

فعلى الأول يكون صغراه عدم ذكر القيد متّصلاً بالكلام ، ويكون ظهور الكلام في الإطلاق منوطاً بعدم ذكر القيد في شخص ذلك الكلام ، فلا ينهدم بمجيء التقييد في كلامٍ منفصل.

وعلى الثاني يكون صغراه عدم ذكر القيد ولو في كلامٍ منفصل ، فينهدم أصل الظهور بمجيء القيد في كلامٍ آخر.

والمتعيّن بالوجدان العرفيّ : الأوّل ، بل يلزم على الثاني عدم إمكان التمسّك بالإطلاق في موارد احتمال البيان المنفصل ؛ لأنّ ظهور الكلام في الإطلاق إذا كان منوطاً بعدم ذكر القيد ولو منفصلاً فلا يمكن إحرازه مع احتمال ورود القيد في كلامٍ منفصل.

١٠٩

[القدر المتيقّن في مقام التخاطب :]

الثانية : إذا كان هناك قدر متيقّن في مقام التخاطب فهل يمنع عن دلالة الكلام على الإطلاق ، أوْ لا؟

وتوضيح ذلك : أنّ المطلق إذا صدر من المولى :

فتارةً : تكون حصصه متكافئةً في الاحتمال ، فيكون من الممكن اختصاص الحكم بهذه الحصّة دون تلك ، أو بالعكس ، أو شموله لهما معاً. وهذا معناه عدم وجود قدرٍ متيقّن ، وفي مثل ذلك تتمّ قرينة الحكمة بلا إشكال.

وثانيةً : تكون إحدى الحصّتين أولى بالحكم من الحصّة الاخرى ، غير أنّها أولوية عُلِمت من خارج ذلك الكلام الذي اشتمل على المطلق ، وهذا ما يسمّى بالقدر المتيقّن من الخارج ، والمعروف في مثل ذلك تمامية قرينة الحكمة أيضاً.

وثالثةً : يكون نفس الكلام صريحاً في تطبيق الحكم على إحدى الحصّتين ، كما إذا كانت هي مورد السؤال وجاء المطلق كجوابٍ على هذا السؤال ، من قبيل أن يسأل شخص من المولى عن إكرام الفقير العادل ، فيقول له : (أكرم الفقير) ، وهذا ما يسمّى بالقدر المتيقّن في مقام التخاطب.

وقد اختار صاحب الكفاية (١) رحمه‌الله أنّ هذا يمنع من دلالة الكلام على الإطلاق ، إذ في هذه الحالة قد يكون مراده مختصّاً بالقدر المتيقّن وهو الفقير العادل في المثال ؛ لأنّ كلامه وافٍ ببيان القدر المتيقّن فلا يلزم حينئذٍ أن يكون قد أراد ما لم يقله.

والجواب على ذلك : أنّ ظاهر حال المتكلّم ـ كما عرفت في كبرى قرينة الحكمة ـ أنّه في مقام بيان تمام الموضوع لحكمه الجدّيّ بالكلام ، فإذا كانت

__________________

(١) كفاية الاصول : ٢٨٧.

١١٠

العدالة جزءاً من الموضوع يلزم أن لا يكون تمام الموضوع بيّناً ، إذ لا يوجد ما يدلّ على قيد العدالة. ومجرّد أنّ الفقير العادل هو المتيقّن في الحكم لا يعني أخذ قيد العدالة في الموضوع ، فقرينة الحكمة تقتضي ـ إذن ـ عدم دخل قيد العدالة حتّى في هذه الحالة.

وبذلك يتّضح أنّ قرينة الحكمة ـ أي ظهور الكلام في الإطلاق ـ لا تتوقّف على عدم المقيّد المنفصل ، ولا على عدم القدر المتيقّن ، بل على عدم ذكر القيد متّصلاً.

هذا هو البحث في أصل الإطلاق وقرينة الحكمة.

وتكميلاً لنظرية الإطلاق لا بدّ من الإشارة إلى عدّة تنبيهات :

[تنبيهات حول الإطلاق :]

التنبيه الأوّل : أنّ أساس الدلالة على الإطلاق ـ كما عرفت ـ هو الظهور الحاليّ السياقي ، وهذا الظهور دلالته تصديقية. ومن هنا كانت قرينة الحكمة الدالّة على الإطلاق ناظرةً إلى المدلول التصديقيّ للكلام ابتداءً ولا تدخل في تكوين المدلول التصوري ، خلافاً لِمَا إذا قيل بأنّ الدلالة على الإطلاق وضعية ؛ لأخذه قيداً في المعنى الموضوع له ، فإنّها تدخل حينئذٍ في تكوين المدلول التصوري.

التنبيه الثاني : أنّ الإطلاق تارةً يكون شمولياً يستدعي تعدّد الحكم بتعدّد ما لِطَرفه من أفراد ، واخرى بدلياً يستدعي وحدة الحكم. فإذا قيل : (أكرم العالم) كان وجوب الإكرام متعدّداً بتعدّد أفراد العالم ، ولكنّه لا يتعدّد في كلِّ عالمٍ بتعدّد أفراد الإكرام.

وقد يقال : إنّ قرينة الحكمة تنتج تارةً الإطلاق الشمولي ، واخرى الإطلاق البدلي.

١١١

ويعترض على ذلك : بأنّ قرينة الحكمة واحدة ، فكيف تنتج تارةً الإطلاق الشمولي ، واخرى الإطلاق البدلي؟

وقد اجيب على هذا الاعتراض بعدّة وجوه :

الأول : ما ذكره السيّد الاستاذ (١) من أنّ قرينة الحكمة لا تثبت إلاّالإطلاق بمعنى [عدم] القيد ، وأمّا البدليّة والاستغراقية فيثبت كلّ منهما بقرينةٍ إضافية.

فالبدلية في الإطلاق في متعلّق الأمر ـ مثلاً ـ تثبت بقرينةٍ إضافية ، وهي : أنّ الشمولية غير معقولة ؛ لأنّ إيجاد جميع أفراد الطبيعة غير مقدورٍ للمكلّف عادةً.

والشمولية في الإطلاق في متعلّق النهي ـ مثلاً ـ تثبت بقرينةٍ إضافية ، وهي : أنّ البدليّة غير معقولة ؛ لأنّ ترك أحد أفراد الطبيعة على البدل ثابت بدون حاجةٍ إلى النهي.

ولا يصلح هذا الجواب لحلّ المشكلة ، إذ توجد حالات يمكن فيها الإطلاق الشموليّ والبدليّ معاً ، ومع هذا يُعيَّن الشموليّ بقرينة الحكمة ، كما في كلمة (عالم) في قولنا : (أكرم العالم) ، فلابدّ إذن من أساسٍ لتعيين الشمولية أو البدلية غير مجرّد كون بديله مستحيلاً.

الثاني : ما ذكره المحقّق العراقي (٢) رحمه‌الله من أنّ الأصل في قرينة الحكمة إنتاج الإطلاق البدلي ، والشمولية عناية إضافية بحاجةٍ إلى قرينة ؛ وذلك لأنّ هذه القرينة تثبت أنّ موضوع الحكم ذات الطبيعة بدون قيد ، والطبيعة بدون قيدٍ تنطبق

__________________

(١) محاضرات في اصول الفقه ٤ : ١٠٦ ـ ١١٠.

(٢) كلماته رحمه‌الله في هذه المسألة مشوّشة للغاية ، ولعلّ أقرب ما ورد فيها إلى ما نسب إليه في المتن ما جاء في مقالات الاصول ١ : ٥٠١ ، ولكنّه لم يتبنّاه بل ردّه ببيانٍ له ، وتمسّك بفكرة اخرى في هذه المسألة ، فراجع.

١١٢

على القليل والكثير ، وعلى الواحد والمتعدّد. فلو قيل : (أكرم العالم) وجرت قرينة الحكمة لإثبات الإطلاق كفى في الامتثال إكرام الواحد ؛ لانطباق الطبيعة عليه. وهذا معنى كون الإطلاق من حيث الأساس بدلياً دائماً ، وأمّا الشمولية فتحتاج إلى ملاحظة الطبيعة ساريةً في جميع أفرادها ، وهي مؤونة زائدة تحتاج إلى قرينة.

الثالث : أن يقال ـ خلافاً لذلك ـ : إنّ الماهيّة عندما تلحظ بدون قيدٍ وينصبّ عليها حكم إنّما ينصبّ عليها ذلك بما هي مرآة للخارج ، فيسري الحكم نتيجةً لذلك إلى كلِّ فردٍ خارجيٍّ تنطبق عليه تلك المرآة الذهنية ، وهذا معنى تعدّد الحكم وشموليته.

وأمّا البدلية ـ كما في متعلّق الأمر ـ فهي التي تحتاج إلى عناية ، وهي تقييد الماهية بالوجود الأول. فقول : (صَلِّ) يرجع إلى الأمر بالوجود الأوّل ، ومن هنا لا يجب الوجود الثاني.

وعلى هذا فالأصل في الإطلاق الشمولية ما لم تقم قرينة على البدلية.

وتحقيق الحال في المسألة يوافيك في بحثٍ أعلى إن شاء الله تعالى.

التنبيه الثالث : إذا لاحظنا متعلّق النهي في (لا تكذب) ومتعلّق الأمر في (صَلِّ) نجد أنّ الحكم في الخطاب الأوّل يشتمل على تحريماتٍ متعدّدةٍ بعدد أفراد الكذب ، وكلّ كذبٍ حرام بحرمةٍ تخصّه ، ولو كذب المكلّف كذبتين يعصي حكمين ويستحقّ عقابين.

وأمّا الحكم في الخطاب الثاني فلا يشتمل إلاّعلى وجوبٍ واحد ، فلو ترك المكلّف الصلاة لكان ذلك عصياناً واحداً ويستحقّ بسببه عقاباً واحداً. وهذا من نتائج الشمولية في إطلاق متعلّق النهي التي تقتضي تعدّد الحكم ، والبدليّة في إطلاق متعلّق الأمر الذي يقتضي وحدة الحكم.

١١٣

ولكن قد يتجاوز هذا ويفترض النهي في حالةٍ لا يعبِّر إلاّعن تحريمٍ واحد ، كما في النهي المتعلّق بماهيّةٍ لا تقبل التكرار ، من قبيل (لا تحدث) بناءً على أنّ الحدث لا يتعدّد ، ففي هذه الحالة يكون التحريم واحداً ، كما أنّ الوجوب في (صلِّ) واحد.

ولكن مع هذا نلاحظ أنّ هناك فارقاً يظلّ ثابتاً بين الأمر والنهي ، أو بين الوجوب والتحريم ، وهو أنّ الوجوب الواحد المتعلّق بالطبيعة لا يستدعي إلاّ الإتيان بفردٍ من أفرادها ، وأمّا التحريم الواحد المتعلّق بها فهو يستدعي اجتناب كلّ أفرادها ولا يكفي أن يترك بعض الأفراد.

وهذا الفارق ليس مردّه إلى الاختلاف في دلالة اللفظ أو الإطلاق ، بل إلى أمرٍ عقلي ، وهو أنّ الطبيعة توجد بوجود فردٍ واحد ، ولكنّها لا تنعدم إلاّبانعدام جميع أفرادها. وحيث إنّ النهي عن الطبيعة يستدعي انعدامها فلا بدّ من ترك سائر أفرادها ، وحيث إنّ الأمر بها يستدعي إيجادها فيكفي إيجاد فردٍ من أفرادها.

التنبيه الرابع : أنّه في الحالات التي يكون الإطلاق فيها شمولياً يسري الحكم إلى كلّ الأفراد ، فيكون كلّ فردٍ من الطبيعة المطلقة شمولياً موضوعاً لفردٍ من الحكم ، كما في الإطلاق الشموليّ للعالِم في (أكرم العالم).

ولكنّ هذا التكثّر في الحكم والتكثّر في موضوعه ليس على مستوى الجعل ولحاظ المولى عند جعله للحكم بوجوب الإكرام على طبيعيّ العالِم ، فإنّ المولى في مقام الجعل يلاحظ طبيعيّ العالم ولا يلحظ العلماء بما هم كثرة ، فبنظره الجعليّ ليس لديه إلاّموضوع واحد وحكم واحد ، ولكنّ التكثّر يكون في مرحلة المجعول. وقد ميّزنا سابقاً (١) بين الجعل والمجعول ، وعرفنا أنّ فعلية المجعول

__________________

(١) في بحث الدليل العقلي من الحلقة الثانية ، تحت عنوان : قاعدة إمكان التكليف المشروط.

١١٤

تابعةٌ لفعلية موضوعه خارجاً ، فيتكثّر وجوب الإكرام المجعول في المثال تبعاً لتكثّر أفراد العالِم في الخارج.

والخطاب الشرعيّ مفاده ومدلوله التصديقي إنّما هو الجعل ، أي الحكم على نحو القضية الحقيقية ، وليس ناظراً إلى فعلية المجعول. وهذا يعني أنّ الشمولية وتكثّر الحكم في موارد الإطلاق الشموليّ إنّما يكون في مرتبةٍ غير المرتبة التي هي مفاد الدليل.

ومن هنا صحّ القول بأنّ السريان بمعنى تعدّد الحكم وتكثّره الثابت بقرينة الحكمة ليس من شؤون مدلول الكلام ، بل هو من شؤون عالَم التحليل والمجعول.

١١٥

أدوات العُموم

تعريف العموم وأقسامه :

العموم : هو الاستيعاب المدلول عليه باللفظ. وباشتراط أن يكون مدلولاً عليه باللفظ يخرج المطلق الشمولي ، فإنّ الشمولية فيه ليست مدلولةً للكلام ؛ لأنّها من شؤون عالَم المجعول ، والكلام إنّما ينظر إلى عالَم الجعل ، خلافاً للعامّ فإنّ تكثّر الأفراد فيه ملحوظ في نفس مدلول الكلام وفي عالم الجعل.

ودلالة الكلام على الاستيعاب تفترض عادةً دالّين :

أحدهما : يدلّ على نفس الاستيعاب ، ويسمّى بأداة العموم.

والآخر : يدلّ على المفهوم المستوعب لأفراده ، ويسمّى بمدخول الأداة.

ففي قولنا : (أكرم كلّ فقيرٍ) الدالّ على الاستيعاب كلمة (كلّ) ، والدالّ على المفهوم المستوعب لأفراده كلمة (فقير).

وأداة العموم الدالّة على الاستيعاب : تارةً تكون اسماً وتدلّ على الاستيعاب بما هو مفهوم اسمي ، كما في (كلّ) و (جميع). واخرى تكون حرفاً وتدلّ عليه بما هو نسبة استيعابية ، كما في لام الجمع في قولنا : (العلماء) ، بناءً على أنّ الجمع المعرَّف باللام يدلّ على العموم ، فإنّ أداة العموم فيه هي اللام ، واللام حرف ، فاذا دلّت على الاستيعاب فهي إنّما تدلّ عليه بما هو نسبة.

وسيأتي (١) تصوير ذلك إن شاء الله تعالى.

ثمّ إنّ العموم ينقسم إلى : الاستغراقي ، والبدلي ، والمجموعي ؛ لأنّ

__________________

(١) بعد صفحات قليلة تحت عنوان : دلالة الجمع المعرّف باللام على العموم.

١١٦

الاستيعاب لكلّ أفراد المفهوم يعني مجموعة تطبيقاته على أفراده ، وهذه التطبيقات : تارةً تلحظ عرضية ، واخرى تبادلية ، فالثاني هو البدلي ، والأول إن لوحظت فيه عناية وحدة تلك التطبيقات فهو المجموعي ، وإلاّ فهو عموم استغراقي.

وقد يقال (١) : إنّ انقسام العموم إلى هذه الأقسام إنّما هو في مرحلة تعلّق الحكم به ؛ لأنّ الحكم إن كان متكثّراً بتكثّر الأفراد فهو استغراقي. وإن كان واحداً ويكتفى في امتثاله بأيّ فردٍ من الأفراد فهو بدلي. وإن كان يقتضي الجمع بين الأفراد فهو مجموعي.

ولكنّ الصحيح : أنّ هذا الانقسام يمكن افتراضه بقطع النظر عن ورود الحكم ؛ لوضوح الفرق بين التصورات التي تعطيها كلمات من قبيل : (جميع العلماء) و (أحد العلماء) و (مجموع العلماء) حتّى لو لوحظت بما هي كلمات مفردة وبدون افتراض حكم ، فالاستغراقية والبدلية والمجموعية تعبِّر عن ثلاث صورٍ للعموم ينسجها ذهن المتكلّم وفقاً لغرضه ، توطئةً لجعل الحكم المناسب عليها.

نحو دلالة أدوات العموم :

لا شكّ في وجود أدواتٍ تدلّ على العموم بالوضع ، ككلمة (كلّ) ، و (جميع) ، ونحوهما من الألفاظ الخاصّة بإفادة الاستيعاب ، غير أنّ النقطة الجديرة بالبحث فيها وفي كلّ ما يثبت أنّه من أدوات العموم هي : أنّ إسراء الحكم إلى تمام أفراد مدخول الأداة ـ أي (عالم) مثلاً في قولنا : (أكرم كلّ عالم) ـ هل يتوقّف على إجراء الإطلاق وقرينة الحكمة في المدخول ، أو أنّ دخول أداة

__________________

(١) قاله المحقّق الخراساني رحمه‌الله في كفاية الاصول : ٢٥٣.

١١٧

العموم على الكلمة يغنيها عن قرينة الحكمة وتتولّى الأداة نفسها دور تلك القرينة؟

وظاهر كلام صاحب الكفاية رحمه‌الله (١) أنّ كِلا الوجهين ممكن من الناحية النظرية ؛ لأنّ أداة العموم إذا كانت موضوعةً لاستيعاب ما يراد من المدخول تعيّن الوجه الأول ؛ لأنّ المراد بالمدخول لا يعرف حينئذٍ من ناحية الأداة ، بل من قرينة الحكمة. وإذا كانت موضوعةً لاستيعاب تمام ما يصلح المدخول للانطباق عليه تعيّن الوجه الثاني ، لأنّ مفاد المدخول صالح ذاتاً للانطباق على تمام الأفراد ، فيتمّ تطبيقه عليها فعلاً بتوسّط الأداة مباشرة. وقد استظهر ـ بحقٍّ ـ الوجه الثاني.

وقد يبرهن على إبطال الوجه الأوّل ببرهانين :

البرهان الأول (٢) : لزوم اللَغوية منه ، كما تقدّم توضيحه في الحلقة السابقة (٣).

ولكنّ التحقيق عدم تمامية هذا البرهان ؛ لعدم لزوم لَغويّة وضع الأداة للعموم من قبل الواضع ، ولا لَغويّة استعمالها في مقام التفهيم من قبل المتكلّم ؛ وذلك لأنّ العموم والإطلاق ليس مفادهما مفهوماً وتصوراً شيئاً واحداً ، فإنّ أداة العموم مفادها الاستيعاب وإراءة الأفراد في مرحلة مدلول الخطاب ، وأمّا قرينة الحكمة فلا تفيد الاستيعاب ، ولا تُري الأفراد في مرحلة مدلول الخطاب ، بل تفيد نفي الخصوصيات ولحاظ الطبيعة مجرّدةً عنها ، فالتكثّر ملحوظ في العموم ، بينما الملحوظ في الإطلاق ذات الطبيعة ، وهذا يكفي لتصحيح الوضع حتّى لو لم ينتهِ إلى نتيجةٍ عمليةٍ بالنسبة إلى الحكم الشرعي ؛ لأنّ الفائدة المترقَّبة من الوضع إنّما هي إفادة المعاني المختلفة. وكذلك يكفي لتصحيح الاستعمال ، إذ قد يتعلّق غرض

__________________

(١) كفاية الاصول : ٢٥٤.

(٢) جاء هذا البرهان في المحاضرات ٥ : ١٥٩.

(٣) في بحث العموم ، تحت عنوان : أدوات العموم ونحو دلالتها.

١١٨

المستعمل بإفادة التكثّر بنفس مدلول الخطاب.

البرهان الثاني : أنّ قرينة الحكمة ناظرة ـ كما تقدّم في بحث الإطلاق ـ إلى المدلول التصديقيّ الجدّي ، فهي تُعيِّن المراد التصديقي ، ولا تساهم في تكوين المدلول التصوري. وأداة العموم تدخل فى تكوين المدلول التصوريّ للكلام ، فلو قيل بأنّها موضوعة لاستيعاب المراد من المدخول الذي تعيّنه قرينة الحكمة ـ وهو المدلول التصديقي ـ كان معنى ذلك ربط المدلول التصوريّ للأداة بالمدلول التصديقيّ لقرينة الحكمة ، وهذا واضح البطلان ؛ لأنّ المدلول التصوريّ لكلّ جزءٍ من الكلام إنّما يرتبط بما يساويه من مدلول الأجزاء الاخرى ، أي بمدلولاتها التصورية ، ولا شكّ في أنّ للأداة مدلولاً تصوّرياً محفوظاً حتى لو خلا الكلام الذي وردت فيه من المدلول التصديقي نهائياً ـ كما في حالات الهزل ـ فكيف يناط مدلولها الوضعيّ بالمدلول التصديقي؟

العموم بلحاظ الأجزاء والأفراد :

يلاحظ أنّ كلمة (كلّ) ـ مثلاً ـ ترد على النكرة فتدلّ على العموم والاستيعاب لأفراد هذه النكرة. وترد على المعرفة فتدلّ على العموم والاستيعاب أيضاً ، لكنّه استيعاب لأجزاء مدلول تلك المعرفة لا لأفرادها. ومن هنا اختلف قولنا : (اقرأ كلّ كتاب) عن قولنا : (اقرأ كلّ الكتاب) ، وعلى هذا الأساس يطرح السؤال التالي :

هل أنّ لأداة العموم وضعين لنحوين من الاستيعاب؟ وإلاّ كيف فهم منها في الحالة الاولى استيعاب الأفراد وفي الحالة الثانية استيعاب الأجزاء؟

وقد أجاب المحقّق العراقي (١) رحمه‌الله على هذا السؤال : بأنّ (كلّ) تدلّ على

__________________

(١) مقالات الاصول ١ : ٤٣٣.

١١٩

استيعاب مدخولها للأفراد ، ولكنّ اتّجاه الاستيعاب نحو الأجزاء في حالة كون المدخول معرَّفاً باللام ؛ من أجل أنّ الأصل في اللام أن يكون للعهد ، والعهد يعني تشخيص الكتاب في المثال المتقدّم ، ومع التشخيص لا يمكن الاستيعاب للأفراد ؛ فيكون هذا قرينةً عامّةً على اتّجاه الاستيعاب نحو الأجزاء كلّما كان المدخول معرَّفاً باللام.

دلالة الجمع المعرَّف باللام على العموم :

قد عُدَّ الجمع المعرَّف باللام من أدوات العموم ، ولابدّ من تحقيق كيفية دلالة ذلك على العموم ثبوتاً أوّلاً ، ثمّ تفصيل الكلام في ذلك إثباتاً.

أمّا الأمر الأول : فهناك تصويرات لهذه الدلالة :

منها أن يقال : إنّ الجمع المعرَّف باللام يشتمل على ثلاثة دوالّ :

أحدها : مادّة الجمع التي تدلّ في كلمة (العلماء) على طبيعيّ العالم.

والآخر : هيئة الجمع التي تدلّ على مرتبةٍ من العدد لا تقلّ عن ثلاثةٍ من أفراد تلك المادّة.

والثالث : اللام ، وتفترض دلالتها على استيعاب هذه المرتبة لتمام أفراد المادّة ، ويكون الاستيعاب مدلولاً لِلاّم بما هو معنىً حرفيّ ونسبة استيعابية قائمة بين المستوعِب ـ بالكسر ـ وهو مدلول هيئة الجمع ، والمستوعَب ـ بالفتح ـ وهو مدلول مادّة الجمع.

وأمّا الأمر الثاني : فإثبات اقتضاء اللام الداخلة على الجمع للعموم يتوقّف على إحدى دعويين :

إمّا أن يدّعى وضعها للعموم ابتداءً ، وحيث إنّ اللام الداخلة على المفرد لا تدلّ على العموم فلابدّ أن يكون المدّعى وضع اللام الداخلة على الجمع

١٢٠