دروس في علم الأصول - ج ٢

آية الله السيّد محمّد باقر الصدر

دروس في علم الأصول - ج ٢

المؤلف:

آية الله السيّد محمّد باقر الصدر


المحقق: لجنة التحقيق التابعة للمؤتمر العالمي للإمام الشهيد الصدر
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مركز الأبحاث والدراسات التخصصية للشهيد الصدر
الطبعة: ١
الصفحات: ٦٠٨
الجزء ١ الجزء ٢

وعليه فالصحيح : أنّ وجوب شىءٍ لا يقتضي حرمة ضدّه الخاصّ.

وأمّا ثمرة هذا البحث فهي ـ كما أشرنا في الحلقة السابقة (١) ـ تشخيص حكم الصلاة المضادّة لواجبٍ أهمّ إذا اشتغل بها المكلّف وترك الأهمّ ، وكذلك أيّ واجبٍ آخر مزاحم من هذا القبيل ، فإذا قلنا بالاقتضاء تعذّر ثبوت الأمر بالصلاة ولو على وجه الترتب فلا تصحّ. وإذا لم نقل بالاقتضاء صحّت بالأمر الترتّبي.

وبصيغةٍ أشمل في صياغة هذه الثمرة أنّه على القول بالاقتضاء يقع التعارض بين دليلَي الواجبين المتزاحمين ؛ لأنّ كلًّا من الدليلين يدلّ بالالتزام على تحريم مورد الآخر ، فيكون التنافي في أصل الجعل. وهذا ملاك التعارض ، كما مرّ بنا.

وأمّا على القول بعدم الاقتضاء فلا تعارض ؛ لأنّ مفاد كلٍّ من الدليلين ليس إلاّ وجوب مورده ، وهو وجوب مشروط بالقدرة وعدم الاشتغال بالمزاحم ، كما تقدّم ، ولا تنافي بين وجوبين من هذا القبيل في عالم الجعل.

__________________

(١) في نفس البحث وتحت نفس العنوان.

٣٠١

اقتضاء الحرمة للبطلان

لا شكّ في أنّ النهي المتعلّق بالعبادة أو بالمعاملة إرشاداً إلى شرطٍ أو مانعٍ يكشف عن البطلان بفقد الشرط أو وجود المانع. وإنّما الكلام في الحرمة التكليفية واقتضائها لبطلان العبادة بمعنى عدم جواز الاكتفاء بها في مقام الامتثال ، وبطلان المعاملة بمعنى عدم ترتّب الأثر عليها ، فهنا مبحثان :

اقتضاء الحرمة لبطلان العبادة :

والمعروف بينهم أنّ الحرمة تقتضي بطلان العبادة ، ويمكن أن يكون ذلك لأحد الملاكات التالية :

الأول : أنّها تمنع عن إطلاق الأمر خطاباً ودليلاً لمتعلَّقها ؛ لامتناع الاجتماع ، ومع خروجه عن كونه مصداقاً للواجب لا يجزي عنه ، وهو معنى البطلان.

الثاني : أنّها تكشف عن كون العبادة مبغوضةً للمولى ، ومع كونها مبغوضةً يستحيل التقرّب بها.

الثالث : أنّها تستوجب حكم العقل بقبح الإتيان بمتعلَّقها ، لكونه معصيةً مبعِّدةً عن المولى ؛ ومعه يستحيل التقرّب بالعبادة.

وهذه الملاكات على تقدير تماميتها تختلف نتائجها :

فنتيجة الملاك الأول لا تختصّ بالعبادة ، بل تشمل الواجب التوصّلي أيضاً ، ولا تختص بالعالم بالحرمة ، بل تشمل حالة الجهل أيضاً ، ولا تختص بالحرمة النفسيّة ، بل تشمل الغيريّة أيضاً.

ونتيجة الملاك الثاني تختصّ بالعبادة ، إذ لا يعتبر قصد القربة في غيرها ، وبالعالم بالحرمة ؛ لأنّ مَن يجهل كونها مبغوضةً يمكنه التقرّب.

٣٠٢

ونتيجة الملاك الثالث تختصّ بالعبادة وبفرض تنجّز الحرمة ، وأيضاً تختصّ بالنهي النفسي ؛ لأنّ الغيريَّ ليس موضوعاً مستقلاًّ لحكم العقل بقبح المخالفة ، كما تقدم في مبحث الوجوب الغيري (١).

ثمّ إذا افترضنا أنّ حرمة العبادة تقتضي بطلانها فإن تعلّقت بالعبادة بكاملها فهو ما تقدّم ، وإن تعلّقت بجزئها بطل هذا الجزء ؛ لأنّ جزء العبادة عبادة ، وبطل الكلّ إذا اقتصر على ذلك المفرد من الجزء. وأمّا إذا أتى بفردٍ آخر غير محرّمٍ من الجزء صحّ المركّب إذا لم يلزم من هذا التكرار للجزء محذور آخر ، من قبيل الزيادة المبطلة لبعض العبادات.

وإن تعلّقت الحرمة بالشرط نُظِر إلى الشرط ؛ فإن كان في نفسه عبادة ـ كالوضوء ـ بطل وبطل المشروط بتبعه ، وإلاّ لم يكن هناك موجب لبطلانه ولا لبطلان المشروط. أمّا الأول فلعدم كونه عبادة ، وأمّا الثاني فلأنّ عباديّة المشروط لا تقتضي بنفسها عباديّة الشرط ولزوم الإتيان به على وجهٍ قربي ؛ لأنّ الشرط والقيد ليس داخلاً تحت الأمر النفسي المتعلّق بالمشروط والمقيّد ، كما تقدّم (٢) في محلّه.

اقتضاء الحرمة لبطلان المعاملة :

وتُحلَّل المعاملة إلى السبب والمسبّب. والحرمة تارةً تتعلّق بالسبب ، واخرى بالمسبّب ؛ فإن تعلقت بالسبب فالمعروف بين الاصوليِّين أنّها لا تقتضي البطلان ، إذ لا منافاة بين أن يكون الإنشاء والعقد مبغوضاً وأن يترتّب عليه مسبّبه ومضمونه.

وإن تعلّقت بالمسبّب ـ أي بمضمون المعاملة الذي يراد التوصّل إليه بالعقد ،

__________________

(١) تحت عنوان : خصائص الوجوب الغيري.

(٢) الحلقة الثانية ، ضمن بحوث الدليل العقلي ، تحت عنوان : قاعدة تنوّع القيود وأحكامها.

٣٠٣

باعتباره فعلاً بالواسطة للمكلف وأثراً تسبيبيّاً له ـ فقد يقال بأنّ ذلك يقتضي البطلان لوجهين :

الأول : أنّ هذا التحريم يعني مبغوضية المسبّب ، أي التمليك بعوضٍ في مورد البيع مثلاً ، ومن الواضح أنّ الشارع إذا كان يبغض أن تنتقل ملكية السلعة للمشتري فلا يعقل أن يحكم بذلك ، وعدم الحكم بذلك عبارة اخرى عن البطلان.

والجواب : أنّ تملّك المشتري للسلعة يتوقّف على أمرين :

أحدهما : إيجاد المتعاملين للسبب ، وهو العقد.

والآخر : جعل الشارع للمضمون. وقد يكون غرض المولى متعلقاً بإعدام المسبّب من ناحية الأمر الأول خاصّة ، لا بإعدامه من ناحية الأمر الثاني ، فلا مانع من أن يحرِّم المسبّب على المتعاملين ويجعل بنفسه المضمون على تقدير تحقّق السبب.

الثاني : ما ذكره المحقق النائيني (١) من أنّ هذا التحريم يساوق الحَجْر على المالك وسلب سلطنته على نقل المال ، فيصبح حاله حال الصغير ، ومع الحجر لا تصحّ المعاملة.

والجواب : أنّ الحَجْر على شخصٍ له معنيان :

أحدهما : الحَجْر الوضعي ، بمعنى الحكم بعدم نفوذ معاملاته.

والآخر : الحَجْر التكليفي ، بمعنى منعه ؛ فإن اريد أنّ التحريم يساوق الحَجْر بالمعنى الأول فهو أول الكلام. وإن اريد أنّه يساوقه بالمعنى الثاني فهو مسلَّم.

ولكنْ مَن قال : إنّ هذا يستتبع الحَجْر الوضعي؟ فالظاهر أنّ تحريم المسبّب لا يقتضي البطلان ، بل قد يقتضي الصحّة ، كما أشرنا في حلقةٍ سابقة (٢).

__________________

(١) فوائد الاصول ١ : ٤٧٢.

(٢) الحلقة الثانية ، ضمن بحوث الدليل العقلي ، تحت عنوان : اقتضاء الحرمة للبطلان.

٣٠٤

الملازمة بين حكم العقل وحكم الشارع

يقسَّم الحكم العقلي إلى قسمين :

أحدهما : الحكم النظري ، وهو إدراك ما يكون واقعاً.

والآخر : الحكم العملي ، وهو إدراك ما ينبغي ، أو مالا ينبغي أن يقع.

وبالتحليل نلاحظ رجوع الثاني إلى الأول ؛ لأنّه إدراك لصفةٍ واقعيةٍ في الفعل ، وهي : أنّه ينبغي أن يقع وهو الحسن ، أو لا ينبغي وهو القبح. وعلى هذا نعرف أنّ الحسن والقبح صفتان واقعيتان يدركهما العقل ، كما يدرك سائر الصفات والامور الواقعية ، غير أنّهما تختلفان عنها في اقتضائهما بذاتهما جرياً عملياً معيّناً خلافاً للُامور الواقعية الاخرى.

وعلى هذا الأساس يمكن أن يقال : إنّ الحكم النظري هو إدراك الامور الواقعية التي لا تقتضي بذاتها جرياً عملياً معيّناً ، والحكم العملي هو إدراك الامور الواقعية التي تقتضي بذاتها ذلك. ويدخل إدراك العقل للمصلحة والمفسدة في الحكم النظري ؛ لأنّ المصلحة ليست بذاتها مقتضيةً للجري العملي ، ويختصّ الحكم العملي من العقل بإدراك الحسن والقبح. وسنتكلم في ما يلي عن الملازمة بين كلا هذين القسمين من الحكم العقلي وحكم الشارع.

الملازمة بين الحكم النظري وحكم الشارع :

لا شكّ في أنّ الأحكام الشرعية تابعة للمصالح والمفاسد ، وأنّ الملاك متى ما تمّ بكلّ خصوصياته وشرائطه وتجرّد عن الموانع عن التأثير كان بحكم العلّة التامة الداعية للمولى إلى جعل الحكم على طبقه وفقاً لحكمته تعالى. وعلى هذا

٣٠٥

الأساس فمن الممكن نظرياً أن نفترض إدراك العقل النظري لذلك الملاك بكلّ خصوصياته وشؤونه ، وفي مثل ذلك يستكشف الحكم الشرعي لا محالة استكشافاً لمّياً ، أي بالانتقال من العلّة إلى المعلول.

ولكنّ هذا الافتراض صعب التحقّق من الناحية الواقعية في كثيرٍ من الأحيان ؛ لضيق دائرة العقل ، وشعور الإنسان بأ نّه محدود الاطّلاع ، الأمر الذي يجعله يحتمل غالباً أن يكون قد فاته الاطّلاع على بعض نكات الموقف ، فقد يدرك المصلحة في فعلٍ ولكنّه لا يجزم عادةً بدرجتها وبمدى أهمّيتها وبعدم وجود أيِّ مزاحمٍ لها ، وما لم يجزم بكلّ ذلك لا يتمّ الاستكشاف.

الملازمة بين الحكم العملي وحكم الشارع :

عرفنا أنّ مرجع الحكم العملي إلى الحسن والقبح ، وأنّهما أمران واقعيان يدركهما العقل. وقبل الدخول في الحديث عن الملازمة ينبغي أن نقول كلمةً عن واقعية هذين الأمرين : فإنّ جملة من الباحثين فسّر الحسن والقبح بوصفهما حكمين عقلائيّين ، أي مجعولين من قبل العقلاء تبعاً لما يدركون من مصالح ومفاسد للنوع البشري ، فما يرونه مصلحةً كذلك يجعلونه حَسَناً ، وما يرونه مفسدةً كذلك يجعلونه قبيحاً ، ويميّزهما عن غيرهما من التشريعات العقلائية اتّفاق العقلاء عليهما وتطابقهم على تشريعهما ؛ لوضوح المصالح والمفاسد التي تدعو إلى جعلهما.

وهذا التفسير خاطئ وجداناً وتجربةً. أمّا الوجدان فهو قاضٍ بأنّ قبح الظلم ثابت بقطع النظر عن جعل أيّ جاعل ، كإمكان الممكن.

وأمّا التجربة فلأنّ الملحوظ خارجياً عدم تبعية الحسن والقبح للمصالح والمفاسد ، فقد تكون المصلحة في القبيح أكثر من المفسدة فيه ، ومع هذا يتّفق

٣٠٦

العقلاء على قبحه ، فقتل إنسان لأجل استخراج دواءٍ مخصوصٍ من قلبه يتمّ به إنقاذ إنسانين من الموت إذا لوحظ من زاوية المصالح والمفاسد فقط ، فالمصلحة أكبر من المفسدة ، ومع هذا لا يشكّ أحد في أنّ هذا ظلم وقبيح عقلاً. فالحسن والقبح إذن ليسا تابعين للمصالح والمفاسد بصورةٍ بحتة ، بل لهما واقعية تلتقي مع المصالح والمفاسد في كثيرٍ من الأحيان وتختلف معها أحياناً.

والمشهور بين علمائنا : الملازمة بين الحكم العملي العقلي والحكم الشرعي. وهناك مَن ذهب (١) إلى استحالة حكم الشارع في موارد الحكم العملي العقلي بالحسن والقبح ، فهذان اتّجاهان :

أمّا الاتجاه الأول فقد قُرِّب بأنّ الشارع أحد العقلاء وسيّدهم ، فإذا كان العقلاء متطابقين بما هم عقلاء على حسن شيءٍ وقبحه فلابدّ أن يكون الشارع داخلاً ضمن ذلك أيضاً.

والتحقيق : أنّا تارةً نتعامل مع الحسن والقبح بوصفهما أمرين واقعيّين يدركهما العقل ، واخرى بوصفهما مجعولين عقلائيّين رعايةً للمصالح العامة.

فعلى الأول لا معنى للتقريب المذكور ؛ لأنّ العقلاء بما هم عقلاء إنّما يدركون الحسن والقبح ، ولا شكّ في أنّ الشارع يدرك ذلك ، وإنّما الكلام في أنّه هل يجعل حكماً تشريعياً على طبقهما ، أوْ لا؟

وعلى الثاني إن اريد استكشاف الحكم الشرعي بلحاظ ما أدركه العقلاء من المصالح العامة التي دَعَتْهم إلى التحسين والتقبيح ، فهذا استكشاف للحكم الشرعي بالحكم العقلي النظري ، لا العملي ؛ لأنّ مناطه هو إدراك المصلحة

__________________

(١) كصاحب الفصول في الفصول : ٣٣٧ ، ونسبه المحقّق النائيني في فوائد الاصول ٣ : ٦٠ إلى بعض الأخباريّين أيضاً.

٣٠٧

ولا دخل للحسن والقبح فيه.

وإن اريد استكشاف الحكم الشرعي بلحاظ حكم العقلاء وجعلهم الحسن والقبح فلا مبرِّر لذلك ، إذ لا برهان على لزوم صدور جعلٍ من الشارع يماثل ما يجعله العقلاء.

وأمّا الاتجاه الثاني فقد قُرِّب بأنّ جعل الشارع للحكم في مورد حكم العقل بالحسن والقبح لغو ؛ لكفاية الحسن والقبح للإدانة والمسؤولية والمحرِّكية.

ويرد على ذلك : أنّ حسن الأمانة وقبح الخيانة ـ مثلاً ـ وإن كانا يستبطنان درجةً من المسؤولية والمحرِّكية غير أنّ حكم الشارع على طبقهما يؤدِّي إلى نشوء ملاكٍ آخر للحسن والقبح ، وهو طاعة المولى ومعصيته ، وبذلك تتأكّد المسؤولية والمحرِّكية ، فإذا كان المولى مهتّماً بحفظ واجبات العقل العملي بدرجةٍ أكبر ممّا تقتضيه الأحكام العملية نفسها حكم على طبقها ، وإِلاّ فلا.

وبذلك يتّضح أنّه لا ملازمة بين الحكم العقلي العملي وحكم الشارع على طبقه ، ولا بينه وبين عدم حكم الشارع على طبقه ، فكلا الاتّجاهين غير تام.

٣٠٨

٢ ـ حجّيّة الدليل العقلي

الدليل العقلي إن كان ظنيّاً فهو بحاجةٍ إلى دليلٍ على حجّيته ، ولا دليل على حجّية الظنون العقلية. وأمّا إذا كان قطعياً فهو حجّة من أجل حجّية القطع.

ونسب إلى بعضهم (١) القول بعدم حجّية القطع الناشئ من الدليل العقلي ، وهو بظاهره غير معقول ؛ لأنّ حجّية القطع الطريقي غير قابلةٍ للانفكاك عنه مهما كان سببه. ومن هنا حاول بعض الأعلام (٢) توجيهه ثبوتاً بدعوى تحويل القطع من طريقيٍّ إلى موضوعي ، وذلك بأن يُفرض عدم القطع العقلي قيداً في موضوع الحكم المجعول ، فمع القطع العقلي لا حكم ليكون القطع منجِّزاً له.

ويرد على ذلك :

أولاً : أنّ القطع العقلي الذي يؤخذ عدمه في موضوع الحكم هل هو القطع بالحكم المجعول ، أو بالجعل؟ والأول واضح الاستحالة ؛ لأنّ القطع بالمجعول يساوق في نظر القاطع ثبوت المجعول فعلاً ، فكيف يعقل أن يصدِّق بأ نّه يساوق انتفاءه؟ وأمّا الثاني فلا تنطبق عليه هذه الاستحالة ، إذ قد يصدِّق القاطع بالجعل

__________________

(١) نسبه الشيخ الأنصاري في فرائد الاصول ١ : ٥١ ، إلى بعض الأخباريّين.

(٢) كالمحقّق النائيني في فوائد الاصول ٣ : ١٣ ـ ١٤.

٣٠٩

بعدم فعلية المجعول ، ولكنّ التصديق بذلك هنا خلاف المفروض ؛ لأنّ المفروض قيام الدليل العقلي القطعي على ثبوت تمام الملاك للحكم ، فكيف يعقل التصديق بإناطة الحكم بقيدٍ آخر؟

وبكلمةٍ موجزة : أنّ المكلّف إذا كان قاطعاً عقلاً بثبوت تمام الملاك للحكم فلا يمكن أن يصدِّق بإناطته بغير ما قطع عقلاً بثبوته ، وإذا كان قاطعاً عقلاً بثبوت الملاك للحكم ، ولكن على نحوٍ لا يجزم بأ نّه ملاك تام ، ويحتمل دخل بعض القيود فيه ، فليس هذا القطع حجّةً في نفسه بلاحاجةٍ إلى بذل عنايةٍ في تحويله من طريقيٍّ إلى موضوعي.

وثانياً : أنّ القطع العقلي لا يؤدّي دائماً إلى ثبوت الحكم ، بل قد يؤدّي إلى نفيه ، من قبيل ما يستدلّ به على استحالة الأمر بالضدين ولو على وجه الترتّب ، فماذا يقال بهذا الشأن؟ وهل يفترض أنّ المولى يجعل الحكم المستحيل في حقّ مَن وصلت إليه الاستحالة بدليلٍ عقليٍّ على الرغم من استحالته؟

فالصحيح إذن : أنّ المنع شرعاً عن حجّية الدليل العقلي القطعي غير معقول ، لا بصورةٍ مباشرةٍ ولا بتحويله من القطع الطريقي إلى الموضوعي.

ولكنّ القائلين بعدم حجّية الدليل العقلي استندوا إلى جملةٍ من الروايات (١) التي ندَّدت بالعمل بالأدلّة العقلية ، وأكّدت على عدم قبول أيّ عملٍ غير مبنيٍّ على الاعتراف بأهل البيت ونحو ذلك من الألسنة.

والصحيح : أنّ الروايات المذكورة لا دلالة فيها على ما يُدّعى ، وإنّما هي بصدد امورٍ اخرى ، فبعضها بصدد المنع من التعويل على الرأي والاستحسان ونحو ذلك من الظنون العقلية ، وبعضها بصدد بيان كون الولاية شرطاً في صحّة العبادة ،

__________________

(١) وسائل الشيعة ٢٧ : ٣٥ ، الباب ٦ من أبواب صفات القاضي.

٣١٠

وبعضها بصدد بيان عدم جواز الانصراف عن الأدلّة الشرعية والتوجّه رأساً إلى الاستدلالات العقلية ، مع أنّ التوجّه إلى الأدلّة الشرعية كثيراً ما يحول دون حصول القطع من الاستدلال العقلي ، كما هو الحال في رواية أبان الواردة في دية أصابع المرأة (١).

وبهذا ينتهي البحث في الدليل العقلي ، وبذلك نختم الكلام في مباحث الأدلّة من الحلقة الثالثة.

وقد كان الشروع فيها في اليوم التاسع عشر من جمادى الثانية (١٣٩٧ ه‍) ، وكان الفراغ في اليوم الثالث والعشرين من شهر رجب (١٣٩٧ ه‍).

وبما ذكرناه يتمّ الجزء الأوّل من الحلقة الثالثة ، ويتلوه الجزء الثاني الذي تكتمل به هذه الحلقة إن شاء الله تعالى ، وهو في مباحث الاصول العملية.

وإلى المولى سبحانه نبتهل أن يتقبّل منّا هذا بلطفه ، ويوفِّقنا لمراضيه ، والحمد لله أوّلاً وآخراً.

__________________

(١) وسائل الشيعة ٢٩ : ٣٥٢ الباب ٤٤ من أبواب ديات الاعضاء الحديث الاول

٣١١

الحلقَة الثالثَة

الجزء الثاني

الاصول العمليّة.

الخاتمة في تعارض الأدلّة.

٣١٢
٣١٣
٣١٤

١ ـ الجزء الثاني

الاصول العمليّة

التمهيد.

الوظيفة العمليّة في حالة الشك.

الاستصحاب.

٣١٥
٣١٦

١ ـ الاصول العمليّة

التمهيد

خصائص الاصول العمليّة.

الاصول العمليّة الشرعيّة والعقليّة.

الاصول التنزيليّة والمحرزة.

مورد جريان الاصول.

٣١٧
٣١٨

خصائص الاصول العملية :

عرفنا فيما تقدّم (١) أنّ الاصول العملية نوع من الأحكام الظاهرية الطريقية المجعولة بداعي تنجيز الأحكام الشرعية أو التعذير عنها ، وهو نوع متمِّيز عن الأحكام الظاهرية في باب الأمارات. وقد مُيِّز بينهما بعدّة وجوه :

الأول : أنّ الفرق بينهما ينشأ من اختلافهما في سنخ المجعول في دليل حجّية الأمارة ودليل الأصل ، فالمجعول في الأول الطريقية مثلاً ، وفي الثاني الوظيفة العملية ، أو التنزيل منزلة اليقين بلحاظ الجري العملي بدون تضمّنٍ لجعل الطريقية. وقد تقدّم الكلام عن

ذلك ، ومرّ بنا أنّ هذا ليس هو الفرق الحقيقي.

وحاصل فذلكة الموقف : أنّه لم يرد عنوانا «الأمارة» و «الأصل» في دليلٍ ليتكلّم عن تمييز أحدهما عن الآخر بأيّ نحوٍ اتّفق ، وإنمّا نعبِّر بالأمارة عن تلك الحجّة التي لها آثارها المعهودة بما فيها إثباتها للأحكام الشرعية المترتّبة على

__________________

(١) في بحث الحكم الواقعي والظاهري من أبحاث التمهيد من الجزء الأوّل للحلقة الثالثة ، تحت عنوان : الأمارات والاصول.

٣١٩

اللوازم العقلية لمؤدّاها ، ونعبِّر بالأصل عن ذلك الحكم الظاهري الذي ليس له تلك الآثار. وقد عرفنا سابقاً أنّ مجرّد كون المجعول في دليل الحجّية الطريقية لا يفي بإثبات تلك الآثار للأمارة.

الثاني : أنّ الفرق بينهما ينشأ من أخذ الشكّ موضوعاً للأصل العملي ، وعدم أخذه كذلك في موضوع الحجّية المجعولة للأمارة.

وهذا الفرق مضافاً إلى أنّه لا يفي بالمقصود غير معقولٍ في نفسه ؛ لأنّ الحجّية حكم ظاهري ، فإن لم يكن الشكّ مأخوذاً في موضوعها عند جعلها لزم إطلاقها لحالة العلم ، وجعل الأمارة حجّةً على العالم غير معقول. ومن هنا قيل بأنّ الشكّ مأخوذ في حجّية الأمارة مورداً لا موضوعاً ، غير أنَّنا لا نتعقّل بحسب عالم الجعل ومقام الثبوت نحوين من الأخذ.

الثالث : أنّ الفرق بينهما ينشأ من ناحية أخذ الشكّ في لسان دليل الأصل ، وعدم أخذه في لسان دليل حجّية الأمارة بعد الفراغ عن كونه مأخوذاً في موضوعهما ثبوتاً معاً.

وهذا الفرق لا يفي أيضاً بالمقصود. نعم ، قد يثمر في تقديم دليل الأمارة على دليل الأصل بالحكومة. هذا ، مضافاً إلى كونه اتّفاقياً فقد يتّفق أخذ عدم العلم في موضوع دليل الحجّية ، كما لو بني على ثبوت حجّية الخبر بقوله تعالى :

(فَاسْألوا أهْلَ الذِّكْرِ إنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمون) (١) فهل يقال بأنّ الخبر يكون أصلاً حينئذٍ؟

الرابع : ما حقّقناه في الجزء السابق (٢) من أنّ الأصل العملي حكم ظاهريّ

__________________

(١) النحل : ٤٣.

(٢) في بحث الحكم الواقعي والظاهري من أبحاث التمهيد تحت عنوان : الأمارات والاصول.

٣٢٠