دروس في علم الأصول - ج ٢

آية الله السيّد محمّد باقر الصدر

دروس في علم الأصول - ج ٢

المؤلف:

آية الله السيّد محمّد باقر الصدر


المحقق: لجنة التحقيق التابعة للمؤتمر العالمي للإمام الشهيد الصدر
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مركز الأبحاث والدراسات التخصصية للشهيد الصدر
الطبعة: ١
الصفحات: ٦٠٨
الجزء ١ الجزء ٢

ذلك.

وأمّا فيما يتّصل بالحالة الرابعة فإنّها في الحقيقة إنّما تنفي دخول أيِّ شيءٍ في دائرة الواجب الغيري زائداً على ذات المقدمة التي يتوقّف عليها الواجب النفسي ، فاذا كان الواجب النفسي متوقّفاً على ذات الفعل امتنع أخذ قصد القربة في متعلق الوجوب الغيري ؛ لعدم توقّف الواجب النفسي عليه. وإذا كان الواجب النفسي متوقّفاً على الفعل مع قصد القربة تعيّن تعلق الوجوب الغيري بهما معاً ؛ لأنّ قصد القربة في هذه الحالة يعتبر جزءاً من المقدمة. وفي كلّ موردٍ يقوم فيه الدليل على عبادية المقدمة نستكشف انطباق هذه الحالة عليها.

فإن قيل : أليس قصد القربة معناه التحرّك عن محرِّكٍ مولويٍّ لإيجاد الفعل ، وقد فرضنا أنّ الأمر الغيري لا يصلح للتحريك المولوي ـ كما نصّت عليه الحالة الاولى من الحالات الأربع المتقدمة للوجوب الغيري ـ فما هو المحرِّك المولوي نحو المقدمة؟

كان الجواب : أنّ المحرِّك المولوي نحوها هو الوجوب النفسي المتعلق بذيها ، وهذا التحريك يتمثّل في قصد التوصّل ، هذا إضافةً إلى إمكان افتراض وجود أمرٍ نفسيٍّ متعلقٍ بالمقدمة أحياناً ، بقطع النظر عن مقدميّتها ، كما هو الحال في الوضوء على القول باستحبابه النفسي.

٢٨١

دلالة الأوامر الاضطرارية والظاهرية على الإجزاء

لا شكّ في أنّ الأصل اللفظي في كلّ واجبٍ لدليله إطلاق أنّه لا يجزي عنه شيء آخر ؛ لأنّ إجزاءه عنه معناه كونه مسقِطاً ، ومرجع مسقطيّة غير الواجب للواجب أخذ عدمه قيداً في الوجوب ، وهذا التقييد منفيّ بإطلاق دليل الواجب. وهذا ما قد يسمّى بقاعدة عدم الإجزاء.

ولكن يدّعى الخروج عن هذه القاعدة في بعض الحالات استناداً إلى ملازمةٍ عقلية ، كما في حالة الإتيان بالمأمور به بالأمر الاضطراري أو الإتيان بالمأمور به بالأمر الظاهري ، إذ قد يقال بأنّ الأمر الاضطراري أو الظاهري يدلّ دلالةً التزاميةً عقليةً على إجزاء متعلّقه عن الواجب الواقعي ؛ على أساس وجود ملازمةٍ بين جعله وبين نكتةٍ تقتضي الإجزاء. والتفصيل كما يلي :

دلالة الأوامر الاضطرارية على الإجزاء عقلاً :

إذا تعذّر الواجب الأصلي على المكلّف فامِر بالميسور اضطراراً ، كالعاجز عن القيام تشرع في حقّه الصلاة من جلوسٍ ، فتارةً يكون الأمر الاضطراري مقيّداً باستمرار العذر في تمام الوقت ، واخرى يكون ثابتاً بمجرّد عدم التمكّن في أول الوقت.

ولنبدأ بالثاني فنقول : إذا بادر المريض فصلّى جالساً في أول الوقت ، ثمّ ارتفع العذر في أثناء الوقت فلا تجب عليه الإعادة.

والبرهان على ذلك : أنّ المفروض أنّ الصلاة من جلوسٍ التي وقعت منه في أوّل الوقت كانت مصداقاً للواجب بالأمر الاضطراري.

٢٨٢

وحينئذٍ نتساءل : أنّ وجوبها هل هو تعييني أو تخييري؟

والجواب هو : أنّه تخييري ، ولا يحتمل أن يكون تعيينياً ؛ لوضوح أنّ هذا المريض كان بإمكانه أن يؤخِّر صلاته إلى آخر الوقت فيصلّي عن قيام. وإذا كان وجوبها تخييرياً فهذا يعني وجود عِدلَين وبديلَين يخيَّر المكلف بينهما فإن كان هذان العِدلان هما الصلاة الاضطرارية والصلاة الاختيارية فقد ثبت المطلوب ؛ لأنّ معنى ذلك أنّ الواجب هو الجامع بين الصلاتين وقد حصل ، فلا موجب للإعادة. وإن كان هذان العِدلان هما : مجموع الصلاتين من ناحيةٍ ، والصلاة الاختيارية من ناحيةٍ اخرى ؛ بمعنى أنّ المكلف مخيّر بين أن يصلّي من جلوسٍ أوّلاً ومن قيامٍ أخيراً ، وبين أن يقتصر على الصلاة من قيامٍ في آخر الوقت ، فهذا تخيير بين الأقلّ والأكثر ، وهو مستحيل ، وبهذا يتبرهن الإجزاء.

وأمّا إذا كان الأمر الاضطراري مقيّداً باستيعاب العذر لتمام الوقت : فتارة يصلّي المريض في أوّل الوقت ثمّ يرتفع عذره في الأثناء ، واخرى يصلّي في جزءٍ من الوقت ، ويكون عذره مستوعباً للوقت حقّاً.

ففي الحالة الاولى لا يقع ما أتى به مصداقاً للواجب الاضطراري ، إذ لا أمر اضطراريّ في هذه الحالة ليبحث عن دلالته على الإجزاء.

وفي الحالة الثانية لا مجال للإعادة ، ولكن يقع الكلام عن وجوب القضاء ، فقد يقال بعدم وجوب القضاء ؛ لأنّ الأمر الاضطراري يكشف عقلاً عن وفاء متعلّقه بملاك الواجب الاختياري ، إذ لولا ذلك لمَا امِر به ، ومع الوفاء لافوت ليجب القضاء.

ولكن يرد على ذلك : أنّ الأمر الاضطراري يصحّ جعله في هذه الحالة إذا كانت الوظيفة الاضطرارية وافيةً بجزءٍ من ملاك الواقع مع بقاء جزءٍ آخر مهمٍّ لابدّ من استيفائه ، إذ في حالةٍ من هذا القبيل يمكن للمولى أن يأمر بالوظيفة

٢٨٣

الاضطرارية في الوقت إدراكاً لذلك الجزء من الملاك في وقته الأصلي ، ثمّ يأمر بعد ذلك بالقضاء استيفاءً للباقي ، فلا دلالة للأمر الاضطراري عقلاً على الإجزاء في هذه الحالة ، بل يبقى على الفقيه استظهار الحال من لسان دليل الأمر الاضطراري وإطلاقه ، فقد يستظهر منه الإجزاء ؛ لظهور لسانه في وفاءالبدل بتمام مصلحة المبدل ، أو ظهور حاله في أنّه في مقام بيان تمام ما يجب ابتداءً وانتهاءً ، فإنّ سكوته عن وجوب القضاء حينئذٍ يدلّ على عدمه.

دلالة الأوامر الظاهرية على الإجزاء عقلاً :

قد تؤدِّي الحجّة إلى تطبيق الواجب المعلوم على غير مصداقه الواقعي ، بأن تدلّ على أنّ الواجب صلاة الظهر مع أنّه صلاة الجمعة ، أو على أنّ الثوب طاهر مع أنّه نجس. فإذا أتى المكلّف بالوظيفة وفقاً للحجّة الظاهرية فهل يجزي ذلك عن الواجب الواقعي بلا حاجةٍ إلى قيام دليلٍ خاصٍّ على الإجزاء ، أو يحتاج إثبات الإجزاء في كلّ موردٍ إلى دليلٍ خاصٍّ ، وبدونه يرجع إلى قاعدة عدم الإجزاء؟

قد يقال بالإجزاء بدعوى الملازمة العقلية بين الأمر الظاهري وبينه ؛ لأنّ الأمر الظاهري في حالات المخالفة للواقع يكشف عن وجود مصلحةٍ في مورده على نحوٍ يُستوفى به الملاك الواقعي الذي يفوت على المكلف بسبب التعبّد بالحجّة الظاهرية ، وذلك ببرهان : أنّه لولا افتراض مصلحةٍ من هذا القبيل لكان جعل الأمر الظاهري قبيحاً ؛ لأنّه يكون مفوِّتاً للمصلحة على المكلّف وملقياً له في المفسدة ، ومع اكتشاف مصلحةٍ من هذا القبيل يتعيّن الإجزاء ، فلا تجب الإعادة فضلاً عن القضاء ؛ لحصول الملاك الواقعي واستيفائه ، والبناء على الاكتشاف المذكور يسمّى بالقول بالسببيّة في جعل الحجّية ، بمعنى أنّ الأمارة الحجّة تكون

٢٨٤

سبباً في حدوث ملاكٍ في موردها.

ويرد على ذلك :

أولاً : أنّ الأحكام الظاهريّة ـ على ما تقدم (١) ـ أحكام طريقية لم تنشأ من مصالح وملاكاتٍ في متعلقاتها ، بل من نفس ملاكات الأحكام الواقعية. وقد مرّ دفع محذور استلزام الأحكام الظاهرية لتفويت المصلحة والإلقاء في المفسدة.

ولو كانت الأحكام الظاهرية ناشئةً من مصالح وملاكاتٍ ـ على ما ادّعي ـ للزم التصويب ، إذ بعد فرض وفاء الوظيفة الظاهرية بنفس ملاك الواجب الواقعي يستحيل أن يبقى الوجوب الواقعي مختصّاً بمتعلقه الأول ، بل ينقلب لا محالة ويتعلق بالجامع بين الأمرين ، وهذا نحو من التصويب.

وثانياً : إذا سلّمنا أنّ ما يفوت على المكلّف بسبب الحجّة الظاهرية من مصالح لابدّ أن تضمن الحجّة تداركه ، إلاّأنّ هذا لا يقتضي افتراض مصلحةٍ إلاّ بقدر ما يفوت بسببها ، فإذا فرضنا انكشاف الخلاف في أثناء الوقت لم يكن ما فات بسبب الحجّة إلاّفضيلة الصلاة في أول وقتها ـ مثلاً ـ لا أصل ملاك الواقع ، لإمكان استيفائه معها ، وهذا يعني أنّ المصلحة المستكشفة من قبل الأمر الظاهري إنّما هي في سلوك الأمارة والتعبّد العملي بها بالنحو الذي يجبر ما يخسره المكلف بهذا السلوك ، وليست قائمةً بالمتعلق وبالوظيفة الظاهرية بذاتها ، فاذا انقطع التعبّد في أثناء الوقت بانكشاف الخلاف انتهى أمد المصلحة. وهذا ما يسمّى بالمصلحة السلوكية ، وعليه فلا موجب للإجزاء عقلاً.

نعم ، يبقى إمكان دعوى الإجزاء بتوهّم حكومة بعض أدلّة الحجّية على

__________________

(١) في هذه الحلقة ، عند البحث عن الحكم الشرعي وتقسيماته ، تحت عنوان : وظيفةالأحكام الظاهريّة.

٢٨٥

أدلّة الأحكام الواقعية وتوسعتها لموضوعها ، وقد أوضحنا ذلك سابقاً (١) ، وهو إجزاء مبنيّ على الاستظهار من لسان دليل الحجّية ، ولا علاقة له بالملازمة العقلية.

ويأتي دفع هذا التوهّم عند التمييز بين الحكومة الواقعية والحكومة الظاهرية في مباحث التعارض (٢) إن شاء الله تعالى.

__________________

(١) في هذه الحلقة ، عند البحث عن الحكم الشرعي وتقسيماته ، تحت عنوان : التصويب بالنسبة إلى بعض الأحكام الظاهريّة.

(٢) لم يتطرّق الماتن قدس‌سره إلى هذا الأمر في مباحث التعارض من هذه الحلقة ، فعلى الراغب الرجوع إلى بحث الإجزاء من تقريرات أبحاثه رحمه‌الله ، وذلك في الجزء الثاني من كتاب بحوث في علم الاصول : ١٥٧ ـ ١٦٢.

٢٨٦

امتناع اجتماع الأمرِ والنهي

لا شكّ في التضادّ بين الأحكام التكليفية الواقعية ، وعلى هذا الأساس يمتنع اجتماع الأمر والنهي ؛ لتضادّهما بلحاظ المبادئ وعالم الملاك ، وبلحاظ النتائج وعالم الامتثال.

أمّا الأول فلأنّ مبادئ الأمر هي المصلحة والمحبوبية ، ومبادئ النهي هي المفسدة والمبغوضية.

وأمّا الثاني فلضيق قدرة المكلف عن امتثالهما معاً ، وعدم امكان الترتب بينهما. وقد سبق في مباحث القدرة (١) أنّه كلّما ضاقت قدرة المكلف عن الجمع بين شيئين ولم يكن بالإمكان الترتّب بين أمريهما وحكميهما امتنع جعل الحكمين.

وعلى هذا الأساس إذا دلّ دليل على الأمر بشيءٍ ودلّ دليل آخر على النهي عنه ، من قبيل «صلِّ» و «لا تصلِّ» كان الدليلان متعارضَين ؛ للتنافي بين الجعلين بسبب التضادّ في عالم الملاك أوّلاً ، وبسبب ضيق قدرة المكلف عن الجمع بين الامتثالين مع عدم إمكان الترتّب ثانياً.

وهذا ممّا لا إشكال فيه من حيث الأساس ، ولكن قد نفترض بعض الخصوصيات في الأمر والنهي التي قد تخرجهما عن كونهما مجتمعَين حقّاً على شيءٍ واحد ، فيزول الامتناع ولا ينشأ التعارض بين دليليهما. ويمكن تلخيص

__________________

(١) ضمن بحث شرطيّة القدرة بالمعنى الأعمّ من أبحاث الدليل العقلي تحت عنوان : ما هوالضدّ؟

٢٨٧

تلك الخصوصيات في ما يلي :

[اختلاف الأمر والنهي بالإطلاق والتقييد :]

الخصوصية الاولى : أن نفترض تعلّق الأمر بالطبيعة على نحو التخيير العقلي بين حصصها وتعلّق النهي بحصّةٍ معيّنةٍ من حصصها ، من قبيل «صلِّ» و «لا تصلِّ في الحمّام» وهذا الافتراض يوجب اختلاف المتعلَّقين بالإطلاق والتقييد ، ولا شكّ في أنّ ذلك يوجب زوال السبب الثاني للتنافي ، وهو ضيق قدرة المكلف عن الجمع بين الامتثالين ؛ وذلك لأنّه إذا كان بإمكان المكلّف أن يصلّي في غير الحمّام فهو قادر على الجمع بين الامتثالين.

وإنّما المهمّ تحقيق حال السبب الأول للتنافي ، وهو التضادّ في عالم المبادئ ، فقد يقال بزواله أيضاً ؛ لأنّ الوجوب بمبادئه متعلِّق بالجامع ولا يسري إلى الحصّة ، والحرمة بمبادئها قائمة بالحصّة ، فلم يتّحد المعروض لهما. وهذا مبنيّ على بحثٍ تقدم في التخيير العقلي وأ نّه هل يستبطن تخييراً شرعياً ووجوباتٍ مشروطةً للحصص ولو بلحاظ عالم المبادئ؟ فإن قيل باستبطانه ذلك لم يُجْدِ اختلاف المتعلّقين بالإطلاق والتقييد في التغلّب على السبب الأول للتنافي ؛ لأنّ وجوب الجامع يسري ولو بمبادئه إلى الحصص. وإن أنكرنا الاستبطان المذكور اتّجه القول بعدم التنافي وجواز الأمر بالمطلق والنهي عن الحصّة.

غير أنّ مدرسة المحقّق النائيني (١) رحمه‌الله برهنت على التنافي بين الأمر بالمطلق والنهي عن الحصّة بطريقةٍ اخرى منفصلةٍ عن الاستبطان المذكور ، وهي : أنّ الأمر بالمطلق يعني أنّ الواجب لوحظ مطلقاً من ناحية حصصه ، والإطلاق

__________________

(١) راجع فوائد الاصول ٢ : ٤٣٥ ـ ٤٣٦.

٢٨٨

مؤدّاه الترخيص في تطبيق الجامع على أيّ واحدةٍ من تلك الحصص ، وهذا متعدّد بعدد الحصص ، وعليه فالترخيص في تطبيق الجامع على الحصّة [المعروضة] للنهي ينافي هذا النهي لا محالة ؛ لأنّ نفس الحصّة معروضة لهما معاً ، فالتنافي لا يقع بالذات بين النهي عن الحصّة والأمر بالمطلق ، بل بين النهي عن الحصّة والترخيص فيها الناتج عن إطلاق متعلَّق الأمر.

والفرق بين إثبات التنافي بطريقة الميرزا هذه وإثباتها بدعوى الاستبطان المذكور سابقاً : أنّه على طريقة الميرزا لا يكون هناك تنافٍ بين وجوب المطلق والنهي على نحو الكراهة عن حصّةٍ من حصصه ؛ لأنّ الكراهة لا تنافي الترخيص ، ومن هنا فسّر الميرزا كراهة الصلاة في الحمّام وأمثالها. وأمّا على مسلك الاستبطان المذكور سابقاً فالتنافي واقع بين الأمر بالمطلق والنهي عن الحصّة ، سواء كان تحريمياً أو كراهتيّاً.

ولكنّ التحقيق : أنّ طريقة الميرزا هذه في إثبات التنافي غير وجيهة ؛ لأنّ الإطلاق ليس ترخيصاً في التطبيق ولا يستلزمه :

أمّا أنّه ليس ترخيصاً ، فلأنّ حقيقة الإطلاق ـ كما تقدّم (١) ـ عدم لحاظ القيد مع الطبيعة عندما يراد جعل الحكم عليها.

وأمّا أنّه لا يستلزم الترخيص ، فلأنّ عدم لحاظ القيد إنّما يستلزم عدم المانع من قِبَل الأمر في تطبيق متعلّقه على أيّ حصّةٍ من الحصص ، وعدم المانع من قبل الأمر شيء ، وعدم المانع من قبل جاعل الأمر المساوق للترخيص الفعلي شيء آخر ، وما ينافي النهي عقلاً هو الثاني دون الأول.

__________________

(١) في بحث الإطلاق من أبحاث تحديد دلالات الدليل الشرعي ، تحت عنوان : التقابل بين الإطلاق والتقييد.

٢٨٩

وعلى أيّ حالٍ فاذا تجاوزنا هذه الخصوصية وافترضنا الامتناع والتنافي على الرغم من الاختلاف بالإطلاق والتقييد بين المتعلَّقين نصل حينئذٍ إلى الخصوصية الاخرى ، كما يلي :

[اختلاف الأمر والنهي في عنوان المتعلّق :]

الخصوصية الثانية : أن نفترض تعدّد العنوان ، وتعلّق الأمر بعنوانٍ والنهي بعنوانٍ آخر ، وتعدّد العنوان قد يسبِّب جواز الاجتماع ورفع التنافي بأحد وجهين :

الأول : أنّ تعدّد العنوان يبرهن على تعدّد المعنون.

والثاني : دعوى الاكتفاء بمجرّد تعدّد العنوان في دفع التنافي ؛ مع الاعتراف بوحدة المعنون والوجود خارجاً.

أمّا الوجه الأول فهو إذا تمّ يدفع التنافي بكلا تقريبيه ، أي بتقريب استبطان الأمر بالجامع للوجوبات المشروطة بالحصص ، وبتقريب استلزامه الترخيص في التطبيق على الحصّة المنافي للنهي ، إذ مع تعدّد الوجود الخارجي لا يجري كلا هذين التقريبين.

ولكنّ الإشكال في تمامية هذا الوجه ، إذ لا برهان على أنّ مجرّد تعدّد العنوان يكشف عن تعدّد المعنون خارجاً ؛ لأنّ بالإمكان انتزاع عنوانين من موجودٍ خارجيٍّ واحد.

نعم ، إذا ثبت أنّ العنوان ماهية حقيقية للشيء تمثِّل حقيقته النوعية فمن الواضح أنّ تعدّده يساوق تعدّد الشيء خارجاً ، إذ لا يمكن أن يكون للشيء الخارجيّ الواحد ماهيتان نوعيّتان ، ولكن ليس كلّ عنوان يشكِّل الماهية النوعية لمعنونه ، بل كثيراً ما يكون من العناوين العرضية المنتزعة.

٢٩٠

وأمّا الوجه الثاني فحاصله : أنّ الأحكام إنّما تتعلّق بالعناوين والصور الذهنية لا بالوجود الخارجي مباشرةً. فإذا كان العنوان في افق الذهن متعدّداً كفى ذلك في عدم التنافي.

فإن قيل : إنّ العناوين في الذهن إنّما يعرض لها الأمر والنهي بما هي مرآة للخارج ، وهذا يعني استقرار الحكم في النهاية على الوجود الخارجي بتوسّط العنوان ، والوجود الخارجي واحد فلا يمكن أن يثبت أمر ونهي عليه ولو بتوسّط عنوانين.

كان الجواب على ذلك : أنّ ملاحظة العنوان في الذهن مرآةً للخارج عند جعل الحكم عليه لا يعني أنّ الحكم يسري إلى الخارج حقيقةً ، وإنّما يعني أنّ العنوان ملحوظ بما هو صلاة أو غصب ، لا بما هو صورة ذهنية.

وهذا الوجه إذا تمّ إنمّا يدفع التنافي بالتقريب الأول ، أي بدعوى الاستبطان المذكور سابقاً ، فإنّ الأمر بجامع الصلاة إذا كان يستبطن وجوباتٍ مشروطةً بعدد الحصص فكلّ وجوبٍ متعلّق بحصّةٍ من حصص الصلاة بهذا العنوان ، لابها بما هي حصّة من حصص الغصب ، فلا تنافي بين الوجوبات المشروطة والنهي بعد افتراض تعدّد العنوان.

ولكنّ الوجه المذكور لا يدفع التنافي بالتقريب الثاني الذي أفاده المحقّق النائيني ، وهو المنافاة بين النهي عن الحصّة والترخيص في التطبيق ؛ لأنّ إطلاق الواجب لحالة غصبية الصلاة إذا كان يعني الترخيص في تطبيقه على المقيّد بهذه الحالة فهو منافٍ لتحريم هذه الغصبيّة لا محالة.

[اختلاف الأمر والنهي في زمان الفعليّة :]

الخصوصية الثالثة : أن نسلِّم بأنّ الخصوصيّتين السابقتين غير نافعتين لدفع التنافي ، وأنّ الصلاة في المكان المغصوب لا يمكن أن يجتمع عليها أمر ونهي

٢٩١

بعنوانين ، ولكنّنا نفترض أنّها متعلَّقة للأمر والنهي مع عدم تعاصرهما في الفعلية زماناً ، فيبحث عمّا إذا كان هذا نافعاً في دفع التنافي ، أوْ لا. ومثاله المقصود حالة طروء الاضطرار بسوء الاختيار.

وتوضيحه : أنّ الإنسان تارةً يدخل إلى الأرض المغصوبة بدون اختياره ، واخرى يدخلها بسوء اختياره ، وفي كلتا الحالتين يصبح بعد الدخول مضطرّاً إلى التصرّف في المغصوب بالمقدار الذي يتضمّنه الخروج ، غير أنّ هذا المقدار يكون مضطرّاً إليه لا بسوء الاختيار في الحالة الاولى ، ومضطرّاً إليه بسوء الاختيار في الحالة الثانية. ويترتّب على ذلك : أنّ هذا المقدار في الحالة الاولى يكون مرخَّصاً فيه من قِبَل الشارع ، خلافاً للحالة الثانية ؛ لأنّ الاضطرار بسوء الاختيار لا ينافي المسؤولية والإدانة ، كما تقدم (١) ، ولكنّ النهي ساقط على القول المتقدّم (٢) بأنّ الاضطرار بسوء الاختيار لا ينافي الاختيار عقاباً ، وينافيه خطاباً.

وعليه فلو كان وقت الصلاة ضيّقاً وكان بإمكان المكلّف أن يصلِّي حال الخروج بدون أن تطول بذلك مدّة الخروج فصلّى بنفس خروجه ، فهذه صلاة في المكان المغصوب ، ولا شكّ في وجوبها في الحالة الاولى ؛ لأنّ الخروج باعتباره مضطرّاً إليه لا بسوء الاختيار غير منهيٍّ عنه منذ البدء. وأمّا في الحالة الثانية فقد يقال بأنّها منهيّ عنها ومأمور بها ، غير أنّ النهي والأمر غير متعاصِرَين زماناً ، ومن هنا جاز ثبوتهما معاً ؛ وذلك لأنّ النهي سقط خطاباً بالاضطرار الحاصل بسوء الاختيار وإن لم يسقط عقاباً وإدانةً ، والأمر توجّه إلى الصلاة حال الخروج بعد سقوط النهي ، فلم يجتمعا في زمانٍ واحد.

__________________

(١) و (٢) في بحث قاعدة استحالة التكليف بغير المقدور ، تحت عنوان : حالات ارتفاع القدرة.

٢٩٢

ولكنّ التحقيق : أنّ ذلك لا يدفع [التنافي] بين الأمر والنهي ؛ لأنّ سقوط النهي لو كان لِنَسْخٍ وتبدّلٍ في تقدير الملاكات لأمكن أن يطرأ الأمر بعد ذلك. وأمّا إذا كان بسبب الاضطرار بسوء الاختيار الذي هو نحو من العصيان ، فهذا إنّما يقتضي سقوط الخطاب ؛ لا المبادئ. فالتنافي بلحاظ المبادئ ثابت على كلّ حال.

هذا إذا أخذنا بالقول السابق الذي يقول بأنّ الاضطرار بسوء الاختيار ينافي الاختيار خطاباً. وإذا أنكرنا هذه المنافاة فالأمر أوضح.

[اجتماع الوجوب الغيري مع الحرمة النفسيّة :]

وقد واجه الاصوليّون هنا مشكلة اجتماع الأمر والنهي من ناحيةٍ اخرى في المقام ، وحاصلها : أنّه قد افترض كون الخروج مقدّمةً للتخلّص الواجب من الغصب ، ومقدّمة الواجب واجبة ، فيكون الخروج واجباً فعلاً مع كونه منهيّاً عنه بالنهي السابق الذي لايزال فعلياً بخطابه وروحه معاً ، أو بروحه وملاكه فقط على الأقل ، فهل يلتزم بأنّ الخروج ليس مقدمةً للواجب ، أو بتخصيصٍ في دليل حرمة التصرّف في المغصوب على نحوٍ ينفي وجود نهي من أوّل الأمر عن هذه الحصّة من التصرّف ، أو بانخرامٍ في قاعدة وجوب المقدمة؟ وجوه ، بل أقوال :

أمّا الوجه الأول فحاصله : أنّ الخروج والبقاء متضادّان ، والواجب هو ترك البقاء ، وفعل أحد الضدّين ليس مقدمةً لترك ضدّه ، كما تقدّم في الحلقة السابقة (١).

وهذا الوجه ـ حتّى إذا تمّ ـ لا يحلّ المشكلة على العموم ؛ لأنّ هذه المشكلة لا نواجهها في هذا المثال فقط ، بل في حالاتٍ اخرى لا يمكن إنكار المقدّمية

__________________

(١) في بحث الدليل العقلي ، تحت عنوان : اقتضاء وجوب الشيء لحرمة ضدّه.

٢٩٣

فيها ، من قبيل مَنْ سبَّب بسوء اختياره إلى الوقوع في مرضٍ مُهلكٍ ينحصر علاجه بشرب الشراب المحرَّم ، فإنّ مقدِّمية الشرب في هذه الحالة واضحة.

وأمّا الوجه الثاني فلا يمكن الأخذ به إلاّمع قيام برهانٍ على التخصيص المذكور بتعذّر أيّ حلٍّ آخر للمشكلة.

وأمّا الوجه الثالث فهو المتعيّن ، وذلك بأن يقال : إنّ المقدمة من ناحية انقسامها إلى فردٍ مباحٍ وفردٍ محرَّمٍ على أقسام :

أحدها : أن تكون منقسمةً إلى فردين من هذا القبيل فعلاً ، وفي هذه الحالة يتّجه الوجوب الغيري نحو غير المحرَّم خاصّة ؛ لأنّ الملازمة التي يدركها العقل لا تقتضي أكثر من ذلك.

ثانيها : أن تكون منحصرةً أساساً ـ وبدون دخل للمكلف في ذلك ـ في الفرد المحرَّم ، وفي هذه الحالة يتّجه الوجوب الغيري نحو الفرد المحرَّم إذا كان الوجوب النفسي أهمَّ من حرمته ، وتسقط الحرمة حينئذٍ.

ثالثها : أن تكون منقسمةً أساساً إلى فردٍ مباحٍ وفردٍ محرَّم ، غير أنّ المكلف عجَّز نفسه بسوء اختياره عن الفرد المباح ، وفي هذه الحالة يدرك العقل أنّ الانحصار في الفرد المحرّم غير مسوِّغٍ لتوجّه الوجوب الغيري نحوه ما دام بسوء الاختيار ، فالفرد المحرّم يظلّ على ما هو عليه من الحرمة ، ويكون تعجيز المكلف نفسه عن الفرد المباح من المقدمة مع بقاء الفرد المحرّم على حرمته تعجيزاً له شرعاً عن الإتيان بذي المقدمة ؛ لأنّ المنع شرعاً عن مقدمة الواجب تعجيز شرعيّ عن الواجب ، ولمّا كان هذا التعجيز حاصلاً بسوء اختيار المكلف فيسقط الخطاب المتكفِّل للأمر بذي المقدمة على القول المشهور ، دون العقاب والإدانة.

غير أنّ العقل يحكم بلزوم تحصيل ذي المقدمة ولو بارتكاب المقدمّة المحرّمة ؛ لأنّ ذلك أهون الأمرين ، وهذا يؤدِّي إلى اضطراره إلى ارتكاب الفرد

٢٩٤

المحرَّم من المقدمة ، غير أنّه لمّا كان منشأ هذا الاضطرار أساساً سوء الاختيار فيسقط الخطاب على القول المشهور دون العقاب ، وينتج عن ذلك : أنّ الخطابات كلّها ساقطة فعلاً ، وأنّ روحها بما تستتبعه من إدانةٍ ومسؤوليةٍ ثابت.

وفي كلّ حالةٍ يثبت فيها امتناع اجتماع الأمر والنهي لايختلف الحال في ذلك بين الأمر والنهي النفسيّين ، أو الغيريّين ، أو الغيريّ مع النفسيّ ؛ لأنّ ملاك الامتناع مشترك ، فكما لا يمكن أن يكون شيء واحد محبوباً ومبغوضاً لنفسه ، كذلك لا يمكن أن يكون محبوباً لغيره ومبغوضاً لنفسه مثلاً ؛ لأنّ الحبّ والبغض متنافيان بسائر أنحائهما ، ونحن وإن كنّا ذهبنا إلى إنكار الوجوب الغيري في مرحلة الجعل والحكم ولكنّا اعترفنا به في مرحلة المبادئ ، وهذا كافٍ في تحقيق ملاك الامتناع ؛ لأنّ نكتة الامتناع تنشأ من ناحية المبادئ وليست قائمةً بالوجود الجعلي للحكمين.

[ثمرة البحث في اجتماع الأمر والنهي :]

وأمّا ثمرة البحث في مسألة الاجتماع فهي : أنّه على الامتناع يدخل الدليلان المتكفِّلان للأمر والنهي في باب التعارض ، ويقدّم دليل النهي على دليل الأمر ؛ لأنّ دليل النهي إطلاقه شمولي ، ودليل الأمر إطلاقه بدلي ، والإطلاق الشمولي أقوى.

وأمّا على القول بالجواز فلا تعارض بين الدليلين ، وحينئذٍ فإن لم ينحصر امتثال الواجب بالفعل المشتمل على الحرام وكانت للمكلف مندوحة في مقام الامتثال فلا تزاحم أيضاً ، وإلاّ وقع التزاحم بين الواجب والحرام.

وأمّا صحة امتثال الواجب بالفعل المشتمل على الحرام فترتبط بما ذكرنا من التعارض والتزاحم ، بأن يقال : إنّه إذا بُني على التعارض بين الدليلين وقدِّم

٢٩٥

دليل النهي فلا يصحّ امتثال الواجب بالفعل المذكور ، سواء كان واجباً توصّلياً أو عبادياً ؛ لأنّ مقتضى تقديم دليل النهي سقوط إطلاق الأمر وعدم شموله له ، فلا يكون مصداقاً للواجب ، وإجزاء غير الواجب عن الواجب على خلاف القاعدة ، كما تقدم (١).

وإذا بني على عدم التعارض فينبغي التفصيل بين أن يكون الواجب توصّلياً أو عبادياً ، فإن كان توصّلياً صحّ وأجزأ ، سواء وقع التزاحم لعدم وجود المندوحة ، أوْ لا ؛ لأنّه مصداق للواجب ، والأمر ثابت به على وجه الترتّب في حالة التزاحم ، وعلى الإطلاق في حالة عدم التزاحم ووجود المندوحة. وإن كان عبادياً صحّ وأجزأ كذلك إذا كان مبنى عدم التعارض هو القول بالجواز بملاك تعدّد المعنون.

وأمّا إذا كان مبناه القول بالجواز بملاك الاكتفاء بتعدّد العنوان مع وحدة المعنون فقد يستشكل في الصحة والإجزاء ؛ لأنّ المفروض حينئذٍ أنّ الوجود الخارجي واحد وأ نّه حرام ، ومع حرمته لا يمكن التقرّب به نحو المولى ، فتقع العبادة باطلةً لأجل عدم تأتّي قصد القربة ، لا لمحذورٍ في إطلاق دليل الأمر.

وفي كلّ حالةٍ حكمنا فيها بعدم صحة العمل من أجل افتراض التعارض فلا يختلف الحال في ذلك بين الجاهل [بالحرمة] والعالم بها ؛ لأنّ التعارض تابع للتنافي بين الوجوب والحرمة ، وهذا التنافي قائم بين وجوديهما الواقعيّين بقطع النظر عن علم المكلف وجهله.

وفي كلّ حالةٍ حكمنا فيها بعدم صحة العمل من أجل كونه عبادةً وتعذّر قصد التقرّب به فينبغي أن يخصَّص البطلان بصورة تنجّز الحرمة. وأمّا مع الجهل بها وعدم تنجّزها فالتقرّب بالفعل ممكن فيقع عبادة ، ولا موجب للبطلان حينئذٍ.

__________________

(١) في بحث الدليل العقلي ، تحت عنوان : دلالة الأوامر الاضطراريّة والظاهريّة على الإجزاء.

٢٩٦

اقتضاء وجوب الشيء لحرمة ضدّه

وقع البحث في أنّ وجوب شيءٍ هل يقتضي حرمة ضدّه ، أوْ لا؟ ويراد بالضدّ : المنافي على نحوٍ يشمل الضدّ العامّ والضدّ الخاصّ. ويراد بالاقتضاء :

استحالة ثبوت وجوب الشيء مع انتفاء حرمة ضدّه ، سواء كانت هذه الاستحالة ناشئةً من أنّ أحدهما عين الآخر ، أو من أنّ أحدهما جزء الآخر ، أو من الملازمة بينهما.

والمشهور في الضدّ العامّ هو القول بالاقتضاء ، وإن اختلف في وجهه :

فقال البعض (١) : إنّه بملاك العينية ، وهو غريب ؛ لأنّ الوجوب غير التحريم ، فكيف يقال بالعينية؟

وقد يوجّه ذلك : تارةً بأنّ وجوب الشيء عين حرمة الضدّ العامّ في مقام التأثير لا عينه في عالم الحكم والإرادة. فكما أنّ حرمة الضدّ العامّ تبعِّد عنه كذلك وجوب الشيء يبعِّد عن ضده العام بنفس مقرِّبيته نحو الفعل ومحرّكيته إليه.

وتارةً اخرى بأنّ النهي عن الشيء عبارة عن طلب نقيضه ، فالنهي عن الترك عبارة عن طلب نقيضه ، وهو الفعل ، فصحّ أن يقال : إنّ الأمر بالفعل عين النهي عن الضدّ العامّ.

ويرد على التوجيه الأول : أنّه لا يفي بإثبات حرمة الضدّ حقيقة. وعلى التوجيه الثاني : أنّه يرجع إلى مجرّد التسمية ، هذا ، مضافاً إلى أنّ النهي عن شيءٍ معناه الزجر عنه ، لا طلب نقيضه.

__________________

(١) نسبه الميرزا الرشتي في بدائع الأفكار : ٣٨٧ ، إلى بعض المحقّقين.

٢٩٧

وقال البعض (١) : إنّه بملاك الجزئية والتضمّن ؛ لأنّ الوجوب مركّب من طلب الفعل والمنع عن الترك.

وقد تقدم في بحث دلالة الأمر على الوجوب إبطال دعوى التركّب في الوجوب على هذا النحو.

وقال البعض (٢) : إنّه بملاك الملازمة ؛ وذلك لأنّ المولى بعد أمره بالفعل يستحيل أن يرخِّص في الترك ، وعدم الترخيص يساوق التحريم.

والجواب : أنّ عدم الترخيص في الترك يساوق ثبوت حكمٍ إلزامي ، وهو كما يلائم تحريم الترك ، كذلك يلائم إيجاب الفعل ، فلا موجب لاستكشاف التحريم.

وأمّا الضدّ الخاصّ فقد يقال باقتضاء وجوب الشيء لحرمته بأحد دليلين :

الدليل الأول : وهو مكوّن من مقدّمات :

الاولى : أنّ الضدّ العامّ للواجب حرام.

الثانية : أنّ الضدّ الخاصّ ملازم للضدّ العامّ.

الثالثة : أنّ كلّ ما هو ملازم للحرام فهو حرام.

ويبطل هذا الدليل بإنكار مقدمته الاولى ، كما تقدّم ، وبإنكار المقدمة الثالثة ، إذ لا دليل عليها.

الدليل الثاني : وهو مكوّن من مقدّماتٍ أيضاً :

الاولى : أنّ ترك أحد الضدّين مقدّمة لضدّه.

الثانية : أنّ مقدّمة الواجب واجبة ، وعليه فترك الضدّ الخاصّ للواجب

__________________

(١) منهم صاحب المعالم في المعالم : ٦٣ ـ ٦٤.

(٢) كالمحقّق النائيني في فوائد الاصول ١ : ٣٠٣ ، والمحقّق العراقي في نهاية الأفكار ١ : ٣٧٧.

٢٩٨

واجب.

الثالثة : إذا وجب ترك الضدّ الخاصّ حرم نقيضه وهو إيقاع الضدّ الخاصّ ، وبذلك يثبت المطلوب.

وقد نستغني عن المقدمة الثالثة ونكتفي بإثبات وجوب ترك الضدّ الخاصّ ؛ لأنّ هذا يحقِّق الثمرة المطلوبة من القول بالاقتضاء ، وهي عدم إمكان الأمر بالضدّ الخاصّ ولو على وجه الترتّب. ومن الواضح أنّه كما لا يمكن الأمر به مع حرمته ، كذلك مع الأمر بنقيضه ؛ لاستحالة ثبوت الأمر بالنقيضين معاً.

كما أنّ المقدمة الثانية لا نريد بها إثبات الوجوب الغيري للمقدمة في كلّ مراحل الحكم بما فيها عالم الجعل ، بل يكفي ثبوته بلحاظ عالم المبادئ ، وعليه فهذه المقدمة ثابتة.

والمهمّ إذن تحقيق حال المقدمة الاولى ، وقد بُرهِن عليها : بأنّ أحد الضدّين مانع عن وجود ضدّه ، وعدم المانع أحد أجزاء العلّة ، فتثبت مقدمية عدم أحد الضدين بهذا البيان.

ونجيب على هذا البرهان بجوابين :

الجواب الأول يتكفّل حلّ الشبهة التي صيغ بها البرهان ، وبيانه : أنّ العلّة مركّبة من المقتضي والشرط وعدم المانع. فالمقتضي هو السبب الذي يترشّح منه الأثر. والشرط دخيل في ترشّح الأثر من مقتضيه. والمانع هو الذي يمنع المقتضي من التأثير. ومن هنا يتوقّف وجود الأثر على المقتضي والشرط وعدم المانع ، وينشأ عدم الأثر من عدم المقتضي أو عدم الشرط أو وجود المانع ، ولكنّه لا ينشأ من وجود المانع إلاّفي حالة وجود المقتضي ؛ لأنّ تأثير المانع إنّما هو بمنعه للمقتضي عن التأثير ، ومع عدم وجود المقتضي لا معنى لهذا المنع ، وهذا يعني أنّ المانع إنّما يكون مانعاً إذا أمكن أن يعاصر المقتضي لكي يمنعه عن التأثير ، وأمّا

٢٩٩

إذا استحال أن يعاصره استحالت مانعيّته له ، وبالتالي لا يكون عدمه من أجزاء العلّة.

وعلى هذا الأساس إذا لاحظنا الصلاة بوصفها ضداً لإزالة النجاسة عن المسجد نجد أنّ المقتضي لها هو إرادة المكلف ، ويستحيل أن تجتمع الإزالة مع إرادة المكلف للصلاة ، وهذا معناه أنّ مانعية الإزالة عن الصلاة مستحيلة ، فلا يمكن أن يكون عدمها أحد أجزاء العلّة.

وإن شئت قلت : إنّه مع وجود الإرادة للصلاة لا حالة منتظرة ، ومع عدمها لا مقتضي للصلاة ليفرض كون الإزالة مانعةً عن تأثيره.

فإن قيل : كيف تنكرون أنّ الإزالة مانعة ، مع أنّها لو لم تكن مانعةً لاجتمعت مع الصلاة ، والمفروض عدم إمكان ذلك؟

كان الجواب : أنّ المانعية التي تجعل المانع علّةً لعدم الأثر ، وتجعل عدم المانع أحد أجزاء العلّة للأثر إنّما هي مانعية الشيء عن تأثير المقتضي في توليد الأثر. وقد عرفت أنّ هذه المانعية إنّما تثبت لشيءٍ بالإمكان معاصرته للمقتضي.

وأمّا المانعية بمعنى مجرّد التمانع وعدم إمكان الاجتماع في الوجود ـ كما في الضدَّين ـ فلا دخل لها في التأثير ، إذ متى ما تمّ المقتضي لأحد المتمانعين بهذا المعنى مع الشرط ، وانتفى المانع عن تأثير المقتضي أثّر أثره لا محالة في وجود أحد المتمانعين ونفي الآخر. ونتيجة ذلك : أنّ وجود أحد الضدَّين مع عدم ضدّه في رتبةٍ واحدةٍ ولا مقدميّة بينهما.

الجواب الثاني : أنّ افتراض المقدميّة يستلزم الدور ، كما أشرنا إليه في الحلقة السابقة (١) فلاحظ.

__________________

(١) في بحث الدليل العقلي ، تحت عنوان : اقتضاء وجوب الشيء لحرمة ضدّه.

٣٠٠