دروس في علم الأصول - ج ٢

آية الله السيّد محمّد باقر الصدر

دروس في علم الأصول - ج ٢

المؤلف:

آية الله السيّد محمّد باقر الصدر


المحقق: لجنة التحقيق التابعة للمؤتمر العالمي للإمام الشهيد الصدر
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مركز الأبحاث والدراسات التخصصية للشهيد الصدر
الطبعة: ١
الصفحات: ٦٠٨
الجزء ١ الجزء ٢

الذهن ، وليس ذلك إلاّالصورة الذهنية ، وهي وإن كانت مباينةً للموضوع الخارجيّ بنظرٍ ولكنّها عينه بنظرٍ آخر.

فأنت إذا تصوّرت (النار) ترى بتصوّرك ناراً ، ولكنّك إذا لاحظت بنظرةٍ ثانيةٍ إلى ذهنك وجدت فيه صورةً ذهنيةً للنار ، لا النار نفسها ، ولمَّا كان ما في الذهن عين الموضوع الخارجيّ بالنظر التصوّري وبالحمل الأوّليّ صحّ أن يحكم عليه بنفس ما هو ثابت للموضوع الخارجيّ من خصوصيات كالإحراق بالنسبة إلى النار.

وهذا يعني أنّه يكفي في إصدار الحكم على الخارج إحضار صورةٍ ذهنيةٍ تكون بالنظر التصوّريّ عين الخارج وربط الحكم بها ، وإن كانت بنظرةٍ ثانويةٍ فاحصةٍ وتصديقيةٍ ـ أي بالحمل الشائع ـ مغايرةً للخارج.

٤١

تنسيق البحوث المقبلة

وسوف نتحدّث في ما يلي ـ وفقاً لِمَا تقدّم في الحلقتين السابقتين ـ عن حجّية القطع أولاً ـ باعتباره عنصراً مشتركاً عامّاً ـ ثمّ عن العناصر المشتركة التي تتمثّل في أدلّةٍ محرزة ، وبعد ذلك عن العناصر المشتركة التي تتمثّل في اصولٍ عملية ، وفي الخاتمة نعالج حالات التعارض إن شاء الله تعالى.

٤٢

٢ ـ الجزء الأوّل

حُجّية القطع

الحجّية على مبنى حقّ الطاعة.

الحجّية على مبنى المشهور.

العلم الإجمالي.

حجّية القطع غير المصيب.

٤٣
٤٤

[الحجّية على مبنى حقّ الطاعة :]

تقدّم في الحلقة السابقة (١) أنّ للمولى الحقيقيّ (سبحانه وتعالى) حقّ الطاعة بحكم مولويّته. والمتيقّن من ذلك هو حقّ الطاعة في التكاليف المقطوعة ، وهذا هو معنى (منجِّزية القطع) كما أنّ حقّ الطاعة هذا لا يمتدّ إلى ما يقطع المكلّف بعدمه من التكاليف جزماً وهذا معنى (معذّريّة القطع) والمجموع من (المنجّزيّة) و (المعذّرية) هو ما نقصده بالحجّية.

كما عرفنا سابقاً (٢) أنّ الصحيح في حقّ الطاعة شموله للتكاليف المظنونة والمحتملة أيضاً فيكون الظنّ والاحتمال منجِّزاً أيضاً ، ومن ذلك يُستنتج أنّ المنجّزيّة موضوعها مطلقُ انكشاف التكليف ولو كان انكشافاً احتمالياً ؛ لسعة دائرة حقّ الطاعة ، غير أنّ هذا الحقّ وهذا التنجيز يتوقّف على عدم حصول مؤمِّنٍ من قبل المولى نفسه في مخالفة ذلك التكليف ، وذلك بصدور ترخيصٍ جادٍّ منه في مخالفة التكليف المنكشَف ، إذ من الواضح أنّه ليس لشخصٍ حقّ الطاعة لتكليفه والإدانة بمخالفته إذا كان هو نفسه قد رخَّص بصورةٍ جادّةٍ في مخالفته.

أمّا متى يتأتّى للمولى أن يرخِّص في مخالفة التكليف المنكشَف بصورةٍ جادّة؟

__________________

(١) الحلقة الثانية ، ضمن بحوث التمهيد ، تحت عنوان : حجّية القطع.

(٢) الحلقة الثانية ، ضمن بحوث التمهيد ، تحت عنوان : حجّية القطع.

٤٥

فالجواب على ذلك : أنّ هذا يتأتّى للمولى بالنسبة إلى التكاليف المنكشفة بالاحتمال أو الظنّ ، وذلك بجعل حكمٍ ظاهريٍّ ترخيصيٍّ في موردها ، كأصالة الإباحة والبراءة. ولا تنافي بين هذا الترخيص الظاهريّ والتكليف المحتمل أو المظنون ؛ لِمَا سبق (١) من التوفيق بين الأحكام الظاهرية والواقعية ، وليس الترخيص الظاهري هنا هزلياً ، بل المولى جادّ فيه ضماناً لِمَا هو الأهمّ من الأغراض والمبادئ الواقعية.

وأمّا التكليف المنكشف بالقطع فلا يمكن ورود المؤمِّن من المولى بالترخيص الجادّ في مخالفته ؛ لأنّ هذا الترخيص إمّا حكم واقعيّ حقيقي ، وإمّا حكم ظاهريّ طريقي ، وكلاهما مستحيل.

والوجه في استحالة الأوّل : أنّه يلزم اجتماع حكمين واقعيّين حقيقيّين متنافيَين في حالة كون التكليف المقطوع ثابتاً في الواقع ، ويلزم اجتماعهما على أيّ حالٍ في نظر القاطع ؛ لأنّه يرى مقطوعه ثابتاً دائماً ، فكيف يصدّق بذلك؟!

والوجه في استحالة الثاني : أنّ الحكم الظاهريّ ما يؤخذ في موضوعه الشكّ ، ولا شكّ مع القطع ، فلا مجال لجعل الحكم الظاهري.

وقد يناقش في هذه الاستحالة : بأنّ الحكم الظاهريّ ـ كمصطلحٍ متقوّمٍ بالشكّ ـ لا يمكن أن يوجد في حالة القطع بالتكليف ، ولكن لماذا لا يمكن أن نفترض ترخيصاً يحمل روح الحكم الظاهريّ ولو لم يسمَّ بهذا الاسم اصطلاحاً؟

لأ نّنا عرفنا سابقاً أنّ روح الحكم الظاهري : هي أنّه خطاب يُجعل في موارد اختلاط المبادئ الواقعية وعدم تمييز المكلّف لها لضمان الحفاظ على ما هو أهمّ منها ، فإذا افترضنا أنّ المولى لاحظ كثرة وقوع القاطعين بالتكاليف في الخطأ وعدم التمييز بين موارد التكليف وموارد الترخيص ، وكانت ملاكات الإباحة

__________________

(١) في هذه الحلقة ضمن بحوث التمهيد ، تحت عنوان : الحكم الواقعي والظاهري.

٤٦

الاقتضائية تستدعي الترخيص في مخالفة ما يقطع به من تكاليف ضماناً للحفاظ على تلك الملاكات ، فلماذا لا يمكن صدور الترخيص حينئذٍ؟

والجواب على هذه المناقشة : أنّ هذا الترخيص لمَّا كان من أجل رعاية الإباحة الواقعية في موارد خطأ القاطعين فكلّ قاطعٍ يعتبر نفسه غير مقصودٍ جدّاً بهذا الترخيص ؛ لأنّه يرى قطعه بالتكليف مصيباً ، فهو بالنسبة إليه ترخيص غير جادّ ، وقد قلنا في ما سبق (١) : إنّ حقّ الطاعة والتنجيز متوقّف على عدم الترخيص الجادّ في المخالفة.

ويتلخّص من ذلك :

أوّلاً : أنّ كلّ انكشافٍ للتكليف منجِّز ، ولا تختصّ المنجِّزية بالقطع ؛ لسعة دائرة حقّ الطاعة.

وثانياً : أنّ هذه المنجِّزية مشروطة بعدم صدور ترخيصٍ جادٍّ من قبل المولى في المخالفة.

وثالثاً : أنّ صدور مثل هذا الترخيص معقول في موارد الانكشاف غير القطعي ، ومستحيل في موارد الانكشاف القطعي. ومن هنا يقال : إنّ القطع لا يعقل سلب المنجِّزية عنه ، بخلاف غيره من المنجّزات.

هذا هو التصوّر الصحيح لحجّية القطع ومنجِّزيته ، ولعدم إمكان سلب هذه المنجزية عنه.

[الحجّية على مبنى المشهور :]

غير أنّ المشهور لهم تصوّر مختلف : فبالنسبة إلى أصل المنجِّزية ادّعوا أنّها من لوازم القطع بما هو قطع ، ومن هنا آمنوا بانتفائها عند انتفائه ، وبما أسموه

__________________

(١) تقدّم في الصفحة السابقة.

٤٧

بقاعدة قبح العقاب بلا بيان.

وبالنسبة إلى عدم إمكان سلب المنجّزية وردع المولى عن العمل بالقطع برهنوا (١) على استحالة ذلك : بأنّ المكلّف إذا قطع بالتكليف حكم العقل بقبح معصيته ، فلو رخّص المولى فيه لكان ترخيصاً في المعصية القبيحة عقلاً ، والترخيص في القبيح محال ومنافٍ لحكم العقل.

أمّا تصوّرهم بالنسبة إلى المنجّزية فجوابه : أنّ هذه المنجّزية إنّما تثبت في موارد القطع بتكليف المولى ، لا القطع بالتكليف من أيّ أحد ، وهذا يفترض مولىً في الرتبة السابقة ، والمولوية معناها : حقّ الطاعة وتنجّزها على المكلّف ، فلابدّ من تحديد دائرة حقّ الطاعة المقوِّم لمولوية المولى في الرتبة السابقة ، وهل يختصّ بالتكاليف المعلومة ، أو يعمّ غيرها؟

وأمّا تصوّرهم بالنسبة إلى عدم إمكان الردع فجوابه : أنّ مناقضة الترخيص لحكم العقل وكونه ترخيصاً في القبيح فرع أن يكون حقّ الطاعة غير متوقّفٍ على عدم ورود الترخيص من قبل المولى ، وهو متوقّف حتماً ؛ لوضوح أنّ من يرخِّص بصورةٍ جادّةٍ في مخالفة تكليفٍ لا يمكن أن يطالب بحقّ الطاعة فيه.

فجوهر البحث يجب أن ينصبّ على أنّه هل يمكن صدور هذا الترخيص بنحوٍ يكون جادّاً ومنسجماً مع التكاليف الواقعية ، أوْ لا؟ وقد عرفت أنّه غير ممكن.

وكما أنّ منجِّزية القطع لا يمكن سلبها عنه كذلك معذِّريته ؛ لأنّ سلب

__________________

(١) ورد هذا البرهان في تقرير بحث المحقّق العراقي رحمه‌الله في نهاية الأفكار ١ (ق ٣) : ٧ ـ ٨ ، مع التفاته إلى ما أورده عليه السيّد الشهيد رحمه‌الله ، كما تمسّك بعضهم بمثل هذا البرهان في دعوى استحالة ورود الترخيص في المخالفة القطعيّة للعلم الإجمالي. انظر أجود التقريرات ٢ : ٢٤١ ، ومصباح الاصول ٢ : ٣٤٥ ـ ٣٤٦.

٤٨

المعذِّرية عن القطع بالإباحة : إمّا أن يكون بجعل تكليفٍ حقيقي ، أو بجعل تكليفٍ طريقي ، والأوّل مستحيل ؛ للتنافي بينه وبين الإباحة المقطوعة. والثاني مستحيل ؛ لأنّ التكليف الطريقيّ ليس إلاّوسيلةً لتنجيز التكليف الواقعي كما تقدّم (١) ، والمكلّف القاطع بالإباحة لا يحتمل تكليفاً واقعياً في مورد قطعه لكي يتنجَّز ، فلا يرى للتكليف الطريقيّ أثراً.

العلم الإجمالي :

كما يكون القطع التفصيليّ حجّةً كذلك القطع الإجمالي ـ وهو ما يسمّى عادةً بالعلم الإجمالي ـ كما إذا علم إجمالاً بوجوب الظهر أو الجمعة. ومنجِّزية هذا العلم الإجمالي لها مرحلتان :

الاولى : مرحلة المنع عن المخالفة القطعية بترك كلتا الصلاتين في المثال المذكور.

والثانية : مرحلة المنع حتّى عن المخالفة الاحتمالية المساوق لإيجاب الموافقة القطعية ، وذلك بالجمع بين الصلاتين.

أمّا المرحلة الاولى فالكلام فيها يقع في أمرين :

أحدهما : في حجّية العلم الإجمالي بمقدار المنع عن المخالفة القطعية.

والآخر : في إمكان ردع الشارع عن ذلك ، وعدمه.

أمّا الأمر الأوّل فلا شك في أنّ العلم الإجماليّ حجّة بذلك المقدار ؛ لأنّه مهما تصوّرناه فهو مشتمل حتماً على علمٍ تفصيليٍّ بالجامع بين التكليفين ، فيكون مُدخِلاً لهذا الجامع في دائرة حقّ الطاعة. أمّا على رأينا في سعة هذه الدائرة فواضح. وأمّا على مسلك قاعدة قبح العقاب بلا بيانٍ فلأنّ العلم الإجماليّ

__________________

(١) تحت عنوان : وظيفة الأحكام الظاهريّة.

٤٩

يستبطن انكشافاً تفصيلياً تامّاً للجامع بين التكليفين ، فيخرج هذا الجامع عن دائرة قاعدة قبح العقاب بلا بيان.

وأمّا الأمر الثاني فقد ذكر المشهور (١) : أنّ الترخيص الشرعيّ في المخالفة القطعية للعلم الإجمالي غير معقول ؛ لأنّها معصية قبيحة بحكم العقل ، فالترخيص فيها يناقض حكم العقل ؛ ويكون ترخيصاً في القبيح ، وهو محال.

وهذا البيان غير متّجه ؛ لأنّنا عرفنا سابقاً (٢) أنّ مردَّ حكم العقل بقبح المعصية ووجوب الامتثال إلى حكمه بحقّ الطاعة للمولى ، وهذا حكم معلّق على عدم ورود الترخيص الجادّ من المولى في المخالفة ، فإذا جاء الترخيص ارتفع موضوع الحكم العقلي ، فلا تكون المخالفة القطعية قبيحةً عقلاً.

وعلى هذا فالبحث ينبغي أن ينصبَّ على أنّه : هل يعقل ورود الترخيص الجادّ من قبل المولى على نحوٍ يلائم مع ثبوت الأحكام الواقعية؟

والجواب : أنّه معقول ؛ لأنّ الجامع وإن كان معلوماً ولكن إذا افترضنا أنّ الملاكات الاقتضائية للإباحة كانت بدرجةٍ من الأهمّية تستدعي لضمان الحفاظ عليها الترخيص حتى في المخالفة القطعية للتكليف المعلوم بالإجمال فمن المعقول أن يصدر من المولى هذا الترخيص ، ويكون ترخيصاً ظاهرياً بروحه وجوهره ؛ لأنّه ليس حكماً حقيقياً ناشئاً من مبادئ في متعلّقه ، بل خطاباً طريقياً من أجل ضمان الحفاظ على الملاكات الاقتضائية للإباحة الواقعية. وعلى هذا الأساس لا يحصل تنافٍ بينه وبين التكليف المعلوم بالإجمال ، إذ ليس له مبادئ خاصّة به في مقابل مبادئ الأحكام الواقعية ليكون منافياً للتكليف المعلوم بالإجمال.

__________________

(١) أجود التقريرات ٢ : ٢٤١ ، ومصباح الاصول ٢ : ٣٤٥ ـ ٣٤٦.

(٢) في الردّ على تصوّر المشهور بالنسبة إلى عدم إمكان الردع عن العمل بالقطع.

٥٠

فإن قيل : ما الفرق بين العلم الإجمالي والعلم التفصيلي ، إذ تقدّم (١) أنّ الترخيص الطريقيّ في مخالفة التكليف المعلوم تفصيلاً مستحيل ، وليس العلم الإجمالي إلاّعلماً تفصيلياً بالجامع؟

كان الجواب على ذلك : أنّ العالم بالتكليف بالعلم التفصيليّ لا يرى التزامه بعلمه مفوِّتاً للملاكات الاقتضائية للإباحة ؛ لأنّه قاطع بعدمها في مورد علمه ، والترخيص الطريقيّ إنّما ينشأ من أجل الحفاظ على تلك الملاكات ، وهذا يعني أنّه يرى عدم توجّه ذلك الترخيص إليه جدّاً. وهذا خلافاً للقاطع في موارد العلم الإجمالي ، فإنّه يرى أنّ إلزامه بترك المخالفة القطعية قد يعني إلزامه بفعل (٢) المباح لكي لا تتحقّق المخالفة القطعية ، وعلى هذا الأساس يتقبَّل توجّه ترخيصٍ جادٍّ إليه من قبل المولى في كلا الطرفين لضمان الحفاظ على الملاكات الاقتضائية للإباحة.

ويبقى بعد ذلك سؤال إثباتي ، وهو : هل ورد الترخيص في المخالفة القطعية للعلم الإجمالي؟ وهل يمكن إثبات ذلك بإطلاق أدلّة الاصول؟

والجواب : هو النفي ؛ لأنّ ذلك يعني افتراض أهمّية الغرض الترخيصيّ من الغرض الإلزامي ، حتّى في حالة العلم بالإلزام ووصوله إجمالاً ، أو مساواته له على الأقلّ ، وهو وإن كان افتراضاً معقولاً ثبوتاً ولكنّه على خلاف الارتكاز

__________________

(١) في بحث حجّية القطع على مبنى حقّ الطاعة.

(٢) كذا في الطبعة الاولى. ولكن في بعض الطبعات الاخرى كلمة (بترك) بدلاً عن (بفعل) والصحيح ما في الطبعة الاولى خصوصاً مع النظر إلى مثال الشبهة الوجوبية الواردة في المتن ـ وهو العلم الإجمالي بوجوب صلاة الظهر أو الجمعة ـ فإنّ ترك المخالفة القطعيّة في مثل ذلك يستدعي فعل أحد الطرفين على أقلّ تقدير وقد يكون ذلك الفعل مباحاً في الواقع ، وهذا يعني إلزامه بفعل المباح لا بترك المباح.

٥١

العقلائي ؛ لأنّ الغالب في الأغراض العقلائية عدم بلوغ الأغراض الترخيصية إلى تلك المرتبة ، وهذا الارتكاز بنفسه يكون قرينةً لُبِّيةً متّصلةً على تقييد إطلاق أدلّة الاصول. وبذلك نثبت حرمة المخالفة القطعيَّة للعلم الإجماليّ عقلاً.

ويسمّى الاعتقاد بمنجِّزية العلم الإجماليّ لهذه المرحلة على نحوٍ لا يمكن الردع عنها عقلاً أو عقلائياً بالقول بعلِّيَّة العلم الإجماليّ لحرمة المخالفة القطعيَّة.

بينما يسمّى الاعتقاد بمنجِّزيّته لهذه المرحلة مع افتراض إمكان الردع عنها عقلاً وعقلائياً بالقول باقتضاء العلم الإجماليّ للحرمة المذكورة.

وأمّا المرحلة الثانية فيقع الكلام عنها في مباحث الاصول العملية إن شاء الله تعالى.

حجّية القطع غير المصيب وحكم التجرّي :

هناك معنيان للإصابة :

أحدهما : إصابة القطع للواقع ، بمعنى كون المقطوع به ثابتاً.

والآخر : إصابة القاطع في قطعه ، بمعنى أنّه كان يواجه مبرِّراتٍ موضوعيّةً لهذا القطع ولم يكن متأثّراً بحالةٍ نفسيّة ، ونحو ذلك من العوامل.

وقد يتحقّق المعنى الأول من الإصابة دون الثاني ، فلو أنّ مكلَّفاً قطع بوفاة إنسانٍ لإخبار شخصٍ بوفاته وكان ميّتاً حقّاً ، غير أنّ هذا الشخص كانت نسبة الصدق في إخباراته عموماً بدرجة سبعين في المائة فقطعُ المكلّف مصيب بالمعنى الأول ، ولكنّه غير مصيبٍ بالمعنى الثاني ؛ لأنّ درجة التصديق بوفاة ذلك الإنسان يجب أن تتناسب مع نسبة الصدق في مجموع أخباره.

ونفس المعنيَين من الإصابة يمكن افتراضهما في درجات التصديق الاخرى أيضاً ، فَمَن ظنّ بوفاة إنسانٍ لإخبار شخصٍ بذلك ، وكان ذلك الإنسان حياً فهو غير مصيبٍ في ظّنه بالمعنى الأول ، ولكنّه مصيب بالمعنى الثاني إذا كانت

٥٢

نسبة الصدق في إخبارات ذلك الشخص أكثر من خمسين في المائة.

ونطلق على التصديق المصيب بالمعنى الثاني اسم (التصديق الموضوعيّ) و (اليقين الموضوعي) ، وعلى التصديق غير المصيب بالمعنى الثاني اسم (التصديق الذاتيّ) و (القطع الذاتي).

وانحراف التصديق الذاتيّ عن الدرجة التي تفترضها المبرِّرات الموضوعية له مراتب ، وبعض مراتب الانحراف الجزئية ممّا ينغمس فيه كثير من الناس ، وبعض مراتبه يعتبر شذوذاً ، ومنه قطع القَطَّاع ، فالقَطَّاع إنسان يحصل له قطع ذاتيّ وينحرف غالباً في قطعه هذا انحرافاً كبيراً عن الدرجة التي تفترضها المبرِّرات الموضوعية.

وحجّية القطع من وجهة نظرٍ اصولية ـ وبما هي معبِّرة عن المنجِّزية والمعذِّرية ـ ليست مشروطةً بالإصابة بأيّ واحدٍ من المعنيَين.

أمّا المعنى الأول فواضح ، إذ يعتبر القطع بالتكليف تمام الموضوع لحقّ الطاعة ، كما أنّ القطع بعدمه تمام الموضوع لخروج المورد عن هذا الحقّ. ومن هنا كان المتجرِّي مستحقّاً للعقاب كاستحقاق العاصي ؛ لأنّ انتهاكهما لحقّ الطاعة على نحوٍ واحد. ونقصد بالمتجرِّي من ارتكب ما يقطع بكونه حراماً ولكنّه ليس بحرامٍ في الواقع.

ويستحيل سلب الحجّيّة أو الردع عن العمل بالقطع غير المصيب للواقع ؛ لأنّ مثل هذا الردع يستحيل تأثيره في نفس أيِّ قاطع ؛ لأنّه يرى نفسه مصيباً ، وإلاّ لم يكن قاطعاً.

وكما يستحقّ المتجرِّي العقاب ـ كالعاصي ـ كذلك يستحقّ المنقاد الثوابَ بالنحو الذي يفترض للممتثل ؛ لأنّ قيامهما بحقّ المولى على نحوٍ واحد. ونقصد بالمنقاد : من أتى بما يقطع بكونه مطلوباً للمولى فعلاً أو تركاً رعايةً لطلب المولى ، ولكّنه لم يكن مطلوباً في الواقع.

٥٣

وأمّا المعنى الثاني فكذلك أيضاً ؛ لأنّ عدم التحرّك عن القطع الذاتيّ بالتكليف يساوي عدم التحرّك عن اليقين الموضوعيّ في تعبيره عن الاستهانة بالمولى وهدر كرامته ، فيكون للمولى حقّ الطاعة فيهما على السواء ، والتحرّك عن كلٍّ منهما وفاء بحقّ المولى وتعظيم له.

وقد يقال : إنّ القطع الذاتيّ وإن كان منجِّزاً ـ لما ذكرناه ـ ولكنّه ليس بمعذِّر ، فالقَطَّاع إذا قطع بعدم التكليف وعمل بقطعه وكان التكليف ثابتاً في الواقع فلا يعذَّر في ذلك ؛ لأحد وجهين :

الأوّل : أنّ الشارع ردع عن العمل بالقطع الذاتيّ أو ببعض مراتبه المتطرِّفة على الأقلّ ، وهذا الردع ليس بالنهي عن العمل بالقطع بعد حصوله ، بل بالنهي عن المقدّمات التي تؤدّي إلى نشوء القطع الذاتيّ للقَطّاع ، أو الأمر بترويض الذهن على الاتِّزان ، وهذا حكم طريقيّ يراد به تنجيز التكاليف الواقعية التي يخطئها قطع القَطّاع وتصحيح العقاب على مخالفتها ، وهذا أمر معقول ، غير أنّه لا دليل عليه إثباتاً.

الثاني : أنّ القَطّاع في بداية أمره إذا كان ملتفتاً إلى كونه إنساناً غير متعارَفٍ في قطعه ، كثيراً ما يحصل له العلم الإجماليّ بأنّ بعض ما سيحدث لديه من قُطوعٍ نافيةٍ غير مطابقةٍ للواقع ؛ لأجل كونه قَطّاعاً ، وهذا العلم الإجماليّ منجّز.

فإن قيل : إنّ القَطّاع حين تتكوّن لديه قطوع نافية يزول من نفسه ذلك العلم الإجمالي ؛ لأنّه لا يمكنه أن يشكّ في قطعه وهو قاطع بالفعل.

كان الجواب : أنّ هذا مبنيّ على أن يكون الوصول كالقدرة ، فكما أنّه يكفي في دخول التكليف في دائرة حقّ الطاعة كونه مقدوراً حدوثاً ـ وإن زالت القدرة بسوء اختيار المكلّف ـ كذلك يكفي كونه واصلاً حدوثاً وإن زال الوصول بسوء اختياره.

٥٤

٣ ـ الجزء الأوّل

الأدلّة المحرزة

مبادئ عامّة.

الدليل الشرعي.

الدليل العقلي.

٥٥
٥٦

؟ ـ الأدلّة المحرزة

مبادئ عامّة

تأسيس الأصل عند الشكّ في الحجّية.

مقدار ما يثبت بدليل الحجّية.

تبعيّة الدلالة الالتزاميّة للدلالة المطابقيّة.

وفاء الدليل بدور القطع الطريقي والموضوعي.

إثبات الأمارة لجواز الإسناد.

إبطال طريقيّة الدليل.

تقسيم البحث في الأدلّة المحرزة.

٥٧
٥٨

تأسيس الأصل عند الشكّ في الحجّيّة :

الدليل إذا كان قطعياً فهو حجّة على أساس حجّية القطع ، وإذا لم يكن كذلك فإن قام دليل قطعيّ على حجّيته اخذ به ، وأمّا إذا لم يكن قطعيّاً وشكّ في جعل الحجّية له شرعاً مع عدم قيام الدليل على ذلك فالأصل فيه عدم الحجّية. ونعني بهذا الأصل : أنّ احتمال الحجّية ليس له أثر عملي ، وأنّ كلّ ما كان مرجعاً لتحديد الموقف بقطع النظر عن هذا الاحتمال يظلّ هو المرجع معه أيضاً.

ولتوضيح ذلك نطبِّق هذه الفكرة على خبر محتمل الحجّية يدلّ على وجوب الدعاء عند رؤية الهلال مثلاً ، وفي مقابله البراءة العقلية (قاعدة قبح العقاب بلا بيان) عند من يقول بها ، والبراءة الشرعية ، والاستصحاب ، وإطلاق دليلٍ اجتهاديٍّ تفرض دلالته على عدم وجوب الدعاء.

أما البراءة العقلية فلو قيل بها كانت مرجعاً مع احتمال حجّية الخبر أيضاً ؛ لأنّ احتمال الحجّية لا يكمل البيان ، وإلاّ لَتمَّ باحتمال الحكم الواقعي.

ولو أنكرناها وقلنا : إنّ كلّ حكمٍ يتنجّز بالاحتمال ما لم يقطع بالترخيص الظاهريّ في مخالفته ، فالواقع منجّز باحتماله من دون أثرٍ لاحتمال الحجّية.

٥٩

وأمّا البراءة الشرعية فإطلاق دليلها شامل لموارد احتمال الحجّية أيضاً ؛ لأنّ موضوعها عدم العلم بالتكليف الواقعي ، وهو ثابت مع احتمال الحجّية أيضاً ، بل حتى مع قيام الدليل على الحجِّية. غير أنّه في هذه الحالة يقدَّم دليل حجِّية الخبر على دليل البراءة ؛ لأنّه أقوى منه وحاكم عليه مثلاً ، وأمّا مع عدم ثبوت الدليل الأقوى فيؤخذ بدليل البراءة ، وكذلك الكلام في الاستصحاب.

وأمّا الدليل الاجتهادي المفترض دلالته بالإطلاق على عدم الوجوب فهو حجَّة مع احتمال حجِّية الخبر المخصِّص أيضاً ؛ لأنّ مجرّد احتمال التخصيص لا يكفي لرفع اليد عن الإطلاق.

ونستخلص من ذلك : أنّ الموقف العملي لا يتغيّر باحتمال الحجّية ، وهذا يعني أنّ احتمالها يساوي عملياً القطع بعدمها.

ونضيف إلى ذلك : أنّ بالإمكان إقامة الدليل على عدم حجّية ما يشكّ في حجِّيته ، بناءً على تصوّرنا المتقدِّم للأحكام الظاهرية ، حيث مرّ بنا (١) أنّه يقتضي التنافي بينها بوجوداتها الواقعية ، وهذا يعني أنّ البراءة عن التكليف المشكوك وحجّية الخبر الدالّ على ثبوته حكمان ظاهريان متنافيان ، فالدليل الدالّ على البراءة دالّ بالدلالة الالتزامية على نفي الحجِّية المذكورة ، فيؤخذ بذلك ما لم يقم دليل أقوى على الحجّية.

وقد يقام الدليل على عدم حجّية ما يشكّ في حجِّيته من الأمارات بما اشتمل من الكتاب الكريم على النهي عن العمل بالظنّ وغير العلم ، فإنّ كلّ ظنٍّ يشكّ في حجِّيته يشمله إطلاق هذا النهي.

__________________

(١) تحت عنوان : التنافي بين الأحكام الظاهريّة.

٦٠