دروس في علم الأصول - ج ٢

آية الله السيّد محمّد باقر الصدر

دروس في علم الأصول - ج ٢

المؤلف:

آية الله السيّد محمّد باقر الصدر


المحقق: لجنة التحقيق التابعة للمؤتمر العالمي للإمام الشهيد الصدر
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مركز الأبحاث والدراسات التخصصية للشهيد الصدر
الطبعة: ١
الصفحات: ٦٠٨
الجزء ١ الجزء ٢

كان الجواب : أنّ «الباء» هنا لا يراد بها النهي عن النقض بسبب الشكّ ، وإلاّ لَلَزم إمكان النقض بالقرعة أو الاستخارة ، بل يراد بذلك أنّه لا نقض في حالة الشكّ ، وهي محفوظة في المقام.

الشبهات الحكمية في ضوء الركن الثاني :

وقد يقال : إنّ الركن الثاني يستدعي عدم جريان الاستصحاب في الشبهة الحكمية ، كما إذا شكّ في بقاء نجاسة الماء أو حرمة المقاربة بعد زوال التغيّر أو النقاء من الدم ؛ وذلك لأنّ النجاسة والحرمة وكلّ حكمٍ شرعيٍّ ليس له وجود وثبوت إلاّبالجعل ، والجعل آنيّ دفعي ؛ فكل المجعول يثبت في عالم الجعل في آنٍ واحدٍ من دون أن يكون البعض منه بقاءً للبعض الآخر ومترتّباً عليه زماناً ، فنجاسة الماء المتغيّر بتمام حصصها وحرمة مقاربة المرأة بتمام حصصها متقارنة زماناً في عالم الجعل ، وعليه فلا شكّ في البقاء ، بل ولا يقين بحدوث المشكوك أصلاً ، بل المتيقن حصّة من الجعل والمشكوك حصّة اخرى منه ، فلا يجري استصحاب النجاسة أو الحرمة.

وهذا الكلام مبنيّ على ملاحظة عالم الجعل فقط ، فإنّ حصص المجعول فيه متعاصرة ، بينما ينبغي ملاحظة عالم المجعول ، فإنّ النجاسة بما هي صفة للماء المتغيّر الخارجي لها حدوث وبقاء ، وكذلك حرمة المقاربة بما هي صفة للمرأة الحائض الخارجية ، فيتمّ بملاحظة هذا العالم اليقين بالحدوث والشكّ في البقاء ويجري الاستصحاب.

ج ـ وحدة القضية المتيقّنة والمشكوكة :

وهذا هو الركن الثالث. والوجه في ركنيّته : أنّه مع تغاير القضيّتين لا يكون الشكّ شكّاً في البقاء ، بل في حدوث قضيةٍ جديدة ، ومن هنا يعلم بأنّ هذا ليس

٤٨١

ركناً جديداً مضافاً إلى الركن السابق ، بل هو مستنبط منه وتعبير آخر عنه.

وقد طُبِّق هذا الركن على الاستصحاب الجاري في الشبهات الموضوعية ، وعلى الاستصحاب الجاري في الشبهات الحكمية ، وواجه في كلٍّ من المجالين بعض المشاكل والصعوبات ، كما نرى فيما يلي :

أوّلاً : تطبيقه في الشبهات الموضوعية :

جاء في إفادات الشيخ الأنصاري (١) ـ قدّس الله روحه ـ التعبير عن هذا الركن بالصياغة التالية : أنّه يعتبر في جريان الاستصحاب إحراز بقاء الموضوع ، إذ مع تبدّل الموضوع لا يكون الشكّ شكّاً في البقاء ، فلا يمكنك ـ مثلاً ـ أن تستصحب نجاسة الخشب بعد استحالته وصيرورته رماداً ؛ لأنّ موضوع النجاسة المتيقّنة لم يبقَ.

وهذه الصياغة سبّبت الاستشكال في جريان الاستصحاب فيما إذا كان المشكوك أصلَ وجود الشيء بقاءً ؛ لأنّ موضوع الوجود الماهية ، ولا بقاء للماهية إلاّ بالوجود ، فمع الشكّ في وجودها بقاءً لا يمكن إحراز بقاء الموضوع فكيف يجري الاستصحاب؟

وكذلك سبّبت الاستشكال أحياناً فيما إذا كان المشكوك من الصفات الثانوية المتأخّرة عن الوجود ، كالعدالة ؛ وذلك لأنّ زيداً العادل تارةً يشكّ في بقاء عدالته مع العلم ببقائه حيّاً ، ففي مثل ذلك يجري استصحاب العدالة بلا إشكال ، لأنّ موضوعها ـ وهو حياة زيد ـ معلوم البقاء. واخرى يشك في بقاء زيدٍ حيّاً ويشكّ أيضاً في بقاء عدالته على تقدير حياته ، وفي مثل ذلك كيف يجري

__________________

(١) فرائد الاصول ٣ : ٢٩٠ ـ ٢٩١.

٤٨٢

استصحاب بقاء العدالة مع أنّ موضوعها غير محرز؟

وهذه الاستشكالات نشأت من الصياغة المذكورة ، وهي لا مبرِّر لها. ومن هنا عدل صاحب الكفاية (١) عنها إلى القول بأنّ المعتبر في الاستصحاب وحدة القضية المتيقّنة والمشكوكة ، وهي محفوظة في موارد الاستشكال الآنفة الذكر ، وأمّا افتراض المستصحَب عرضاً وافتراض موضوعٍ له واشتراط إحراز بقائه فلا موجب لذلك.

ثانياً : تطبيقه في الشبهات الحكمية :

وعند تطبيق هذا الركن على الاستصحاب في الشبهات الحكمية نشأت بعض المشاكل ايضاً ، إذ لوحظ أنّا حين نأخذ بالصياغة الثانية له ـ التي اختارها صاحب الكفاية ـ نجد أنّ وحدة القضية المتيقّنة والمشكوكة لا يمكن افتراضها في الشبهة الحكمية إلاّفي حالات الشكّ في النسخ بمعنى إلغاء الجعل ، أي النسخ بمعناه الحقيقي. وأمّا حيث لا يحتمل النسخ فلا يمكن أن ينشأ شكّ في نفس القضية المتيقّنة ، وإنّما يشك في بقاء حكمها حينئذٍ إذا تغيّرت بعض القيود والخصوصيات المأخوذة فيها ، وذلك بأحد وجهين :

إمّا بأن تكون خصوصية ما دخيلةً يقيناً في حدوث الحكم ويشكّ في إناطة بقائه ببقائها ، فترتفع الخصوصية ويشكّ حينئذٍ في بقاء الحكم ، كالشكّ في نجاسة الماء بعد زوال تغيّره.

وإمّا بأن تكون خصوصية ما مشكوكةَ الدخل من أول الأمر في ثبوت الحكم ، فيفرض وجودها في القضية المتيقّنة ، إذ لا يقين بالحكم بدونها ، ثمّ ترتفع

__________________

(١) كفاية الاصول : ٤٨٦.

٤٨٣

فيحصل الشكّ في بقاء الحكم. وفي كلٍّ من هذين الوجهين لا وحدة بين القضية المتيقّنة والمشكوكة.

كما أنّا حين نأخذ بالصياغة الاولى لهذا الركن نلاحظ أنّ موضوع الحكم عبارة عن مجموع ما اخذ مفروض الوجود في مقام جعله ، والموضوع بهذا المعنى غير محرز البقاء في الشبهات الحكمية ؛ لأنّ الشكّ في بقاء الحكم ينشأ من الشكّ في انحفاظ تمام الخصوصيات المفروضة الوجود في مقام جعله.

ولأجل حلِّ المشكلة المذكورة نقدّم مثالاً من الأعراض الخارجية ، فنقول : إنّ الحرارة لها معروض وهو الجسم ، وعلّة وهي النار أو الشمس ، والحرارة تتعدّد بتعدّد الجسم المعروض لها ، فحرارة الخشب غير حرارة الماء ، ولا تتعدّد بتعدّد الأسباب والحيثيّات التعليلية ، فاذا كانت حرارة الماء مستندةً إلى النار حدوثاً وإلى الشمس بقاءً لا تعتبر حرارتين متغايرتين ، بل هي حرارة واحدة لها حدوث وبقاء.

ونفس الشيء نقوله عن الحكم كالنجاسة ـ مثلاً ـ فإنّ لها معروضاً وهو الجسم ، وعلةً وهي التغيّر بالنسبة إلى نجاسة الماء مثلاً ، والضابط في تعدّدها تعدّد معروضها ، لا تعدّد الحيثيّات التعليلية. فالخصوصية الزائلة التي سبّب زوالها الشكّ في بقاء الحكم إن كانت ـ على فرض دخالتها ـ بمثابة العلّة والشرط فلا يضرّ زوالها بوحدة الحكم ، ولا تستوجب دخالتها كحيثيّةٍ تعليليةٍ مباينةَ الحكم بقاءً للحكم حدوثاً ، كما هو الحال في الحرارة أيضاً. وأمّا إذا كانت الخصوصية الزائلة مقوِّمةً لمعروض الحكم ـ كخصوصية البولية الزائلة عند تحوّل البول بخاراً ـ فهي توجب التغاير بين الحكم المذكور والحكم الثابت بعد زوالها.

وعليه فكلّما كانت الخصوصية غير المحفوظة من الموضوع أو من القضية المتيقّنة حيثيةً تعليليةً فلا ينافي ذلك وحدة الحكم حدوثاً وبقاءً ، ومعه يجري

٤٨٤

الاستصحاب. وكلّما كانت الخصوصية مقوِّمةً للمعروض كان انتفاؤها موجباً لتعذّر جريان الاستصحاب ؛ لأنّ المشكوك حينئذٍ مباين للمتيقّن.

ومن هنا يبرز السؤال التالي : كيف نستطيع أن نميِّز بين الحيثية التعليلية والحيثية التقييدية المقوِّمة لمعروض الحكم؟

فقد يقال : بأنّ مرجع ذلك هو الدليل الشرعي ؛ لأنّ أخذ الحيثية في الحكم ونحو هذا الأخذ تحت سلطان الشارع ، فالدليل الشرعي هو الكاشف عن ذلك ، فإذا ورد بلسانٍ «الماء إذا تغيّر تنجَّس» فهمنا أنّ التغيّر اتّخذ حيثيةً تعليلية. وإذا ورد بلسان «الماء المتغيّر متنجِّس» فهمنا أنّ التغيّر حيثية تقييدية ، وعلى وزان ذلك «قلِّد العالم» أو «قلِّده إن كان عالماً» ، وهكذا.

والصحيح : أنّ أخذ الحيثية في الحكم بيد الشارع ، وكذلك نحو أخذها في عالم الجعل ، إذ في عالم الجعل يستحضر المولى مفاهيم معيّنة ، كمفهوم الماء والتغيّر والنجاسة ، فبإمكانه أن يجعل التغيّر قيداً للماء ، وبإمكانه أن يجعله شرطاً في ثبوت النجاسة تبعاً لكيفية تنظيمه لهذه المفاهيم في عالم الجعل ، غير أنّ استصحاب الحكم في الشبهات الحكمية لا يجري بلحاظ عالم الجعل ، بل بلحاظ عالم المجعول ، فينظر إلى الحكم بما هو صفة للأمر الخارجي لكي يكون له حدوث وبقاء ، كما تقدم (١).

وعليه فالمعروض محدّد واقعاً ، وما هو داخل فيه وما هو خارج عنه لا يتّبع في دخوله وخروجه نحو أخذه في عالم الجعل ، بل مدى قابليته للاتّصاف بالحكم خارجاً ، فالتغير ـ مثلاً ـ لا يتّصف بالنجاسة والقذارة في الخارج ، بل الذي يوصف بذلك ذات الماء ، والتغيّر سبب الاتّصاف ، والتقليد وأخذ الفتوى يكون من العالم

__________________

(١) تحت عنوان : الشبهات الحكميّة في ضوء الركن الثاني.

٤٨٥

بما هو عالم أو من علمه بحسب الحقيقة. فالتغيّر حيثية تعليلية ولو اخذت تقييديةً جعلاً ودليلاً ، والعلم حيثية تقييدية لوجوب التقليد ولو اخذ شرطاً وعلةً جعلاً ودليلاً.

وهنا نواجه سؤالاً آخر ، وهو : أنّ المعروض واقعاً بأيّ نظرٍ نشخِّصه؟ هل بالنظر الدقيق العقلي ، أو بالنظر العرفي؟ مثلاً إذا أردنا في الشبهة الحكمية أن نستصحب اعتصام الكرّ بعد زوال جزءٍ يسيرٍ منه فيما إذا احتملنا بقاء الاعتصام وعدم انثلامه بزوال ذلك الجزء فكيف نشخِّص معروض الاعتصام؟

فإنّنا إذا أخذنا بالنظر الدقيق العقلي وجدنا أنّ المعروض غير محرزٍ بقاءً ؛ لأنّ الجزء اليسير الذي زال من الماء يشكِّل جزءاً من المعروض بهذا النظر.

وإذا أخذنا بالنظر العرفي وجدنا أنّ المعروض لا يزال باقياً ببقاء معظم الماء ؛ لأنّ العرف يرى أنّه نفس الماء السابق. والشيء نفسه نواجهه عند استصحاب الكرّية بعد زوال الجزء اليسير من الماء في الشبهة الموضوعية.

والجواب : أنّ المتّبع هو النظر العرفي ؛ لأنّ دليل الاستصحاب خطاب عرفيّ منزَّل على الأنظار العرفية ، فالاستصحاب يتبع صدق النقض عرفاً ، وصدقه كذلك يرتبط بانحفاظ المعروض عرفاً.

د ـ الأثر العملي :

والركن الرابع من أركان الاستصحاب وجود الأثر العملي المصحِّح لجريانه ، وهذا الركن يمكن بيانه بإحدى الصيغ التالية :

الاولى : أنّ الاستصحاب يتقوّم بلزوم انتهاء التعبّد فيه إلى أثرٍ عملي ، إذ لو لم يترتّب أيّ أثرٍ عمليٍّ على التعبّد الاستصحابي كان لغواً ، وقرينة الحكمة تصرف إطلاق دليل الاستصحاب عن مثل ذلك.

٤٨٦

وصياغة الركن بهذه الصيغة تجعله بغير حاجةٍ إلى أيّ استدلالٍ سوى ما ذكرناه ، وتسمح حينئذٍ بجريان الاستصحاب حتى فيما إذا لم يكن المستصحَب أثراً شرعياً ، أو ذا أثرٍ شرعي ، أو قابلاً للتنجيز والتعذير بوجهٍ من الوجوه ؛ على شرط أن يكون لنفس التعبّد الاستصحابي به أثر يخرجه عن اللَغويّة ، كما إذا اخذ القطع بموضوعٍ خارجيٍّ لا حكم له تمام الموضوع لحكمٍ شرعيّ ، وقلنا : بأنّ الاستصحاب يقوم مقام القطع الموضوعي بدعوى أنّ المجعول فيه الطريقية فإنّ بالإمكان حينئذٍ جريان الاستصحاب لترتيب حكم القطع وإن لم يكن للمستصحَب أثر ، وهذا معنى إمكان قيامه مقام القطع الموضوعي دون الطريقي في بعض الموارد.

الثانية : أنّ الاستصحاب يتقوّم بأن يكون المستصحَب قابلاً للتنجيز والتعذير ، ولا يكفي مجرّد ترتّب الأثر على نفس التعبّد الاستصحابي ، ولا فرق في قابلية المستصحَب للمنجِّزية والمعذّرية بين أن تكون باعتباره حكماً شرعياً ، أو عدم حكمٍ شرعي ، أو موضوعاً لحكم أو دخيلاً في متعلّق الحكم ، كالاستصحابات الجارية لتنقيح شرط الواجب ـ مثلاً ـ إثباتاً ونفياً.

ومدرك هذه الصيغة ـ التي هي أضيق من الصيغة السابقة ـ استظهار ذلك من نفس دليل الاستصحاب ؛ لأنّ مفاده النهي عن نقض اليقين بالشكّ ، والنقض هنا ليس هو النقض الحقيقي ؛ لأنّه واقع لا محالة ولا معنى للنهي عنه ، وإنمّا هو النقض العملي ، وفرض النقض العملي لليقين هو فرض أنّ اليقين بحسب طبعه له اقتضاء عملي لينقض عملاً ، والاقتضاء العملي لليقين إنمّا يكون بلحاظ كاشفيته ، وهذا يفترض أن يكون اليقين متعلّقاً بما هو صالح للتنجيز والتعذير لكي يكون (١)

__________________

(١) هذه العبارة ـ من قوله : «لكي يكون» إلى قوله : «النقض العملي» ـ وجدناها ثابتةً في النسخة الخطّية الواصلة إلينا ، وهي ساقطة عن الطبعة الاولى والطبعات التي اتبعتها.

٤٨٧

اليقين به ذا اقتضاءٍ عملي ، وأمّا في غير ذلك فلا يتصوّر النقض العملي لكي يشمله إطلاق دليل الاستصحاب.

وهذا البيان يتوقّف على استظهار إرادة النقض العملي من النقض بقرينة تعلّق النهي به ، ولا يتمّ إذا استظهر عرفاً إرادة النقض الحقيقي مع حمل النهي على كونه إرشاداً إلى عدم إمكان ذلك بحسب عالم الاعتبار ، فإنّ المولى قد ينهى عن شيءٍ إرشاداً إلى عدم القدرة عليه ، كما يقال في «دَعِي الصلاةَ أيّام أقرائك».

غاية الأمر أنّ الصلاة غير مقدورةٍ للحائض حقيقةً ، والنقض غير مقدورٍ للمكلف ادّعاءً واعتباراً لتعبّد الشارع ببقاء اليقين السابق.

وبناءً على هذا الاستظهار يكون مفاد الدليل جعل الطريقية ، ولا يلزم في تطبيقه على موردٍ تصوير النقض العملي والاقتضاء العملي ، غير أنّه يكفي لتعيّن الصيغة الثانية في مقابل الاولى إجمال الدليل وتردّده بين الاحتمالين الموجب للاقتصار على المتيقّن منه ، والمتيقّن ما تقرِّره الصيغة الثانية.

الثالثة : أنّ الاستصحاب يتقوّم بأن يكون المستصحَب حكماً شرعياً أو موضوعاً لحكمٍ شرعي ، وهذه الصيغة أضيق من كلتا الصيغتين السابقتين ، ومن هنا وقع الإشكال في كيفية جريان الاستصحاب على ضوء هذه الصيغة في متعلّق الأمر قيداً وجزءاً ـ من قبيل استصحاب الطهارة ـ مع أنّ قيد الواجب ليس حكماً شرعياً ، ولا موضوعاً يترتّب عليه حكم شرعي ؛ لأنّ الوجوب يترتّب على موضوعه ، لا على متعلقه.

وقد يدفع الإشكال : بأنّ إيجاد المتعلّق مسقط للأمر فهو موضوع لعدمه ، فيجري استصحابه لاثبات عدم الأمر وسقوطه.

وهذا الدفع بحاجةٍ من ناحيةٍ إلى توسعة المقصود من الحكم بجعله شاملاً لعدم الحكم أيضاً ، وبحاجةٍ من ناحيةٍ اخرى إلى التسليم بأنّ إيجاد المتعلّق مسقط

٤٨٨

لنفس الأمر ، لا لفاعليته على ما تقدم (١).

والأولى في دفع الإشكال رفض هذه الصيغة الثالثة ، إذ لا دليل عليها سوى أحد أمرين :

الأول : أنّ المستصحَب إذا لم يكن حكماً شرعياً ولا موضوعاً لحكمٍ شرعيٍّ كان أجنبياً عن الشارع ، فلا معنى للتعبّد به شرعاً.

والجواب عن ذلك : أنّ التعبّد الشرعي معقول في كلِّ موردٍ ينتهي فيه إلى التنجيز والتعذير ، وهذا لا يختصّ بما ذكر فإنّ التعبّد بوقوع الامتثال أو عدمه ينتهي إلى ذلك أيضاً.

الثاني : أنّ مفاد دليل الاستصحاب جعل الحكم المماثل ظاهراً ، فلابدّ أن يكون المستصحَب حكماً شرعياً أو موضوعاً لحكمٍ شرعيٍّ ليمكن جعل الحكم المماثل على طبقه.

والجواب عن ذلك : أنّه لا موجب لاستفادة جعل الحكم المماثل بعنوانه من دليل الاستصحاب ، بل مفاده النهي عن نقض اليقين بالشكّ : إمّا بمعنى النهي عن النقض العملي بداعي تنجيز الحالة السابقة بقاءً ، وإمّا بمعنى النهي عن النقض الحقيقي إرشاداً إلى بقاء اليقين السابق أو بقاء المتيقّن السابق ادّعاءً ، وعلى كلّ حالٍ فلا يلزم أن يكون المستصحَب حكماً أو موضوعاً لحكم ، بل أن يكون أمراً قابلاً للتنجيز والتعذير لكي يتعلّق به التعّبد على أحد هذه الأنحاء.

__________________

(١) في بحث الدليل العقلي من الحلقة الثانية ، تحت عنوان : مسقطات الحكم.

٤٨٩

مقدار ما يثبت بالاستصحاب

لا شكّ في أنّ المستصحَب يثبت تعبّداً وعملياً بالاستصحاب ، وأمّا آثاره ولوازمه فهي على قسمين :

القسم الأول : الآثار الشرعية ، كما إذا كان المستصحَب موضوعاً لحكمٍ شرعيٍّ ، أو حكماً شرعياً واقعاً بدوره موضوعاً لحكمٍ شرعيٍّ آخر. وقد يكون المستصحَب موضوعاً لحكمه ، وحكمه بدوره موضوع لحكمٍ آخر ، كطهارة الماء الذي يغسل به الطعام المتنجِّس فإنّها موضوع لطهارة الطعام ، وهي موضوع لحلّيته.

القسم الثاني : الآثار واللوازم العقلية التي يكون ارتباطها بالمستصحَب تكوينياً وليس بالجعل والتشريع ، كنبات اللحية اللازم تكويناً لبقاء زيدٍ حياً ، وموته اللازم تكويناً من بقائه إلى جانب الجدار إلى حين انهدامه ، وكون مافي الحوض كرّاً اللازم تكويناً من استصحاب وجود كرٍّ من الماء في الحوض ، فإنّ مفاد كان الناقصة لازم عقليّ لمفاد كان التامة ، وهكذا.

أمّا القسم الأول فلا خلاف في ثبوته تعبّداً وعملياً بدليل الاستصحاب ، سواء قلنا : إنّ مفاده الإرشاد إلى عدم الانتقاض لعناية التعبّد ببقاء المتيقن ، أو الإرشاد إلى عدم الانتقاض لعناية التعبّد ببقاء نفس اليقين ، أو النهي عن النقض العملي لليقين بالشكّ.

أمّا على الأول فلأنّ التعبّد ببقاء المتيقّن ليس بمعنى إبقائه حقيقةً ، بل تنزيلاً ، ومرجعه إلى تنزيل مشكوك البقاء منزلة الباقي ، فيكون دليل الاستصحاب من أدلّة التنزيل ، ومقتضى دليل التنزيل إسراء الحكم الشرعي للمنزَّل عليه إلى

٤٩٠

المنزَّل إسراءً واقعياً أو ظاهرياً تبعاً لواقعية التنزيل أو ظاهريّته وإناطته بالشكّ ، وعليه فإطلاق التنزيل في دليل الاستصحاب يقتضي ثبوت جميع الآثار الشرعية للمستصحَب بالاستصحاب.

فإن قيل : هذا يصحّ بالنسبة إلى الأثر الشرعي المترتّب على المستصحب مباشرةً ، ولا يبرِّر ثبوت الأثر الشرعيّ المترتّب على ذلك الأثر المباشر ؛ وذلك لأنّ الأثر المباشر لم يثبت حقيقةً لكي يتبعه أثره ؛ لأنّ التنزيل ظاهريّ لا واقعي ، وإنّما ثبت الأثر المباشر تنزيلاً وتعبّداً فكيف يثبت أثره؟

كان الجواب : أنّه يثبت بالتنزيل أيضاً ، إذ ما دام إثبات الأثر المباشر كان إثباتاً تنزيلياً فمرجعه إلى تنزيله منزلة الأثر المباشر الواقعي ، وهذا يستتبع ثبوت الأثر الشرعي الثاني تنزيلاً ، وهكذا.

وأمّا على الثاني فقد يستشكل بأ نّه لا تنزيل في ناحية المستصحَب على هذا التقدير ، وإنمّا التنزيل والتعبّد في نفس اليقين ، وغاية ما يقتضيه كون اليقين بالحالة السابقة باقياً تعبّداً بلحاظ كاشفيته. ومن الواضح أنّ اليقين بشيءٍ إنمّا يكون طريقاً إلى متعلّقه ، لا إلى آثار متعلّقه ، وإنمّا يقع في صراط توليد اليقين بتلك الآثار ، واليقين المتولِّد هو الذي له طريقية إلى تلك الآثار ، وما دامت طريقية كلِّ يقينٍ تختصّ بمتعلّقه فكذلك منجّزيته ومحرّكيته. وعليه فالتعبّد ببقاء اليقين بالحالة السابقة إنمّا يقتضي توفير المنجِّز والمحرّك بالنسبة إلى الحالة السابقة ، لا بالنسبة إلى آثارها الشرعية.

فإن قيل : أليس من يكون على يقينٍ من شيءٍ يكون على يقينٍ من آثاره أيضاً؟!

كان الجواب : أنّ اليقين التكويني بشيءٍ يلزم منه اليقين التكويني بما يعرفه الشخص من آثاره ، وأمّا اليقين التعبّدي بشيءٍ فلا يلزم منه اليقين التعبّدي بآثاره ؛

٤٩١

لأنّ أمره تابع امتداداً وانكماشاً لمقدار التعبّد ، ودليل الاستصحاب لا يدلّ على أكثر من التعبّد باليقين بالحالة السابقة.

والتحقيق : أنّ تنجّز الحكم يحصل بمجرّد وصول كبراه وهي الجعل ، وصغراه وهي الموضوع ، فاليقين التعبّدي بموضوع الأثر بنفسه منجِّز لذلك الأثر والحكم وإن لم يسرِ إلى الحكم.

ومنه يعرف الحال على التقدير الثالث ، فإنّ اليقين بالموضوع لمّا كان بنفسه منجِّزاً للحكم كان الجري على طبق حكمه داخلاً في دائرة اقتضائه العملي ، فيلزم بمقتضى النهي عن النقض العملي.

فإن قيل : إذا كان اليقين بالموضوع كافياً لِتنجّزِ الحكم المترتّب عليه فماذا يقال عن الحكم الشرعيّ المترتّب على هذا الحكم؟ وكيف يتنجّز مع أنّه لا تعبّد باليقين بموضوعه وهو الحكم الأول؟

كان الجواب : أنّ الحكم الثاني الذي اخذ في موضوعه الحكم الأوّل لا يفهم من لسان دليله إلاّأنّ الحكم الأول بكبراه وصغراه موضوع للحكم الثاني ، والمفروض أنّه محرز كبرىً وصغرى ، جعلاً وموضوعاً ، وهذا هو معنى اليقين بموضوع الحكم الثاني ، فيتنجّز الحكم الثاني كما يتنجّز الحكم الأول.

وأمّا القسم الثاني فلا يثبت بدليل الاستصحاب ؛ لأنّه إن اريد إثبات اللوازم العقلية بما هي فقط فهو غير معقول ، إذ لا أثر للتعبّد بها بما هي. وإن اريد إثبات ما لهذه اللوازم من آثارٍ وأحكام شرعيةٍ فلا يساعد عليه دليل الاستصحاب على التقادير الثلاثة المقتدمة.

أمّا على الأول فلأنّ التنزيل في جانب المستصحَب إنمّا يكون بلحاظ الآثار الشرعية ، لا اللوازم العقلية ، كما تقدم في الحلقة السابقة (١).

__________________

(١) في بحث الاستصحاب ، تحت عنوان : مقدار ما يثبت بالاستصحاب.

٤٩٢

وأمّا على الأخيرَين فلأنّ اليقين بالحالة السابقة تعبّداً لا يفيد لتنجيز الحكم الشرعي المترتب على اللازم العقلي ؛ لأنّ موضوع هذا الحكم هو اللازم العقلي ، اليقين التعبّدي بالمستصحَب ليس يقيناً تعبّدياً باللازم العقلي.

وعلى هذا الأساس يقال : إنّ الأصل المثبت غير معتبر ، بمعنى أنّ الاستصحاب لا تثبت به اللوازم العقلية للمستصحَب ، ولا الآثار الشرعية لتلك اللوازم.

نعم ، إذا كان لنفس الاستصحاب لازم عقلي ـ كحكم العقل بالمنجّزية مثلاً ـ فلا شكّ في ترتّبه ؛ لأنّ الاستصحاب ثابت بالدليل المحرز فتترتب عليه كلّ لوازمه الشرعية والعقلية على السواء.

هذا كلّه على تقدير عدم ثبوت أماريّة الاستصحاب ، كما هو الصحيح على ما عرفت. وأمّا لو قيل بأماريّته واستظهرنا من دليل الاستصحاب أنّ اعتبار الحالة السابقة بلحاظ الكاشفية ، كان حجّةً في إثبات اللوازم العقلية للمستصحَب وأحكامها أيضاً وفقاً للقانون العامّ في الأمارات على ما تقدّم سابقاً (١).

__________________

(١) عند عرض المبادئ العامّة لبحث الأدلّة المحرزة في الجزء الأوّل من الحلقة الثالثة ، تحت عنوان : مقدار ما يثبت بدليل الحجّية.

٤٩٣

عموم جريان الاستصحاب

بعد ثبوت كبرى الاستصحاب وقع البحث بين المحقِّقين في إطلاقها لبعض الحالات. ومن هنا نشأ التفصيل في القول به ، ولعلّ أهمَّ التفصيلات المعروفة قولان :

[التفصيل بين الشكّ في المقتضي والشكّ في الرافع :]

أحدهما : ما ذهب اليه الشيخ الأنصاري (١) من التفصيل بين موارد الشكّ في المقتضي والشكّ في الرافع ، والالتزام بجريان الاستصحاب في الثاني دون الأول.

ومدرك المنع من جريانه في الأول أحد وجهين :

الأول : أن يدّعى بأنّ دليل الاستصحاب ليس فيه إطلاق لفظي ، وإنمّا الغيت خصوصية المورد في قوله : «ولا ينقض اليقين أبداً بالشكّ» بقرينة الارتكاز العرفي ، وكون الكبرى مسوقةً مساق التعليل الظاهر في الإشارة إلى قاعدةٍ عرفيةٍ مركوزة ، وليست هي إلاّكبرى الاستصحاب ولمّا كان المرتكز عرفاً من الاستصحاب لا يشمل موارد الشكّ في المقتضي فالتعميم الحاصل في الدليل بضمِّ هذا الارتكاز لا يقتضي إطلاقاً أوسع من موارد الشكّ في الرافع.

وهذا البيان يتوقّف ـ كماترى ـ على عدم استظهار الإطلاق اللفظي في نفسه ، وظهور اللام في كلمتي «اليقين» و «الشكّ» في الجنس.

__________________

(١) فرائد الاصول ٣ : ٥١.

٤٩٤

الثاني : أن يسلّم بالإطلاق اللفظي في نفسه ولكن يدّعى وجود قرينةٍ متّصلةٍ على تقييده ، وهي كلمة «النقض» حيث إنّها لا تصدق في موارد الشكّ في المقتضي. وقد تقدم تحقيق الكلام في ذلك في الحلقة السابقة (١) واتّضح أنّ كلمة «النقض» لا تصلح للتقييد.

[التفصيل بين الشبهة الحكميّة والموضوعيّة :]

والقول الآخر : ما ذهب اليه السيّد الاستاذ (٢) من عدم جريان الاستصحاب في الشبهات الحكمية واختصاصه بالشبهات الموضوعية ، وذلك ـ بعد الاعتراف بإطلاق دليل الاستصحاب في نفسه لكلا القسمين من الشبهات ـ بدعوى أنّ عدم جريان الاستصحاب في الشبهة الحكمية ينشأ من التعارض بين استصحاب المجعول واستصحاب عدم الجعل.

وتوضيح ذلك : أنّ الحكم الشرعي ـ كما تقدّم في محلّه (٣) ـ ينحلّ إلى جعلٍ ومجعول ، والشكّ فيه تارةً يكون مصبّه الجعل ، واخرى يكون مصبّه المجعول.

فالنحو الأول من الشكّ يعني أنّ الجعل قد تعلّق بحكمٍ محدّدٍ واضحٍ بكلّ ما لَه دخل فيه من الخصوصيات ، غير أنّ المكلف يشكّ في بقاء نفس الجعل ويحتمل أنّ المولى ألغاه ورفع يده عنه ، وهذا هو النسخ بالمعنى الحقيقي في عالم الجعل.

__________________

(١) في بحث الاستصحاب ، تحت عنوان : عموم جريان الاستصحاب.

(٢) مصباح الاصول ٣ : ٣٦.

(٣) بحث الدليل العقلي من الحلقة الثانية ، تحت عنوان : قاعدة إمكان التكليف المشروط.

٤٩٥

والنحو الثاني من الشكّ يعني أنّ الجعل ثابت ولا يحتمل نسخه ، غير أنّ الشكّ في مجعوله والحكم المنشأ به ، فلا يعلم ـ مثلاً ـ هل أنّ المولى جعل النجاسة على الماء المتغيّر حتّى إذا زال تغيّره من قبل نفسه ، أو جعل النجاسة منوطةً بفترة التغيّر الفعلي ، فالمجعول مردّد بين فترةٍ طويلةٍ وفترة قصيرة ، وكلّما كان المجعول مردّداً كذلك كان الجعل مردّداً لا محالة بين الأقلّ والأكثر ؛ لأنّ جعل النجاسة للفترة القصيرة معلوم وجعل النجاسة للفترة الإضافية مشكوك.

ففي النحو الأول من الشكّ ـ إذا كان ممكناً ـ يجري استصحاب بقاء الجعل.

وأمّا في النحو الثاني من الشكّ فيوجد استصحابان متعارضان : أحدهما استصحاب بقاء المجعول ، أي بقاء النجاسة في الماء بعد زوال التغيّر مثلاً ؛ لأنّها معلومة حدوثاً ومشكوكة بقاءً ، والآخر استصحاب عدم جعل الزائد ، أي عدم جعل نجاسة الفترةالإضافية مثلاً ؛ لِمَا أوضحناه من أنّ تردّد المجعول يساوق الشكّ في الجعل الزائد. وهذان الاستصحابان يسقطان بالمعارضة ، فلا يجري استصحاب الحكم في الشبهات الحكمية.

ولكي نعرف الجواب على شبهة المعارضة هذه ينبغي أن نفهم كيف يجري استصحاب المجعول في الشبهة الحكمية بحدّ ذاته قبل أن نصل إلى دعوى معارضته بغيره؟. فنقول :

[كيفيّة جريان استصحاب المجعول :]

إنّ استصحاب المجعول نحوان :

أحدهما : استصحاب المجعول الفعلي التابع لفعلية موضوعه المقدّر الوجود في جعله ، وهو لا يتحقّق ولا يتّصف باليقين بالحدوث والشكّ في البقاء إلاّبعد تحقّق موضوعه خارجاً ، فنجاسة الماء المتغيّر لا تكون فعليةً إلاّبعد وجود ماءٍ

٤٩٦

متغيِّرٍ بالفعل ، ولا تتّصف بالشكّ في البقاء إلاّبعد أن يزول التغيّر عن الماء فعلاً ، وحينئذٍ يجري استصحاب النجاسة الفعلية.

واستصحاب المجعول بهذا المعنى يتوقّف جريانه ـ كماترى ـ على وجود الموضوع ، وهذا يعني أنّه لا يجري بمجرّد افتراض المسألة على وجهٍ كلّيٍّ والالتفات إلى حكم الشارع بنجاسة الماء المتغيّر. ويقضي ذلك بأنّ إجراء الاستصحاب من شأن المكلف المبتلى بالواقعة خارجاً ، لا من شأن المجتهد الذي يستنبط حكمها على وجهٍ كلّي ، فالمجتهد يفتيه بجريان الاستصحاب في حقّه عند تمامية الأركان ، لا أنّ المجتهد يجريه ويفتي المكلف بمفاده.

والنحو الآخر لاستصحاب المجعول : هو إجراء الاستصحاب في المجعول الكلّي على نحوٍ تتمّ أركانه بمجرّد التفات الفقيه إلى حكم الشارع بنجاسة الماء المتغيّر وشكّه في شمول هذه النجاسة لفترة ما بعد زوال التغيّر ، وعلى هذا الأساس يجري الاستصحاب بدون توقّفٍ على وجود الموضوع خارجاً ، ومن هنا كان بإمكان المجتهد إجراؤه والاستناد اليه في إفتاء المكلف بمضمونه.

ولا شكّ في انعقاد بناء الفقهاء والارتكاز العرفي على استفادة هذا النحو من استصحاب المجعول من دليل الاستصحاب.

غير أنّه قد يستشكل في النحو المذكور بدعوى : أنّ المجعول الفعلي التابع لوجود موضوعه له حدوث وبقاء تبعاً لموضوعه ، وأمّا المجعول الكلّي فليس له حدوث وبقاء ، بل تمام حصصه ثابتة ثبوتاً عرضياً آنياً بنفس الجعل بلا تقدّمٍ وتأخّرٍ زماني ، وهذا يعني أنّا كلّما لاحظنا المجعول على نهجٍ كلّيٍّ لم يكن هناك يقين بالحدوث وشكّ في البقاء ليجري الاستصحاب. فأركان الاستصحاب إنمّا تتمّ في المجعول بالنحو الأول ، لا الثاني.

٤٩٧

وقد أشرنا سابقاً (١) إلى هذا الاستشكال وعلّقنا عليه بما يوحي بإجراء استصحاب المجعول على النحو الأول ، غير أنّ هذا كان تعليقاً موقّتاً إلى أن يحين الوقت المناسب.

وأمّا الصحيح في الجواب فهو : أنّ المجعول الكلّي ـ وهو نجاسة الماء المتغيّر مثلاً ـ يمكن أن ينظر اليه بنظرين : أحدهما النظر اليه بما هو أمر ذهنيّ مجعول في افق الاعتبار ، والآخر النظر اليه بما هو صفة للماء الخارجي ، فهو بالحمل الشائع أمر ذهني ، وبالحمل الأوّلي صفة للماء الخارجي. وبالنظر الأول ليس له حدوث وبقاء ؛ لأنّه موجود بتمام حصصه بالجعل في آنٍ واحد ، وبالنظر الثاني له حدوث وبقاء. وحيث إنّ هذا النظر هو النظر العرفي في مقام تطبيق دليل الاستصحاب فيجري استصحاب المجعول بالنحو الثاني لتمامية أركانه.

اذا اتّضح ذلك فنقول لشبهة المعارضة بأ نّه في تطبيق دليل الاستصحاب على الحكم الكلّي في الشبهة الحكمية لا يعقل تحكيم كلا النظرين ؛ لتهافتهما ، فإن سلّم بالأخذ بالنظر الثاني تعيّن إجراء استصحاب المجعول ، ولم يجرِ استصحاب عدم الجعل الزائد ، إذ بهذا النظر لا نرى جعلاً ومجعولاً ولا أمراً ذهنياً ، بل صفةً لأمرٍ خارجيٍّ لها حدوث وبقاء.

وإن ادّعي الأخذ بالنظر الأول فاستصحاب المجعول بالنحو الثاني الذي يكون من شأن المجتهد إجراؤه لا يجري في نفسه ، لا أنّه يسقط بالمعارضة.

إن قيل : لماذا لا نحكِّم كلا النظرين ونلتزم بإجراء استصحاب عدم الجعل الزائد تحكيماً للنظر الأول في تطبيق دليل الاستصحاب ، وإجراء استصحاب

__________________

(١) تحت عنوان : الشبهات الحكميّة في ضوء الركن الثاني.

٤٩٨

المجعول تحكيماً للنظر الثاني ، ويتعارض الاستصحابان؟

كان الجواب : أنّ التعارض لانواجهه ابتداءً في مرحلة إجراء الاستصحاب بعد الفراغ عن تحكيم كلا النظرين ، وإنمّا نواجهه في مرتبةٍ أسبق ، أي في مرحلة تحكيم هذين النظرين ، فإنّهما لتهافتهما ينفي كلّ منهما ما يثبته الآخر من الشكّ في البقاء ، ومع تهافت النظرين في نفسيهما يستحيل تحكيمهما معاً على دليل الاستصحاب لكي تنتهي النوبة إلى التعارض بين الاستصحابين ، بل لابدّ من جري الدليل على أحد النظرين ، وهو النظر الذي يساعد عليه العرف خاصّة.

٤٩٩

تطبيقات

١ ـ استصحاب الحكم المعلّق :

قد نحرِز كون الحكم منوطاً في مقام جعله بخصوصيّتين ، وهناك خصوصية ثالثة يحتمل دخلها في الحكم أيضاً ، وفي هذه الحالة يمكن أن نفترض أنّ إحدى تلك الخصوصيّتين معلومة الثبوت ، والثانية معلومة الانتفاء ، وأمّا الخصوصية الثالثة المحتمل دخلها فهي ثابتة. وهذا الافتراض يعني أنّ الحكم ليس فعلياً ، ولكنّه يعلم بثبوته على تقدير وجود الخصوصية الثانية ، فالمعلوم هو الحكم المعلّق والقضية الشرطية. فإذا افترضنا أنّ الخصوصية الثانية وجدت بعد ذلك ولكن بعد أن زالت الخصوصية الثالثة حصل الشكّ في بقاء تلك القضية الشرطية ؛ لاحتمال دخل الخصوصية الثالثة في الحكم.

وهنا تأتي الحاجة إلى البحث عن إمكان استصحاب الحكم المعلّق. ومثال ذلك : حرمة العصير العنبي المنوطة بالعنب وبالغليان ، ويحتمل دخل الرطوبة وعدم الجفاف فيها ، فإذا جفّ العنب ثمّ غلى كان مورداً لاستصحاب الحرمة المعلّقة على الغليان.

وقد وجِّه إلى هذا الاستصحاب ثلاثة اعتراضات :

الاعتراض الأول : أنّ أركان الاستصحاب غير تامّة ، لأنّ الجعل لا شكّ في بقائه ، والمجعول لا يقين بحدوثه ، والحرمة على نهج القضية الشرطية أمر منتزع عن جعل الحرمة على موضوعها المقدّر الوجود ، ولا أثر للتعبّد به. ومن أجل هذا الاعتراض بَنَت مدرسة المحقّق النائيني (١) على عدم جريان الاستصحاب في

__________________

(١) أجود التقريرات ٢ : ٤١٢ ـ ٤١٣.

٥٠٠