دروس في علم الأصول - ج ٢

آية الله السيّد محمّد باقر الصدر

دروس في علم الأصول - ج ٢

المؤلف:

آية الله السيّد محمّد باقر الصدر


المحقق: لجنة التحقيق التابعة للمؤتمر العالمي للإمام الشهيد الصدر
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مركز الأبحاث والدراسات التخصصية للشهيد الصدر
الطبعة: ١
الصفحات: ٦٠٨
الجزء ١ الجزء ٢

وتوضيح الحال في ذلك : أنّ عدم الشك هنا تارةً يكون بمعنى القطع بعدم النجاسة ، واخرى بمعنى عدم الشكّ الفعلي الملائم مع الغفلة والذهول أيضاً.

فعلى الأول : تكون أركان الاستصحاب مفترضةً في كلام السائل ، وكذلك أركان قاعده اليقين. أمّا الافتراض الأول فواضح ، وأمّا الافتراض الثاني فلأن اليقين حال الصلاة مستفاد بحسب الفرض من قوله : «وإن لم تشكَّ» ، والشكّ في خطأ ذلك اليقين قد تولَّد عند رؤية النجاسة أثناء الصلاة مع احتمال سبقها.

وعليه فكما يمكن تنزيل القاعدة في جواب الإمام على الاستصحاب كذلك يمكن تنزيلها على قاعدة اليقين ، غير أنّه يمكن تعيين الأول بلحاظ ارتكازية الاستصحاب ومناسبة التعليل والتعبير ب «لا ينبغي» لكون القاعدة مركوزة ، وأمّا قاعدة اليقين فليست مركوزة.

هذا ، مضافاً إلى أنّ استعمال نفس التركيب الذي اريد منه الاستصحاب في جواب السؤال الثالث في نفس الحوار يعزِّز بوحدة السياق أن يكون المقصود واحداً في المقامين.

وعلى الثاني يكون الحمل على الاستصحاب أوضح ، إذ لم يفرض حينئذٍ في كلام الإمام اليقين بعدم النجاسة حين الصلاة لكي تكون أركان قاعدة اليقين مفترضة ، فيتعيّن بظهور الكلام حمل القاعدة المذكورة على ما فرض تواجد أركانه وهو الاستصحاب. وهكذا تتّضح دلالة المقطع الثاني على الاستصحاب أيضاً.

[رواية الشكّ في الركعات :]

الرواية الثالثة : وهي رواية زرارة ، عن أحدهما عليهما‌السلام قال : قلت له : من لم يدرِ في أربعٍ هو أم في ثنتين وقد أحرز الثنتين؟ قال : «يركع ركعتين وأربع

٤٦١

سجداتٍ وهو قائم بفاتحة الكتاب ، ويتشهّد ولا شيء عليه ، وإذا لم يدرِ في ثلاثٍ هو أو في أربعٍ وقد أحرز الثلاث قام فأضاف اليها ركعةً اخرى ولا شيء عليه ، ولا ينقض اليقين بالشكّ ، ولا يدخل الشكّ في اليقين ، ولا يخلط أحدهما بالآخر ، ولكن ينقض الشكّ باليقين ، ويتمّ على اليقين فيبني عليه ، ولا يعتدّ بالشكّ في حالٍ من الحالات» (١).

وفقرة الاستدلال في هذه الرواية تماثل ما تقدم في الروايتين السابقتين ، وهي قوله : «ولا ينقض اليقين بالشكّ ...».

وتقريبه : أنّ المكلف في الحالة المذكورة على يقينٍ من عدم الإتيان بالرابعة في بادئ الأمر ، ثمّ يشكّ في إتيانها ، وبهذا تكون أركان الاستصحاب تامّةً في حقّه ، فيجري استصحاب عدم الإتيان بالركعة الرابعة. وقد أفتاه الإمام عليه‌السلام على هذا الأساس بوجوب الإتيان بركعةٍ عند الشكّ المذكور ، واستند في ذلك إلى الاستصحاب المذكور معبِّراً عنه بلسان «ولا ينقض اليقين بالشكّ».

ولكن يبقى على هذا التقريب أن يفسَّر لنا النكتة في تلك الجمل المتعاطفة بما استعملته من ألفاظٍ متشابهة ، من قبيل : عدم إدخال الشكّ في اليقين ، وعدم خلط أحدهما بالآخر ، فإنّ ذلك يبدو غامضاً بعض الشيء.

وقد اعترض على الاستدلال المذكور باعتراضات :

الأول : دعوى أنّ اليقين والشكّ في فقرة الاستدلال لا ظهور لهما في ركني الاستصحاب ، بل من المحتمل أن يراد بهما اليقين بالفراغ والشكّ فيه. ومحصّل الجملة حينئذٍ : أنّه لا بدّ من تحصيل اليقين بالفراغ ، ولا ينبغي رفع اليد عن ذلك بالشكّ ومجرّد احتمال الفراغ ، وهذا أجنبيّ عن الاستصحاب.

__________________

(١) الاستبصار ١ : ٣٧٣ ، باب من شكّ في اثنتين وأربعة ، الحديث ٣.

٤٦٢

والجواب : أنّ هذا الاحتمال مخالف لظاهر الرواية ؛ لظهورها في افتراض يقينٍ وشكٍّ فعلاً ، وفي أنّ العمل بالشكّ نقض لليقين وطعن فيه ، مع أنّه بناءً على الاحتمال المذكور لا يكون اليقين فعلياً ، ولا يكون العمل بالشكّ نقضاً لليقين ، بل هو نقض لحكم العقل بوجوب تحصيله.

الثاني : أنّ تطبيق الاستصحاب على مورد الرواية متعذّر فلابدّ من تأويلها ؛ وذلك لأنّ الاستصحاب ليست وظيفته إلاّإحراز مؤدّاه والتعبّد بما ثبت له من آثارٍ شرعية. وعليه فإن اريد في المقام باستصحاب عدم إتيان الرابعة التعبّد بوجوب إتيانها موصولةً ـ كما هو الحال في غير الشاكّ ـ فهذا يتطابق مع وظيفة الاستصحاب ، ولكنّه باطل من الناحية الفقيهة جزماً ؛ لاستقرار المذهب على وجوب الركعة المفصولة. وإن اريد بالاستصحاب المذكور التعبّد بوجوب إتيان الركعة مفصولةً فهذا يخالف وظيفة الاستصحاب ؛ لأنّ وجوب الركعة المفصولة ليس من آثار عدم الإتيان بالركعة الرابعة لكي يثبت باستصحاب العدم المذكور ، وإنمّا هو من آثار نفس الشكّ في إتيانها.

وقد اجيب على هذا الاعتراض بأجوبة :

منها : ما ذكره المحقّق العراقي (١) من اختيار الشقّ الأول ، وحمل تطبيق الاستصحاب المقتضي للركعة الموصولة على التقية مع الحفاظ على جدّية الكبرى وواقعيتها ، فأصالة الجهة والجدّ النافية للهزل والتقية تجري في الكبرى دون التطبيق.

فإن قيل : إنّ الكبرى إن كانت جدّيةً فتطبيقها صوري ، وإن كانت صوريةً فتطبيقها بما لها من المضمون جدّي ، فأصالة الجدّ في الكبرى تعارضها أصالة الجدّ

__________________

(١) مقالات الاصول ٢ : ٣٥٢.

٤٦٣

في التطبيق.

كان الجواب : أنّ أصالة الجدّ في التطبيق لا تجري ، إذ لا أثر لها ؛ للعلم بعدم كونه تطبيقاً جادّاً لكبرى جادّةٍ على أيّ حال ، فتجري أصالة الجهة في الكبرى بلا معارض.

ولكنّ الإنصاف : أنّ الحمل على التقية في الرواية بعيد جدّاً ، بملاحظة أنّ الإمام قد تبرّع بذكر فرض الشكّ في الرابعة ، وأنّ الجمل المترادفة التي استعملها تدلّ على مزيد الاهتمام والتأكيد بنحوٍ لا يناسب التقية.

ومنها : ما ذكره صاحب الكفاية (١) رحمه‌الله من : أنّ عدم الإتيان بالركعة الرابعة له أثران : أحدهما وجوب الإتيان بركعة ، والآخر مانعية التشهّد والتسليم قبل الإتيان بهذه الركعة. ومقتضى استصحاب العدم المذكور التعبّد بكلا الأثرين ، غير أنّ قيام الدليل على فصل ركعة الاحتياط يخصِّص دليل الاستصحاب ويصرفه إلى التعبّد بالأثر الأول لمؤدّاه دون الثاني ، فإجراء الاستصحاب مع التبعيض في آثار المؤدّى صحيح.

ونلاحظ على ذلك : أنّ مانعية التشهّد والتسليم إذا كانت ثابتةً في الواقع على تقدير عدم الإتيان بالرابعة فلا يمكن إجراء الاستصحاب مع التبعيض في مقام التعبّد بآثار مؤدّاه ؛ لأنّ المكلف يعلم حينئذٍ وجداناً بأنّ الركعة المفصولة التي يأتي بها ليست مصداقاً للواجب الواقعي ؛ لأنّ صلاته التي شكّ فيها إن كانت أربع ركعاتٍ فلا أمر بهذه الركعة ، وإلاّ فقد بطلت بما أتى به من المانع بتشهّده وتسليمه ؛ لأنّ المفروض انحفاظ المانعية واقعاً على تقديرالنقصان.

وإذا افترضنا أنّ مانعية التشهّد والتسليم ليست من آثار عدم الإتيان في

__________________

(١) كفاية الاصول : ٤٥٠.

٤٦٤

حالة الشكّ فهذا يعني أنّ الشكّ في الرابعة أوجب تغيّراً في الحكم الواقعي وتبدّلاً لمانعية التشّهد والتسليم إلى نقيضها ، وذلك تخصيص في دليل المانعية الواقعية ، ولا يعني تخصيصاً في دليل الاستصحاب كما ادّعي في الكفاية.

ومنها : ما ذكره المحقّق النائيني (١) ـ قدس الله روحه ـ من افتراض أنّ عدم الإتيان بالرابعة مع العلم بذلك موضوع واقعاً لوجوب الركعة الموصولة ، وعدم الإتيان بها مع الشكّ موضوع واقعاً لوجوب الركعة المفصولة. وعلى أساس هذا الافتراض إذا شكّ المكلف في الرابعة فقد تحقّق أحد الجزءين لموضوع وجوب الركعة المفصولة وجداناً وهو الشكّ ، وأمّا الجزء الآخر ـ وهو عدم الإتيان ـ فيحرز بالاستصحاب ، وعليه فالاستصحاب يجري لإثبات وجوب الركعة المفصولة بعد افتراض كونه ثابتاً على النحو المذكور.

وهذا التصحيح للاستصحاب في المورد وإن كان معقولاً غير أنّ حمل الرواية عليه خلاف الظاهر ؛ لأنّه يستبطن افتراض حكمٍ واقعيٍّ بوجوب الركعة المفصولة على الموضوع المركّب من عدم الإتيان والشكّ ، وهذا بحاجةٍ إلى البيان ، مع أنّ الإمام اقتصر على بيان الاستصحاب على الرغم من أنّ ذلك الحكم الواقعي المستبطن هو المهمّ ، إذ مع ثبوته لابدّ من الإتيان بركعةٍ مفصولةٍ حينئذٍ ، سواء جرى استصحاب عدم الإتيان أوْ لا ، إذ تكفي نفس أصالة الاشتغال والشكّ في وقوع الرابعة للزوم إحرازها. فالعدول في مقام البيان عن نكتة الموقف إلى ما يستغنى عنه ليس عرفياً.

ومن هنا يمكن أن يكون الاعتراض الثاني بنفسه قرينةً على حمل الرواية على ما ذكر في الاعتراض الأول ، وإن كان خلاف الظاهر في نفسه. وبالحمل

__________________

(١) فوائد الاصول ٤ : ٣٦٢ ـ ٣٦٣.

٤٦٥

على ذلك يمكن أن نفسِّر النهي عن خلط اليقين بالشكّ وإدخال أحدهما بالآخر بأنّ المقصود : التنبيه بنحوٍ يناسب التقية على لزوم فصل الركعة المشكوكة عن الركعات المتيقّنة.

الثالث : أنّ حمل الرواية على الاستصحاب متعذّر ؛ لأنّ الاستصحاب لا يكفي لتصحيح الصلاة حتّى لو بني على إضافة الركعة الموصولة وتجاوزنا الاعتراض السابق ؛ لأنّ الواجب إيقاع التشهّد والتسليم في آخر الركعة الرابعة ، وباستصحاب عدم الإتيان بالرابعة يثبت وجوب الإتيان بركعة ، ولكن لو أتى بها فلا طريق لإثبات كونها رابعةً بذلك الاستصحاب ؛ لأنّ كونها كذلك لازم عقليّ للمستصحَب فلا يثبت ، فلا يُتاح للمصلّي إذا تشهّد وسلّم حينئذٍ [إثبات] أنّه قد أوقع ذلك في آخر الركعة الرابعة.

وقد أجاب السيّد الاستاذ (١) على ذلك : بأنّ المصلّي بعد أن يستصحب عدم الإتيان ويأتي بركعةٍ يتيقّن بأ نّه قد تلبّس بالركعة الرابعة ، ويشكّ في خروجه منها إلى الخامسة ، فيستصحب بقاءه في الرابعة.

ونلاحظ على هذا الجواب : أنّ الاستصحاب المذكور معارض باستصحاب عدم كونه في الرابعة ؛ لأنّه يعلم إجمالاً بأ نّه إمّا الآن أو قبل إيجاده للركعة المبنيّة على الاستصحاب ليس في الرابعة ، فيستصحب العدم ويتساقط الاستصحابان.

كما يلاحظ على أصل الاعتراض : بأنّ إثبات اللازم العقلي بالاستصحاب ليس أمراً محالاً ، بل محتاجاً إلى الدليل ، فإذا توقّف تطبيق الاستصحاب في مورد الرواية على افتراض ذلك كانت بنفسها دليلاً على الإثبات المذكور.

__________________

(١) مصباح الاصول ٣ : ٦١ ـ ٦٢.

٤٦٦

[رواية إعارة الثوب للذمّي :]

الرواية الرابعة : وهي رواية عبدالله بن سنان ، قال : سأل أبي أبا عبدالله عليه‌السلام وأنا حاضر : إنّي اعير الذمّيّ ثوبي وأنا أعلم أنّه يشرب الخمر ويأكل لحم الخنزير ، فيردّه عليَّ فأغسله قبل أن اصلّي فيه. فقال أبو عبدالله عليه‌السلام : «صلِّ فيه ولا تغسله من أجل ذلك ، فإنّك اعرته إيّاه وهو طاهر ولم تستيقن أنّه نجَّسه ، فلا بأس أن تصلّي فيه حتّى تستيقن أنّه نجَّسه» (١).

ولا شكّ في ظهور الرواية في النظر إلى الاستصحاب ، لاقاعدة الطهارة ، بقرينة أخذ الحالة السابقة في مقام التعليل ، إذ قال : «فإنّك أعرته إيّاه وهو طاهر» ، فتكون دالّةً على الاستصحاب.

نعم ، لا عموم في مدلولها اللفظي ، ولكن لايبعد التعميم باعتبار ورود فقرة الاستدلال مورد التعليل ، وانصراف فحواها إلى نفس الكبرى الاستصحابية المركوزة عرفاً.

هذا هو المهمّ من روايات الباب ، وهو يكفي لإثبات كبرى الاستصحاب.

وبعد إثبات هذه الكبرى يقع الكلام في عدّة مقامات ، إذ نتكلّم في روح هذه الكبرى وسنخها من حيث كونها أمارةً أو أصلاً ، وكيفية الاستدلال بها ، ثمّ في أركانها ، ثمّ في مقدار وحدود ما يثبت بها من آثار ، ثمّ في سعة دائرة الكبرى ومدى شمولها لكلّ مورد ، ثمّ في جملةٍ من التطبيقات التي وقع البحث العلمي فيها. فالبحث إذن يكون في خمسة مقاماتٍ كما يلي.

__________________

(١) وسائل الشيعة : ٣ : ٥٢١ ، الباب ٧٤ من ابواب النجاسات ، الحديث الأوّل.

٤٦٧

الاستصحاب أصل أو أمَارة؟

قد عرفنا سابقاً (١) الضابط الحقيقي للتمييز بين الحكم الظاهري في باب الأمارات والحكم الظاهري في باب الاصول ، وهو : أنّه كلّما كان الملحوظ فيه أهمّية المحتمل كان أصلاً ، وكلّما كان الملحوظ قوة الاحتمال وكاشفيته محضاً كان المورد أمارة.

وعلى هذا الضوء إذا درسنا الكبرى المجعولة في دليل الاستصحاب واجهنا صعوبةً في تعيين هويّتها ودخولها تحت أحد القسمين ؛ وذلك لأنّ إدخالها في نطاق الأمارات يعني افتراض كاشفية الحالة السابقة وقوة احتمال البقاء ، مع أنّ هذه الكاشفية لا واقع لها ـ كما عرفنا في الحلقة السابقة (٢) ـ ولهذا أنكرنا حصول الظنّ بسبب الحالة السابقة. وإدخالها في نطاق الاصول يعني أنّ تفوّق الأحكام المحتملة البقاء على الأحكام المحتملة الحدوث في الأهمّية أوجب إلزام الشارع برعاية الحالة السابقة ، مع أنّ الأحكام المحتملة البقاء ليست متعيّنة الهوية والنوعية ، فهي تارةً وجوب ، واخرى حرمة ، وثالثةً إباحة ، وكذلك الأمر في ما يحتمل حدوثه ، فلا معنى لأن يكون سبب تفضيل الأخذ بالحالة السابقة الاهتمام بنوع الأحكام التي يحتمل بقاؤها.

وبعبارةٍ اخرى : أنّ ملاك الأصل ـ وهو رعاية أهمّية المحتمل ـ يتطلّب أن يكون نوع الحكم الملحوظ محدّداً ، كما في نوع الحكم الترخيصي الملحوظ في أصالة الحلّ ، ونوع الحكم الإلزامي الملحوظ في أصالة الاحتياط. وأمّا إذا كان

__________________

(١) في مباحث التمهيد من الجزء الأوّل للحلقة الثالثة ، تحت عنوان : الأمارات والاصول.

(٢) تحت عنوان : أدلّة الاستصحاب.

٤٦٨

نوع الحكم غير محدَّدٍ وقابلاً للأوجه المختلفة فلا ينطبق الملاك المذكور.

وحلُّ الإشكال : أنّه بعد أن عرفنا أنّ الأحكام الظاهرية تقرِّر دائماً نتائج التزاحم بين الأحكام والملاكات الواقعية في مقام الحفظ عند الاختلاط فبالإمكان أن نفترض أنّ المولى قد لا يجد في بعض حالات التزاحم قوةً تقتضي الترجيح لا بلحاظ المحتمل ولا بلحاظ نفس الاحتمال ، وفي مثل ذلك قد يعمل نكتةً نفسيةً في ترجيح أحد الاحتمالين على الآخر.

ففي محلّ الكلام حينما يلحظ المولى حالات الشكّ في البقاء لا يجد أقوائية ، لا للمحتمل إذ لا تعيّن له ، ولا للاحتمال إذ لا كاشفية ظنّية له ، ولكنّه يرجِّح احتمال البقاء لنكتةٍ نفسيةٍ ولو كانت هي رعاية الميل الطبيعي العامّ إلى الأخذ بالحالة السابقة ، ولا يخرج الحكم المجعول على هذا الأساس عن كونه حكماً ظاهرياً طريقياً ؛ لأنّ النكتة النفسية ليست هي الداعي لأصل جعله ، بل هي الدخيلة في تعيين كيفية جعله.

وعلى هذا الأساس يكون الاستصحاب أصلاً ؛ لأنّ الميزان في الأصل الذي لا تثبت به اللوازم على القاعدة عدم كون الملحوظ فيه قوة الاحتمال محضاً ، سواء كان الملحوظ فيه قوة المحتمل أو نكتةً نفسية ؛ لأنّ النكتة النفسية قد لا تكون منطبقةً إلاّعلى المدلول المطابقي للأصل ، فلا يلزم من التعبد به التعبّد باللوازم.

كيفية الاستدلال بالاستصحاب :

وقد يتوهّم أنّ النقطة السابقة تؤثّر في كيفية الاستدلال بالاستصحاب وبالتالي في كيفية علاج تعارضه مع سائر الأدلّة ، فإن افترضنا أنّ الاستصحاب أمارة وأنّ المعوَّل فيه على كاشفية الحالة السابقة كان الدليل هو الحالة السابقة على حدّ دليلية خبر الثقة ، ومن هنا يجب أن تلحظ النسبة بين نفس الأمارة الاستصحابية وما يعارضها من أصالة الحلّ مثلاً ، فيقدّم الاستصحاب بالأخصّية

٤٦٩

على دليل أصالة الحلّ ، كما وقع في كلام السيد بحر العلوم (١) انسياقاً مع هذا التصور.

وإن افترضنا الاستصحاب أصلاً عملياً وحكماً تعبّدياً مجعولاً في دليله فالمدرك حينئذٍ لبقاء المتيقّن عند الشكّ نفس ذلك الدليل ، لا أماريّة الحالة السابقة ، وعند التعارض بين الاستصحاب وأصالة الحلّ يجب أن تلحظ النسبة بين دليل الاستصحاب ـ وهو مفاد رواية زرارة مثلاً ـ ودليل أصالة الحلّ ، وقد تكون النسبة حينئذٍ العموم من وجه.

وهذا التوهّم باطل ، فإنّ ملاحظة نسبة الأخصّية والأعميّة بين المتعارضين وتقديم الأخصّ من شؤون الكلام الصادر من متكلّمٍ واحدٍ خاصّة ، حيث يكون الأخصّ قرينةً على الأعمّ بحسب أساليب المحاورة العرفية ، ولمّا كانت حجّية كلّ ظهورٍ منوطةً بعدم ثبوت القرينة على خلافه كان الخبر المتكفّل للكلام الأخصّ مثبتاً لارتفاع الحجّية عن ظهور الكلام الأعمّ في العموم. وليست الأخصّية في غير مجال القرينيّة ملاكاً لتقديم إحدى الحجّتين على الاخرى ، ولهذا لا يتوهّم أحد أنّه إذا دلّت بيّنة على أنّ كلّ ما في الدار نجس ، ودلّت اخرى على أنّ شيئاً منه طاهر قدِّمت الثانية للأخصّية ، بل يقع التعارض ، إذ لا معنى للقرينية مع فرض صدور الكلامين من جهتين.

وعلى هذا ففي المقام سواء قيل بأماريّة الاستصحاب أو أصليّته لا معنى لتقديمه بالأخصّية الملحوظة بينه وبين معارضه ، بل لا بدّ من ملاحظة النسبة بين دليله وما يعارضه من دليل الأصل أو دليل حجّية الأمارة ، فإن كان أخصّ قُدِّم بالأخصّية ؛ لأنّ مفاد الأدلّة كلام الشارع ، ومتى كان أحد كلاميه أخصَّ من الآخر قُدِّم بالأخصّية.

__________________

(١) الفوائد الاصوليّة : الفائدة (٣٥).

٤٧٠

أركان الاستصحاب

وللاستصحاب على ما يستفاد من أدلّته المتقدمة أربعة أركان ، وهي : اليقين بالحدوث ، والشكّ في البقاء ، ووحدة القضية المتيقّنة والمشكوكة ، وكون الحالة السابقة في مرحلة البقاء ذات أثرٍ عمليٍّ مصحِّحٍ للتعبّد بها. وسنتكلّم عن هذه الأركان في ما يلي تباعاً إن شاء الله تعالى :

أ ـ اليقين بالحدوث :

ذهب المشهور إلى أنّ اليقين بالحدوث ركن مقوِّم للاستصحاب ، ومعنى ذلك أنّ مجرّد ثبوت الحالة السابقة في الواقع لا يكفي لفعلية الحكم الاستصحابي لها ، وإنمّا يجري الاستصحاب إذا كانت الحالة السابقة متيقّنة ، وذلك لأنّ اليقين قد اخذ في موضوع الاستصحاب في ألسنة الروايات ، وظاهر أخذه كونه مأخوذاً على نحو الموضوعية لا الطريقية إلى صرف ثبوت الحالة السابقة.

نعم ، في رواية عبدالله بن سنان المتقدمة علَّل الحكم الاستصحابي بنفس الحالة السابقة في قوله : «لأنّك أعرته إيّاه وهو طاهر» ، لا باليقين بها ، وهو ظاهر في ركنية المتيقّن لا اليقين ، وتصلح أن تكون قرينةً على حمل اليقين في سائر الروايات على الطريقية إذا تمّ الاستدلال بالرواية المذكورة على الكبرى الكلّية.

وقد نشأت مشكلة من افتراض ركنيّة اليقين بالحدوث ، وهي : أنّه إذا كان ركناً فكيف يمكن إجراء الاستصحاب فيما هو ثابت بالأمارة إذا دلّت الأمارة على حدوثه وشككنا في بقائه ، مع أنّه لا يقين بالحدوث ، كما إذا دلّت الأمارة على نجاسة ثوبٍ وشكّ في تطهيره ، أو على نجاسة الماء المتغيّر في الجملة وشكّ

٤٧١

في بقاء النجاسة بعد زوال التغير؟

وقد افيد في جواب هذه المشكلة عدّة وجوه :

الوجه الأول : ما ذكرته مدرسة المحقّق النائيني (١) ـ قدّس الله روحه ـ من أنّ الأمارة تعتبر علماً بحكم لسان دليل حجّيتها ؛ لأنّ دليل الحجّية مفاده جعل الطريقية وإلغاء احتمال الخلاف تعبّداً ، وبهذا تقوم مقام القطع الموضوعي ؛ لحكومة دليل حجّيتها على الدليل المتكفِّل لجعل الحكم على القطع. ومعنى الحكومة هنا : أنّ دليل الحجّية يحقِّق فرداً تعبّدياً من موضوع الدليل الآخر ، ومن مصاديق ذلك قيام الأمارة مقام اليقين المأخوذ في موضوع الاستصحاب وحكومة دليل حجّيتها على دليله.

وقد تقدّم ـ في مستهلِّ البحث عن الأدلّة المحرزة من هذه الحلقة ـ المنع عن وفاء دليل حجّية الأمارة بإثبات قيامها مقام القطع الموضوعي وعدم صلاحيّته للحاكمية ؛ لأنّها فرع النظر إلى الدليل المحكوم ، وهو غير ثابت ، فلاحظ.

الوجه الثاني : ما ذكره صاحب الكفاية (٢) رحمه‌الله ، وحاصله على ما قيل في تفسيره : أنّ اليقين بالحدوث ليس ركناً في دليل الاستصحاب ، بل مفاد الدليل جعل الملازمة بين الحدوث والبقاء.

وقد اعترض السيد الاستاذ (٣) على ذلك : بأنّ مفاده لو كان الملازمة بين الحدوث والبقاء في مرحلة الواقع لزم كونه دليلاً واقعياً على البقاء ، وهو خلف كونه أصلاً عملياً. ولو كان مفاده الملازمة بين الحدوث والبقاء في مرحلة التنجّز

__________________

(١) فوائد الاصول ٣ : ٢١ ـ ٢٢.

(٢) كفاية الاصول : ٤٦٠ ـ ٤٦١.

(٣) مصباح الاصول ٣ : ٩٧ ـ ٩٨.

٤٧٢

ـ فكلّما تنجَّز الحدوث تنجَّز البقاء ـ لزم بقاء بعض أطراف العلم الإجمالي منجَّزةً حتى بعد انحلاله بعلمٍ تفصيلي ؛ لأنّها كانت منجّزةً حدوثاً ، والمفروض أنّ دليل الاستصحاب يجعل الملازمة بين الحدوث والبقاء في التنجّز.

وهذا الاعتراض غريب ؛ لأنّ المراد بالملازمة : الملازمة بين الحدوث الواقعي والبقاء الظاهري ، ومردّ ذلك في الحقيقة إلى التعبّد بالبقاء منوطاً بالحدوث ، فلا يلزم شيء ممّا ذكر.

والصحيح أن يقال : إنّ مردَّ هذا الوجه إلى إنكار الأساس الذي نجمت عنه المشكلة ، وهو ركنيّة اليقين المعتمدة على ظهور أخذه إثباتاً في الموضوعية ، فلابدّ له من مناقشة هذا الظهور ؛ وذلك بما ورد في الكفاية (١) من دعوى : أنّ اليقين باعتبار كاشفيته عن متعلّقه يصلح أن يؤخذ بما هو معرِّف ومرآة له ، فيكون أخذه في لسان دليل الاستصحاب على هذا الأساس ، ومرجعه إلى أخذ الحالة السابقة.

وهذه الدعوى لابدّ أن تتضمّن ادّعاء الظهور في المعرِّفية ؛ لأنّ مجرّد إبداء احتمال ذلك بنحوٍ مساوٍ للموضوعية يوجب الإجمال وعدم إمكان تطبيق دليل الاستصحاب في موارد عدم وجود اليقين.

ويرد عليها : أنّ المقصود بما ادُّعي إن كان إبراز جانب المرآتية الحقيقيّة لليقين بالنسبة إلى متيقّنه فمن الواضح أنّها إنمّا تثبت لواقع اليقين في افق نفس المتيقّن الذي يرى من خلال يقينه متيقّنه دائماً ، وليست هذه المرآتية ثابتةً لمفهوم اليقين ، فمفهوم اليقين كأيِّ مفهومٍ آخر إنمّا يلحظ مرآةً إلى أفراده ، لا إلى متيقّنه ؛ لأنّ الكاشفية الحقيقية التي هي روح هذه المرآتية من شؤون واقع اليقين ، لا مفهومه.

__________________

(١) كفاية الاصول : ٤٦١.

٤٧٣

وإن كان المقصود أخذ اليقين معرِّفاً وكنايةً عن المتيقّن فهو أمر معقول ومقبول عرفاً ، ولكنّه بحاجةٍ إلى قرينة ، ولا قرينة في المقام على ذلك ، لا خاصّةً ولا عامة. أمّا الاولى فانتفاؤها واضح. وأمّا الثانية فلأنّ القرينة العامة هي مناسبات الحكم والموضوع العرفية ، وهي لا تأبى في المقام عن دخل اليقين في حرمة النقض.

وكان الأولى بصاحب الكفاية أن يستند في الاستغناء عن ركنيّة اليقين إلى مالم يؤخذ في لسانه اليقين بالحدوث من روايات الباب.

الوجه الثالث : أنّ اليقين وإن كان ركناً للاستصحاب بمقتضى ظهور أخذه في الموضوعية إلاّأ نّه مأخوذ بما هو حجّة ، فيتحقّق الركن بالأمارة المعتبرة أيضاً باعتبارها حجّة.

ويختلف هذا الوجه عن سابقه بالاعتراف بركنية اليقين ، وعن الأول بأنّ دليل حجّية الأمارة على هذا يكون وارداً على دليل الاستصحاب ؛ لأنّه يحقِّق فرداً من الحجّة حقيقة ، وأمّا على الوجه الأول فدليل حجيّة الأمارة (١) حاكم لا وارد.

ويرد على هذا الوجه : أنّ ظاهر أخذ شيءٍ كونه بعنوانه دخيلاً ، فحمله على دخل عنوانٍ جامعٍ بينه وبين غيره يحتاج إلى قرينة.

والتحقيق أن يقال : إنّ الأمارة تارةً تعالج شبهةً موضوعية ، كالأمارة الدالّة على نجاسة الثوب ، واخرى شبهة حكمية ، كالأمارة الدالّة على نجاسة الماء المتغير. وعلى التقديرين تارةً ينشأ الشكّ في البقاء من شبهةٍ موضوعية ، كما إذا

__________________

(١) في الطبعة الاولى والنسخة الخطيّة الواصلة إلينا : «فدليل الاستصحاب» بدلاً عن «فدليل حجيّة الأمارة». ولكنّ الصحيح ما أثبتناه ، كما يظهر بالتأ مّل.

٤٧٤

شكّ في غسل الثوب أو زوال التغيّر ، واخرى ينشأ من شبهةٍ حكمية ، كما إذا شكّ في طهارة الثوب بالغسل بالماء المضاف وارتفاع النجاسة عند زوال التغيّر من قبل نفسه. فهناك إذن أربع صور :

الاولى : أن تعالج الأمارة شبهةً موضوعيةً ويكون الشكّ في البقاء شبهةً موضوعيةً أيضاً ، كما إذا أخبرت الأمارة بتنجّس الثوب وشكّ في طروّ المطهِّر ، وفي مثل ذلك لا حاجة إلى استصحاب النجاسة الواقعية ليرد الإشكال القائل بأنّه لا يقين بحدوثها ، بل يمكن إجراء الاستصحاب بأحد وجهين آخرين.

الأوّل : أن نجري الاستصحاب الموضوعي فنستصحب عدم غسل الثوب بالماء ، ومن الواضح أنّ نجاسة الثوب مترتّبة شرعاً على موضوعٍ مركّبٍ من جزءين : أحدهما ملاقاته للنجس. والآخر عدم طروّ الغسل عليه. والأول ثابت بالأمارة ، والثاني بالاستصحاب ؛ لأنّ أركانه فيه متوفّرة بما فيها اليقين بالحدوث ، فيترتّب على ذلك بقاء النجاسة شرعاً.

الثاني : أنّ الأمارة التي تدلّ على حدوث النجاسة في الثوب تدلّ أيضاً بالالتزام على بقائها مالم يغسل ؛ لأنّنا نعلم بالملازمة بين الحدوث والبقاء مالم يغسل ، فما يدلّ على الأول بالمطابقة يدلّ على الثاني بالالتزام. ومقتضى دليل حجّية الأمارة التعبّد بمقدار ما تدلّ عليه بالمطابقة والالتزام ، فإذا شكّ في طروّ الغسل كان ذلك شكّاً في انتهاء أمد البقاء التعبّدي الثابت بدليل الحجّية ، فيستصحب ؛ لأنّه معلوم حدوثاً ومشكوك بقاءً.

الثانية : أن تعالج الأمارة شبهةً حكميةً ويكون الشكّ في البقاء شبهةً موضوعية ، كما إذا دلّت الأمارة على نجاسة الماء المتغيِّر وشكّ في بقاء التغيّر.

وهنا يجري نفس الوجهين السابقين ، حيث يمكن استصحاب التغيّر ، ويمكن استصحاب نفس النجاسة الظاهرية المغيّاة بارتفاع التغيّر ؛ للشّك في حصول غايتها.

٤٧٥

الثالثة : أن تعالج الأمارة شبهةً موضوعيةً ويكون الشكّ في البقاء شبهةً حكمية ، كما إذا دلّت الأمارة على نجاسة الثوب وشكّ في بقائها عند الغسل بالماء المضاف.

وفي هذه الصورة يتعذّر إجراء الاستصحاب الموضوعي ، إذ لا شكّ في وقوع الغسل بالماء المضاف ، وعدم وقوع الغسل بالماء المطلق ، ولكن يمكن إجراء الاستصحاب على الوجه الثاني ؛ لأنّ الأمارة المخبِرة عن نجاسة الثوب تُخبِّر التزاماً عن بقاء هذه النجاسة مالم يحصل المطهِّر الواقعي ، وعلى هذا الأساس يكون التعبّد الثابت على وفقها بدليل الحجّية تعبّداً مغيّىً بالمطهِّر الواقعي أيضاً ، فالتردّد في حصول المطهِّر الواقعي ولو على نحو الشبهة الحكمية يسبِّب الشكّ في بقاء التعبّد المستفاد من دليل الحجّية والذي هو متيقّن حدوثاً ، فيجري فيه الاستصحاب.

الرابعة : أن تعالج الأمارة شبهةً حكميةً ويكون الشكّ في البقاء شبهةً حكميةً أيضاً ، كما إذا دلّت على تنجّس الثوب بملاقاة المتنجّس وشكّ في حصول التطهير بالغسل بالماء المضاف.

وعلاج هذه الصورة نفس علاج الصورة السابقة ، فإنّ النجاسة المخبَر عنها بالأمارة هي على فرض حدوثها نجاسة مستمرّة مغيّاة بطروّ المطهِّر الشرعي ، وعلى هذا فالتعبّد على طبق الأمارة يتكفّل إثبات هذا النحو من النجاسة ظاهراً.

ولمّا كانت الغاية مردّدةً بين مطلق الغسل والغسل بالمطلق (١) فيقع الشكّ في حصولها عند الغسل بالمضاف ، وبالتالي يقع الشكّ في بقاء التعبّد المغيّى المستفاد

__________________

(١) في الطبعة الاولى والنسخة الخطيّة الواصلة إلينا : «بالمضاف» بدلاً عن «بالمطلق». ولكنّ الصحيح ما أثبتناه ، كما يظهر بالتأ مّل.

٤٧٦

من دليل الحجّية ، فيستصحب.

ففي كلّ هذه الصور يمكن التفادي عن الإشكال بإجراء الاستصحاب الموضوعي ، أو استصحاب نفس المجعول في دليل الحجّية. وجامع هذه الصور أن يعلم بأنّ للحكم المدلول للأمارة على فرض ثبوته غايةً ورافعاً ويشكّ في حصول الرافع على نحو الشبهة الموضوعية أو الحكمية.

نعم ، قد لا يكون الشكّ على هذا الوجه ، بل يكون الشكّ في قابلية المستصحَب للبقاء ، كما اذا دلّت الأمارة على وجوب الجلوس في المسجد إلى الزوال ، وشكّ في بقاء هذا الوجوب بعد الزوال فإنّ الأمارة هنا لا يحتمل أنّها تدلّ مطابقةً أو التزاماً على أكثر من الوجوب إلى الزوال ، وهذا يعني أنّ التعبّد على وفقها المستفاد من دليل الحجّية لا يحتمل فيه الاستمرار أكثر من ذلك. وفي مثل هذا يتركّز الإشكال ؛ لأنّ الحكم الواقعي بالوجوب غير متيقّن الحدوث ، والحكم الظاهري المستفاد من دليل الحجّية غير محتمل البقاء ، ويتوقّف دفع الإشكال حينئذٍ على إنكار ركنيّة اليقين بلحاظ مثل رواية عبدالله بن سنان المتقدمة.

ب ـ الشكّ في البقا

والشكّ في البقاء هو الركن الثاني ، وذلك لأخذه في لسان أدلّة الاستصحاب ، وقد يقال : إنّ ركنيّته ضروريّة بلا حاجةٍ إلى أخذه في لسان الأدلّة ؛ لأنّ الاستصحاب حكم ظاهري ، والحكم الظاهري متقوّم بالشكّ ، فإن فرض الشكّ في الحدوث كان موردَ قاعدة اليقين ، فلابدّ إذن من فرض الشكّ في البقاء.

ولكن سيظهر أنّ ركنيّة الشكّ في البقاء بعنوانه لها آثار إضافية لا تثبت بالبرهان المذكور ، بل بأخذه في لسان الأدلّة ، فانتظر.

وتتفرّع على ركنيّة الشكّ في البقاء قضيتان :

٤٧٧

الاولى : أنّ الاستصحاب لا يجري في الفرد المردّد ، ونقصد بالفرد المردّد : حالة القسم الثاني من استصحاب الكلّي ، كما إذا علمنا بوجود جامع الإنسان في المسجد وهو مردّد بين زيدٍ وخالد ونشكّ في بقاء هذا الجامع ؛ لأنّ زيداً نراه الآن خارج المسجد ، فإن كان هو المحقِّق للجامع حدوثاً فقد ارتفع الجامع ، وإن كان خالد هو المحقِّق للجامع فلعلّه لا يزال باقياً. وفي مثل ذلك يجري استصحاب الجامع إذا كان لوجود الجامع أثر شرعي. ويسمّى بالقسم الثاني من استصحاب الكلّي ، كما تقدم في الحلقة السابقة (١) ، ولا يجري استصحاب بقاء زيدٍ ولا استصحاب بقاء خالد بلا شكّ.

ولكن قد يقال : إنّ الآثار الشرعية إذا كانت مترتّبةً على وجود الأفراد بما هي أفراد أمكن إجراء استصحاب الفرد المردّد على إجماله ، بأن نشير إلى واقع الشخص الذي دخل المسجد ونقول : إنّه على إجماله يشكّ في خروجه من المسجد فيستصحب.

ولكنّ الصحيح : أنّ هذا الاستصحاب لا محصّل له ؛ لأنّنا حينما نلحظ الأفراد بعناوينها التفصيلية لا نجد شكّاً في البقاء على كلّ تقدير ، إذ لا يحتمل بقاء زيدٍ بحسب الفرض. وإذا لاحظناها بعنوانٍ إجماليٍّ ـ وهو عنوان الإنسان الذي دخل إلى المسجد ـ فالشكّ في البقاء ثابت. فإن اريد باستصحاب الفرد المردّد إثبات بقاء الفرد بعنوانه التفصيلي فهو متعذّر ، إذ لعلّ هذا الفرد هو زيد وزيد لا شكّ في بقائه ، فيكون الركن الثاني مختلًّا. وإن اريد به إثبات بقاء الفرد بعنوانه الإجمالي فالركن الثاني محفوظ ولكنّ الركن الرابع غير متوفّر ؛ لأنّ الأثر الشرعي غير مترتّبٍ بحسب الفرض على العنوان الإجمالي ، بل على العناوين التفصيلية للأفراد.

__________________

(١) في النقطة الثالثة من بحث التطبيقات في الاستصحاب ، تحت عنوان : استصحاب الكلّي.

٤٧٨

ومن هنا نعرف أنّ عدم جريان استصحاب الفرد المردّد من نتائج ركنية الشكّ في البقاء الثابتة بظهور الدليل ، ولا يكفي فيه البرهان القائل بأنّ الحكم الظاهري متقوّم بالشكّ ، إذ لا يأبى العقل عن تعبّد الشارع ببقاء الفرد الواقعي مع احتمال قطعنا بخروجه.

والقضية الثانية هي : أنّ زمان المتيقّن قد يكون متّصلاً بزمان المشكوك وسابقاً عليه ، وقد يكون مردّداً بين أن يكون نفس زمان المشكوك أو الزمان الذي قبله. ففي الحالة الاولى يصدق الشكّ في البقاء بلا شكّ ، وأمّا الحالة الثانية فمثالها : أن يحصل له العلم إجمالاً بأنّ هذا الثوب إمّا تنجس في هذه اللحظة ، أو كان قد تنجّس قبل ساعةٍ وطهر ، فالنجاسة معلومة التحقّق في هذا الثوب أساساً ، ولكنّها مشكوكة فعلاً ، وزمان المشكوك هواللحظة الحاضرة ، وزمان النجاسة المتيقّنة لعلّه نفس زمان المشكوك ، ولعلّه ساعة قبل ذلك.

وفي مثل ذلك قد يستشكل في جريان الاستصحاب ؛ لأنّ من المحتمل وحدة زمانَي المشكوك والمتيقّن ، وعلى هذا التقدير لا يكون أحدهما بقاءً للآخر ، فالشكّ إذن لم يحرز كونه شكّاً في البقاء ، وبذلك يختلّ الركن الثاني ، فلا يجري الاستصحاب في كلّ الحالات التي يكون زمان المتيقّن فيها مردّداً بين زمان المشكوك وما قبله.

ويمكن دفع الاستشكال : بأنّ الشكّ في البقاء بعنوانه لم يؤخذ صريحاً في لسان روايات الاستصحاب ، وإنّما اخذ الشكّ بعد اليقين ، وهو يلائم كلّ شكٍّ متعلّق بما هو متيقّن الحدوث ، سواء صدق عليه الشكّ في البقاء أوْ لا.

والاستشكال المذكور إذا لم يندفع بهذا البيان يؤدّي إلى أنّ الاستصحاب في موارد توارد الحالتين لا يجري في نفسه لا من أجل التعارض ، فإذا علم بالحدث والطهارة وشكّ في المتقدِّم منهما فهو يعلم إجمالاً بالحدث إمّا الآن أو

٤٧٩

قبل ساعة ويشكّ في الحدث فعلاً ، فزمان الحدث المشكوك هو الآن ، وزمان الحدث المتيقّن مردّد بين الآن وما قبله ، فلا يجري استصحاب الحدث ، ومثل ذلك يقال في استصحاب الطهارة. وهذا بعض معاني ما يقال من عدم اتّصال زمان الشكّ بزمان اليقين.

[صياغة اخرى للركن الثاني :]

ثمّ إنّ هذا الركن الثاني قد يصاغ بصياغةٍ اخرى ، فيقال : إنّ الاستصحاب متقوّم بأن يكون رفع اليد عن الحالة السابقة نقضاً لليقين بالشكّ. ويفرّع على ذلك : بأنّه متى مالم يحرز ذلك واحتمل كونه نقضاً لليقين باليقين فلا يشمله النهي في عموم دليل الاستصحاب. وقد مثّل لذلك بما إذا علم بطهارة عدّة أشياءٍ تفصيلاً ثمّ علم إجمالاً بنجاسة بعضها ، فإنّ المعلوم بالعلم الإجمالي لمّا كان مردّداً بين تلك الأشياء فكلّ واحدٍ منها يحتمل أن يكون معلوم النجاسة ، وبالتالي يحتمل أن يكون رفع اليد عن الحالة السابقة فيه نقضاً لليقين باليقين ، فلا يجري الاستصحاب بقطع النظر عن المعارضة بين الاستصحاب هنا والاستصحاب هناك.

ونلاحظ على ذلك :

أولاً : أنّ العلم الإجمالي ليس متعلّقاً بالواقع ، بل بالجامع ، فلا يحتمل أن يكون أيّ واحدٍ من تلك الأشياء معلوم النجاسة.

وثانياً : لو سلّمنا أنّ العلم الإجمالي يتعلّق بالواقع فهو يتعلّق به على نحوٍ يلائم مع الشكّ فيه أيضاً. ودليل الاستصحاب مفاده أنّه لا يرفع اليد عن الحالة السابقة في كلّ موردٍ يكون بقاؤها فيه مشكوكاً ، وهذا يشمل محلّ الكلام حتّى لو انطبق العلم الإجمالي بالنجاسة على نفس المورد أيضاً.

فإن قيل : بل لا يشمل ؛ لأنّنا حينئذٍ لا ننقض اليقين بالشكّ ، بل باليقين.

٤٨٠